إسلام ويب

اعتنى الله عز وجل بحفظ الأموال فحرم كل وسيلة لأكله بغير حق فحرم الربا والغرر والغش وكذلك الغصب والإكراه فقال: (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل). وهذا خطاب للمؤمنين إشارة إلى أن أصل أموال الكفار الحل. ثم أشار الله إلى أن إصدار الحاكم حكماً بأخذ المال لا يغير كونه حراماً وأن هذا صادر عما ظهر من القرائن. ثم بين الله عز وجل الأصل الذي تجري عليه المعاملات وهو الرضا فقال: (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم).

قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل)

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

نتكلم في هذا المجلس على قول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29]، تقدم معنا في أوائل سورة البقرة قول الله جل وعلا: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ [البقرة:188]، النهي في ذلك عن أكل أموال الناس بالباطل يعني بغير الحق، وهذا دليل على أن ما لم يكن بيعاً فإنه باطل مما يكون عادة بالغصب أو السرقة، أو يكون ذلك من صور الربا أو الجهالة أو نحو ذلك، ويخرج من هذا ما أجازه الشارع من الهدية والهبة والعطية وغيرها، ويدخل في هذه المعاني الصداق والنفقة مما يكون عن تراض، وهذا قد استثناه الله سبحانه وتعالى في هذا الموضع.

الأصل في أموال الكفار ودمائهم

وهنا في قول الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29]، الخطاب توجه إلى الذين آمنوا، فيه دلالة على أن الأصل في أموال الكفار ودمائهم الحل إلا ما قام قائم على خلاف ذلك، وذلك بالأموال المعصومة من أموال الكفار من المعاهدين وأهل الذمة، والله سبحانه وتعالى قد ذكر في هذه الآية نهياً عن أمرين:

النهي الأول: عن الأموال وأكلها بغير حق.

النهي الثاني: عن قتل الأنفس.

وفي هذين النهيين دلالة على أن الأصل في أموال المسلمين الحرمة، وكذلك في دمائهم، وعلى أن الأصل في أموال الكفار ودمائهم الحل إلا ما استثناه الشارع، والاستثناء في ذلك من هذين الأصلين، سواء كان من أصل أموال المسلمين ودمائهم، أو من أصل أموال الكفار ودمائهم. ويأتي الكلام على مسألة الدماء.

هنا لما نهى الله سبحانه وتعالى عن أكل أموال الناس بالباطل استثنى ما كان عن تجارة، وقيد التجارة أن تكون عن تراض، فالتجارة لا بد أن تكون عن تراض، يعني: لا يكون ذلك عن إكراه أو غصب أو كذلك أخذ بسيف الحياء.

وأما ما يتعلق بسورة البقرة فإن الله سبحانه وتعالى نهى عن أكل أموال الناس بالباطل، وذكر ذلك بوصف، فقال جل وعلا: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ [البقرة:188]، ذكر الله سبحانه وتعالى تحريم أكل أموال الناس، وذكر وصفاً يتحايل به البعض في أكل أموال الناس بالباطل، وهو أنهم يدلون بذلك إلى الحكام ليقضوا بذلك إليهم.

المراد بالحكام في قوله تعالى: (وتدلوا بها إلى الحكام)

والمراد بالحكام هم القضاة الذين يفصلون بين الناس، فكل من فصل بين الناس فهو حاكم بينهم، والحكومة هنا في قوله: وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ [البقرة:188]، هل هي مبيحة للمال الباطل إذا علم الإنسان بطلانه في الباطن، يعني: أن القاضي قد يقضي للإنسان في مال له وهو يعلم أنه قضى له بالباطل وأن المال لفلان، وإنما قضى له لقصور البينة عند المدعي للمال، فهل قضاء ذلك الحاكم يحل له المال أم لا؟

أولاً: ينبغي أن نفرق بين قضاء الحاكم وقضاء القاضي بالأموال، وكذلك الفروج وهي النكاح، فالعلماء عليهم رحمة الله تعالى يتفقون على أن قضاء الحاكم في الأموال لا يغير من أمر الباطن شيئاً، فلا يغير من الحلال ولا من الحرام، وأنه لو قضى لأحد شيئاً وهو يعلم أن المال ليس له وإنما لغيره، فثمة حجة كتمها وبينة لم يظهرها، أو كانت الحجة عند خصمه فلم يستطع إظهارها، أو لوفاة شاهد أو نحو ذلك، فقضى الحاكم وهو يعلم بغير الحق، فقضاؤه ذلك لا يجيز له أن يأخذ ذلك المال، ولا خلاف عند العلماء في هذا.

وهذا يتكلم عليه العلماء في قاعدة: أن قضاء القاضي في الظاهر لا يحل خلافه بالباطن؛ ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الخبر الصحيح: ( إنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بغير حقه فإنما هي قطعة من النار )، يعني: أنه إذا علم أن الحق ليس له فلا يجوز له أن يأخذه لمجرد أن القاضي قد قضى له.

قضاء القاضي في أبواب الأنكحة والفروج

وأما في أمور النكاح، وهي الخصومات التي تكون بين الزوجين، في بقاء الزوجة في عصمة زوجها أو عدم بقائها، فهل قضاء القاضي في ذلك، ولو خالف الباطن؟

الحقيقة الباطنة يمضى عليها فيما بينهما مما يعلمان، يعني: أن القاضي إذا جاءه زوجان فتقاضيا عنده في أمر الطلاق، وكتما صورة أو لفظة لو بيناها لوقع الطلاق فقضى بالبقاء، هل يعني ذلك جواز أن يبقى الزوجان مع بعضهما أم لا؟

جمهور العلماء على أن أمور النكاح والفروج كالأموال، على أن قضاء القاضي الظاهر لا يغير الحقيقة الباطنة، وأنه يحرم عليهما البقاء إن كتما سبباً يفرق بينهما.

وذهب أبو حنيفة عليه رحمة الله إلى التفريق بين الأموال وبين النكاح، وأن الأموال لا يجوز للناس أن يأخذوها إذا علموا أنها ليست لهم ولو قضى القاضي بخلاف ذلك.

وأما بالنسبة للنكاح فرأى أبو حنيفة رحمه الله إلى أن قضاء القاضي في الظاهر يسري في الباطن، ويحتج بذلك في مسألة اللعان، ومعلوم أن اللعان يقضي القاضي وأحد الزوجين كاذب، وهو يعلم أنه كاذب، فيفرق بينهما لهذه العلة، فأمضى الله عز وجل أمره.

ولكن نقول: إن هذا إمضاء أجازه الله سبحانه وتعالى، وهو في هذه الصورة لا يسري إلى غيرها؛ لأنه لو جاز للزوجين أن يأخذا بقضاء القاضي في الظهار مع مخالفته للباطن، لوقع في ذلك شر وفساد وتعطيل لأحكام الله عز وجل وحدوده الباطنة، فوجب على الزوجين سواء كان ذلك في النكاح، ووجب أيضاً على الناس عموماً في الأموال أن يأخذوا بالحقائق الباطنة إذا لم يعلمها القاضي، ولو قضى بخلاف ذلك.

وإنما النهي في قول الله سبحانه وتعالى: وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ [البقرة:188]، يعني: أنكم تظنون أن أخذها عن طريق الحاكم يسوغ حلها وهي محرمة عليكم سواء أحلها القاضي أو لم يحلها؛ لأنه يجتهد فيما ظهر لديه من البينات.

وفي قوله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29]، تقدم الإشارة أن الخطاب للذين آمنوا دليل على أن الأصل في أموال المسلمين التحريم فيما بينهم، وكذلك أيضاً الدماء، وفي هذا دلالة خطاب على أن الأصل في أموال المشركين وكذلك دمائهم الحل. على أن الأصل في أموال الناس ودمائهم الحل؛ لأن الخطاب هنا قيد بالذين آمنوا.

الاعتداء على مال الغير ودمه وعرضه

وقوله جل وعلا: لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29]، هنا أضاف الأموال إلى أهل الإيمان: لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ [النساء:29]، قال: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29]، إشارة إلى أن الذي يعتدي على مال غيره كالذي يعتدي على مال نفسه، وأنه يجب على النفوس أن تبتعد عن الشح والطمع، وأن تنظر إلى مال غيرها كما تنظر إلى مالها، وأن تنظر إلى دم غيرها كما تنظر إلى دمها، بل تنظر إلى عرض غيرها كما تنظر إلى عرضها، وكما في قول الله جل وعلا: وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ [الحجرات:11]، يعني: أن الإنسان إذا لمز غيره ووقع في عرض غيره فكأنما استباح عرض نفسه.

وذلك أن حرمة الدماء والأموال والأعراض في الذين آمنوا متساوية، لا فرق بينهم، سواء كان ذلك كبيراً أو صغيراً، أو كان شريفاً أو كان وضيعاً، أو كان سيداً مطاعاً أو كان عبداً مأموراً، فإن الحرمة في ذلك واحدة.

مدلول كلمة (تأكلوا)

قال: لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29]، قيد هنا الأكل بالباطل، يعني: بالإثم والعدوان، وذكر هنا (لا تأكلوا)، استعمال لفظ الأكل شامل لكل متلف ومستهلك، ولا يعني من الأكل يعني المضغ مما يأكله الإنسان في جوفه، فإن أخذ الأموال من الدنانير والدراهم وكذلك استهلاك الثياب وغير ذلك فإنه يقال: أكلها فلان، أكل فلان مال فلان ولو كان عقاراً، أو كانت ثياباً أو كانت دنانير من الذهب والفضة.

وإنما أشير إلى الأكل؛ لأنه أعظم وأدوم وجوه الاستمتاع، وما عداها فهو استمتاع عارض، فإنه لا حياة للإنسان إلا بالأكل، وأما ما عداها من المطامع والشهوات فإنها عارضة يدركها الإنسان حيناً ولا يدركها في حين آخر، وذلك كشهوة الفرج وشهوة الملبس ونحو ذلك، وأما بالنسبة للمأكل فإنها باقية مع الإنسان سواء كان صغيراً أو كبيراً، وسواء كان عاقلاً أو مجنوناً، يستلذ الطعام ويستلذ الشراب ولا بقاء له إلا بذلك، فاستعمل لفظ الأكل على كل ما يستهلك؛ لأنه في حاله يستحيل إلى مطعوم في غالبه.

وإنما استعمل هذا اللفظ للتغليب، ويدخل في ذلك ما عداه، وذلك من المركوبات والعقار والبيوت والدور والبساتين والمزارع، وإن استظل بها ولم تؤكل وغير ذلك فهي داخلة في هذا المعنى.

الأصل في العقود والمعاملات

قال: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]، في هذه الآية جملة من المعاني، منها: أن الأصل في التجارة الحل، فالمعاملات التجارية بين الناس الأصل فيها الحل؛ لأن الله سبحانه وتعالى استثناها من الأكل المحرم، وأطلق الاستثناء في ذلك ولم يقيده إلا بالتراضي، فدل على أن كل معاملة تجارية تكون بين اثنين أو بين جماعة فإن الأصل في ذلك الحل وأن التحريم في ذلك عارض، وهذا من مواضع الكلام عند الفقهاء في الأصل في العقود: هل الأصل فيها الحل أو الأصل فيها التحريم؟

المشهور في مذهب الإمام أحمد رحمه الله: أن الأصل في العقود الحل، وهذا الذي يعضده ظواهر الأدلة من الكتاب والسنة.

سبب اقتصار النهي عن أكل الأموال بالباطل على الغصب والإكراه دون ذكر الربا وغيره من العقود المحرمة

قال: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]، هنا ذكر التراضي، وما ذكر ما عداه من الأمور المحرمة التي ربما تتلبس بالتجارة، وذلك كالربا والجهالة والغرر وغير ذلك.

فنقول: إن الاستثناء في قوله: (( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ))، إنما هو استثناء للأكل بالإكراه، قال: لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29]، وأما ما يتعلق بالتجارة التي تكون بين المتبايعين بالأمر المحرم فهي ليست داخلة في أصل النهي أصلاً حتى تستثنى؛ لأن أصل النهي هنا هو أكل أموال الناس بالباطل بالإكراه والغصب والسلب وغير ذلك، قال: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29] .

وأما يتعلق بالعقود المحرمة فهي مبينة في غير هذا الموضع، وتقدم معنا في سورة البقرة الكلام على مسائل الربا، والإشارة على أحكام القمار والميسر، وهي أبواب الجهالة، وكذلك تقدم الإشارة إلى صورها، وأن الله سبحانه وتعالى إنما حرم من المعاملات صنفين:

الصنف الأول: الربا.

الصنف الثاني: الجهالة، وهو القمار والميسر، ويدخل فيه كل بيع دخلته جهالة وغرر.

وما عدا هذين فإنه جائز، وهو الذي طرأ عليه الاستثناء هنا في قوله جل وعلا: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]، يعني: ما كان بتجارة ولو كانت صحيحة ولكنها بإكراه فإنها محرمة؛ لأنه أكل لأموال الناس بالباطل.

وما لم يكن على سبيل الإكراه الظاهر، وهو الإكراه النفسي أو الإكراه العاطفي وما يسمى بالحياء، فإنه يحرم أموال الناس أيضاً، فلا يجوز للإنسان أن يأكل مال أخيه بالحياء، فيعلم أنه حيي فيأخذ ماله بحياء، إما هبة وهدية وعطية، وإما أن يأخذه ببيع بثمن بخس، أو يأخذه ببيع ولو كان بثمنه وهو لا يرغب بيعه، ما باعه إلا حياء منه.

والعلماء عليهم رحمة الله يتفقون على أن ما أخذ بسيف الحياء فهو حرام، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد من العلماء، كـابن رجب وغيره، والحياء إذا ظهر من الإنسان وغلب به فإنه يبطل البيع إذا قام الدليل عليه، ولو كانت صورة البيع الظاهرة صحيحة، فلم يكن ثمة غبن ولا غش، وظهر في ذلك التعاقد الظاهر فإن ظهور ذلك موجب لإمضاء البيع.

فإذا ظهرت علة الحياء فيه لجملة من القرائن فإنه يجوز للحاكم حينئذ أن يفسخ البيع، وذلك كأن يستدر الإنسان عاطفة أحد أو حياءه أمام الناس ليبيعه داره أو مركبته أو بستانه أو يبيعه ثيابه، أو يعطيه مالاً، فأعطاه حياءً من الناس ولو كان وحده ما أعطاه ذلك المال، فيقال: إن هذا محرم، وقد أخذ بنوع من الإكراه الباطن.

ونستطيع أن نقول: إن الإكراه على نوعين: إكراه ظاهر، وإكراه باطن.

والأصوليون يشتهر عندهم تقسيم الإكراه إلى نوعين: إكراه ملجئ، وإكراه غير ملجئ.

وهنا إذا قسمناه على مسألة الحياء وغيره والأمور الباطنة، فنقول: إنه إكراه باطن، وإكراه ظاهر.

والإكراه الباطن ما يؤخذ بالحياء والمغالبة في ذلك فإنه يبطل العقد.

وقوله جل وعلا: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]، يؤخذ من قوله: (عن تراض منكم) وجوب إظهار الرضا حتى تخرج المعاملة المحرمة من الإكراهين: الظاهر والباطن، وبهذا استدل من قال من العلماء بوجوب التعاقد في البيوع، قالوا: وذلك لإظهار الرضا، وما لم يكن عن طريق التعاقد فإنه يؤخذ من غير تراض، وذلك أن الله سبحانه وتعالى أمر بأن تكون التجارة عن تراض، والتجارة التي هي المبادلة بين الناس إذا لم يظهر فيها التراضي فالأصل فيها عدمه.

مسألة بيع المعاطاة

والعلماء عليهم رحمة الله تعالى يختلفون في مسألة المعاطاة، إذا أعطى الإنسان أحداً ثم قبض من غير أن يظهر التعاقد، هل المعاطاة في ذلك تمضي البيع، أو لا بد في ذلك من التعاقد؟

والتعاقد إما أن يكون ملفوظاً وإما أن يكون مكتوباً، والمكتوب والملفوظ هما في الأمر سواء، إلا أن المكتوب في ذلك أوثق، فإذا تبايع رجلان في دار أو مركوب من دابة وغيرها، أو تبايعا بشراء ثمر أو نحو ذلك من غير كتابة، فهذا يسميه العلماء تعاقداً، كأن يقول الإنسان: بعني دارك أو بستانك أو دابتك أو ثمارك بكذا، فقال: قبلت، فهذا هو التعاقد، فهذا هو أظهر وجوه التراضي.

وهل المعاطاة تكفي عن التراضي أم لا؟ ولو كان ثمة معاطاة من غير تعاقد ثم ادعى أحد المتبايعين أنه أخذ عن تراضي؟

أولاً: العلماء عليهم رحمة الله تعالى يفرقون بين ما له قيمة وثمن، وبين ما لا قيمة له وثمن، وذلك من الأشياء اليسيرة التي يتداولها الناس، وذلك من المأكول اليسير، والمطعوم اليسير، والمتاع اليسير الذي يؤخذ عادة ولا يكون فيه تعاقد.

وقد نص على التفريق بين ما له قيمة وما لا قيمة له جماعة من العلماء كالإمام الشافعي رحمه الله والإمام أحمد وغيرهم، قالوا: يفرق بين ما له قيمة وبين ما لا قيمة له، وأن ما له قيمة يجب فيه التعاقد، وأن مجرد المعاطاة لا تكفي لإثبات التراضي.

وجمهور العلماء يرون أن المعاطاة كالتعاقد إذا لم يظهر في ذلك خلافه، يعني: إذا لم يحتج أحد المتبايعين على الآخر بعدم الرضا، ولم يكن في السلعة عيب، فإن المعاطاة كالتعاقد, وهذا هو الأظهر؛ وذلك أن الله سبحانه وتعالى حينما ذكر التراضي في هذه الآية، قال: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]، فالرضا في ذلك لا يشترط أن يكون عن تعاقد، فإن التعاطي بالتقابض ربما يكون أعظم أثراً من التعاقد، وذلك أن الإنسان إذا خلى السلعة إلى صاحبها المشتري فإن ذلك ربما يكون أعظم من التعاقد، فإذا أخرجها من حرزه أو أخرجها من بستانه أو أخرجها من داره، فإنه كاف في ذلك ولو لم يتلفظ.

وجمهور العلماء على أن المعاطاة كالتعاقد وأنها ماضية، وأنها دليل على التراضي، وأن النص في الآية على التراضي في مسائل البيوع لا يخرج المعاطاة من حكم التراضي.

وبهذا القول ذهب جماعة من العلماء، وهو قول الإمام مالك ، وقول أبي حنيفة ورواية مشهورة عن الإمام أحمد رحمه الله، على أن بيع المعاطاة صحيح، سواء كان ذلك في الأموال التي لها قيمة كالعقارات، أو ما لا قيمة له، وذلك كملء الكف من التمر أو الماء أو غير ذلك، فإن الحكم في ذلك سواء، فإن المعاطاة تمضي البيع ولا تنافي التراضي.

ومن قال بوجوب أن يكون ذلك تعاقداً سواء كان ملفوظاً أو مكتوباً قال: إن الشريعة فرقت بين السوم والبيع، والسوم ربما يكون في صورة بيع، كأن يقول الإنسان: تبيعني سلعة كذا وكذا بكذا وكذا كأنه يستخبره، وهذا لا يسمى تعاقداً. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما جاء في الصحيح: ( لا يسم بعضكم على سوم أخيه، ولا يبع بعضكم على بيع أخيه )، ففرق بين السوم وبين البيع، وقد يتشابهان في الصيغة.

ولكن نقول: إن السوم والبيع وإن تشابها في بعض الصور في أمر التعاقد إلا أن المعاطاة هي أعظم ظهوراً وجلاءً من التعاقد، وذلك أن الإنسان إذا خلى بين سلعته وبين المشتري، فإذا أعطاه الماء ثم قبض، وأعطاه أو أعطاه الوثيقة ثم قبض المال أو نحو ذلك، فإن هذا أقوى من العبارة التي يتعاقد فيها الإنسان، فربما تعاقد معه ولم يخل بينه وبين السلعة، بل لا يتم البيع إلا بتحقق القبض في بعض المعاملات، وذلك كالثمار الذي يمكن أن يحرز، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد من العلماء.

الرضا في محل العقد

وقوله سبحانه وتعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]، الرضا يكون في محل العقد، وإن تفرقا فإن عدم الرضا بعده ليس بمعتبر، وذلك لما جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا )، فالرضا هنا ليس على إطلاقه في كل حال وفي كل زمان، وإنما هو في مجلس العقد، ما لم يكن ثمة شرط في غير مجلس العقد بزمان فإنه يقيد بذلك الزمان.

وتقييده في ذلك كما جاء في حديث حكيم بن حزام وهو في الصحيح أيضاً، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يخير أحدهما صاحبه )، يعني يقول: أنت بالخيار إلى الغد، خذ هذه السلعة وأنت بالخيار إلى شهر، أو أنت بالخيار إلى شهرين، فإذا تراضيا بالمدة فطرأ عدم التراضي بعد ذلك المجلس، فإن عدم التراضي في ذلك معتبر، وحكمه حكم عدم التراضي في المجلس الأول.

وإن تفرقا بعد تراض من غير شرط مضى البيع، وذلك أنه لا بد من إمضائه.

والحد في ذلك في المفارقة بالأبدان أو المفارقة بالكلام، هو من مواضع الخلاف عند العلماء، هل المفارقة لا بد أن تكون بدنية، أو أن يفترقا في الحديث، كأن يتحدثا في شراء بستان أو دابة، ثم انتهيا من الحديث بعد البيع عن أمر البستان وتحدثا في شأن آخر، فهل يعد ذلك افتراقاً أم لا؟

هذا من مواضع الخلاف عند العلماء.

وأما افتراق البدن فالعلماء عليهم رحمة الله تعالى يتفقون على أنهما إن افترقا في بدنيهما من موضع العقد، فإن هذا الافتراق معتبر عند من قال بالخيار، وأما الحديث في ذلك فهو موضع خلاف.

ولكن نقول: إن الافتراق في الحديث إن صاحبه بعد وقت وعهد في الكلام يدرك فيه الإنسان معه الرجوع لو أراد أن يتأمل فإنه ماضٍ، وأما الحديث العابر في ذلك وفصل الكلام بعبارة أو خبر أو استفهام أو سؤال عن حال أو نحو ذلك، فإنه لا يكون فرقاناً بين المتبايعين، ولأن ضبط ذلك مما يشق.

وكذلك أيضاً: تقييد المفارقة بالأبدان فقط هذا شاق أيضاً، فمن الناس من لا يفارق صاحبه كأن يكون الإنسان سجيناً، أو من يسكن معه في دار واحدة أو نحو ذلك، فإذا تبايعا فهل يقال: إنه في الشرط ما بقي في السجن سنة أو عشر سنوات فيبقى بالخيار؟

نقول: لا، إذا انتهى الموضوع وطال الفصل وتحدثا في أمر آخر، فحينئذ يقال: إنهما قد تفرقا.

وأما مسألة البدن، فبمجرد تفرق البدن ولو كان سريعاً فإنه كاف في إتمام التراضي وإتمام الصفقة.

الخلاف في الأموال من أسباب القتل

قال: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29]، ذكر الله سبحانه وتعالى القتل بعدما ذكر الأموال؛ إشارة إلى أنه من أعظم ما يفسد ذات البين، ومن أسباب القتل هو الخلاف في الأموال، فإذا تنافس الناس في الأموال اقتتلوا عليها طمعاً وجشعاً وشحاً وحباً للأثرة، فذكر الله سبحانه وتعالى أمر الأموال، والسبيل الموصلة إلى أخذها عن تراض, ثم ذكر الله سبحانه وتعالى النهي عن القتل، وهل النهي في ذلك عام أن الإنسان لا يجوز له أن يعتدي على غيره إذا أخذ مالاً؟

نقول: إن أخذ المال لا يخلو من حالين:

الحالة الأولى: ما يؤخذ من المال صولاً وغصباً، فهذا يدفع الإنسان عنه، وإن مات دونه فهو شهيد، وقد جاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث، كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من قتل دون ماله فهو شهيد )، وجاء ذلك أيضاً من حديث سعيد بن زيد في المسند والسنن، وجاء ذلك أيضاً في حديث قابوس بن أبي المخارق، لما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الرجل يأتيني يريد مالي، قال: لا تعطه مالك، قال: فإن غلبني؟ قال: فاستنصر بالسلطان، قال: فإن نأى السلطان عني؟ قال: بمن حولك من المسلمين، قال: فإن لم يكن حولي أحد من المسلمين؟ قال: قاتل دون مالك حتى تدفع عن مالك أو تكون من شهداء الآخرة )، يعني: أن الإنسان يدفع عن ماله ولو كان قليلاً، فهل يعني هذا أن المال وعصمة المال مقدمة على النفس أم لا؟

نقول: إن النفس في ذاتها هي أزكى من المال، وإنما جاءت الشريعة بدفع الصائل عقوبة له لتحفظ المال وتحفظ الأنفس، ولو كان من سطي أو صيل على ماله وجب عليه أن يعطي ماله لكان في ذلك فساد عريض، وهذا من ضبط الحكم العام لا من ضبط الأمر الخاص، والشريعة تفرق بين ما كان ضبطاً عاماً وبين ما كان ضبطاً خاصاً، فتغلب الضبط العام ولو طرأت مفسدة عارضة.

وقد يقول قائل: فكيف أقتل على دينار أو درهم أو غير ذلك، والشريعة تجيز للإنسان أن يدفع عن ماله؟

فنقول: إن الشريعة أجازت الدفع ولم توجبه، وإجازة الدفع في ذلك حق للإنسان، ولو أراد أن يدفع المال لجاز له ذلك ولم يكن آثماً.

والشرائع في مسائل الضبط لا يؤخذ منها اختلال الأصول، فإن العرض مقدم على النفس ومقدم على المال، ولكنه إذا تعلق بضبط أمر عام قدم النفس على العرض، وقدم المال على الدم، فكيف يقدم المال هنا فيجوز لي أن أقتل مسلماً أراد مني ديناراً أو درهماً؟

أجاز لك الشارع إذا صال عليك ولم تستطع دفع صولته إلا بقتله، هل يجوز شرعاً أو لا يجوز؟

يجوز شرعاً، فكيف يجيز لك الشارع أن تقتله لدينار أو درهم، هل هو للحق الخاص، أم لضبط الأمر العام؟

لضبط الأمر العام، وأما إذا لم يكن في الأرض إلا درهمك ودينارك وسطا عليه أحد، فإن الشريعة لا تجيز لك قتله.

نظير هذا حتى تتضح الصورة، الرجل إذا وجد مع امرأته رجلاً ثم قتله، هل يقاد به أو لا يقاد؟

يقاد به، لماذا يقاد به, للأمر الخاص أو للأمر العام؟

للأمر العام لا للأمر الخاص.

وقد يقول قائل: كيف يكون العرض بهذا الرخص، ثم أقتل وأدافع عن عرضي؟

هذا ليس اختلالاً بالأصل وإنما ضبطاً للأمر العام.

وكيف يضبط الأمر العام؟

لو أجاز الشارع لكل صاحب دعوى أن يدعي أنه وجد رجلاً في بيته مع امرأته أن يقتله لكثر القتل في الناس، ومن كان بينه وبين أحد خصومة أخذه ووضعه في غرفة نومه ثم قتله، وقال: وجدته عند امرأتي وأصبحت هذه تصفية للحقوق، وتصبح الدماء هدراً، كم سيفتح هذا الباب من المفاسد.

ألا يفتح باباً عظيماً من المفاسد؟

يفتح باباً عظيماً، ولكن في الشريعة يقتل الواحد ولو دافع عن عرضه إذا لم يكن ثمة بينة؛ لأنه لا يوجد عنده بينة من أربعة شهود ولو ادعاه، ولو وجد في داره عند زوجه فقتله، ثم أقيم عليه الحد أجره في الآخرة وهو شهيد، ويجب أن يقتل في الدنيا ضبطاً للأمر العام، حتى لا يكون ذلك باباً للصوص والمنتقمين والمتربصين، فكل من كانت بينه وبين أحد عداوة أخذه ووضعه في البيت ثم قتله، قال: وجدته في بيتي يراود أهلي.

إذا قلنا بسقوطه ألا يسقط دمه ويصبح هدراً؟ يصبح هدراً، فأرادت الشريعة أن تضبط الأمر العام بالأمر الخاص، ولا يعني هذا استصغاراً ونزولاً للعرض في مقابل النفس، فإنه يجب على الإنسان أن يدافع عن عرضه.

ومثل هذا: الرجل الذي يراود عن ماله، أراد أحد من الناس منك مالاً، ثم امتنعت ولم تستطع دفعه إلا بقتله، وقامت البينة على قتلك له، ولم تقم البينة على أنه أراد مالك، تقتل به أو لا تقتل؟ تقتل به.

قد يقول قائل: لماذا الشريعة تجيز لي ومن قتل دون ماله فهو شهيد؟

نقول: أنت شهيد ولو قتلت قصاصاً، أجازت لك الشريعة ذلك، وإذا كان لديك بينة سقط الحد، وإذا لم يكن لديك بينة وجب أن تقتل حفظاً لبقية الدماء لا لذلك الدم الخاص، ولهذا لأحكام الشريعة متعلقات, وأحد أهل الأهواء قال: كيف أن الشريعة توجب علي أن آتي بأربعة شهود في رجل قد اقتحم داري وقتلته، ثم أقتل به؟

فقلت: هل لديك خصوم؟ قال: نعم، عندي خصوم قلت: لو جاز في الشريعة أن يقتل كل من دخل الدار وسقط، ثم أخذك واحد من خصومك ووضعك في داره ثم قتلك، ماذا ترى؟ قال: يجب أن يقتل بي، يعني: بفعلته تلك، قلت: وما الفرق بين هاتين الصورتين، وهذا يفتح باب شر عظيم.

وفي قوله سبحانه وتعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]، الصورة الثانية من صور أمر الأموال ذكرنا هنا ما كان عن صولة مما يؤخذ من الأموال.

رد المال المنهوب عن طريق الحيلة

الحالة الثانية: مما يؤخذ من الأموال تحايلاً، وذلك بالتحايل بأخذ مال بمعاملة أو ببيع من أنواع البيع المحرم أو نحو ذلك، سواء كان من الربا أو الجهالة أو القمار أو نحو ذلك، لأنه هل يجوز للإنسان أن يسترد ماله إذا أخذه تحايلاً وما أخذه صولة؟

نقول: لا يجوز له ذلك؛ لأن الشريعة أجازت الدفع عن المال إذا صال عليه صائل، يعني: أراد أن يأخذه بالقوة، لا تحايلاً عليك وظهر منك الرضا؛ لأن هذا يفتح باب فساد عريض، فيقول: تحايل علي فلان في السلعة الفلانية، فأراد أن يبيعني شيئاً بقيمة كذا، ثم خدعني وباعني شيئاً آخر، أو أراد أن يبيعني أرضاً فيها غراس ونخيل وثمار، ثم باعني أرضاً ليس فيها شيء ونحو ذلك، فهذا من التحايل الذي يؤكل به أموال الناس بالباطل.

لا يجوز للإنسان أن يقتل من فعل بي أو أخذ ماله بمثل هذا؛ لأن الأخذ صولة يختلف عن الأخذ حيلة ومكراً؛ لأنه يظهر في ذلك التراضي ولو كان مكراً، وفي مثل ذلك يلجئ في ذلك إلى الحكام والقضاة.

نفوس المسلمين واحدة

وقوله جل وعلا: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]، إشارة إلى أن نفوس المسلمين واحدة فلا يجوز للإنسان أن يعتدي على غيره استهانة بدمه، وذلك أن دمه كدم ذلك المعتدي.

رحمة الله في تشريع الحدود

قال: إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]، يعني: أن الله سبحانه وتعالى ما شرع هذه الشرائع وحد هذه الحدود إلا رحمة وإشفاقاً بالأمة، فيحرم على الإنسان أن يعتدي انتقاماً أو انتصاراً لنفسه مخالفاً في ذلك أمر الله سبحانه وتعالى.

قوله تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه)

قوله سبحانه وتعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النساء:31].

ضابط الكبيرة

الكبائر اختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في تقديرها وحدها على أقوال مشهورة معروفة:

منهم من قال: إن كل نهي ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه فهو كبيرة.

ومنهم من قال: إن الكبيرة وكل نهي ذكره الله عز وجل في كتابه أو النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، وتوعد صاحبه بالنار، أو جعل على ذلك حداً في الدنيا، أو استحق صاحبه اللعن وهو الطرد من رحمة الله سبحانه وتعالى، فقالوا: هذا كبيرة من كبائر الذنوب، ويكون في ذلك أيضاً من توعده الله عز وجل بالنار يوم القيامة فهو داخل في هذا الباب.

واختلف العلماء في الذنوب: هل تقسم إلى كبائر وصغائر؟

عامة العلماء على تقسيمها، وهو ظاهر عمل الصحابة عليهم رضوان الله، ويروى عن عبد الله بن عباس أن الذنوب واحدة، وإنما ينظر إلى عظم من يعصيه الإنسان، ولا ينظر إلى ذات الذنب، وإلى هذا ذهب المتكلمون كـأبي بكر الباقلاني وأبو إسحاق الإسفراييني وإمام الحرمين الجويني وغيرهم، أن الذنوب واحدة فلا يوجد صغائر ولا يوجد كبائر.

تقسيم الذنوب

ولكن نقول: إن تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر ثابت في الكتاب والسنة المستفيضة بل المتواترة عن النبي عليه الصلاة والسلام وظواهر الأدلة، فالله عز وجل وصف ذنوباً بأنها كبائر، ووصف ذنوباً بأنها لمم، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم ذنوباً بأنها موبقات، ووصف ذنوباً بأنها كبائر، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم ذنوباً بأنها صغائر ولمم، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم ذنوباً بأنها محقرات.

والذنب قد يكون في وصفه وفي ذاته كبيراً، وفي حق بعض العباد صغيراً، وقد يكون الذنب في الوصف في الشريعة صغيراً وفي حق بعض العباد كبيراً، وذلك بحسب ما يصاحب فعل الذنب في القلب، فإذا فعل الإنسان الذنب وهو مستهين به وبمن يعصي انقلب إلى كبيرة، وإذا فعل الإنسان الكبيرة بقلب وجل خائف والدوافع النفسية فيه أعظم من غيره فالذنب في حقه أخف.

فسرقة الفقير تختلف عن سرقة الغني، وكذلك زنا الشاب يختلف عن زنا الشيخ، وقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( أشيمط زاني )، يعني: أن دوافع الزنا في نفسه تختلف عن غيره، وكذلك الملك الكذاب، والعائل المستكبر، فالكبر من العائل والزنا من الأشيمط والكذب من الحاكم والملك يختلف عن غيره؛ لأن الدوافع في النفس تختلف، فإذا كانت الدوافع النفسية في القلب إلى الذنب أعظم، فالذنب في حقه أخف من غيره.

وكذلك أيضاً بالنسبة للطاعات من جهة الإقبال عليها، فإذا أقبل الإنسان بحضور قلب وإخلاص وصدق لله عز وجل وسر بينه وبين ربه كانت طاعته عند الله عز وجل أعظم.

قوله تعالى: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم ...)

التمني المنهي عنه بقوله تعالى: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم ...)

وقوله سبحانه وتعالى: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:32]، هنا التفضيل المراد بذلك في أحكام الله سبحانه وتعالى وقسمته بين الأجناس، أو بين الناس عموماً سواء كانوا من القبائل والشعوب، أو كانوا من الرجال فيما بينهم، أو بين النساء فيما بينهن.

قال: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:32]، فجعل الله عز وجل المفاضلة في ذلك عامة، أو كان بين الأجناس فلا تتمن المرأة ما فضل الله عز وجل بها الرجل من أحكام، ولا يتمن الرجل ما ميز الله عز وجل به المرأة، فلا تقول المرأة: لماذا لم يجعل الله عز وجل الجهاد لنا؟

ولا يجوز للرجل يقول: ليتني امرأة لا يجب علي الجهاد، أو لا يجب علي صلاة الجماعة أو غير ذلك.

فنقول: لا يجوز للإنسان أن يتمنى ما جعل الله عز وجل الخصائص فيه لغيره، فقد روى ابن جرير الطبري من حديث علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس أنه قال في قول الله عز وجل: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:32]، قال: هو قول الرجل: ليت لي ما جعله الله لفلان، وهذا يدخل في هذا الباب، سواء كان ذلك من أمور الأموال، أو من أمور الخصائص الشرعية، أو كان ذلك من أمر المواريث، فتتمنى المرأة ما للرجل من ميراث، ويتمنى الرجل ما للمرأة من أحكام وغير ذلك، فقد جعل الله عز وجل لكل جنس ولكل صنف حكماً، وذلك لقدر يقدره الله جل وعلا.

أنواع الاكتساب

قال: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ [النساء:32]، الاكتساب في ذلك على نوعين:

اكتساب مشروع شرعه الله عز وجل وقدره، وسواء كان ذلك مما جعله الله سبحانه وتعالى من أحكام شرعية من أمور المواريث أو غير ذلك.

واكتساب في ذلك من قبل الإنسان لا من المشرع، وذلك مما يكون للمرأة أو للرجل من كسب أو ميراث، فترث المرأة من أبيها، أو يرث الرجل من أبيه، أو يكون له حضاً من مال في دنيا أو نحو ذلك، فقد جعل الله عز وجل لهؤلاء نصيباً، والنصيب في ذلك إما مشروع وإما مكتسب من الإنسان من غير أمر تشريع، فلا يجوز للإنسان أن يعلق قلبه بما فضل الله عز وجل به غيره.

تصرف المرأة دون إذن زوجها

وفي هذه الآية دليل على أن الذمة المالية للمرأة منفصلة ومنفكة عن الرجل، فيجوز لها أن تتصرف في مالها دون إذن وليها، وأن مالها لها حق التصرف فيه دون وليها، سواء كان أباً أو كان أخاً أو كان زوجاً، وهنا جعل الله سبحانه وتعالى كسب الرجل ككسب المرأة، فإذا ورثت المرأة من أبيها مالاً أو أخذت مهرها جاز لها أن تتصرف.

وقد يقول قائل: كيف نجمع بين هذه الآية وبين قول الله جل وعلا في أوائل سورة النساء: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء:5] ؟

والسفهاء هنا تقدم الكلام أنه ليس المراد بالسفه هنا الجنون، وإنما المراد به سوء التدبير والتصرف، والعلماء من السلف يتفقون على أنه يدخل في هذا المعنى النساء والصبيان, قال: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء:5]، وهنا قد جعل الله عز وجل للرجال ما اكتسبوا وللنساء ما اكتسبن.

نقول: فرق بين المعنيين، فأول سورة النساء نهى الله عز وجل أن يعطي الرجل ماله غيره فيتصرف به وهو لا يحسن التدبير، وأما في هذه الآية فهو مال المرأة بنفسها، فنهاه الشارع أن يعطي ماله من لا يحسن التدبير سواء كان رجلاً أو امرأة، وإذا كان هذا المال له في ذاته فأراد أن يتصرف فيه وهو صحيح الأهلية جاز له أن يتصرف، وأما الإعطاء وتعلم أنه لا يحسن التدبير فإن ذلك لا يجوز, وحقه في ذلك أن تنفق عليه؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال بعد ذلك قال: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ [النساء:5]، يعني: النفقة، فلا تحبسوا عنهم النفقة، وما زاد عن ذلك فلا تعطوهم من مالكم، وأما في هذه الآية فهو مالهم هم في أنفسهم فيتصرفون فيه كما شاءوا.

الجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي تمنى مالاً لينفقه مثل صاحبه في الخير (فهما في الأجر سواء) وقوله تعالى: (ولا تتمنوا)

قال: وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:32]، يعني: أن الإنسان إذا رأى شيئاً أعجبه فإنه يسأل الله عز وجل من فضله، من غير أن يتمنى ما أعطاه الله عز وجل غيره.

وهنا هل النهي في ذلك عام، فلا يجوز للإنسان أن يتمنى الخير ليعمل الخير، فيتمنى الرجل لو كان عنده مال فلان لأنفقه في سبيل الله، أو لو كان عنده ما أعطاه الله عز وجل فلان من قدرة لقاتل في سبيل الله، فهل النهي عن التمني هنا عام؟

نقول: النهي عن التمني في ذلك إذا كان لأمر الدنيا ولحظ النفس، وأما التمني المشروع للقيام بالعبادة فهذا جائز، كأن يتمنى الرجل مالاً ليطعم الفقراء، وليت عندي مال فلان لأطعمت به الفقراء وكسيت به العراة، وأنفقت في سبيل الله، وعمرت به المساجد ونحو ذلك فهذا من التمني الجائز, ويؤتى الأجر بإذن الله تعالى.

يقول الله جل وعلا: وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [النساء:32]، يعني: أن الله ما قدر هذه المقادير وقسم هذه الأنصبة، وجعل لكل أحد حضه وفضله إلا عن علم بحاله، وعلم بما يئول إليه، فالله عز وجل يقدر هذه الأشياء ويعلم ما يصلح العباد وما يفسده، وأين يئول ذلك المال، وكيف يدور؟ فيبقى بيد أحد ثم يديره الله عز وجل إلى يد غيره فيحرم من يشاء ويعطي من يشاء بحكمة وقدر جل الله جل وعلا في أسمائه وصفاته.

أسأل الله سبحانه وتعالى لي ولكم التوفيق والسداد والإعانة والهدية والرشاد, إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير آيات الأحكام [67] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

https://audio.islamweb.net