إسلام ويب

تنازع العلماء في آية الوصية عند الموت للوالدين والأقربين، فقال بعضهم: إنها منسوخة، وقال آخرون: إنما نسخ الوجوب وبقيت المشروعية، والوصية لغير الوارث مشروعة، واتفق العلماء على أنها لا تجوز في أكثر من الثلث لمن كان له ورثة، فإن لم يكن له ورثة فقيل: له أن يوصي بجميع ماله، وقيل: ليس له ذلك، والأقرب الجواز.

قوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ...)

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

أهمية الوصية عند الموت

فأول آي هذا اليوم هو قول الله جل علا: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [البقرة:180]، هذه الآية جاءت بعدما بين الله سبحانه وتعالى أحكام القصاص وبين وجوبه, وكذلك عمومه وتساوي الدماء في ذلك على ما تقدم الكلام عليه، وهذا عطف عليه، وذلك أن الله عز وجل وجه الخطاب إلى أهل الإيمان بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178]، فلما كانت الآية في سياق الموت بين الله سبحانه وتعالى ما يلحق الموت مما ينبغي للإنسان أن يفعله قبل حضور أجله وهو الوصية، والله سبحانه وتعالى قد بيَّن أمر الوصية مصححاً ما بدلَّه أهل الجاهلية، فإن الوصية معروفة في الجاهلية وقبلها، ولكن طرأ عليها شيء من التعديل والتغيير والتبديل، وكذلك الإلغاء لبعض من يستحق المال، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يعيد الأمور إلى ما كانت عليه، ولما كانت الوصية تتعلق بالأموال دل على أن التغيير فيها ولو بشيء يسير من الظلم، ومعلوم أن أمور الأموال التي تكون بين الناس أمرها عظيم عند الله جل وعلا ولو كان المال يسيراً، ولهذا عظم الله درهم ودينار الربا، وعظم الله الشبر الذي يقتطع من الأرض؛ لأنها من أموال الناس التي تجب صيانتها، ولما كانت كذلك بين الله عز وجل أمر الوصية؛ حتى يدفع ما كان عليه الجاهليون من تبديل وتحريف فيها، وذلك أن الجاهليين جعلوا الوصية محلاً للإضرار بالورثة أو بغيرهم، فإنهم ربما يوصون للأبعدين ويدعون الأقربين لأجل التفاخر، فيوصون لقبيلة بعيدة، أو يوصون لأحد من غير الورثة ويدعون الورثة؛ يريدون من ذلك المفاخرة، فيتحينون من يمدح ويدعون من لا يحسن المدح ولو كان صاحب حق، فأراد الله جل وعلا أن يبين العدل والإنصاف في ذلك.

وهذه الآية -وهي آية كتب الوصية عند حضور الأجل- بينها الله سبحانه وتعالى قبل آية المواريث، وذلك أن الله جل وعلا جعل الوصية في هذه الآية للوالدين والأقربين، ومعلوم أن الله عز وجل قضى على لسان نبيه: ( ألا وصية لوارث )، كما جاء في السنن من حديث عمرو، وجاء عند أبي داود و الترمذي من حديث أبي أمامة كلاهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث )، والله جل وعلا إنما ذكر الوالدين في هذه الآية؛ لأن الجاهليين يتنكبون الوالدين ويتعمدون ذلك، وربما تنكبوا الأبناء والبنات أيضاً، ومن إضرارهم في أمر الوصية أنهم يجعلون الوصية أولى من حق القرابة والرحم، فلو أوصى لبعيد وجب أن يقضى بها ولو كان من دونه ممن له حاجة؛ فإنها تمضي، وكذلك فإنهم ربما يوصون بما يخالف الحق حتى في العرف، ذلك أنهم يقدمون أمر الوصية حتى على الدين الذي يكون في عنق الإنسان، فإذا أوصى الإنسان لأحد من الناس فلا يقضى دينه, وإنما يتوجه إلى الأمر بالوصية، ولهذا فرض الله عز وجل الوصية بالعدل، وجعلها الله عز وجل للوالدين والأقربين؛ ضبطاً لما تعدت مما توسع به الجاهليون في ذلك، ولهذا يقول بعض أهل العلم والتاريخ: إن العرب يوصون للأبعدين للفخر، ويدعون الأقربين للفقر، يعني: أنهم يلتمسون مدح فلان وفلان إذا كان بعيداً ويدعون القريب، فجعل الله عز وجل الوصية هنا للأقربين، وجعل أولى الأقربين في ذلك الوالدين، والله سبحانه وتعالى استعمل لفظ الوجوب في قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمْ [البقرة:180]، ولهذا استدل بهذه الآية من قال بوجوب الوصية، مع أن العلماء عليهم رحمة الله مع قولهم بالنسخ قالوا: إن أصل التشريع لا ينسخ؛ باعتبار أن هذا الأمر ما أراد الله عز وجل نسخه لذكر الله عز وجل له في آيات المواريث؛ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ [النساء:12]، مع أن الله عز وجل ذكر التفصيل في ذلك, مما يدل على أن الوصية معتبرة في ذلك حتى مع المواريث، قالوا: وذلك دليل على أن الله عز وجل ما أراد إلغاء أمر الوصية بالإجمال وإنما أراد فرضها وتحديد أهلها، والله عز وجل أبقى الأمر على التشريع، ومرادنا بتحديد الأهل هنا أن تكون قاصرة على الأقربين، وأولهم في ذلك الوالدان، وإنما نقول: إن الآية باقية على حكمها العام، إلا أن الله عز وجل نسخ فرضيتها في قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمْ [البقرة:180]، ويستدل بعض العلماء ممن قال بالوجوب وبعدم نسخ هذه الآية بأن الله عز وجل أكد الوجوب بقوله: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:180]، والحق هو تأكيد للفرض في قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمْ [البقرة:180].

أقوال العلماء في نسخ قوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية... ) وعدمه

وهذه الآية اختلف العلماء في نسخها على قولين:

فذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الآية منسوخة، وممن قال بهذا جماعة: كـعبد الله بن عباس و مجاهد بن جبر والضحاك, وذهب إليه الشعبي ومسروق وقتادة, وقال به الأئمة الأربعة: أبو حنيفة ومالك والشافعي و الإمام أحمد, وقال به الأوزاعي وغيرهم من الأئمة, وأن الذي نسخها هو تفاصيل المواريث، وكذلك قالوا: إن الله عز وجل نسخها بالخبر الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنن عند أبي داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجه من حديث عمرو، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث )، وقد رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يتفرع عن مسألة, وهي أن هذا الحديث هو من أخبار الآحاد، وآي القرآن متواتر وقطعي الثبوت، وهو ضروري، فكيف ينسخ خبر الآحاد المتواتر من كلام الله, ولكن نقول: إن الله عز وجل إنما نسخ هذه الآية بآيات المواريث, وأكدها هذا الخبر الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.

القول الثاني: قالوا بعدم نسخ هذه الآية، وهذا قول مروي عن الحسن البصري , وقال به طاوس بن كيسان , ورجحه ابن جرير الطبري رحمه الله، قال: وذلك أن النسخ لا يصار إليه إلا مع توفر لفظ متواتر يفيد النسخ، إما من كلام الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما بالنسبة لآية المواريث فإنها لا تتعارض مع آية الوصية من جميع الوجوه.

قالوا: وأما ما فرضه الله عز وجل من إرث للوالدين وللأقربين ممن يرثون، فإن ذلك إذا كان لا يرث إلا هؤلاء فلا حرج عليه أن يزيد في ماله وصية لهم.

وهذا وإن كان فيه نوع تكلف في مسألة إخراج هذه الآية من النسخ، إلا أن من نظر في كلام الأئمة الأوائل من الصحابة والتابعين يجد أن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى يكادون يطبقون على عدم المخالفة لمن قال بالنسخ، وكذلك فإن هذه الآية تفيد الوجوب، ولا أعلم أحداً من الصحابة قال بوجوب الوصية لكل ميت، فهذه الآية عامة لكل من حضره الموت، ولما كانت كذلك ولم يقل أحد من العلماء بوجوب الوصية من الصحابة صريحاً دل على أن ما جاء عن عبد الله بن عباس بإسناد صريح أن الله عز وجل نسخ هذه الآية, وهذا الذي اعتمده البخاري رحمه الله في كتابه الصحيح، فقد أخرج عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله قال: كان المال للأولاد, والوصية للوالدين, فنسخ الله من الآية ما نسخ, وأبقى ما أحب، وهذا فيه إشارة إلى أن الله عز وجل أبقى أصل المشروعية ونسخ الوجوب والحصر وذلك بآيات المواريث، ويأتي بيانها بإذن الله تعالى، والذين قالوا بعدم نسخ هذه الآية قيدوا الوصية بالوالدين والأقربين، وقالوا: إنها لا تخرج عن هذين النوعين، وبعض العلماء قال: إن أوصى لغير الأقربين فإنها وصية باطلة؛ كالذي يوصي لرجل أبعد أو نحو ذلك, أو لمنفعة ولو كانت لعموم المسلمين مشاعاً, وليست لأحد بعينه، قالوا: فإن هذه الوصية وصية باطلة، ذهب إلى هذا بعض العلماء, وهو قول الحسن البصري, وذهب إليه طاوس بن كيسان , ولكنه قول ضعيف، فالوصية في ذلك عامة، وأما بالنسبة للأقربين فمن للإنسان حق عليه قد جعل الله عز وجل له في ماله ما يسد حاجته، ففرض الله عز وجل في ذلك الأنصبة للورثة, ومن كان خارجاً عنه فإن الإنسان يوصي ما شاء، ويعضد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـسعد بن أبي وقاص: ( الثلث والثلث كثير، إنك إن تدع ذريتك أغنياء )، إشارة إلى أن الإنسان يدع شيئاً من ماله لغير الورثة، وأما من قال بالوجوب استدلالاً بهذه الآية، وكذلك ما جاء عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين إلا ووصيته عند رأسه )، وهذا الحديث في الصحيح، وأما قوله عليه الصلاة والسلام: ( ما حق امرئ مسلم )، هل هذا يفيد الوجوب أم لا؟

نقول: الأصل في الحق كما في هذه الآية في قول الله عز وجل: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:180]، الأصل في ذلك أنها تفيد الوجوب، وظاهر الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك متأخراً، في حديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله، فنقول: إن هذا الحديث عام، وأولى من يفهم الحديث هو راويه، وقد ثبت عن عبد الله بن عمر أنه لم يوص، كما روى ابن جرير الطبري من حديث أيوب عن نافع أنه قال: لم يوص عبد الله بن عمر عليه رضوان الله, فقال: أما مالي في الحياة فالله أعلم ما عملت به، يعني: يريد أن يضمر ما أنفقه في سبيل الله عز وجل من خير، وأما رباعي فلا أحب أن يشرك أبنائي فيها أحد، فهذا عبد الله بن عمر عليه رضوان الله وهو راوي هذا الخبر يوجه معنى الحديث ولا يعارضه، ومعلوم أن من قرائن صرف الوجوب: أن الأمر إذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خالفه الراوي الذي رواه، فإن هذه المخالفة إما أن تكون مخالفة مضادة لأصل الحديث؛ فإن هذا يتوجه إلى إعلال الخبر، وإما أن يمكن مع ذلك الجمع؛ فتكون حينئذ من باب التخصيص والتقييد، فإن ذلك لا يقال لا بالإعلال، ولا يقال أيضاً بالراجح والمرجوح، فيجعل الموقوف مفسراً له، وهذا عند العلماء فيما يرويه الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم ويأتي قول عنه يخالف ذلك المرفوع الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفعل عبد الله بن عمر عليه رضوان الله يتمحض فيه الصدق والتعبد؛ لأن قوله ذلك كان في حضرة الموت، وهو أدعى للإنسان أن يستحضر المسألة، وأن تكون ظاهرة عنده، كذلك أبعد أن يقال: أفتى عبد الله بن عمر في حالة خاصة ونحو ذلك, وإنما هو عمل به بنفسه.

وفيه إشارة إلى أن الموقوف على عبد الله بن عمر عليه رضوان الله إنما كان في آخر حياته عند حضور الموت.

وأما بالنسبة للمرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد سمعه منه ثم حدث به، ولا يقال عكس ذلك؛ أن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله كان يفتي بهذا القول الموقوف، ثم سمع صحابياً نقل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما حق امرئ مسلم )، ثم حدث به بعد ذلك، فإن حضور الوفاة في عبد الله بن عمر مع أنه لم يوص دليل على أن تحديثه للمرفوع كان قبل ذلك.

وأما بالنسبة للموقوف فإنه كان عند حضور الأجل، فكان الموقوف مفسراً للمرفوع الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولهذا نقول: إن الآية بقيت على مشروعيتها، فنقول: إن الوصية باقية على المشروعية، أما من قال بعموم نسخ الأصل، وأن الوصية منسوخة برمتها، وليست من شريعة الإسلام، فهذا القول لم يقل به أحد من الصحابة عليهم رضوان الله، ولا أعلم أحداً معتبراً ينسب له هذا القول إلا إبراهيم بن خثيم وهذا مما يعد في مسائل الاتفاق، ولا يعد خلافه معتبراً، ولهذا نقول: إن هذه الآية باقية على أصل مشروعيتها من جهة استحباب الوصية.

العلة في تقييد الوصية بحضور الموت

وأما التقييدات التي جاءت في هذه الآية في قول الله سبحانه وتعالى: إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [البقرة:180]، حيث ذكر الله عز وجل أن الوصية كتبت إذا حضر الموت، فهل نقول إن الوصية لا تجب على الإنسان إلا حال حضور الموت؟ نقول: لا، وإنما الله عز وجل ذكر حضور الموت؛ لأن الآيات جاءت في سياق حضور الأجل بإقامة الحدود على الناس، هذا أمر.

الأمر الآخر: أن حضور الموت يتأكد فيه قرب الأجل أكثر من غيره، ولهذا يتأكد فيه الوجوب، وهذا كثيراً ما يأتي في حال دنو الإنسان من الأجل أو كبره ونحو ذلك، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يوصي بالمبادرة عند وجود الصوارف والموانع من عمل الإنسان، كما في قول النبي عليه الصلاة السلام: ( بادروا بالأعمال فتناً )، والأمر في قوله عليه الصلاة والسلام: ( بادروا ), هل هو أمر جديد بوجوب العمل أم من باب مزيد الحض؟ وأما المبادرة فأصلها موجود، وهذا يأتي كثيراً.

وفي قوله: إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [البقرة:180]، حضور الموت بيان العلامات على الإنسان، إما بوجود مرض مخوف لا يبرأ الإنسان منه غالباً، أو قرب أجل الإنسان ودنوه من الهرم، وذلك بتجاوز الإنسان مثلاً للسن المعتادة التي يقبض فيها أو لا يتجاوزها الإنسان إلا نادراً، والنبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه في المسند والسنن أنه قال: ( أعمار أمتي بين الستين والسبعين )، وجاء في البخاري أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أعذر الله إلى رجل بلغ الستين من عمره )، ولهذا نقول: كلما دنا الإنسان من أجله وقرب ينبغي له أن يبادر بكاتبة الوصية، وذكر هنا قرب حضور الأجل، والمراد بحضوره هي العلامات والأمارات, منها المرض, ومنها الهرم, ومنها المشيب، وقد يكون الإنسان في حال صحة وتظهر عليه علامات الموت؛ كأن يكون الإنسان ممن يركب البحر وماجت به الأمواج، أو تاه في صحراء وخشي على نفسه الهلاك ولم يكن معه زاد فخشي إن بقي يوماً أو يومين على هذه الحال أن يموت, أو كان في لقاء عدو وغلب على الظن عدم السلامة, فإن هذا مما يطلق عليه حضور الموت، فينبغي للإنسان أن يبادر بالوصية، ولهذا نقول: تتأكد الوصية على الإنسان كلما غلب على ظنه دنو أجله منه، وهذا بحسب ورود العلامات والأمارات في ذلك.

وكذلك القيد في قول الله عز وجل: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا [البقرة:180]، المراد بالخير هنا المال، كما جاء تفسر ذلك عن عبد الله بن عباس كما رواه ابن جرير الطبري وغيره من حديث معاوية عن علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس أنه قال: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا [البقرة:180], يعني: مالاً.

وجاء تفسر ذلك أيضاً عن مجاهد بن جبر بإسناد صحيح، وجاء أيضاً عن غيرهم.

اشتراط وجود المال لمشروعية الوصية

وهل لا يشرع للإنسان الوصية إلا في حال ترك المال؟ وما هو المقدار في ذلك؟ بعض العلماء قال: تتأكد الوصية إذا كان لدى الإنسان مال وفير، وذلك أن الشارع ذكر من جملة القيود التي يكتب على الإنسان فيها الوصية حال حضور الأجل وأن يكون ترك خيراً، أي: مالاً، وهذا ذكره بعض العلماء؛ كـعلي بن أبي طالب وغيره.

وبعض العلماء قال: إن الحكم في ذلك سواء إلا لمن عدم المال وغيره، فمن عدم المال فإنه لا ينفق؛ وذلك كحال النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه مات عن غير مال ولو مات عن مال فإن ماله لا يورث عليه الصلاة والسلام، ولهذا أخرج البخاري في كتابه الصحيح من حديث عبد الله بن أبي أوفى: ( أنه سئل أأوصى النبي صلى الله عليه وسلم: قال: لا، قال: كتبت علينا الوصية ولم يوص رسول الله؟ قال: أوصى بكتاب الله )، لأن هذا هو إرث النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي، ولهذا نقول: الإنسان إذا لم يكن لديه مال فإنه ليس من أهل الوصية, وإن أوصى ذريته بالاستقامة والاعتدال ونحو ذلك، أن يكون ذلك ذكرى لهم، فهذا من الأمور الحسنة؛ اقتداءً بهدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بكتاب الله, وليس شيء من إرثه إلا هذا، فيقتدي الإنسان بوصية النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الناس بالحق.

وقرينة ذلك أيضاً ما جاء في المسند والسنن من حديث العرباض بن سارية: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظهم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون, فقالوا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا )، ولهذا ينبغي أن تطلب الوصية أيضاً من صاحب علم، أو صاحب عقل، أو صاحب دراية، أو صاحب خبرة في الحياة ونحو ذلك، وأن يلتمس ذلك في حال قرب الإنسان أو دنو أجله، ولهذا الصحابة ابتدروا النبي صلى الله عليه وسلم لما ظهرت منه أمارات دنو الأجل، فقالوا: كأنها موعظة مودع فأوصنا.

تعريف الوصية

والوصية في لغة العرب: هو الأمر بفعل شيء بعد الموت، وأما ما كان في حال حياة الإنسان فلا تسمى وصية إلا في حال غيابه, كأن يكون الإنسان ممن يسافر إلى بلد فأوصى أن يفعل كذا وكذا بعده؛ كأن يقال مثلاً: أعطوا فلاناً كذا، وأنفقوا كل شهر كذا, وأعطوا الفقير كذا, ونحو ذلك مما يوصي به الناس بعد ذهابه، فهذا سائغ من جهة اللغة.

وأما من جهة الاصطلاح الشرعي فغلب على ما يأمر به الإنسان بعد وفاته، ولهذا نقول: إن الوصية هي عكس الرقبى والعمرى.

والعمرى والرقبى هو أن يقول الإنسان: هذا المال هو لفلان حياته، هذا البيت لفلان ما دمت حياً فإن مت فإنه يرجع إلي.

والرقبى والعمرى إنما سميت بهذا؛ لأن الإنسان يراقب حياة فلان هل مات ليرجع إليه حقه، والذي أخذ البيت ينظر إلى ذلك ينتظره يموت فأيهما يموت الأول فيتملكها الأول, ولهذا جاء النهي في الشريعة عن هذا، وهي معروفة في الجاهلية، فيقول: هذا البيت لك حتى تمت، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من أعمر شيئاً أو أرقبه فهو له حياته وموته )، ولهذا لا تقل لأحد: هو لك حياتك فربما يأتيك شخص من الأشخاص عمره تسعين سنة يقول: أعطني أقضي بقية حياتي في هذا البيت، ولم يبق من أجله إلا شهر أو شهرين, وتقول: هو لك حياتك، تملك هذا البيت، ولهذا من أرقب شيئاً أو أعمره فهو له حياته وموته، وهذا نهى الشارع عنه؛ لأنه لا يليق بالإنسان أن يرقب موت أحد، فربما تربص به وأماته حتى ينتقل إليه الملك، وهذا منهي عنه، فحسم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر، فنهى عن الرقبى والعمرى وحث على الوصية، وهي ضد الرقبى والعمرى.

حكم الجور في الوصية

وقول الله جل وعلا: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:180]، قيد الله عز وجل ذلك أن يكون بالمعروف, وفي هذا دليل على أن الجور في الوصية محرم.

والجور معناه: أن يوصي الإنسان بإثم أو قطيعة رحم؛ أن يوصي الإنسان أحد أبنائه بفعل أو بقول لا يصل معه رحمه، فيقول له: دع فلاناً ولا تزره، ولا تصل أمك أو أخاك أو جارك أو نحو ذلك، فهذا من الجور في وصية المعنى.

وأما بالنسبة للمال أن يوصي الإنسان جوراً في ماله، فيقول مثلاً: للورثة كذا ولكذا كذا يريد الإضرار بأحدهم, فيعطي أحدهم أكثر من غيره، فنقول: هذا من غير المعروف.

والمعروف هو العدل والإنصاف, وضده المنكر مما لم تألفه الطباع، أن يأخذ الإنسان حقاً لا يساويه غيره ممن يستحق عادة مثله، ولهذا جعل الله عز وجل الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين.

وقول الله جل وعلا: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:180]، هذا من ألفاظ الوجوب وتقدم الكلام على ذلك، وفيه إلى أن الوصية من التقوى، وأن مخالفة التقوى وضدها المعصية، والتقوى هي: أن يتقي الإنسان المعصية من الوقوع فيها، وإذا لم يتق الإنسان المعصية فمعنى ذلك أنه وقع فيها, وبهذا استدل بعض العلماء ممن قال بوجوب الوصية بعدم نسخ هذه الآية.

والصواب في ذلك أن هذه الآية منسوخة وبقي في ذلك أصل المشروعية، وذلك لأن الله عز وجل حينما نسخ هذه الآية في تفاصيل آيات الميراث، ذكر الله عز وجل: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا [النساء:12]، مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا [النساء:12]، مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا [النساء:12]، يعني: حتى في أمر المواريث فإن الله عز وجل جعل الوصية متخللة لأمر الميراث, ولهذا نقول: إن آي الميراث نسخت الفرض والحد في ذلك، وجعلت الأمر على مشروعيته.

قوله تعالى: (فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه ...)

حكم تبديل الوصية

الآية الثانية في هذا هي قول الله جل وعلا: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ [البقرة:181]، المراد بذلك هو تبديل الوصية، ومعلوم أن الوصية يشهد عليها، والوصية إما أن تكون مكتوبة، وإما أن تكون مسموعة، والوصية المكتوبة والمسموعة يطرأ عليها التبديل, والله عز وجل إنما ذكر السماع هنا؛ لأن الغالب عند العرب أنهم يوصون سماعاً, أو ربما كانوا يوصون شيئاً مكتوباً ولكنهم يزيدونه بياناً بالسماع، أو يؤكدون ذلك بشيء من السماع، فبين الله سبحانه وتعالى أن الوصية يطرأ عليها شيء من التبديل، والإثم في ذلك إما أن يطرأ على إلغاء أصل الوصية، أو على تبديل شيء منها، فذكر الله عز وجل التبديل: فَمَنْ بَدَّلَهُ [البقرة:181]، يعني: أن من ألغاها أشد إثماً عند الله سبحانه وتعالى, فعاقب الله جل وعلا على الأدنى وهو أن يبدل الإنسان حكماً بحكم؛ كأن يوصي الإنسان بثلث ماله لفلان فيأتي من يبدله من الثلث إلى السدس، أو يبدله إلى عشر المال ونحو ذلك، فينقص من حق من أوصي له، فيكون هذا من التبديل, وأما بالنسبة للتعطيل والإلغاء فإن ذلك أشد إثماً عند الله سبحانه وتعالى.

وقوع أجر الموصي وإن بدلت الوصية بعده

وفي هذا أيضاً تطمين لنفس الموصي، فإن الإنسان إذا أوصى بشيء ثم قبض الله روحه وقع أجره على الله كما كان أوصى, وإثمه على من بدله.

روى ابن جرير الطبري في كتابه التفسير من حديث علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس قال: من أوصى وصية فقد وقع أجره على الله وإثمه على من بدله، وهذا من عدل الله عز وجل, والله جل وعلا يقول في كتابه العظيم: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، وفي آية أخرى: إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7], وهذا ليس من وسع الإنسان ولا مما آتاه الله؛ لأن الله قبض روحه، ففي حال امتلاك الإنسان ما آتاه الله من قدرة ورأي فإن الله عز وجل يؤاخذه في ذلك، فلما بادر بهذا كان أجره على ما كان منه، وهذا من فضل الله عز وجل الواسع على عباده, أن الإنسان إذا أعطى أحداً ديناراً أو درهماً لينفقه في منفعة معينة ثم صرفه في غيرها فإن أجره على تلك المنفعة، فإذا صرفه في دنيا أو امتنع عن صرفه أو دفعه إلى غيره ممن كان دونه أو عطل ذلك بالكلية أو أخذ المال لحظ نفسه فإن الأجر يأتي إلى صاحبه كما أخرجه؛ لأن أجره وقع على الله سبحانه وتعالى.

فضل من سعى في تحقيق الوصية

وفي قول الله جل وعلا: بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ [البقرة:181]، وذلك معنى قول الله عز وجل: لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، والمراد بالوزر هو الإثم, والإثم الذي يقع هنا: فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ [البقرة:181]، المراد به الذنب والعقاب من الله سبحانه وتعالى، وهذا فيه دلالة مفهوم، ودليل خطاب على أن الوفاء بالوصية أجرها عظيم، ذلك أن الله عز وجل لا يرتب عقاباً عظيماً على عمل إلا وضده فيه ثواب عظيم, فمن سعى في تحقيق وصية فله أجر كأجر الموصي، وذلك فضل الله عز وجل يؤتيه من يشاء، وإن اختلفت المساواة في ذلك من جهة التعب والنصب, الإنسان تعب في جمع ماله ثم أوصى، فمن كان ناظراً عليه وأنفقه فإنه يأتيه الأجر تاماً، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة )، فكيف يتساوى الذي ينبل السهم بمن ذهب يقاتل في سبيل الله وهو معرض للخطورة؟ نقول: ذلك فضل الله عز وجل يؤتيه من يشاء.

كذلك في خازن المال -كما جاء في الصحيح- والمرأة التي تنفق من مال زوجها بإذنه فإن الأجر لها كذلك، لهذا نقول: ذلك فضل الله عز وجل يؤتيه من يشاء.

بل إن الإنسان إذا سن سنة فتأثر بها غيره من غير نية منه آتاه الله عز وجل أجر ذلك؛ كحال الرجل الذي جاء بصرة فيها صدقة ووضعها أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يستحضر هذا الأمر ولا مقداره، ولا يدري كم سيأتي من الناس، خمسة أو عشرة أو عشرون أو أكثر من ذلك، ثم تتابع الناس في الصدفة فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( من دل على هدى كان له مثل أجر من تبعه), ولهذا ربما الإنسان يذكر سنة في الناس فيعمل بها الآلاف، وهذا سر تفوق العلماء عند الله على غيرهم، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( يأتي معاذ بن جبل يوم القيامة أمام العلماء برتوة )، يعني: برمية حصى؛ وذلك لعلمه في دين الله عز وجل وما بلغه أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولعل مراد النبي صلى الله عليه وسلم أن معاذاً عليه رضوان الله بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأقام بين الناس، وانفرد بتعليمهم عليه رضوان الله هو وأبو موسى فتعلم منه الآلاف، فنال ذلك السبق، بخلاف بقية البلدان فكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث إليها جماعات أو يبعث يوماً وأياماً أو نحو ذلك.

ولهذا نقول: إن الله سبحانه وتعالى يعطي الإنسان بدلالته على الخير ما لا يدركه ولا يعلم به إلا عند ربه، فكثير من الناس يظن أن المنفعة في أن الإنسان يكتب كتاباً ثم ينتفع به الناس، وهذا ليس بصحيح، بل إنك ربما تتكلم بالكلمة فيضبطها الله عز وجل في أذهان الناس، كما تكتبها في ورق فيعلم الله أن هذه وقعت في ذهنك مكتوبة، وانتقلت من ذهنك إلى ذهن فلان أحصاه الله ونسوه، ولهذا نقول: ما يتناسخ من معلومات في أذهان الخلق هي مدونة عند الله عز وجل، فأنت تصلي ولا تعلم من علمك, وتسبح ولا تعلم من علمك, وتقرأ الفاتحة ولا تعلم من علمك ذلك، ولو سئل الجميع في هذا المسجد: من هو الذي علمك سورة الفاتحة التي هي ركن في الصلاة؟ ما أجاب أحد منكم جواباً صحيحاً، لكن الله عز وجل يعلم، وهذا العلم الذي لديك، وعلمته غيرك هو للأول وهكذا، ويبقى عند الله عز وجل، ولكن الناس دائماً يتعلقون بالمحسوسات, ويظنون أن الله عز وجل يكتب على ورق، وهذا غير صحيح، فالله عز وجل يعلم بلا ورق، يحصيه الله عز وجل وإن نسيه الناس, والله عز وجل إنما يجعل الملائكة تكتب ليس لأجل الحفظ وإنما لإقامة الحجة، فالإنسان تمد له السجلات، فيقال له: هل تنكر منها شيئاً؟ مجرد إثبات، ولهذا لشدة عناده يقول لربه سبحانه وتعالى: لا أرضى بشاهد إلا من نفسي، يعني: كل الخليقة عنده كاذبون، ثم يضرب الله عز وجل على فمه فتتكلم أطرافه؛ يده ورجله وفخذه وفرجه ولسانه بما عمل، وهذا إنما جعل الله عز وجل على الناس من يدون عليهم ويحصي عليهم آثامهم، ليقيم الله عز وجل الحجج على عباده، ويقطعها عليهم حال عنادهم واستكبارهم.

وفي قول الله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:181]، ذكر الله سبحانه وتعالى أن التبديل والتحريف قد سمعه الله من صاحبه أول مرة, وعليم بما وقع من تبديل بعد ذلك, فناسب ذكر هذين الاسمين لله سبحانه وتعالى: السمع, والعلم، وذلك أنه ينبغي للإنسان إذا أراد الإنصاف والعدل أن يكون مستحضراً لعلم الله عز وجل وسمعه, وأن يكون ضابطاً أيضاً في حال سماعه, وكذلك ضابطاً في حال أدائه.

وفي قول الله سبحانه وتعالى: فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ [البقرة:181]، ذكر التبديل؛ لأن الغالب أن الوصية تقع من واحد، والتبديل يقع من جماعة، لأن الإنسان يشهد اثنين فصاعداً وربما يجتمع ما هو أكثر من ذلك.

ولهذا جعل الله عز وجل الموصي واحداً, والإثم واحد, والذي يقع عليه الإثم جماعة.

قوله تعالى: (فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً ...)

أحوال عدم نفوذ الوصية

الآية الثالثة هي قول الله سبحانه وتعالى: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:182]، المراد بالجنف هو: الحيف والميل، ميل الإنسان في الوصية, (أو إثماً) أي: أن يقع الإنسان في شيء من الحرام وظلم الغير، ومعنى ذلك: أن الله عز وجل حرم الجور في الوصية.

ولهذا اتفق العلماء على أن الوصية لا تنفذ في أمرين:

الأمر الأول: الوصية للوارث، وهذا محل اتفاق عند العلماء.

الأمر الثاني: الوصية في الحرام، فإذا أوصى الإنسان في حرام؛ كأن يوصي الإنسان في ماله بقتل أو بخمر أو نحو ذلك فهذا من الجور والظلم، ولهذا يقال بعدم نفاذ الوصية وعدم انعقادها أصلاً، وذلك أن الإنسان لا وفاء له في نذر في معصية الله، فلا يجوز الوفاء في حال حياته ولا أداؤه في حال حياته, فكيف أن ينوب عنه غيره بعد وفاته؟

المصالحة في الوصية

وفي قول الله جل وعلا: فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ [البقرة:182]، إشارة إلى وجود شيء من النزاع، مما يدل على أن سبب الحيف هنا ليس تعمد الإنسان بالوصية بشيء محرم فقط, وإنما ما يقع فيه خلاف ولو كان في ذاته مباحاً، كأن يوصي الإنسان في أحد القرابات الذين لا يرثون فيقع نزاع بين اثنين على ذلك المال، فلا حرج على الإنسان أن يأتي مصلحاً بينهما طالباً أن يسقط أحدهما حقه في الوصية لغيره، فهذا جائز؛ الله عز وجل ذكر هذه الآية بعد التبديل في قوله جل وعلا: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ [البقرة:181]، ثم ذكر: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا [البقرة:182]، يعني: أن الإنسان إذا خاف ميلاً من الإنسان فلا حرج عليه أن يقوم بالإصلاح؛ كأن يوصي الإنسان مثلاً بابن خالته أن يعطى مالاً، ويوجد ابن خالة آخر، ويقول: لماذا لم توص لي؟ توصي لفلان بألف ولا توصي لي ولو بدرهم؟ وتقوم الخصومة والنزاع بينهم، ولا يمكن الإصلاح إلا بإعطائه شيئاً، فلا حرج عليه، فهذا لا يسمى تبديلاً، وإنما هو صلح، وهذا رحمة بالخلق أن الله عز وجل ما جعل الوصية نافذة نفوذاً لا يجوز للإنسان أن يبدله بحال، وأنه لا يصوغ فيها الصلح، بل إن الله عز وجل حينما ذكر الصلح والعفو في القصاص قبل ذلك بآيات فإنه في أمر الوصية والمال من باب أولى أن يكون ذلك على سبيل التراضي، ولهذا قال الله جل وعلا في الآية السابقة في قوله: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ [البقرة:178]، يعني: أن الإنسان لا حرج عليه أن يعفو عن حقه في القصاص، فإذا كان هذا في أمر الدماء، فالدماء محفوظة أولى من أمر الأموال، ثم بعد ذلك يكون أمر المال فلا حرج على الإنسان أن يصلح بين اثنين متخاصمين، وفي قوله: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:182]، إشارة إلى أن من لم ينفذ الوصية فعليه إثم، فذكر في الإصلاح وأراد خيراً مع رضا الموصى فإنه لا إثم عليه أيضاً، فهذا يدل على أن من قام بشيء من التبديل من غير رضا أحد فإثمه في ذلك عظيم ووفاؤه ابتداءً واجب عليه على التعيين, وهذا من باب التشديد في أمر الوصية.

المقدار الذي تجوز الوصية به

وهنا مسألة وهي موضع خلاف عند العلماء في مقدار ما ينبغي للإنسان أن يوصي به.

النبي صلى الله عليه وسلم قال لـسعد بن أبي وقاص كما جاء في الصحيح قال: ( يا رسول الله, إني تركت مالاً وليس لي ورثة كثير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم - والحديث طويل - قال: الثلث, والثلث كثير )، فجمهور العلماء قالوا بأن الوصية لا تجوز بأكثر من الثلث، وإذا أوصى بأكثر من الثلث فترجع إلى الورثة، وأن ذلك ليس من التبديل وإنما هو مما أمر الله عز وجل به، وذهب بعض العلماء إلى جواز ذلك إذا كان لا يجحف في حق الورثة، كأن يكون له وارث واحد، وماله وفير، أو له وارثان وماله وفير جداً، قالوا: فلا حرج عليه أن يوصي بما هو أكثر من ذلك.

الوصية بجميع المال لمن لم يكن له وارث

وهنا مسألة وهي: هل للإنسان إذا لم يكن له وارث أن يوصي بماله كله؟

ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يوصي بماله كله.

وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى جواز ذلك. وهذا هو الأرجح؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنك إن تذر ورثتك -وفي رواية: ذريتك- أغنياء )، فجعل التعليل هنا بوجود الورثة, وأن الأمر في مسألة غناهم، وهذا هو العلة بالحصر في الثلث، ولكن إذا انتفت الذرية بالكامل فلا حرج على الإنسان أن يوصي بجميع ماله، قال: وذلك أن بيت المال ليس بوارث، فلا يدخل في هذا الحديث، وإنما هو جامع لأموال المسلمين.

أما بالنسبة للورثة فيسمون ورثة، ولم يسم أحد من العلماء من السلف بيت المال وارثاً كالورثة, وإنما هو جامع للمال إذا تركه الإنسان من غير وصية، أو وجد مالاً ولا يعرف صاحبه فإنه يكون في بيت المال.

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير آيات الأحكام [11] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

https://audio.islamweb.net