إسلام ويب

قاعدة المشقة تجلب التيسير من القواعد الكبرى التي وضعها العلماء وتم الاتفاق عليها بينهم؛ وذلك بالنظر إلى المقاصد العامة للشريعة في التيسير ورفع الحرج، ومضاعفة الأجر مع تخفيف التكليف. وللمشقة التي تجلب التيسير وضعت الضوابط التي تحدد مواضع التخفيف وأسبابه ومن ذلك عدم المؤاخذة بالشيء اليسير، والتيسير فيما كثر وعمت به البلوى وشق الاحتراز عنه، وكذلك التخفيف في حال السفر والمرض والفقر ونقص الخلقة والرق.

قاعدة المشقة تجلب التيسير

قد كان الحديث بالأمس في القاعدة الكبرى: (الأمور بمقاصدها)، ولعلنا نعرج اليوم على القاعدة الأخرى: (المشقة تجلب التيسير).

وهذه القاعدة من القواعد الخمس الكبرى التي يتبع لها كثير من القواعد، منها ما يقيدها، ومنها ما يوضحها، ومنها ما هو استثناء منها، وكلها في إطار تسهيل هذه الشريعة، وأخذ الشارع للناس بالأسهل والأخف، والله سبحانه وتعالى قد بين الحكمة التي من أجلها خلق عباده، فبين حكمة خلق الجن والإنس بقوله: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات:56].

قيام الشريعة على التيسير ونفي الحرج

وقد نفى الحرج عن هذه الأمة، فقال: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[الحج:78]، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعث بالحنيفية السمحة، وأمر بالتيسير، ونهى عن التعسير، فقال: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)، وقال لـأبي موسى ومعاوية حين أرسلهما إلى اليمن: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا)، فكان لكل واحد منهما فسطاط يزوره فيه صاحبه.

وكذلك أخرج البخاري في الصحيح، قال: حدثنا عبد السلام بن مطهر، قال: حدثنا عمر بن علي عن معن بن محمد الغفاري، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة).

وفي رواية: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين إلا غلبه) بالرفع، فيشاد: يفاعل، وهي من الأفعال المشتركة التي فيها تقابل، مثل تقاتل القوم، وكذلك شاده فهو فعل مشترك بين الطرفين، وفاعله: الطرفان معًا، فكل واحد منهما فاعل؛ فلذلك يمكن أن يعتبر الدين فاعلًا، ويمكن أن يكون الإنسان فاعلًا؛ فلهذا يقال: (لن يشاد الدينُ إلا غلبه)، وفي الرواية الأخرى: (لن يشاد الدينَ إلا غلبه)، ففي الرواية الأخرى إثبات (أحد) (لن يشاد الدينَ أحدٌ إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة).

وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن التكلف والتعسف، وقد نهاه الله عن ذلك، فقد قال الله تعالى: وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ[ص:86].

(والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر عنده قوم من أصحابه جاءوا يسألون عن عبادته، فكأنهم تقالوها، فقال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: وأما أنا فأقوم ولا أرقد، وقال الآخر: وأما أنا فلا أتزوج النساء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنا فأقوم وأرقد، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).

وكذلك في حديث عائشة في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها الحولاء بنت تويت- وهي امرأة من بني تيم بن مرة، ابنة عم عائشة- فسأل: من هذه؟ فعرفته عائشة بها، تذكر من صلاتها وصيامها، فقال: مه، اكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا)، وقد فسر أهل العلم قوله: (حتى تملوا) أن معناه: لا يمل حين تملون؛ لأن الملل لم يرد إثباته صفة لله سبحانه وتعالى، وإنما جاء منفيًا فقط، والإثبات بمفهوم المخالفة في الصفات لا يمكن اعتباره؛ فلذلك يكون المعنى: لا يمل حين تملون، ونظير هذا من لغة العرب: قول الشنفرى:

صليت مني هذيل بخرقلا يمل الشر حتى يملوا

معناه: لا يمل الشر حين يملونه؛ لأنه لو كان يمل إذا ملوا، فلا مزية له عليهم، فالمقصود إذًا: أنه صابر على الشر والحرب، مستمر على ذلك حتى لو ملوا ذلك.

وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدين يسر، فأوغلوا فيه برفق)، ونهى كذلك عن المبالغة، فقال: (فإن المنبت لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى).

ولا شك أن كل فضيلة هي بين رذيلتين، فالشجاعة فضيلة، وهي بين الجبن والتهور، والكرم فضيلة، وهو بين البخل والتبذير، وكذلك الاقتصاد في العمل فضيلة، وهو بين الإفراط والتفريط، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، وقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا[الفرقان:67].

من هنا جاءت هذه الشريعة المطهرة بالتسهيل والتخفيف، فقد امتدح الله رسوله صلى الله عليه وسلم، وأثنى عليه بما يجري على يديه من التخفيف من إصر ما كان قبلنا من الشرائع، فقد قال الله تعالى في جوابه لـموسى عليه السلام لما قال: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ[الأعراف:155-157].

تخفيف التكليف عن الأمة ومضاعفة الأجر لها

ومن أجل هذا زاد الله ثواب هذه الأمة، وخفف تكاليفها، وهذا من فضله ورحمته، فقد علم قصر أعمار هذه الأمة وضعفها وعجزها، وعلم -أيضًا- ما يتقلب به الزمان في أخريات عهد الدنيا، فهذه الحياة الدنيا الآن.

قد وقفت بثنية الوداعوهم قبليُّ مزنها بالإقلاع

وهي مودعة، وقد أقبلت الآخرة مقبلة، فيقع كثير من التقلبات بين يدي الساعة، وهذه التقلبات منها: الفتن المضلة التي هي كقطع الليل المظلم، ومنها كذلك كثير من العجز، وكثير من التقصير، فبطء عهد أهل الأرض بالسماء، وانقطاع الوحي من السماء، وقدم عهد الرسالات، كل ذلك يؤدي إلى كثير من الانحرافات، وإلى فشوِّ كثير من البدع المضلات؛ فلهذا سهل الشارع فما كان لا يغتفر للسابقين من التقصير، اغتفر لهذه الأمة، فقد أخرج الترمذي في السنن، من حديث نعيم بن حماد، عن سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنتم في زمان من ترك فيه عشر ما أمر به هلك، وسيأتي على الناس زمان من أتى منهم بعشر ما أمر به نجا)، وهذه بشارة عظيمة، وتخفيف كريم من ربنا جل جلاله.

ونظير هذا: ما في حديث المعراج أيضًا في تخفيف الصلاة، فقد قال الله تعالى: (هن خمس، وهن خمسون، ما يبدل القول لدي)، فالثواب الذي رتبه على الخمسين أبقاه، والعمل نقصه حتى بقيت خمس صلوات فقط، ونظير ذلك في كل التكاليف، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما مثلكم ومثل من قبلكم كمثل رجل دعا قومًا؛ ليعملوا له من الضحى إلى صلاة الظهر على قيراط، ثم دعا آخرين ليعملوا له من صلاة الظهر إلى صلاة العصر على قيراط، ثم دعا آخرين ليعملوا له من صلاة العصر إلى صلاة المغرب على قيراطين).

فاليهود عملوا من الصباح إلى صلاة الظهر على قيراط واحد، والنصارى من صلاة الظهر إلى صلاة العصر على قيراط واحد، وهذه الأمة من صلاة العصر فقط إلى الغروب على قيراطين، فالعمل يسير، والأجر مضاعف، (فقالت اليهود والنصارى: أعطيتهم أكثر مما أعطيتنا، فقال: هل ظلمتكم شيئًا؟ قالوا: لا، قال: ذلك فضلي أخص به من أشاء)، فهذا فضل الله سبحانه وتعالى، وقد خص به هذه الأمة، فجعلها خير أمة أخرجت للناس، فلها من الأجور ما ليس للأمم من قبلها، ومع هذا فنحن نعلم أن المقربين من أهل الجنة قليل منهم من هو من هذه الأمة، ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ[الواقعة:13-14]، ولكن كل ذلك نسبي، فهو بالمقارنة؛ فالأولون مثلًا، إذا أتينا إلى الرسل، هذه الأمة ليس فيها إلا رسول واحد، وكم في بني إسرائيل من الرسل؟ وهكذا، فكذلك كان بنو إسرائيل تسوسهم الرسل، وهذه الأمة إنما يسوسها علماؤها، وهذا الأجر العظيم والتخفيف الكريم في العمل من هبات الله سبحانه وتعالى وامتنانه، وهو مقتض للمبالغة في العبادة لشكر النعمة، وليس مقتضيًا للتقصير فيها، (فالنبي صلى الله عليه وسلم قام حتى تورمت قدماه، فقيل له: ألم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا؟)، فالتخفيف وزيادة الأجر مما يقتضي زيادة العبادة؛ لأن الإنسان إذا أحسن إليه، من المفروض أن يقابل ذلك بإحسان، ولا أحد أكرم ولا أمن من الله جل جلاله، فهو الذي أنعم علينا بأنواع النعم التي لا نحصيها، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا[إبراهيم:34]، فينبغي أن يكون عبده كريمًا معه في التعامل، فيقرض الله قرضًا حسنًا، ويأخذ منه ما أعطاه، والله يحب أن يرى آثار نعمته على عباده، فمن ذلك: الأخذ بالرخصة، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه)، فينبغي للإنسان إذا كان في حال ترخص أن لا يتورع عن الأرخص، وإذا كان في حال قوة أن يأخذ بالعزائم، والجميع يثيب الله عليه، والتورع عن الأخذ بالرخص في وقتها هو من التشدد والتنطع، وكذلك التساهل والأخذ بالرخص في وقت القوة هو أيضًا من الانحدار الذي هو مذموم، فلابد أن يكون الإنسان متوسطًا في الحال دائمًا، وقد جعل الله سبحانه وتعالى هذه الحياة مسرحًا، فالإنسان فيها دائمًا بين الرجاء والخوف، وهو بينهما كجناحي الطائر، إلى أن يقبل على الله في ساعة الموت، فحينئذ يحسِّن ظنه بالله، ويزيد منسوب الرجاء لديه، ومن هنا كان على الإنسان أن يراقب سيره دائمًا بين هذين السورين -سوري الشريعة- وهما: الرخصة والعزيمة، وهذان السوران يحفان بالشريعة كلها، فإذا رأيتم أية مسألة فيها خلاف بين أهل العلم بالإباحة والتحريم، أو بالوجوب والندب، أو نحو ذلك، فاعلموا أن الذي يقول: بالوجوب، أو الذي يقول: بالتحريم قد اتجه إلى جهة العزيمة، والذي يقول بالإباحة أو الندب اتجه إلى جهة الرخصة، والجميع ما زال بين سوري الشريعة، فهو ما زال في هذه الشريعة، وفي داخل إطارها وحدودها.

ضوابط المشقة التي تجلب التيسير

وهذه القاعدة العظيمة مبتدؤها: هو المشقة، والمشقة: اسم مصدر شق عليه، إذا أجهده، وهي: كل ما يؤدي بالإنسان إلى بذل جهدٍ وإشفاقٍ ولها ضوابط، ذكر أهل العلم منها سبعة، هي ضوابط المشقة.

القلة

فمنها: القلة، إذا كان الشيء يسيرًا جدًّا، فهذا يشق التخلص منه، الشيء اليسير معفو عنه دائمًا، وهذا في كثير من أبواب الفقه، فمثلًا في الطهارة: إذا جلس الإنسان على الخلاء فأراد البول، فلا شك أن في البول مواد متبخرة، ويتطاير منه أشياء خفيفة جدًّا لا ترى بالعين المجردة في الغالب، وإذا كان في الشتاء أو في وقت البرد يرى الإنسان تبخره، فما أصابه من بخاره معفو عنه، لا يتنجس به الثوب ولا البدن، ومثل ذلك: ما تطاير من الشيء اليسير الذي لا يرى فهو معفو عنه، ومثل ذلك: الجزء اليسير جدًا من العذرة أو غيرها من الأنجاس، إذا كان أقل من قدر درهم بغلي فهو معفو عنه أيضًا، ومثل ذلك من الدم والقيح والصديد، فالإنسان وعاء للدم في كل بدنه، فيعفى له عن الشيء اليسير من دمه هو، ومثل ذلك: ما يخالطه الإنسان، مثلًا: المرأة المرضع يعفى لها عن اليسير من الأنجاس؛ لأنها تخالط الصبيان الذين لا يمكن أن يُتحكم في نجاساتهم، ومثل ذلك: الغازي الذي يعامل الدواب من الخيل والحمر ونحوها، يعفى له عن بعض الأمور، ومثل ذلك: الذي يسافر فيعامل الدواب، فيحتاج إلى ركوب الحمر الأهلية والخيل، ونحو ذلك، فيعفى له اليسير الذي يتطاير عليه، ومثل هذا: دم البراغيث، إذا كثرت فأصابت الثوب أو البدن، فإنه عادة دم البرغوث شيء يسير، نقطة يعفى عنها؛ لقلتها، ومثل ذلك: الشيء اليسير من كل شيء، فمثلًا الجزء اليسير الذي يجعل في الجبن من الإنفحة وفي حال تجبينه إذا كان شيئاً يسيراً فهو معفو عنه، وكذلك الأمصال العلاجية التي يكون فيها شيء يسير جدًا من السم، أو شيء يسير من دم الأفعى، أو نحو ذلك، فإنها يعفى عنها؛ لقلة ذلك.

الكثرة

الضابط الثاني: الكثرة، فإذا كثر الشيء جدًا بحيث يشق التخلص منه لكثرته فإنه أيضًا يعفى عنه، فقد ثبت في حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الهرة: (إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات)، فالهرة تنغمس في الإناء دائمًا، إذا كانت في البيت لا يستطيع الإنسان أن يحول بينها وبين الانغماس في الماء، وفي الآنية كلها، فلو جعلت مثل الكلب وكان يغسل منها سبعًا لكان هذا مشقة عظيمًا؛ لكثرة ترددها، فهذه الكثرة معتبرة.

وهكذا في المياه التي تكون بالفلاة من الأرض فينوبها السباع والدواب، وقد ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان في سفر بين مكة والمدينة في طريقه إلى الحج ومعه عمرو بن العاص، فورد على صاحب حوض، فقال له عمرو بن العاص: يا صاحب الحوض، هل يرد حوضك السباع؟ فقال عمر بن الخطاب: يا صاحب الحوض، لا تجبه؛ فإننا قوم نرد على السباع وترد علينا.

ومن هذا القبيل: السلس، إذا تكرر على الإنسان، فهو معفو عنه؛ لكثرته، فتتبعه فيه حرج على الإنسان، ومثل ذلك: صاحب البواسير، فإنه يعفى له عن النجس في ثوبه وفي يده؛ للرد، إذا تكرر الرد وشق عليه؛ لكثرة ذلك، وقد جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فذكر أنه كلما توضأ أحس بنزول شيء من البول، فقال: إذا توضأت فانضح على إزارك من الماء، فإذا وجدت شيئًا، فقل: هو الماء. وهذه الكثرة تدخل في أبواب كثيرة من أبواب الفقه، فالشيء كثير التكرار يعفى عنه.

فمثلًا في الأيمان: لغو اليمين معفو عنه، لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ[البقرة:225]؛ لكثرة تكرارها على الألسنة، وقد اختلف أهل العلم في معنى لغو اليمين: فذهب بعضهم إلى أنه اليمين الذي لا يلقي له الإنسان بالًا، مثل أن يقول: والله لقد أصبحنا في مكان كذا، ثم ذهبنا إلى مكان كذا، ونحو هذا مما يجري على ألسنة الناس من غير نية عقد اليمين.

وقالت طائفة أخرى: بل هو حلف على ماض، حلف الإنسان عليه وهو يظنه ظنًّا مؤكدًا، فتبين على خلاف الواقع، فهذا هو لغو اليمين، وعمومًا هو يدخل في هذا الضابط من ضوابط المشقة الذي هو ضابط الكثرة، ومن ضوابط الكثرة: مثلًا الأوراق التي يكتب عليها اسم الله، أو فيها قرآن أو حديث، فهذه لو تعمد الإنسان إلقاءها بالقذر، أو رأى هذه فلم يأخذها في الأصل كان ذلك كفرًا؛ لأن فيه استهزاءً بكلام الله، واستهزاءً بأسمائه وصفاته، وبكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن لما كثرت بطباعة الجرائد والمجلات وانتشرت في الطرق في واقعنا اليوم، فهذه الكثرة ترفع الإثم؛ لأنك لو خرجت من بيتك، وجعلت تتتبع كل ورقة كتب فيها، لم تصل إلى عمل، ولم تؤد صلاة، ولم تؤد أي عمل، فكان هذا من المعفو عنه.

وكذلك ما كان جاريًا على ألسنة الناس في الجاهلية من الحلف باللات والعزى والأصنام، فقد كانوا يحلفون بذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا باللات ولا بالعزى، فمن قال ذلك، فليقل: آمنت بالله)، فلما كان مترددًا على ألسنتهم، كانوا مأسورين بعادة، فلم يكفرهم بذلك، ورفع عنهم الإثم به.

ونظير هذا: ما يجري على ألسنة عوام المسلمين الآن في كثير من المناطق من الاستغاثة بالمخلوق، وهم لا ينوون ذلك، ولا يقصدونه، لكن يجري على ألسنتهم، ومثل ذلك: الشرك الأصغر بالحلف بغير الله، مثل ما يحلف بعض الناس بالنبي أو بالكعبة، أو نحو ذلك من المعظمات شرعًا من غير أسماء الله وصفاته، فهذا من الحلف الذي لا يجوز، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت)، وقال: (لا تحلفوا بآبائكم؛ فمن حلف بغير الله فقد أشرك)، وهذا الشرك الأصغر ليس شركًا أكبر، فالحلف بغير الله لا يجوز؛ لكن لتردد هذا على ألسنة العوام لا يمكن أن يؤاخذوا به؛ لعامل الكثرة.

ونظير هذا أيضًا بعض البيوع التي فيها جريان وتداول بين الناس، فأصبحت داخلة في معاش الناس، فتحريمها عليهم سيدخلهم في مشقة عظيمة، ومن ذلك: شراء الطعام من المطاعم التي تعده بصفة مستمرة، فالإنسان إذا كان إمامًا أو طالبًا، فيستأجر من صاحب المحل، أو يعامله على أكله في الصباح وفي الظهر وفي الليل لمدة شهر، أو لمدة بقائه، هذا الطعام لن يكون محفوظًا، ولن يكون معلوم القدر، فتارة يأتيه بلحم، وتارة بسمك، وتارة بدجاج، وتارة بالكثير، وتارة بالقليل، لن يكون منضبطًا، والمبيع المعقود عليه من شرطه أن يكون معلومًا، ولكن نظرًا لجريان هذا وكثرته عفي عنه؛ ولذلك كان ابن عمر يشتري من دائم العمل كالخباز ونحوه، ويقول: هي بياعة أهل المدينة، أدركنا أهل المدينة هكذا يشترون، ففيها ترخيص لبياعة أهل المدينة جارية، فلا يمكن تقييد هذا النوع من الأمور؛ لما فيه من الضيق والعسر على الناس، هذا الباب يدخل فيه كثير من الأمور جدًّا.

ومنها في مجال الكفارات: الإنسان الذي هو جاهل، إذا كان في صيام رمضان، كان جاهلًا بقضايا الصوم، لا يعرف ما يَتقي، فأفطر عدة أشهر عمدًا، لو ألزمناه كفارة عن كل يوم من الأيام، لكان هذا فتنة عليه، ولما استطاع أن يصوم شهرين متتابعين عن كل يوم، فلذلك اجتهد بعض أهل العلم، فقالوا: تلزمه كفارة عن كل شهر فقط، شهر رمضان يجعلون له كفارة واحدة؛ وذلك أن رمضان مختلف فيه، هل هو عبادة واحدة، أو هو ثلاثون عبادة؟ ومذهب مالك: أن رمضان جميعًا عبادة واحدة؛ ولذلك قال: تجزئه نية واحدةٌ عند أوله، إن لم ينقطع التتابع، فإن انقطع التتابع ولو بمبيح لزمه تجديد النية، إذا نوى الإنسان في أول ليلة من رمضان أنه سيصوم رمضان كاملًا، فهذه النية كافية له، إذا كان رمضان عبادة واحدة، لكن إن انقطع التتابع بأن حاضت المرأة، أو مرض الشخص مرضًا يوجب عليه الفطر فأفطر، فلابد إذا عاد إلى الصوم من نية جديدة، ولا تكفيه النية التي كانت من أول الشهر؛ لأن التتابع قد انقطع، وكذلك إذا حصل المبيح فقط، مرض مرضًا دون ذلك، أو سافر سفرًا مبيحًا للفطر ولم يفطر، لابد أن يجدد النية كل ليلة؛ لأنه لا يجب عليه الصيام الآن، فالنية السابقة كانت على الصيام المتتابع الذي يجب تتابعه، وبالسفر لم يعد الصيام واجب التتابع، انقطعت نية الوجوب، فأصبح يحتاج إلى نية في كل ليلة، ونظير هذا أيضًا عند بعض أهل العلم: ما يجري على كثير من ألسنة العوام مما هو موقع في الردة، وبالأخص في حديثات السن من النساء، فلو عوملن بذلك لما استقرت عصمة؛ لكثرة ما يجري على ألسنتهن من التسخط وسب الدين، ونحو ذلك في كثير الأمصار، نسأل الله السلامة والعافية.

وهنا يُحتاج إلى التفريق بين ما هو معلوم من الدين بالضرورة وما ليس كذلك، فالمعلوم من الدين بالضرورة لا يعذر أحد بجهله، وما هو غير معلوم من الدين بالضرورة يعذر بجهله، كما في حديث عائشة في عذاب القبر في صحيح البخاري ونحو ذلك، قد حصلت لدينا قصة في بلادنا، وهي: أن فتاة صغيرة حديثة عهد بزواج، ولم تكن من بيئة متعلمة، قالت لزوجها: إنه لا يمكن أن يكون الملائكة لا يأكلون ولا يشربون، لا يمكن أن يقع هذا، فأفتى أحد العلماء الكبار: أنها قد ارتدت بما قالت، وأن العصمة قد انتهت، وأفتى العلامة ابن متالي بأنها لم ترتد بذلك، وأن العصمة باقية، فلما سمع المفتي الأول -وهو الشيخ أحمد فال، والد الشيخ محمد مولود صاحب الكفاف- قال: أكفرها هذا التبغي، أي هو أكفر منها؛ لأنه شك في كفر الكافر، فدعاه ابن متالي فسأله: قال: ما الدليل من الكتاب أو من السنة الصحيحة على أن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون؟ فكر أحمد فال ساعةً فلم يستظهره، فقال: إذا كنت أنت على جلالتك ومستواك من العلم لا تستظهر ذلك من الكتاب ولا من السنة، فكيف لا تُعذر به هذه الفتاة الصغيرة التي ليست من بيئة متعلمة؟ فقال: هو في الكتاب: قول الله تعالى: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ[الأنبياء:20]، فلم يبق وقت للأكل ولا للشرب؛ لأن الوقت مملوء بالتسبيح، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ[الأنبياء:20]، فهذه الآية هي الدليل على أن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون، والمفتي لم يكن يستظهر هذا، ولم يستحضره، إذًا فهذا من هذا الضابط، الذي هو الكثرة.

المرض

الضابط الثالث: المرض، فالمرض سبب للترخص والتيسير، فهو من العوارض التي تغير حال الإنسان؛ فلهذا أباح الله الفطر في رمضان بسبب المرض، وأباح التيمم بسبب المرض، فقال تعالى في الصيام: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ[البقرة:183-184]، فمعناه: فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فأفطر؛ فعدة من أيام أخر، على عدة ما أفطر.

وكذلك في التيمم، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ[المائدة:6]، فهنا قال: (وإن كنتم مرضى)، فأباح التيمم من أجل المرض، وهذه الآية جاء فيها الإطلاق في المرض، أنه قال: (وإن كنتم مرضى) وهذا وصف، ولم يقيد الوصف بالمرض الشديد ولا غيره، فدلالة الآية تقتضي أن كل مرض في الأصل يبيح التيمم، وبهذا أخذ المالكية، فترون كثيرًا من الناس يتيممون لأقل الأسباب المرضية، مجرد زكام، أو صداع، أو أقل الأسباب، يقولون: هذا سبب مبيح للتيمم؛ لأن الله أطلق المرض، وجمهور أهل العلم على أن المرض إنما هو المرض المعتبر، فالشيء اليسير مثل الصداع والزكام ونحو ذلك، وإن كان يدخل في حيز المرض في تعريف الطب إلا أنه لا يدخل فيه في التعريف العادي لدى عوام الناس.

والمرض عموماً في التيمم، ينقسم إلى قسمين: إلى مرض موجب، ومرض مبيح، ومثل ذلك في الفطر، المرض الموجب: هو الذي يخاف به الإنسان هلاكًا أو شديد أذًى، فيوجب عليه الفطر ويوجب عليه التيمم، والمرض المبيح، هو مرض دون ذلك، ومثل ذلك: تأخر البرؤ، إذا كان يخشى تأخر البرؤ إذا توضأ، أو صام وهو مصاب بمرض موجود، فتأخر البرؤ أيضًا كحدوث المرض، وهذا المرض مؤثر في الشرع على تصرفات الإنسان وأموره كلها، فهو مبيح للجمع بين مشتركتي الوقت؛ أي: مبيح للجمع بين الظهرين، وبين العشاءين بجمع التقديم اتفاقًا، وبجمع التأخير إن كان مصابًا بالمرض من أول الوقت، فإن كان الإنسان ذا حمى مزمنة تأتيه في وقت محدد، ويعلم أنها تأتيه عند الساعة الثالثة من كل يوم، حمى الرِّبع مثلًا، فإنه يجوز له أن يجمع العصر مع الظهر جمع تقديم، لو يعلم أن وقت العصر سيأتي وهو في شدة الحمى، وكذلك المغرب والعشاء يجمع جمع تقديم اتفاقًا، وجمع التأخير على الخلاف، وأصل المسألة كلها أن جمع التقديم عند جمهور أهل العلم ما عدا الحنفية جائز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع فيه في السفر، كما في حديث أنس ومعاذ في غزوة تبوك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يرتحل بعد أن تزيغ الشمس، صلى الظهر والعصر وركب، وإذا أراد أن يرتحل قبل أن تزيغ الشمس، أخر الظهر وصلاها مع العصر جمعًا)، وجمع التأخير إذا كان الإنسان يؤخر بسبب المرض، يمكن أن يستمر عليه المرض، ويمكن أن يؤدي إلى هلاكه، ويكون ما زال مشغول الذمة بالفرض.

والمسألة تدخل في خلاف آخر، وهو: وقت الأداء، فالشارع خصص وقتًا لأداء العبادة، فمثلًا: صلاة الظهر من زوال الشمس إلى آخر القامة الأولى، صلاة العصر من أول القامة الثانية إلى آخرها، إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه، ووقت المغرب محل خلاف: هل هو قدر ما تؤدى فيه بعد شروطها، أو يستمر من غروب الشمس إلى ما قبل غيبوبة الشفق؟ ووقت العشاء: من غيبوبة الشفق ويستمر إلى ثلث الليل، أو نصفه، أو إلى الليل كله، إلى ما قبل طلوع الفجر، ووقت الصبح، من طلوع الفجر إلى الإسفار الأعلى، فهذا الوقت الذي حدده جبريل لرسول صلى الله عليه وسلم، كما أخرج الترمذي في السنن، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أمني جبريل عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر في الأولى منهما حين صار الفيء مثل الشراك، وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى بي المغرب حين وجبت الشمس، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الصبح حين بزق الفجر، وصلى بي الظهر في الثانية منهما حين صار ظل كل شيء مثله لوقت العصر بالأمس، وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، وصلى بي المغرب حين وجبت الشمس لوقتها الأول، وصلى بي العشاء حين ذهب ثلث الليل، وصلى بي الصبح حين أسفر، ثم التفت إلي، وقال: يا محمد، هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين).

ونظير هذا أيضًا الحديث الذي افتتح به مالك موطأه، وهو حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه: (أن جبريل نزل فصلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: بهذا أمرت).

وهذا الحديث في الموطأ مختصر صار من الوسط محل خلاف بين أهل الحديث، ومذهب مالك، والبخاري، وعدد من المحدثين جوازه، فـمالك حذف من الحديث: (ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، هن عشر في صحيح مسلم، ومالك أورد منهن خمسًا فقط، فهي صلاة يومين، لا صلاة يوم واحد، وهذا الحديث فيه الإجمال الذي بين في حديث ابن عباس.

والخلاف في صلاة المغرب سببه: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في صحيح مسلم: (أنهم كانوا في سفر بين مكة والمدينة، فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عن وقت الصلاة، فسكت، فلما كان وقت الظهر صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين زاغت الشمس، ثم صلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله، ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس، ثم صلى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى الصبح حين بزق الفجر، ثم صلى الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، وصلى المغرب قبيل غروب الشفق، وصلى العشاء حين ذهب نصف الليل أو ثلثه، وصلى الصبح حين أسفر، ثم قال: أين السائل عن وقت الصلاة؟ قال: هاأنذا يا رسول الله، قال: ما بين هذين وقت)، وهذا الحديث متأخر عن حديث ابن عباس؛ لأن حديث ابن عباس كان في ذكر أول التشريع: (أمني جبريل عند البيت مرتين)، وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص: كان في سفر بين مكة والمدينة، ولا ندري متى كان هذا السفر؟ في أية سنة بعد الهجرة؟ لكن من المؤكد أنه بعد الهجرة.

والمالكية يرون العمل بحديث ابن عباس وبقائه ويرون أن المغرب وقتها مضيق، وأنه هو قدر ما تؤدى فيه فقط، والجمهور يعملون بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص، ووجه ما للجمهور أنهم يرون أن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص كان بعد الهجرة، وحديث ابن عباس كان قبلها، ووجه مذهب المالكية أن عبد الله بن عباس كان متأخر الإسلام، ولم يلق النبي صلى الله عليه وسلم في الإسلام إلا عند فتح مكة، فختمت الهجرة بأبيه، جاء به مهاجرًا، فقد صحب النبي صلى الله عليه وسلم من رمضان من العام الثامن من الهجرة، فروايته عن النبي صلى الله عليه وسلم متأخرة عن رواية عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمرو أسلم قبل الهجرة بأربع سنين؛ لأنه أسلم قبل أبيه بإحدى عشرة سنة، وأبوه أسلم بعد صلح الحديبية في العام السابع من الهجرة، وصلح الحديبية كان في شهر ذي القعدة من العام السابع، وعبد الله بن عمرو بن العاص أكبر في الإسلام من أبيه بإحدى عشرة سنة، وأبوه أسن منه بإحدى عشرة سنة، ولد له بعد أن أكمل إحدى عشرة سنة، فعلى هذا قال المالكية: حديث ابن عباس هو الأحدث من أمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن روايته متأخرة قطعًا، فلم يرو إلا بعد العام الثامن من الهجرة، وابن عمرو كان صحابيًّا قبل الهجرة بأربع سنين.

وعمومًا، اختلف أهل العلم في القدر الذي تؤدى فيه، مثلًا صلاة الظهر أربع ركعات، والوقت الذي حدد لها من زوال الشمس إلى آخر القامة وقت طويل، يمكن أن يؤدى فيه عدد كثير من الركعات، فقال بعض أهل العلم: وقت الوجوب أول الوقت؛ لأن الله أمر بالمسارعة إلى الخيرات، قال: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ[المائدة:48]، وقال: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ[آل عمران:133]، وقال: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ[الحديد:21]، وقال: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ[المطففين:26].

وقال بعض أهل العلم: وقت الوجوب آخر الوقت، وهذا مذهب الحنفية، فمذهب الجمهور: أن وقت الوجوب أول الوقت، وقالوا: لا فائدة في تحديد الشارع لأول الوقت إلا إذا كانت العبادة مطلوبة فيه، وهي قطعًا مجزئة فيه، فإذا كانت مطلوبة فيه فهذا وقت الوجوب، وما كان بعد ذلك فهو تسهيل وتخفيف كالقضاء.

والحنفية قالوا: وقت الوجوب هو آخر الوقت، بدليل أنه لو أخر عنه أثم، ولو أخر إليه لم يأثم، فقالوا: معجلها كالمقرض، فالذي يعجل الصلاة، فيجعلها في أول وقتها كالمقرض، والذي يؤخر يؤديها في وقتها، والجمهور رأوا أن المؤخر كالقاضي؛ لأنه ترتب عليه الدين في أول الوقت، وبعض أهل العلم يرى أن وقت الوجوب هو الوقت الذي تؤدى فيه سواء كان في أول الوقت، أو وسطه، أو آخره، والذين يرون أن وقت الوجوب هو أول الوقت يرون أنه إن أخر وجب عليه العزم على الأداء في الوقت، وهذا مذهب الحنابلة، يقولون: إذا أخر عن أول الوقت، وجب عليه العزم على الأداء من أول الوقت؛ ليشغل الوقت بواجب، فالعزم على الواجب واجب، فالوقت مطلوب أن يشغل بواجب من أوله، وهو العزم على الأداء فيه، وذهب آخرون إلى أن وقت الوجوب مخفي في علم الله، فإن صادفه الإنسان بلغ القمة في الفضل والتضعيف، وإن تقدم عليه كان كالمقرض، وإن تأخر عنه كان كالقاضي، الله وسع المجال، ومحل الخلاف في غير المقرب للقتل، والمريض مرضًا مخوفًا، والحامل المقرب، فالمريض مرضًا مخوفًا، والمقرب للقتل، والذي ستجرى له عملية جراحية، والحامل المقرب، والذي يقدم على مخاطرة أيًّا كانت، فهذا لابد أن يصلي في أول الوقت؛ لأنه لا يدري هل يعيش لآخره، والمظنون أنه لا يعيش لآخره؛ فلذلك لابد أن يصلي في أول الوقت، فإن أخر عن أول الوقت فسلم، فأراد أن يصلي في وسط الوقت أو في آخره، فهل ينوي الأداء أو القضاء؟ محل خلاف بين أهل العلم، فقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أنه ينوي الأداء؛ لأن الوقت ما زال مستمرًّا، وقد حدده الشارع لصلاة الظهر وهذا وقتها، وذهب القاضيان، وهما: القاضي أبو بكر الباقلاني من المالكية، والقاضي أبو يعلى من الحنابلة إلى أنه ينوي القضاء؛ لأن وقت الوجوب في حقه قد خرج ولم يؤده، حتى لو كان وقتها مستمرًّا في حق غيره، فوقت الوجوب بالنسبة إليه قد انتهى، فيلزمه نية القضاء، وهذا الخلاف نظمه السيوطي رحمه الله في الكوكب الساطع بقوله:

جميع وقت الظهر قال الأكثروقت أداء وعليه الأظهر

لا يجب العزم على المؤخروقد عزي وجوبه للأكثر

وقيل الآخر وقيل الأولففي سواه قاض أو معجل

وقيل ما به الأداء اتصلافوقته وآخر إذا خلا

وقيل إن قدم فرضًا وقعاإن بقي التكليف حتى انقطعا

ومن يؤخر مع ظن موتهيعصِ، فإن أداه قبل فوته

فهو أدا والقاضيان بل قضاأو مع ظن أن يعيش فقضى

فالحق لا عصيان ما لم يكنِكالحج فليسند لآخر السني

وهذا المرض مؤثر كذلك في تصرفات الإنسان، فالإنسان لا يحل له إذا كان مريضًا مرضًا مخوفًا أن يدخل وارثًا على ورثته؛ لما في ذلك من المضارة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار)، فليس له أن يتزوج إلا برضا ورثته، وإذا اضطر للزواج، فحينئذ يقدم حقه هو على حق الورثة في المال؛ لأنه المالك الأصلي، والأصل الاستصحاب، الأصل إبقاء ما كان على ما كان، إذا كان مضطرًا لمن يعامله ولا يجده، ولا يستطيع التسري، ولا شراء أمة مثلًا فليس له إلا الزواج، وهو مقدم في ماله على الورثة، ومثل ذلك: الحَجر عليه في التصرفات، فلم يبق له إلا الثلث، (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عن دبر منكم)، هذا في الوصية، تجوز له الوصية بالثلث، إذا كان لغير وارث، الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث.

وكذلك فإن المرض مؤثر أيضًا في النوافل، فإن الإنسان إذا كان يؤدي النوافل في صحته فمرض كتبت له، وكان كأنما يؤديها في الصحة، قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مرض العبد أو سافر، قال الله لملائكته: انظروا إلى ما كان يعمل عبدي صحيحًا مقيمًا فاكتبوه له)، فيكتب له ما كان يعمله صحيحًا مقيمًا.

وهذا المرض كذلك فيه تخفيف على غير المريض، على من حول المريض، فمثلًا: الطبيب يجوز له كشف العورات بسبب المرض؛ لأن المرض ضابط من ضوابط المشقة والعسر، وكذلك الذي يقوم على المريض له الحق أن يزيل عنه الأذى من النجس وغيره، وله الإفضاء إن اضطر أن يغسل عنه النجس؛ لأن المريض كالميت، والميت يغسل، يجب عليه إزالة الأذى عنه، والحي أولى بإزالة الأذى عنه من الميت، وإذا كان المريض لا يخشى باستعمال الماء مرضًا ولا زيادته، ولكنه لا يجد مناولًا، فذلك عذر أيضًا مبيح للتيمم، وأهل العلم يقولون: عدم المناول كعدم الآلة، وعدم الآلة كعدم الساتر، وعدم الساتر كالعدم، فعدم المناول كعدم الآلة، معناه: من لم يجد مناولًا أبيح له التيمم، ومثله: من عدم آلة يغترف بها، أو ينتزع بها الماء من البئر، فإنه كعدم المناول، ومثل ذلك: عدم الساتر، إذا كان يجب عليه الغسل ولا يجد مكانًا يستر فيه بدنه في وقت غسله، فيتيمم، يعني مثلًا: إذا كان سجينًا في مجموعة وبين أيديهم، ولا يكفون أبصارهم في غرفة واحدة، فليس لهم حينئذ إلا التيمم انتهى، عدم الساتر كالعدم، معناه: كعدم وجود الماء أصلًا، فعدم وجود الماء أصلًا مبيح للتيمم.

السفر

الضابط الرابع من هذه الضوابط هو: السفر، فالسفر إنما هو بمثابة الجلاء الذي هو أخو الموت، وفي حديث عائشة وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (السفر قطعة من العذاب)، فهو يمنع الإنسان نومه وطعامه، وشرابه وراحته؛ فلذلك رتب الشارع عليه ترخيصًا، فمن ذلك الترخيص: نقص نصف الرباعية، الظهر والعصر والعشاء، يسقط عن الإنسان نصفها في السفر، ومثل ذلك: إباحة الفطر فيه، وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ[البقرة:184]، وذلك في حق من لا يشق عليه، والحديث: (ليس من البر الصيام في السفر)، أو (ليس من امبر امصيام في امسفر)؛ أي: في السفر، وذلك في حق من يشق عليه الصوم، فمن لا يشق عليه الصوم فهو المقصود بقوله: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ[البقرة:184]، ومن يشق عليه الصوم، فهو المقصود بـ: (ليس من البر الصيام في السفر)، وهذا السفر هو في الأصل: من سفر؛ بمعنى: كشف عن وجهه؛ وذلك أن المسافر يخرج من البنيان، وهذا الخروج لاشك أن الشيء اليسير منه القريب الذي لا يحوج إلى الزاد والراحلة لا يسمى سفرًا، فلا يستباح به شيء مما يستباح بالسفر، إلا أن المالكية رخصوا في الجمع في السفر في المسافة القريبة، وهي مسافة العدوى؛ أي: التي يخرج إليها الرجل من الصباح فيقيل فيها، ثم يعود في المساء، فأباحوا له الجمع في هذه المسافة، ولم يبيحوا له الفطر، والجمهور رأوا أن المعتبر هو مسافة القصر، والشافعية رأوا أن كل السفر يبيح الجمع والفطر، وأحالوا إلى العرف، رأوا أن العرف هو المعتبر، أو ما يسميه الناس سفرًا، والجمهور حددوا مسافة القصر بالنسبة للسفر، فبحثوا عن أقل ما قصر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو ثمانية وأربعون ميلًا، فجعلوها المسافة، ومن قصر في أقل منها قليلًا إلى أربعين ميلًا، فصلاته صحيحة، ومن قصر في أقل من ثلاثين ميلًا، فعند غير الشافعية صلاته غير صحيحة، ومن قصر فيما بين خمسة وثلاثين إلى أربعين، فهو محل خلاف، وقد نظم ذلك أحد العلماء بقوله:

من قصر الصلاة في أميالبعد له تبطل بلا إشكال

له: اللام ثلاثون، والهاء خمسة؛ أي: خمسة وثلاثون ميلًا.

(وقصرها من بعد ميم لا ضرر)، ميم: أربعون.

وقصرها من بعد ميم لا ضرروالخلف فيما بين هذين اشتهر

ما بين خمسة وثلاثين إلى أربعين هو محل خلاف بين أهل العلم في القصر، وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية مذهب الشافعية في هذه المسألة، وقال: كل المذاهب الأخرى ليس عليها أثارة من علم، فتحديد المسافة بثمانية وأربعين ميلًا، وكون هذا أقل ما قصر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقتضي ذلك قصرًا للقصر عليه، ولا يقتضي انحصارًا فيه، فكل ذلك ليس عليه أثارة من علم، وهذا الذي قاله واضح جدًا، لكن مع هذا لابد من الأخذ بعين الاعتبار بما يسمى في العرف سفرًا، فالسفر: هو الذي يحوج إلى الزاد والراحلة، فالمسافة التي لا يحتاج الإنسان فيها إلى زاد وراحلة لا تسمى سفرًا في العرف، فلا يستباح فيها ما يستباح في السفر، والشارع من حكمته: أن العلة لابد أن تكون وصفًا ظاهرًا منضبطًا، فالوصف غير الظاهر لا يعلل به، والوصف غير المنضبط لا يعلل به، فمثلًا: المشقة هي الأصل، لكنها غير منضبطة، إذا سافرت من هنا مثلًا إلى طوكيو في إيرباص في الدرجة الأولى، فالمشقة يسيرة، لكن إذا سافرت من هنا إلى السلع على حمار، أو على رجليك، أو جمل، فهذه فيها مشقة، فإذًا يحتاج إلى الضبط؛ فلهذا جعلت العلة السفر، ولم تجعل العلة المشقة؛ لتفاوت الأسفار في المشقة، العلة هي السفر نفسه؛ لأن العلة لابد أن تكون وصفًا ظاهرًا منضبطًا، وهذا السفر مبيح لعدد من الممنوعات المحظورات من غيره، فمنها: ما ذكرنا في القصر والفطر، ومنها كذلك بعض ما يحصل من مخالطة النساء اللواتي لا يستطعن القيام بشئونهن وحدهن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أردف امرأة من الأنصار على مزوده وراءه في السفر، والأصل أنه لا يجوز للمرأة أن تسافر يومًا وليلة إلا مع ذي محرم منها، لكن إذا كانت أسلمت في دار الكفر وأرادت السفر، أو مات محرمها في السفر، أو نحو ذلك، فلها إكمال سفرها مع غير المحرم، واليوم الأسفار في الطائرات، وحتى في السيارات، وأيضًا المترو والقطارات، هل تعتبر فيها المسافة الأصلية، أو المعتبر الوقت؟ هذا محل بحث، والذي يبدو أن المعتبر هو الوقت؛ لأنه قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر يومًا وليلة إلا مع ذي محرم)، فحدد اليوم والليلة، فإذا كان السفر أقل من يوم وليلة، فيكون الأمر فيه أقل، ويرجع حينئذ إلى ما يحصل من الحوادث، فإن كانت المرأة تتعرض في الطيران لبعض التحرش أو الأذى، وكثر ذلك حتى أصبح نسبة معتبرة، وهي الثلث فصاعدًا، فإنها لا يجوز لها السفر حينئذ إلا مع ذي محرم، وإن كان تعرضها لذلك نادر، فالنادر لا حكم له، الصورة النادرة لا حكم لها، لا يمكن أن يقاس عليها غيرها.

يبقى أثر السفر على النوازل، فقيام الليل لا يتأثر بالسفر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يصلي نافلة الليل على حماره متجهًا إلى خيبر) كما في حديث أنس، (وكان يصلي صلاة الليل ويوتر على بعيره متجهًا إلى نجد) كما في حديث ابن عمر، فصلاة الليل التي هي قيام الليل لا تتأثر بالسفر، وأما صلاة النهار، ففيها خلاف بين أهل العلم، فقد قال ابن عباس: لو كنت مسبحًا لأتممت، لو كنت مسبحًا؛ أي: متنفلًا، لأتممت؛ لأن إتمام الفريضة آكد من الراتبة، ومع ذلك كان ابن عمر لا يترك شيئًا من نوافله في السفر، وهذا الخلاف ينبغي أن يحصر في الرواتب في راتبة الظهر القبلية، وراتبتها البعدية، وراتبة العصر، وهي قبلية، فهذه ينبغي أن تكون محل الخلاف.

أما صلاة الضحى؛ فقد ثبت في حديث أم هانئ: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها بمكة يوم الفتح؛ لأنها استأذنت عليه، فوجدت ابنته فاطمة تستره بثوب، وهو يغتسل من وراء الثوب، فسأل: من هذه؟ فقيل: أم هانئ، فقال: مرحبًا بـأم هانئ، فقالت: إن ابن أمي زاعم أنه قاتل رجلين من أحمائي قد أجرتهما، فقال: أجرنا من أجرت يا أم هانئ، فخرج فصلى ثمان ركعات، فكان ذلك في وقت الضحى)، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يحل له المقام بمكة بعد الهجرة منها، ومثله كل المهاجرين لا تحل لهم الإقامة في مكة؛ بل يقصرون فيها الرباعيات دائمًا، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقيمن مهاجر بعد قضاء نسكه بمكة أكثر من ثلاث)، وفي رواية: (يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه بمكة ثلاثًا)، وهذا الحديث به أخذ أن الثلاث لا تقطع حكم السفر، وأن ما زاد عليها قاطع لحكم السفر؛ لأنه أباح للمهاجر أن يقيم بعد قضاء نسكه بمكة ثلاثًا، فدل ذلك على أن الثلاث لا تقطع حكم السفر، والرواية الأخرى فيها: (لا يقيمن مهاجر بعد قضاء نسكه بمكة أكثر من ثلاث) تدل على أن ما كان أكثر من ثلاث، فهو قاطع لحكم السفر؛ ولذلك أخرج مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب رحمه الله قال: إذا نويت إقامة أربعة أيام صحاح فقد انحل سفرك، فإذا نوى الإنسان إقامة أربعة أيام صحاح فهذا قاطع لحكم السفر، ومقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة أيام الفتح سبعة عشر يومًا، أو تسعة عشر يومًا وهو يقصر ليس فيه دليل؛ لأنه في كل يوم في معركة، كل يوم يرسل سرية لهدم صنم أو لقتال قوم، وهو يتجهز لحرب هوازن، ولا يحل له المقام بمكة أصلًا، وكذلك مقامه بتبوك تسعة وعشرين يومًا يقصر، فقد كان في وجوه العدو، وهم الروم، وفي المناوشات معهم، وفي كل يوم يستعد للقتال، ومثل ذلك: مقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر على قصر؛ فإنما كان ابن عمر يريد السفر في كل يوم، ولكن الثلج منعه من الخروج، وهكذا مقام أنس في أيام ابن الأشعث في وقت الفتنة وهو يقصر أربعة أشهر؛ فذلك بسبب المعارك القائمة وأنس يريد السفر، فلا يستدل بمثل هذا على البقاء مدة طويلة على القصر؛ بل لم يبح الله القصر إلا بالضرب في الأرض، فقال: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا[النساء:101]، وهذا القيد منسوخ بما ثبت في الصحيح عن يعلى بن أمية رضي الله عنه: (أنه قال لـعمر بن الخطاب رضي الله عنه: ألم يقل الله تعالى: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا[النساء:101] فما لنا نقصر وقد أمنا؟ فقال: لقد تعجبت مما تعجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته)، فأصبح القصر غير مربوط بالخوف من فتنة الذين كفروا.

الفقر

الضابط الخامس من هذه الضوابط هو: الفقر، فالفقير خفف عنه بعض الواجبات بسبب فقره؛ لأن الفقر فيه مشقة؛ ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ من الكفر والفقر، وقديمًا عده العرب من المذلة، كما قال عروة بن الورد:

ذريني للغنى أسعى فإنيرأيت الناس شرهم الفقير

وأهونهم وأحقرهم عليهوإن كان له نسب وخير

يحلئه الغريب وتزدريهحليلته وينهره الصغير

وقد يلفى الغني له جلاليكاد فؤاد صاحبه يطير

وقد اختلف أهل العلم في تعريف الفقير، فذهب بعضهم إلى أنه من يملك بلغة لا تكفيه لعامه؛ أي: يملك جزءًا من المال لا يكفيه لعامه كاملًا، وهو مشتق من فقرات الظهر؛ لأنه يعمل على فقرات ظهره، وقالت طائفة أخرى: بل هو الذي لا يستطيع العمل ولا الاكتساب، وجعلوا المسكين هو: الذي يستطيع الاكتساب، ولو لم يكن مالكًا لشيء، وهذا الخلاف هو في تحديد الفقير والمسكين، أيهما أحوج، فمذهب المالكية والشافعية: أن المسكين أحوج، ومذهب الحنابلة والحنفية: أن الفقير أحوج من المسكين؛ وذلك أن الحنابلة رأوا أن المسكين يستطيع العمل، بدليل قول الله تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا[الكهف:79]، قالوا: لهم سفينة، فلهم بلغة لا تكفيهم، ومع ذلك هم يعملون في البحر، هذا إثبات للعمل، والمالكية يرون أن أولئك المساكين إنما كانوا في السفينة فقط، واللام التي فيها ليست للملك، فهم لا يملكونها، فاللام التي ثمَّ للاختصاص؛ أي: أنهم مختصون بها لركوبهم فيها، واللام ليست دائمًا للملك، اللام تأتي للملكية، وتأتي للاختصاص، وتأتي للاستحقاق، والمسكنة تقتضي أن تسكن يد الإنسان عن التصرف، وهي من السكون، والذي تسكن يده عن التصرف لا يستطيع عملًا، ولا غيره.

والفقير لا تجب عليه زكاة المال؛ لأنه في الأصل لا يملك نصابًا، وإذا ملك نصابًا وجبت عليه الزكاة مع فقره، كالذي يملك خمسًا من الإبل، فإنه تجب عليه زكاتها بإخراج شاة في كل عام، ولكنه هو فقير، فهو مصرف للزكاة، يمكن أن يأخذ زكاة غيره، وإذا كان قادرًا على العمل، لم يجب عليه إنتاج النصاب حتى تلزمه الزكاة، فما لا يتم الواجب إلا به ينقسم إلى ثلاثة أقسام: إلى سبب وشرط وركن، فالسبب لا يجب تحصيله، سواء دخل في الطوق أو لم يدخل فيه، السبب دائمًا لا يجب تحصيله، سواء كان داخلًا في الطوق، مثل: جمع النصاب حتى تجب عليك الزكاة، فهذا سبب للوجوب، فلا يجب عليك إجماعًا، وكذلك إن كان خارجًا عن الطوق من باب أولى، مثل: تغريب الشمس؛ لتجب عليك صلاة المغرب أو إزالتها؛ لتجب عليك صلاة الظهر، هذا غير داخل في الطوق، ولا يجب قطعًا.

وإن كان شرطًا، فإما أن يكون داخلًا في الطوق، وإما أن يكون خارجًا عنه، فإن كان خارجًا عن الطوق، لم يجب، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا[البقرة:286]، مثل: الطهر من دم الحيض والنفاس، فهذا شرط للوجوب، ولكنه غير داخل في الطوق، فالمرأة لا تستطيع أن تقطع عن نفسها دم الحيض والنفاس فلا يلزمها ذلك، وإن كان الشرط داخلًا في الطوق، كالطهارة للصلاة، فهو واجب.

فإذًا. السبب لا يجب، سواء دخل في الطوق أو لم يدخل فيه، ذلك قسمان، والشرط لا يجب إن كان خارجًا عن الطوق، فذلك القسم الثالث، ويجب إن كان داخلًا في الطوق، كالطهارة، وذلك القسم الرابع، والركن لا يكون إلا داخلًا في الطوق أصلًا، فهو قسم واحد، وهو دائمًا واجب، مثل: غسل جزء من العضد؛ لتحقق غسل المرفق، وغسل جزء من شعر الرأس؛ لتحقق غسل الوجه كله، فهذا ركن، فهو واجب؛ لأنه واجب وطلق، وما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب.

والفقير رفع عنه الحرج، مثل المريض في ما يتعلق بالإنفاق في سبيل الله؛ لأن الله تعالى يقول: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[التوبة:91]، ومع ذلك إذا تطوع وأنفق، فنفقته مضاعفة، وأجره أعظم، فالإنفاق على الإقتار من الثلاث التي يتحقق بهن الإيمان، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبق درهم مائة ألف درهم)؛ فلهذا كان الفقر ضابطًا من ضوابط المشقة.

نقص الخلقة

الضابط السادس من ضوابط المشقة هو: النقص، فالإنسان الذي لديه نقص في خلقته كالأعمى، والأعرج فإنه تخفف عنه التكاليف للعسر الذي رتب عليه، فهو عاجز عن كثير من التصرفات؛ لهذا قال الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ[النور:61]؛ فلذلك إذا صلى الأعمى إلى غير القبلة فلم ينتبه إلا بعد السلام، لم تلزمه الإعادة، وإذا انتبه وهو في أثناء الصلاة، توجه إلى القبلة، ولم يلزمه إعادة ما مضى من الصلاة إلى غير القبلة، بخلاف المبصر، فالمبصر إذا صلى إلى غير القبلة انحرافًا كثيرًا فتبين بعد الصلاة، وجب عليه قضاؤها؛ لأن الله تعالى يقول: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ[البقرة:144]، وإذا تبين الخطأ -الانحراف الكثير- وهو في أثناء صلاته، وجب عليه قطعها، وإن كان الانحراف يسيرًا فهو مخفف أيضًا، مثل ما ذكرنا في أول ضابط وهو القلة، فيتجه إلى جهة القبلة، (وإن تبين خطأ بصلاة قطع غير أعمى ومنحرف يسيرًا فيستقبلانها)؛ أي: فيستقبلان القبلة، وهذا النقص من العفو الحاصل فيه أيضًا العفو عن بعض الأنجاس والأقذار التي لا يراها الأعمى، والتي لا يستطيع الأشل مثلًا إزالتها، فهو معفو له عنها، ومثل ذلك العاجز عن المشي، وهكذا في القيام في الصلاة، إذا كان عاجزًا عن القيام؛ ولذلك سبع درجات: أربع منها الترتيب بينها على الوجوب، وثلاث الترتيب بينها على الندب، فالأربع هي: القيام استقلالًا في حق القادر عليه، فإن عجز وجب عليه القيام استنادًا، فإن عجز وجب عليه الجلوس استقلالًا، فإن عجز وجب عليه الجلوس استنادًا، هذه الأربع الترتيب بينها واجب، فإن عجز فالأفضل أن يصلي على شقه الأيمن متجهًا إلى القبلة، وإلا فعلى شقه الأيسر متجهًا إلى القبلة، وإلا فعلى ظهره ورجلاه إلى القبلة؛ وذلك أن المراتب الأربع الأول فيها تمام وكمال، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)، وهذا المستطاع فوجب عليه.

أما المراتب الأخرى فكلها اضطجاع، لكن إن اضطجع على يمينه، فهذا أكمل أحواله؛ ولهذا يدفن عليه الإنسان إذا مات، وإن اضطجع على يساره، فهو مثل ضجع الشاة للذبح كذلك، وإن اضطجع على ظهره ورجلاه إلى القبلة، فعلى الأقل هذا الوجه هو فيه مستقبل بشيء من أعضائه وأطرافه، والانكباب منهي عنه مطلقًا، وليس هيئة مطلوبة إلا لمن اضطر إليه، وهكذا فيما يتعلق بالمشي، فإن كان عاجزًا عن المشي في الطواف، فله الركوب، والركوب أيضًا يجوز لغير العاجز، ولكنه مثل الجلوس في النافلة، ينبغي أن يكون على النصف من صلاة القائم، وقد طاف النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته، ورمى على راحلته، وسعى على راحلته، وأمر أم سلمة أن تطوف على بعيرها من وراء الرجال، وإذا كان الإنسان العاجز محمولًا يحمله غيره، فالطواف لواحد منهما فقط لمن نوي له، وإذا نوى عنهما معًا لم يجزئ عن واحد منهما، كالذي يحمل صبيًا صغيرًا لا يستطيع الطواف على رجليه، فإذا نوى الطواف عن نفسه لزمه طواف آخر للصبي، وإذا نوى عن الصبي، لزمه طواف لنفسه، وإذا نوى عنهما معًا لم يجزئ عن واحد منهما، أو لزمه طوافان، أما إذا كان في عربة فكان الإنسان يدفعها دفعًا، فهذه لا تؤثر في مشيه هو، وليس محمولًا له، وإنما ساعده بالدفع فقط، فيجزئ طواف واحد عنهما، والسعي ليس مثل الطواف، فيجزئ السعي عنه وعن محموله دفعة واحدة؛ لما فيه من المشقة، ويرجع إلى ضابط الكثرة التي ذكرناها؛ لأن السعي مسافة كبيرة.

الرق

الضابط الأخير، وهو السابع من هذه الضوابط هو: الرق، فهو ضابط من ضوابط المشقة؛ ولذلك خفف الشارع عن الرقيق كثيرًا من التكاليف، فلا تجب عليه الجمعة؛ لما أخرج مالك في الموطأ مرسلًا، ووصله الحاكم في المستدرك وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجمعة حق واجب على كل مسلم إلا أربعة: امرأة، ومسافرًا، ومريضًا، وعبدًا)، فالعبد لا تجب عليه الجمعة، وكذلك لا يجب عليه الجهاد، ولا تجب عليه الزكاة، ولا يجب عليه نفقة زوجه ولا أولاده؛ للحقوق الأخرى المرتبة عليه، هي حقوق مالكه، فالمشقة الحاصلة له بالملك، وبما أنه غير مالك لكل تصرفاته خفف عنه في مقابلها، وضوعف له الأجر، كما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بي، وعبد أدى حق الله وحق مواليه، ورجل اشترى أمة فعلمها فأحسن تعليمها، وأدبها فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها)، هؤلاء يؤتون أجرهم مرتين.

فالعبد إذا أدى حق الله وحق مواليه كان ممن يؤتى أجره مرتين؛ وذلك أن هذا التشديد الذي جعل عليه من جهة الرق رفع عنه الحرج في مقابله، فالشارع حكيم، وهو اللطيف الخبير، فيخفف في مقابل التشديد، وهذا التخفيف منه التخفيف في الحدود، فقد قال الله تعالى: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ[النساء:25]، فجعل على الإماء نصف ما على المحصنات من الحدود، وهذا يقتضي أن القتل ساقط عن الرقيق مطلقًا في الحد، سواء كان حد ردة، أو حد ترك الصلاة، أو غير ذلك من الحدود، فلا يقتل العبد بالحد، إنما يقتل بالقصاص؛ لأن الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى[البقرة:178]، أما الحد فلا يقتل العبد به، سواء كان زانيًا محصنًا، أو كان مرتدًا، أو كان تاركًا للصلاة، فهذه التي حدها القتل لا يقتل فيها العبد؛ لحق مواليه وحق أهله، وكذلك لا يغرب في الزنا إذا كان بكرًا؛ لحق مالكه، والعبد مثل الأمة، فالآية إنما هي صريحة في تجزء الجلد بالنسبة للإماء، فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ[النساء:25]، ولكن الذكورة والأنوثة وصف طردي، فلا يتعلق به الحكم الشرعي، فيبقى الحكم الشرعي عامًا في العباد والإماء.

وقاس بعض أهل العلم بالتوسع على الحدود الطلاق، والزواج، وأمورًا أخرى، فرأوا أن العبد طلاقه طلقتان فقط، وأنه ليس له أن يجمع بين أربع نسوة بالنكاح، بل يجمع بين اثنتين، وهذا قياس فقط، وهذا القياس اعترض عليه بعض أهل العلم، قالوا: القياس إنما يحق فيما هو من باب واحد، وهذا ليس من باب واحد، فباب العقوبات ليس مثل باب الاستحقاقات، فهذا من باب الدفع، وهذا من باب الاستحقاق، فكيف يقاس الاستحقاق على الدفع؟

وكذلك تخفيف اللباس عن الأمة، فعورتها مثل عورة الرجل عند جمهور أهل العلم، فيجوز لها كشف رأسها وشعرها وأطرافها، حتى عند حضرة الأجانب، وقد اعترض على ذلك ابن حزم والظاهرية، فرأوا أنه لا فرق بينها وبين الحرة في ذلك، والجمهور يستدلون بآية الأحزاب، وهي قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ[الأحزاب:59]، فالراجح من التفسير أن معنى الآية (ذلك أدنى أن لا يعرفن فلا يؤذين)؛ لئلا يتعرض لهن، فتكون (لا) محذوفة، و(لا) قد تحذف، وقد تثبت، قد تحذف في كلام العرب، وقد ورد ذلك في القرآن في عدد من المواضع، وقد تثبت أيضًا، وهي بمعنى الحذف، فمثلًا لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ[البلد:1]، لا جَرَمَ[هود:22] ونحو ذلك، لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ[القيامة:1]، (لا) هنا ليس لنهي ما بعدها؛ بل لنهي دعوى المشركين وزعمهم، فهي زجر كـ (كلا)، ومثل ذلك: مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ[الأعراف:12]؛ معناه: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك، فـ (لا) هنا لتأكيد امتناعه هو؛ لأنه هو امتنع فلم يفعل، فكذلك هنا يكون المعنى: (ذلك أدنى أن لا يعرفن)؛ أي: ذلك أقرب لئلا يعرفن؛ لأنها إذا تسترت لم تعرف (فلا يؤذين)، وقيل: (ليعرفن)؛ أي: ليعرف أنهن حرائر فلا يتعرض لهن، وهذا الذي يذهب إليه كثير من أهل التفسير.

وعمومًا لا شك في التخفيف بالرق؛ لأن الشارع خفف به في كثير من التكاليف، فهو ضابط من ضوابط المشقة.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , القواعد الفقهية [4] للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

https://audio.islamweb.net