إسلام ويب

الشباب من أفضل مراحل العمر وأكثرها نشاطاً وحيوية؛ إلا أن الشباب في هذه المرحلة يواجه تحديات قد تعيقه عن مواصلة دربه وإنتاجه، ومنها تحدي الذات والمهمة والموازنة في الأعمال وتحدي العجز، غير أن الشاب المستيقظ يحدد ذاته من خلال دينه وأخلاقه مرتباً أولوياته لينجح في كل مهمة يقوم بها نحو أمته.

تحدي معرفة الذات عند الشباب

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله الحكيم الخبير سبحانه وتعالى، سير هذا الكون على وفق نواميس ثابتة هي التي تحكم هذا الكون كله، وهذه النواميس هي السنن الإلهية التي لا يمكن أن يتحرك، ولا أن يسكن شيء في هذا الكون إلا بها، ومن هذه السنن والنواميس سنة التحدي، والإنسان بحاجة إليها أكثر من غيره؛ لأنه عندما يشعر بأن عدواً ما يتحداه، فستتحرك فيه دواعي العزة ليأخذ مكانه وليرد ذلك التحدي على أعقابه، ولن تتحرك كوامنه ولن يكتشف قواه إلا بالتحديات، والذي لا يشعر بالتحديات سيعيش عادياً ويموت عادياً، ويبعث عادياً، لم يحدث شيئاً في هذا الكون.

ومن المعلوم أن الإنسان خلق ليغير في هذا الكون، فالإنسان خليفة الله في الأرض، وخلق الله له ما في الأرض جميعاً، فلا بد أن يكون مسئولاً ولا بد أن يكون مشاركاً في حركة هذا الكون واستغلال ما فيه: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الملك:15].

حاجة الشاب إلى معرفة ما يواجهه

لذلك احتاج الشباب بالخصوص من بين هذا الجنس البشري إلى معرفة ما يمكن أن يتحداهم من أنواع التحديات، وإلى الموازنة بين هذه المتحديات التي تتحداهم.

إن أول ما يتحدى الشباب من المتحديات هو تحدي البحث عن الذات، فعندما ينشأ الشاب وقد عاش فترته الأولى في التكوين بين أبويه وتلقى من مدرسته وشارعه، فتنوعت مشاربه، وأخذ من مختلف الاتجاهات، فللوالدين تأثير فيه وللزملاء والقرناء تأثير آخر، وللشارع الذي يعيش فيه تأثير، وللمدرسة التي يدرس فيها ولمقرراتها تأثير، ولوسائل الإعلام تأثير، كل هذه مجتمعة تؤثر في عقلية الشاب، وأول ما يواجهه من التحديات هو تحدي البحث عن الذات من أنا؟

البحث عن الذات والانتماء

فهذا أول سؤال يطرحه الشاب على نفسه، هذا التحدي جوابه: ما يبحث فيه الإنسان هل هو تابع لقيم دينية تحكمه أو خلقية؟ أو يبحث عن وجوده في العنصر، أو في الوطن أو في اللغة أو في غير ذلك من العوامل التي تبني الشخصية، فإن وجد ما يلبي هذا الجواب في دين وقيم وأخلاق سما وعرف لماذا أتى، وعرف أنه غريب في هذه الدنيا، وأنه جاء لمدة محددة في مهمة محددة.

ومن هنا لا يمكن أن يضيع شيئاً من وقته ولا من جهده ولا من طاقته في غير المهمة الأساسية التي من أجلها أتى، وما يكملها من المكملات التي يحتاج إليها، وإن لم يعرف كيانه وحقيقته في الجانب الديني والخلقي، فسيبحث عن الجوانب الأخرى، كالعنصر والوطن واللغة وغير ذلك.

البحث عن الذات في العنصر وأثره

ومن هنا سيكون عامل هدم وفساد؛ لأنه إذا بحث عن كيانه في العنصر فسيكون عنصرياً، لا يسعى لمصلحة البشر جميعاً ولا يسعى لإصلاح الأرض ومن عليها، ويهتم بعنصر واحدٍ، يرى أن له الحق في استغلال ما في الأرض، وأن ما سواه من العناصر تستحق الإقصاء والطرد.

ومن هنا سيكون عامل هدم في هذا البيت الواحد الذي تسكنه أسرة واحدة، فالأرض بيت واحد تسكنه أسرة واحدة، ذرية آدم و حواء .

الذاتية الوطنية وأثرها

وإن بحث عن ذاته في الوطن فسيرتبط ببعض الأمور التي لا يدرك مغازيها ولا مهماتها، فيرتبط بوطن مخصوص وببقعة مخصوصة من هذه الأرض، والواقع أن للإنسان في الأرض وطناً واحداً، وهو قبره.

سر في البلاد وصاحب أن تنل فطناًفيها دليلاً وجانب ضيق العطن

ولا تبيتن فيها آنفاً وطناًفلم يكن لك قبل القبر من وطن

وهذا الوطن الضيق الصغير، الذي هو وطن الإنسان الحقيقي: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55]، مجهول لا يدري الإنسان أين يكون: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34].

من هنا كان الاهتمام بوطن سوى ذلك مدعاة لتفضيل بعض الأوطان على بعض، كما نشاهده في البلدان الغربية، عندما تلمس الغربيون البحث عن ذواتهم في الوطن فوجدوا أن الوطن الأوروبي مفضل على غيره من الأوطان، ومن أجل ذلك سعوا لاستغلال ما في الأوطان الأخرى من الخيرات وجلبها إلى بلادهم، فقاموا بالاستعمار العسكري لنهب خيرات البلاد واستغلالها في بلادهم، فبنوا البنى التحتية، بنوا الجامعات والمستشفيات والطرق وشبكات الأنفاق، وغير ذلك من أموال الدول الأخرى، التي ليست مستحقة للحياة في تصورهم.

وهنا طرفة واقعية، وليست نكتة حصلت لاثنين من الشباب الموريتانيين في فرنسا، لم يكن معهما نقود كحال كثير من الطلاب، وسامحوني في هذه، فأراد أن يمتطي مترو الأنفاق في باريس، لكنهما قفزا فوق الحواجز وركبا في القطار، فجاء مسؤول الأمن في القطار فسألهما: أين تذاكركما؟ وعرف أنهما قد قفزا، فأتى بهما إلى الشرطة فسألتهم الشرطة: لماذا تقفزان الحواجز وتركبان بلا تذاكر؟ فقالا: فرنسا ليس فيها حديد وهذا الحديد منهوب من بلادنا، وفعلاً صدقت الشرطة ما قال الشابان وخرجا بسلام.

وقد حضرت محاضرة لأحد الساسة الأمريكان، قال فيها: إننا لا نأخذ من خيرات العالم إلا خمساً وثمانين في المائة فقط، ونتصدق بخمسة عشرة في المائة من خيرات العالم على سكان الأرض.

إن أولئك القوم عندما بحثوا عن ذواتهم في الوطنية عبدوا عباد الله الأحرار، فأخذوا سكان هذه القارة المحكوم عليها بالمهانة والهوان وشغلوهم في مناجم الفحم تحت الأرض، وفي حفر أنفاق القطارات، وفي أنواع الأعمال الشاقة ليبنوا بلادهم بسواعد الآخرين، ومع ذلك نجد في أمريكا بعض الأماكن يكتب عليها أنها محرمة على الكلاب والخنازير والسود، وإلى الآن في بلاد الحرية ما زالت هذه الشعارات تكتب، فهذا دليل على انحراف هؤلاء القوم حين طلبوا البحث عن ذواتهم في الوطنية.

الذاتية القومية

ومثل ذلك أولئك الذين يبحثون عنها في نطاقٍ قومي، فيتعلقون بالناطقين بلغة من اللغات، ويطلبون في ذلك البحث عن ذواتهم، فيعتبرون من نطق باللغة الفلانية عنصراً مقدساً يستحق التشريف والتكريم، ومن سواه من العناصر لا يستحق ذلك، وهذا غاية في الانحراف؛ لأنه ما من لغة تستعصي على أن يتعلمها الناس، فلغات العالم كلها يمكن أن يتعلمها كل إنسان، ويكون من الناطقين بها، بل قد يجيدها أكثر مما يجيدها أصحابها وذويها.

الذاتية الدينية والأخلاقية ودورها في صلاح المجتمعات

من هنا كان هذا التحدي الأول للشباب مهماً جداً في تقويم مسيرتهم وحياتهم؛ ولذلك لا بد أن يبحث الشباب عن ذواتهم في القيم الدينية والخلقية، وإذا بحث الإنسان عن ذاته من خلال القيم الدينية والخلقية، فسيجد أنه عبد لله ما شاوره في أصل خلقته، ولا شاوره بأي لون يصبغه، ولا في أية بلدة يسكنه، ولا بأي أنواع المعاش يعيشه: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف:51]. يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ[القصص:68]، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:8].

فمن هنا ينطلق الإنسان بقناعة كاملة أنه عبد لله وحده، حر من الأغيار جميعاً، وأن الرب الذي خلقه وسواه هو الذي يستحق عليه العبادة، وهو الذي يمكن أن يشرع له ويأمره وينهاه ويحل له ويحرم عليه، وهو الغني عنه.

ومن هنا فما أحل له أو ما حرم عليه فلمصلحته هو لا لمصلحة الرب سبحانه وتعالى، وهكذا في القيم الخلقية في التعامل مع الناس، وأولاهم بحسن العشرة والتعامل الوالدان اللذان نجلا الإنسان، ثم الأقرب فالأقرب، ويشمل ذلك كل من كان أكبر منك أو أصغر، فمن كان أكبر منك فهو بمثابة والدك ومن كان دونك أو أصغر منك فهو بمثابة ولدك، ومن هنا تنظر إلى الناس بهذه النظرة، ومن كان معاصراً لك فهو أقرب من ذلك؛ لأنه الزميل والقريب.

ومن هنا لن تكون لك عقدة ضد أهل الأرض، بل ستراهم جميعاً أهل أسرة واحدة.

فمن بحث عن ذاته في هذه القيم وفي هذا الدين والأخلاق وجدت نفسك معه في خندق واحد من أي جنسية، ومن أي بلد، ومن أي لون، ومن أية لغة، ومن لم يعرف نفسه من خلال هذه المعرفة وجدت أنه مسكين ناقص، يحتاج إلى من يرحمه، ورحمته إنما تكون بالسعي لهدايته فأنت حريص على هدايته، حريص على أن تحول بينه وبين أن يكبه الله على وجهه في النار.

ومن هنا تنطلق من واقع الرحمة التي كتبها الله على نفسه: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ[الأنعام:54]، وهذه الرحمة هي خلق هذا الدين كما قال صلى الله عليه وسلم: ( لكل دين خلق، وخلق الإسلام الرحمة)، وهي تقتضي منك أن ترحم الكافرين من عذاب الله فتسعى لهدايتهم، وأن ترحم الضآلين من عذاب الله فتسعى لهدايتهم، وأن ترحم المبتلين في أبدانهم بما تستطيع مساعدتهم به، وأن ترحم المبتلين في أرزاقهم بما تستطيع مساعدتهم به، فتكون فعلاً عامل صلاح وإصلاح في هذه الأرض، فأنت صالح في نفسك مصلح لغيرك ما استطعت، وإذا تعديت هذا التحدي الأول فقد نجحت نجاحاً باهراً، ولله الحمد وتخرجت من مدرسة التحدي الأول، وستصل إلى المستوى الثاني، وهو تحدي البحث لماذا أنا؟ ما مهمتي؟

تحدي معرفة مهمة الإنسان ودوره وأقسام الناس فيه

وهذا التحدي لا ينقص درجة عن سابقه، فيحتاج الشاب بعد أن يعرف من هو إلى أن يعرف مهمته في هذه الحياة؟

والناس في هذا التحدي على ثلاثة أقسام:

أصحاب الملذات والشهوات

القسم الأول: الذين يظنون أنهم كسائر الحيوانات البهيمية جاءوا إلى هذه الأرض ليتمتعوا مما فيها، تمتع من الدنيا فإنك فاني، فمهمتهم التمتع من ملذات الدنيا قبل أن ينتقلوا إلى الدار الآخرة، وهؤلاء ليس لهم قيم ولا أخلاق، فهم يتعارضون مع ما أثبتوه أولاً عندما بحثوا عن أنفسهم، فعندما تفهم من خلال جواب تحديك الأول أنك جئت هنا لمهمة محددة: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وأن عليك أن تؤدي هذه المهمة بأسرع الأوقات فما تدري متى تنتقل لم يكن لك وقت لتنفقه في تتبع الملذات والشهوات، إلا بقدر ما يكون عوناً لك على أداء المهمة التي من أجلها أتيت.

نحن لسنا مع أولئك الذين ينكرون حظ الإنسان في الملذات والشهوات، فهذا الفهم غير صحيح، لكن مع أولئك الذين يرون أن هذه الملذات والشهوات إنما تؤخذ بقدر ما أحل الذي خلقها، فما أحله منها فهو المصلحة، وما حرمه فهو المفسدة، ومن هنا فتتبعها مهلك للإنسان، فمن وجد شباباً وقوة وجدة في كل أجهزته وحواسه، ووجد ما يلبي به رغباته وشهواته من الناحية المادية، فالنتيجة أنه سيفسد غاية الفساد:

إن الشباب والفراغ والجدةمفسدة للمرء أي مفسدة

فإذا كان لديه مال فسينفقه في أسرع الأوقات فيما لا طائل من ورائه، فإذا نفد ما في يديه وقد تعود على نوع من أنواع الحياة لم يكن ليصبر عنه، فسيبحث عما يلبي به تلك الرغبات، ولم يجده من خلال الحلال، فسيبحث بالحرام إما بالسرقة أو بالغصب والنهب أو بالربا أو بالقمار أو بغير ذلك من أنواع الإفساد في الأرض، وكل ذلك سيكون على حساب الآخرين، واعتداءً على حرماتهم ومضايقةً لهم، وقد سبق أنهم أبناء أسرة واحدة يسكنون بيتاً واحد.

أهل الإفساد في الأرض

القسم الثاني: الذين يحددون مهماتهم التي من أجلها أتوا بالإفساد، فليسوا كأولئك الأوائل الذين فقط مهمتهم التمتع باللذات والشهوات؛ بل مهمتهم الإفساد، فهم يريدون إهلاك الحرث والنسل، يريدون تحقيق كل ما أقسم به إبليس بعزة الله، يخافون أن يحنث إبليس في قسمه عندما قال: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ[ص:82-83]، فلا يتركون باباً من أبواب الفساد إلا طرقوه، ولا يتركون وسيلة من وسائل الفساد إلا أعملوها، وهؤلاء يعجب الإنسان منهم كيف جبلوا في أصل خلقتهم وفي تصوراتهم على الفساد، فيقدمون على الأمور التي لا ترجع عليهم بلذة ولا بشهوة، وليس فيها أية نتيجة ولا فائدة، وإنما يقدمون عليها من أجل الفساد.

إن هؤلاء المفسدين في الأرض هم الذين يجب الأخذ على أيديهم، فقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث نعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فكان بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً ).

تستر المفسدين بأوجه الصلاح وأمثلته

إن هؤلاء المفسدين قد يتسترون في بعض الأحيان بما يظهر للضعفة من أنه وجه من أوجه الإصلاح، وذلك عندما يصلون إلى مستوى من القوة المادية تخول لهم الهيمنة والغلبة على عقول الآخرين، فـأمريكا الآن لما بلغت أوج قوتها صار الذي يخالف أمريكا مجرماً لدى الناس، وينظر إليه على أنه يستحق المحاكمة مطلقاً، والذي يوافقها ولو كان ذلك في غاية الإفساد والفساد ومخالفة القيم يعتبر بريئاً موافقاً للشرعية الدولية.

ومن هنا فالقيم التي تنادي بها أمريكا هي مثلاً: حقوق الإنسان، والديمقراطية، والعولمة، ومكافحة الإرهاب، هذه القيم الأربع هي التي تنطلق منها في نظامها العالمي الجديد، وهي جميعاً غير محددة المفاهيم، فهل يستطيع أحد أن يشرح لنا حقوق الإنسان ما هي؟ إذا قام أي إنسان بشرح لحقوق الإنسان، فهل ترون أن ما يحصل الآن للأسرى في جزيرة جوانتنامو موافق لشرح حقوق الإنسان؟ هل ترون أن ما يقع للفلسطينيين في بلادهم بالسلاح الأمريكي موافق لحقوق الإنسان؟ هل ترون أن التبجح بنهب خيرات العالم خمسة وثمانين بالمائة من خيرات العالم موافق لحقوق الإنسان؟

إذاً هذه هي قيمهم. نفس الشيء إذا ذهبت إلى تفسير الإرهاب ما هو الإرهاب؟ هل يستطيع أحد أن يشرحه؟ في أكاديمية نايف بن عبد العزيز الأمنية التابعة للجامعة العربية حصروا خمسمائة تعريف للإرهاب، وإلى الآن لم يعتمد ولم يعترف بأي واحد منها على أنه تفسير دولي للإرهاب، لكن التفسير الحقيقي للإرهاب ما يخالف التوجه لدى أمريكا.

وكذلك الحال بالنسبة للديمقراطية كقيمة من قيم أمريكا أو قيمة من قيم النظام العالمي الجديد، هل تستطيعون شرحها؟ إنَّ ما ندرسه في القانون الدستوري من شرح للديمقراطية هو بعيد غاية البعد عن واقع الديمقراطية، ومن أراد الاطلاع على ذلك، فلينظر إلى الفرق بين الديمقراطية في بلادنا والديمقراطية في بلادهم، ما هي نتيجة الديمقراطية في تركيا وفي الجزائر وفي غيرها من البلدان؟ وما نتيجتها في أمريكا و فرنسا؟ إنه يتضح البون الشاسع والفرق الكبير بين الديمقراطيتين.

فالديمقراطية المطلوبة في الجزائر هي التي ترسخ مصالح الغرب وترسخ بقاء ما كان على ما كان، واستمرار الفساد والإفساد كما كان، والديمقراطية المطلوبة في فرنسا هي التي تجعل الحزب الدقولي الذي منه رئيس الدولة في المعارضة، وتجعل الحكومة الحاكمة الحزب الاشتراكي هي التي بأيديها الأمور، وكذلك الحال بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، وقد حضرت نهاية عهد أحد الرؤساء عندما خرج من البيت الأبيض، وقد شاهدته يحمل ثلاث حقائب على ظهره، وهو يخرج من البيت الأبيض، لا أحد يساعده، ويسلم مفاتيح القنابل النووية والمفاعلات الذرية لخلفه بابتسامة وهو يخرج.

هذه هي القيم، يأخذون بها إذا كانت تحقق مصالحهم في بلادهم، ولكن إذا كانت تمنع مصالحهم كالحال في تركيا، أو في الجزائر ، أو في غيرها لا يمكن أن تقبل الديمقراطية.

أهل الإصلاح والخير

القسم الثالث من الناس: هم الذين فهموا أن رسالة الإنسان في هذه الأرض هي الإصلاح، فهم لا يريدون الإفساد في الأرض بعد إصلاحها بأي نوع من أنواع الإفساد، ففي عمارة الأرض يسعون لنشر خيراتها واستخراج ما فيها من النفع وإبقائه لمن يأتي بعدهم، فأنت تعلم أن عمرك يسير، وأن مدة بقائك في الدنيا محصورة، لكنك تريد الخير لمن يأتي بعدك، فلست من المتحجرين الذي يريدون أن يستغلوا الخيرات ويفسدوا على من يأتي وراءهم، بل أنت تبني للاحقين الذين يأتون من ورائك، وتعلم أن مسيرة الحياة على هذه الأرض مسيرة طويلة، وأن الأرض جعلها الله كفاتاً أحياءً وأمواتا، فهي تكفي الأحياء فوق ظهرها والأموات في بطنها، وفيها من الخيرات ما يسد حاجات الجميع، وأنت مكلف بوظيفة، تشمل إصلاح ما في هذه الأرض والعدالة في توزيع ذلك أيضاً، فلست فقط من الذين يصلحون دون أن يعدلوا في التوزيع، كحال النظرة الشيوعية التي كانت سائدة، سادت ثم بادت، ولست كأولئك الذين يراعون حقوق الفرد فقط، ويهتمون بالملكية الفردية على حساب الإصلاح العام، كحال الرأسماليين اللبراليين، الذين يريدون أن يستغلوا الخيرات لأنفسهم، وإذا جاء الآخرون يستغلون أيضاً لأنفسهم، ولا تعويل على الإصلاح في المستقبل. إن كلتا النظرتين فاشلة، ولا يمكن أن تحقق لأهل الأرض المراد المطلوب، بل إن الله سبحانه وتعالى جعل الحضارة في هذه الأرض متوارثة يرثها جيل ويسلمها للجيل الذي يليه.

ولذلك فمن كان يعرف مهمته في الأرض لن يسعى أبداً لاتساخ الشارع فضلاً عن اتساخ المسجد، لن يسعى أبداً إلى انتشار مرض من الأمراض، لن يسعى أبداً لإفساد أية وسيلة من وسائل الحياة، فهو هنا طالب في الجامعة يستغل هذه الكراسي والماسات والمكتبات والمنافع العامة استغلالاً رشيداً ليتركها لمن وراءه، وإن استطاع التحسين فيها والزيادة أضاف إليها، وهكذا في شارعه وفي بيته وفي حياته يسعى للإصلاح والإحسان ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فإذا جاء من بعده ترحم عليه ووجد أثره الطيب، وترك بصماته التي تبقى شاهدة مع الزمن، فهذا هو الذي فهم مهمته في الأرض ولماذا أتى.

كذلك في المجال العلمي الذي يدرك مهمته ويعرف لماذا أتى، لن يكون كحال الذين يصحبون من الصبا مهارة التقليد، فإن كثيراً من الشباب كانوا صغاراً قد تعودوا في فترة من العمر على التقليد والمحاكاة، ولكنهم صحبوها وصارت مهارة لديهم، فهم يقلدون في كل شيء تقليداً أعمى في الأخلاق والقيم، وفي وسائل العيش والعمل كذلك يقلدون تقليداً أعمى، وهؤلاء لا يمكن أن يعدوا من المبدعين ولا من المجددين ولا من المصلحين؛ لأنهم يسيرون في خط إبرة في نطاق ضيق، قد رسمه لهم من ليس على مستواهم من الناحية الثقافية، وليس على واقعهم من ناحية المعاش، فهم يقلدونه تقليداً مطلقا، إن هذا التقليد يقبل في نطاق ضيق، لكن لا يمكن أن يتعدى ذلك النطاق، فأنا لا يمكن أن أستسيغ أن يكون الإنسان الحضري الذي يعيش في المدينة وتتوفر لديه وسائل النظافة، يعيش لنا بتقاليد أهل البادية، فإذا أقيمت الصلاة خلع بعض ملابسه ورماها بين الصفوف، أو نجده وهو يسكن في المدينة طالباً جامعياً لا يعتني بنظافة ملابسه وسكنه، فإذا دخلت مسكنه وجدته مكاناً أشبه ما يكون بسكن البهائم، حيث بقايا الطعام والروائح والأوساخ منتشرة فيه، هذا لا يليق أبداً، فإنما سبب ذلك تقليد من صحبه الإنسان من بيئته البدوية واستمر عليه.

ومن هنا فإن الملابس أيضاً نأخذها تقليداً للموضات، ونسير فيها على وفق ما سار عليه آخرون دون أن تحقق لنا بعض رغباتنا أو بعض مصالحنا، ولا شك أن كثيراً منكم له أذواق رفيعة عالية، ويمكن أن يأتي بتجديد، ويمكن أن يأتينا بأشياء نحتاج إليها من الأمور الجديدة، لكنه ربط نفسه بالتقليد، فهو متبع لسابقين كحال الذي يدخن، فالذي تعود على التدخين نفهم تدخينه؛ لأنه أصبح مدمناً، لكن الذي لم يتعود على التدخين لماذا يدخن؟ إن ما يفعله مجرد تقليد للآخرين، ومثل ذلك الذي يتعود على الكلام النابي البذيء الذي لا يسد له أية رغبة، ولا يحقق له أي مراد، ولكنه إنما سمعه من الآخرين فتلقفه بلسانه قبل أن يمر على أذنه: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15].

إن تحدي البحث عن مهمة الإنسان يحتاج إليه الشباب كثيراً، وليطلعوا على ما هم عاملوه مع هذا التحدي، فلو راجع أي واحد منا نفسه وعرف أنه فعلاً أمام هذا التحدي، فراجع نفسه لماذا أدرس التخصص الفلاني؟ لماذا أدرس أصلاً؟ لماذا أنا جالس هنا؟ ما الذي من أجله أتيت؟ إن العاقل المثقف لا يمكن أن يقدم على أمر يأخذ جزءاً من وقته الثمين إلا وله فيه مهمة يحققها، فإذا كنت تدرس مجالاً لا تقتنع به أصلاً وليس لك رغبة فيه، فهل أنت فعلاً وقفت أمام هذا التحدي وكنت صاحب صدق في التعامل معه؟

إذا كنت لا تقتنع بالدراسة في كلية محددة، ووجدت نفسك تداوم فيها مع الشباب صباحاً ومساءً، وتسهر أيام الامتحانات لتنجح لمجرد تقليد، فهذا لا يفعله العقلاء الذين يشعرون بهذا التحدي وإنما يفعله المهزومون أمام التحدي.

ومن هنا لا بد أن يستشعر الإنسان في كل حركاته وسكناته وأفعاله وأقواله مهمته الأولى التي من أجلها أتى، وإذا استشعر ذلك كان له دافعاً عقدياً يقتضي منه أن لا يتصرف إلا عن دراسة، وأن لا يقول إلا عن علم، فالعلم سابق على القول والعمل، وألا يقوم بأي تصرف حتى يدرك: هل هو مباح شرعاً؟ هل يحقق شيئاً من خطته الإستراتيجية في هذا الكون؟ هل هو مرضي عند ربه الذي أنعم عليه وسواه؟ ثم بعد ذلك ماذا يحقق من مصالحه هو؟ وهل يترتب عليه مفاسد عاجلة أو آجلة، إذا وزن الإنسان الأمور بهذا الميزان فعلاً أصبح حكيماً، وتعدى هذا التحدي بنجاح.

تحدي الموازنات

وإذا تخرج من مدرسة التحدي الثاني فليصل إلى التحدي الثالث للإنسان الشاب وهو: تحدي الموازنات.

إن الشاب سيجد نفسه في أمواج متلاطمة من الأفكار والأعمال، والتوجهات والأيدولوجيات، والواجبات الشخصية التي تناط به هو، والواجبات الأسرية، والواجبات الجماعية، فتتعارض عليه كل هذه المهمات فلا يدري بأيها يبدأ، سيجد نفسه محتاجاً لأن يكون صاحب شهادةٍ عالية، ويعلم أنه لن يكون غنياً من الأغنياء، ولن يحقق مآربه الدنيوية إلا إذا حصل على هذه النتيجة، ويعلم أنه مدة دراسته أيضاً يحتاج إلى مصاريف مادية، ويعلم أن لديه واجبات تتعلق بأسرته ولديه واجبات تتعلق بمجتمعه، ولديه واجبات أيضاً تتعلق بدراسته، فهو يدرس مواد متعددة، وإذا قسم الوقت بينها سيجد زحمة في الوقت، وإذا أضاف إليها بعض المسئوليات الأخرى كما إذا كان يريد الزواج أو متزوجاً، أو كان لديه معاناة من مرض من الأمراض يريد العلاج، أو كان لديه بعض المهام الأسرية المنوطة به، فستزداد لديه الزحمة في الوقت فسيجد تحدياً سافراً عظيماً في الموازنة، وهذا التحدي لا يمكن أن ينجح فيه الإنسان إلا إذا كان قد نجح في التحدي السابق، فإذا عرف نفسه وعرف مهمته حينئذٍ سيوازن على أساس تلك المهمة، يقول: أنا مهمتي الأولى معروفة هي تعبيد الناس لرب الناس: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. وكل ما يحقق هذه المهمة الأولى فهو مقدم لدي على كل ما سواه، حتى إذا أدى ذلك إلى مفارقة هذه الحياة فأقول: وعجلت إليك ربي لترضى، وهكذا في كل شئونه يقدم الأقرب إلى الله فالأقرب، ومن كان كذلك لا بد أن يصلح الله ما أهمه وما لا يهتم له، من آثر رضا الله على مصالحه وهمومه وأموره وأنزل همومه بالله وحده، لا بد أن يصلح الله له ما أهمه وما لا يهتم له.

إن هذه الموازنة يجدها الإنسان عناءً مبيناً، وقد تقتضي منه تردداً ونكوصاً في بعض الأحيان، فإذا كان يرغب في تخصصين فأكثر وأتيحت له الفرصة للتسجيل في كلية شرعية، وفي كلية علمية، وتزامن وقت الامتحان أو حصلت المشقة في دراسة المواد أو كانت المرأة ربة منزل وفي نفس الوقت هي طالبة، أو كان الإنسان موظفاً وفي نفس الوقت هو مسجل للدراسات العليا أو طالب، أو كان الإنسان هو الذي يعول أسرته وهو مسئولها الأول، ومع ذلك لديه مشروعه الدراسي أو كان الإنسان ذا همٍ أكبر من هذا يهتم بشئون أمته ودعوته، ومع ذلك معه همومه الخاصة، فتزاحم لديه الهمان:

للناس هم ولي في اليوم همان فقد الكنيف وفقد الشيخ عثمان

كما قال أبو هريرة رضي الله عنه.

أهمية فقه الموازنة في صنع النجاح

فسيجد نفسه مضطراً لفقه يسمى فقه الموازنة، ليوازن بين هذه الأمور، وهذا الفقه يقتضي منه أن يحرص على ما ينفعه، وأن يتوكل على الله، وأن لا يعجز، وأن يعلم أن القدر نافذ فما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، رفعت الأقلام وجفت الصحف، وهو بذلك متكل على الله بشأنه كله، ساعٍ على وفق شرعه، فما أوجبه الله عليه لا يمكن أن يعارض بأي شيء مما سواه، وما سن له هو الذي يلي الواجب، وما ندب له هو الذي يلي السنة، وما أباح له ينظر إليه بعين المصلحة، فإذا كان يحقق له مصالح بحسب اجتهاده بادر إليه، وإن كان لا يحققها تقلل منه.

وهكذا إن الذي يتقن هذه الموازنة سينجح لا محالة في بقية تحديات حياته.

ما يقتضيه النجاح في التحديات

إن هذه التحديات الأولى الثلاث التي هي: من أنا؟ وما مهمتي؟ وكيف أوازن بين مهماتي المتشعبة؟ هذه التحديات الثلاث هي أكبر التحديات التي تواجه الشباب وهي كلها تتعلق بالوقت، وهذا يدلكم على عظم شأن الوقت، وأن ذهاب الأوقات تحدٍ كبير جداً.

ومن هنا فنحن في سباق مع الزمن، لا بد أن يستشعر الإنسان أن هذا الزمن يمضي بسرعة هائلة، وأن المهمات التي له فيه والواجبات هي أكثر من الأوقات، ولذلك هو يسعى للتسديد والمقاربة ما استطاع، فيبدأ بالأهم، ثم المهم، ويؤخر كل ما يستغنى عنه، فكل ما يمكن أن لا تقوم به أصلاً، أو يمكن أن يقوم به من سواك فلا تجعله على قائمة الأولويات.

إن نجاحك في هذه التحديات الثلاث يقتضي منك أن تكون منظماً في أمورك، وأن يكون لك برنامج عملي تطبقه في حياتك، ففي توزيعك للوقت ستجعل وقتاً للوالدين، ووقتاً للدراسة، ووقتاً للعبادة، ووقتاً للازدياد من الدنيا، وقتاً للدعوة، ووقتاً لبدنك لممارسة رياضاتك التي تحتاج إليها، ووقتاً لممارسة المهن، والخبرات التي تحتاج إليها في حياتك، ووقتاً للناس للمخالطة وتعدل وتقسط، فترى أنك بمثابة الخليفة الأكبر، وما تحت يدك هو مسئولياتك هذه، والوقت الذي عندك، فأنت تحاول إنجاز هذه المهمات بأكبر قدر من الإدارية، وفعلاً ستكون حينئذٍ قائداً؛ لأنك إذا قدت نفسك استطعت أن تقود في البداية العشرات من أمثالك، ثم تعدي ذلك إلى المئات، ثم إلى الآلاف، ثم أصبحت قائداً فعلياً للأمة، فالقادة يصنعون بهذا الاصطناع والتكوين.

إذا كان الإنسان يعرف أن لديه وقتاً محترماً مقدساً لا يمكن أن يمر عليه إلا وهو يعمل عملاً شريفاً، من مهماته الأساسية، كأوقات الصلاة فهي أوقات مقدسة، مهمتنا فيها الأولى هي تحقيق الصلاة التي هي الصلة بيننا وبين الله، هذا الوقت المقدس لا يمكن أن يمر إلا وقد بادر الشاب فيه لأداء الحق الأول فيه وهو الصلاة، وأوقات أخرى مثل أوقات الدراسة، الإنجليز عندهم الساعة السابعة صباحاً هذا وقت مقدس، لا بد أن يكون كل فرد من أفراد الإنجليز في هذا الوقت يمارس عملاً من أعماله المهمة.

كذلك بالنسبة للمسلم لا بد أن تكون أوقات الذروة في النشاط وأوقات الهدوء وأوقات الراحة أوقاتاً تستغل بكل طمأنينة لمهمته الأولى التي من أجلها أتى إلى هذه الأرض.

تحديات الأمة الإسلامية في العصر الحديث

بعد هذا تأتي التحديات العمومية التي لا تختص بالشاب وحده، بل تحديات أمة الإنسان هي تحديات له، وهذه التحديات أنواع وألوان، فمنها التحديات الخارجية، ومن أعظمها تحدي أعداء الله لأوليائه، فإن أعداء الله هم حزب الشيطان يسعون لتعبيد الناس للشيطان، ويسعون للإفساد في الأرض بكل ما يستطيعون، ويسعون للإفساد فيها بكل أوجه الفساد، وهذا تحدٍ سافر في وجهك، فأنت قد أعلنت ولاءك لله سبحانه وتعالى، ورضاك بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وأعلنت عداوتك للشيطان وآمنت بذلك، فلا بد أن يكون لك عمل يحقق قناعتك هذه، فكل قناعة لم يصحبها عمل ليس لها أية نتيجة ولا أية فائدة.

إن هذه الأمة المحمدية تواجه في عصرنا هذا كثيراً من التحديات الكبرى من فعل أعدائها:

التمزق والتقسيم

من أعظمها: التحديات الداخلية التي منها التقطع الذي حصل في هذه الأمة في جسمها، فقد أصبحت أمماً ودولاً بعد أن كانت أمة واحدة، فكل رقعة منها أصبح لها علم ولها حكومة مختصة، ولها جيش مختص، ولها ذمة مختصة تعقد الهدنة والمعاهدة مع من شاءت بغض النظر عن غيرها من البلدان، وهذا التقطيع منافٍ لأصل ديننا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ذمة المسلمين واحدة، ويسعى بذمتهم أدناهم)، والله تعالى يقول: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [الأنبياء:92].

وهو مقتضٍ لتشرذم خيرات هذه الأرض، فإن الله سبحانه وتعالى جعل المسلمين شركاء في كثير من الخيرات، والموارد التي جعل لهم في هذه الأرض، فإذا حالت بينهم الحدود لم يكن لكثير من هذه البلدان الإسلامية حظ في تلك الثروات التي لم تكن داخل حدودها، فالبلاد النفطية والبلاد التي تمتلك الثروات الحيوانية أو الثروات الزراعية، أو غيرها كل ما فيها من الثروات العامة هو ملك للأمة كلها، قاصيها ودانيها فيه سواء، لكن إذا اعتبرت هذه الحدود وقطعت هذه الأمة إلى هذه الأراضي فسيقع الحيف والجور، وسيختص بتلك الثروات بعض الناس دون بعض وهي غاية في مخالفة العدالة الاجتماعية.

فقدان القيادة التي ترعى مصالح الأمة واختلاف الناس في أهمية وجودها

كذلك من هذه التحديات أن هذه الأمة ليس لها اليوم رأس يطالب بحقوقها ويرعى دينها، وينافح عن بيضتها، فرأس الأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد توفاه الله، ثم خلفاؤه الراشدون من بعده وقد ذهبوا، ولم يبقَ للأمة اليوم زعيم واحد يقول: أنا زعيم المسلمين، أنا المسئول عن هذا الدين، أنا المسئول عن القاصي والداني من المسلمين، فأي مسلم يضام أو يضطهد أو يذل أو يهان في أي مكان من العالم فأنا فئته وأنا المدافع عنه، فهذا الرمز أو الرأس تحتاج هذه الأمة إلى تجديده وهو تحدٍ كبير بالنسبة للأمة.

والناس فيه سلكوا مناحي متعددة، فمنهم من ارتمى في أحضان أعداء الأمة فرأى أن الأمة لا تحتاج إلى هذا الرأس أصلاً، ولا تحتاج أن تكون أمة واحدة، بل نحاول أن نجعل من موريتانيا أمة ومن السنغال أمة حتى من الصحراء الغربية أمة، وفي كل رقعة من الأرض أمة يكون لها أي رمز يجمعها، وهؤلاء يعرفون أنهم يسبحون في خلاف التيار، وأنهم يخالفون توجهات الأمة ومقاصدها، وأن الأمة لا ترضى بهذا الذي يقولونه، فالمسلم من أي جنسية كان يعرف أنه من المسلمين، ويقول في صلاته عندما يقرأ: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33]، يعلم هؤلاء أن هذه الشعوب لا يمكن أن تنسجم معهم، وهي تسعى للتوحد، وإذا التقى فيها فردان من المسلمين في أية مدينة من مدن اليابان أو الصين سيجدان أنفسهما في خندق واحد.

تصوروا لو أن طالباً من موريتانيا وطالباً من ملاوي، أو من جنوب أفريقيا أو من أي مكان من العالم وهما مسلمان اجتمعا في مدينة من مدن اليابان ليس فيها مسلم سواهما، كيف ستكون العلاقة بينهما؟ هي علاقة الأخوين الشقيقين تماماً.

إن هذا لا يمكن أن تقضي عليه الحكومات، ولا يمكن أن تقطعه النظم الدولية، بل هو رابطة فطر الله المسلمين عليها، مهما حصل من الشحناء والبغضاء سيبقى المسلم أخاً للمسلمين، وسيفرح بفرحهم وعزتهم، وسيساء بمهانتهم ومذلتهم، مهما كان الأمر.

القسم الثاني: الذي يرون أن الأمة فعلاً بحاجة إلى هذا الرمز، ولكن لا بد أن نجدد فيه فلا نحتاج إلى الشكل القديم، شكل الخلافة الراشدة، ولكن نحتاج إلى روابط مثل الوحدة الأفريقية، والوحدة العربية وغيرها من المنظمات الإقليمية، والواقع أن كل التجارب التي قامت أثبتت فشلها، فالوحدة على أساس عرقي، أو على أساس جغرافي، أو على أساس اقتصادي لا تأتي بأية فائدة، ولا يمكن أن تنعم بها الشعوب، يمكن أن يحقق بها الحكام بعض المصالح الآنية في فترة من الفترات، ثم إذا اختلفت الوقائع السياسية وتبدلت الأطراف فستذهب ولن يكون لها أي معنىً، ولذلك انظروا إلى القضايا الموجودة في أفريقيا والتي تهم الأفارقة حصلت حرب للبحيرات الكبرى، وقتل فيها الملايين من البشر حصدوا، هل سمعتم موقفاً من الوحدة الإفريقية كان مشرفاً؟ سمعتم بالواقع في فلسطين الآن، وقبل ذلك بغزو العراق وحصارها، ثم ما حصل بكثير من البلدان، كغزو السودان وضرب مصنع الأدوية فيها، هل سمعتم لـلجامعة العربية أي عمل في مقابل هذا؟

أسمعتم بغزو أمريكا لـأفغانستان ولـلصومال الآن، وقبل هذا ولعدد من البلدان الإسلامية، هل سمعتم لمنظمة المؤتمر الإسلامي أو لغيرها من المنظمات العالمية، أي موقف في وجه أمريكا ينم عن وحدةٍ ورأي أمة؟!

إذاً أثبتت هذه التجارب فشلها جميعاً، وأنه لا يمكن أن يسد أي شيء مسد الخلافة الراشدة التي تجمع المسلمين.

القسم الثالث: الذين يعلمون أن الخلافة لا بديل عنها، ولكنهم يريدون إقامتها شكلاً لا مضموناً، فيرون أنهم بمجرد أن يبايعوا رجلاً ليس له أية سلطة ولا يطيعه أحد، ولا يملك جيشاً، ولا يستجيب لأمره أي أحد قد حلت المشكلة، وهذا هو نظير البيعة الخرافية، ونظير انتظار خروج المهدي أو نزول المسيح ابن مريم بتعطيل حدود الله حتى ينتظر الأشراط التي تأتي في آخر الزمان، ونحن مكلفون بالشرع لا بالقدر، ومجيء الأشراط من القدر.

القسم الرابع: الذين يعرفون أن الخلافة أمر لا بد منه لهذه الأمة، وأن آخر الأمة لن يصلح إلا بما صلح به أولها، فهم يسعون لإقامة الخلافة بعد أن تقوم الدول الإسلامية، ومن هنا يعلمون أن الأمر لا يمكن أن يقع بغتة ولا بمبادرات فردية، ولا يمكن أن يأتي إلا بعمل مستمر يمكن أن يمضي عليه أكثر من مائة سنة، ولا يمكن أن يتم إلا بخطة محكمة تبدأ أولاً من الفرد الواحد، فإذا كان الفرد الواحد صالحاً لأن يكون لبنة من لبنات الأمة استقام على منهج الله، والتزم بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وطبق ما وجه الله إليه من الخطاب في شخصه هو، الحمد لله أصبح لبنة صالحة تضم إليه لبنة ثانية لنكون أسرة مسلمة.

وهذه المرحلة الثانية فإذا تكونت الأسر المسلمة التي تطبق أحكام الله المتعلقة بالأسرة، وقامت على تربية الأولاد على منهج الله، وتعاونت فيما بينها على البر والتقوى احتيج إلى إقامة مجتمع مسلم من هذه الأسر التي تكونت، يحقق أدب الجوار، ويؤدي حقوق الجيران، ويؤدي التعاون على البر والتقوى، ويتعاونوا على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم بعد إقامة المجتمع المسلم يحتاج المجتمع إلى جماعة ترعى مصالحه، وتدير كل ما يحتاج إليه من قضاياه، وتؤثر أمور المجتمع على أمورها الخاصة، وتلك الجماعة لا يمكن أن تكون منبثقة من منهج الله ورسوله، آخذةً بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا لم تكن لها قيمة، وكانت كحزب من الأحزاب، أو إيديولوجية من الإيديولوجيات التي تذوب مع الزمن وتتعارض مع مصالح الناس، ويقع فيها الانقسامات واللوبيات الضاغطة، فلا يكون لها أية نتيجة، إذا تحقق ذلك لا شك أن كل جماعة إسلامية في بلد قام فيه مجتمع إسلامي ستسعى لتكوين دولة إسلامية في مكانها، فإذا قام عدة دول إسلامية استطاع جميعها أن تقيم الخلافة الراشدة، وحينئذٍ يزول هذا التحدي الموجه للأمة، لكن هذا التحدي ولو طال زمانه لا يبرئ الأفراد وبالأخص الشباب من مسئولياتهم فيه، فلا بد أن تشعر أنت أن لديك تحدياً موجهاً إليك بخصوصك، وهو ما يتعلق برمز الأمة الإسلامية الذي يجمع كيانها، ويحوط ببيضتها ويرعى أمور دينها، وأن هذا الرمز معدوم، وأنك أنت من أولوياتك السعي لإقامته، فلا بد أن تجد من وقتك وجهدك وقتاً مخصصاً لهذه المهمة.

الخلافات والنزاعات بين الدول

التحدي الآخر المتعلق بهذه الأمة هو: تحدي الخلافات والنزاعات التي تقتضي حصول النفرة والبغضاء، والتخلي عن كثير من قيم الإسلام، وهذا التحدي بارز ظاهر في كل مكان، فأعداء الله لا يمكن أن يتغلبوا على الأمة ما دامت يداً واحدة على من سواها، ما دامت (كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ). لا يمكن أن يتغلبوا عليها.

ولذلك أيس الشيطان أن يعبد في جزيرة العرب، ولكن بالتحريش بينهم، فمهمة الشيطان وجنوده التحريش بين الناس، فإذا حصلت البغضاء والنزاعات بمختلف أنواعها دخل الشيطان هنا، وحينئذٍ سهل عليه أن يحدث حرباً أهلية بين الناس ليس لها مفهوم، فأنتم هنا سكان هذا البلد أرضكم واسعة جداً، وقد درست في الجغرافية أنه لو وزعت أرض موريتانيا على الأفراد لكان لكل فرد كيلو على الأقل، مسافة كيلو في كيلو، وأنت فرد قبرك شبر، والسكان عددهم لا يصل إلى ثلاثة ملايين بحال من الأحوال، والخيرات كثيرة جداً، فلماذا تقع النزاعات والاختلافات؟

إن الإنسان ليعجب إذا وجد أن هذا الشعب اليسير المنسجم الذي ليست فيه ديانات متنازعة دينه واحد، ومصادر رزقه موحدة، وثقافته مشتركة وأصله واحد: ( الناس لآدم وآدم من تراب )، وقد انسجم قروناً كثيرة بالإسلام يعجب الإنسان كيف استطاع أصحاب الفساد أن يحدثوا فيه من الخلافات والنزاعات ما يكون به هذا الشعب مهدداً بالحروب الأهلية في كل الأوقات؟

وقد شاهدتم بعض التجارب التي حصلت، وإذا نظرنا إلى تاريخ هذا الشعب وجدنا أن الأحداث التي حصلت في عام ست وستين، والأحداث التي حصلت بعدها في عام تسعة وثمانين، وغيرها من الأحداث، كلها لا يمكن أن تقبل بمقتضى عقل، ولا بمقتضى شرع، ولا يمكن أن تترتب عليها أية مصلحة لأحد، هل تظنون أن فئةً من الفئات أو شخصاً من الأشخاص أو حزباً من الأحزاب، أو حكومةً من الحكومات هي الرابحة لها فائدة في تلك الأحداث؟ أبداً، لا يمكن أن يكون فيها فائدة لأي طرف من الأطراف، لكنها هي من نزغ الشيطان ومن عمل المفسدين، وهي تحدٍ من تحديات هذه الأمة.

إن هذا النزاع كثير ما يحصل على أساس الحدود الجغرافية، ولذلك أعداء الأمة لما قطعوها جعلوا بين كل دولتين منطقة يسمونها المنطقة المحايدة، قابلة للانفجار في أي وقت، كمنطقة النهر في الجنوب ومنطقة الصحراء في الشمال، ومنطقة أزواد في الشرق، فما من دولة من الدول إلا ولها مناطق حدودية ساخنة، تركها المستعمر عمداً لم يبت فيها، أو جعل فيها تخطيطين متعارضين؛ لتكون قابلة للانفجار في كل وقت من الأوقات.

والحروب التي قامت وآذت هذه الأمة ونخرت في جسمها كالحرب في الخليج بين إيران والعراق، والحرب في الخليج بين الكويت والعراق، والمنازعة التي هي إلى الآن في محكمة العدل الدولية في لاهاي بين البحرين وقطر، والخلافات في الحدود بين السعودية واليمن وبين عمان واليمن، والخلافات على الجزر بين اليمن وإيريتريا، والخلافات على الحدود بين إيريتريا وأثيوبيا، والخلافات بين أثيوبيا والصومال، والخلافات بين السودان وأوغندا وكينيا، والخلافات بين مصر والسودان في حلائب وغيرها، والخلافات بين مصر وليبيا قديماً في ما وراء مرسي مطروح، والخلافات بين ليبيا وتشاد في الحدود، والخلافات بين الجزائر وتونس في المنطقة المحايدة، والخلافات التي أدت إلى حرب مدمرة بين المغرب والجزائر قديماً أيام الاستقلال في مدينة بشار وما حولها، هذه كلها خلافات من هذا القبيل، وضعت بالعمد بين هذه الشعوب لتكون قابلةً للانفجار في كل وقت من الأوقات.

وهي تحدٍ من التحديات البارزة أمام هذه الأمة، ولا يمكن أن يتغلب على هذا التحدي إلا إذا فهمنا أولاً: أنه لا يمكن أن تفضل الحدود الموريتانية على الحدود السنغالية، لا فرق بين هذه وهذه، فلا الأرض السنغالية من ذهب ولا الأرض الموريتانية من فضة أو حديد، فالجميع أرض واحدة، وسكانها كلهم من ذرية آدم، وجمهورهم جميعاً من المسلمين.

فلذلك لا بد ألا تدخل الحدود الجغرافية في الكيان ولا في المخ، وأيضاً ما نراه من الأعلام التي تركز في كيان كل سكان وطن بحيث لا يفهمون مفهومها، ولا إلى ماذا ترمز هي أيضاً من هذا القبيل، فلماذا يرمز لون الخضرة والصفرة في العلم الموريتاني؟ أنتم طلاب الجامعة وأنتم أهل الثقافة في البلد، لا تستطيعون شرح هذه اللوحة المعروضة أمامكم بالخضرة والصفرة ....

هذا ليس له معنى هذا ولا له أية علاقة به؛ لأنه لو كان كذلك لكانت الخضرة سائدة عامة للجميع، وكانت الصفرة هلالاً ونجماً فقط، القضية ليست كذلك، وهكذا الحال في العلم السنغالي، والعلم المالي، والعلم الجزائري، والعلم المغربي، كلها لا يمكن أن يفهمها أهلها لأنها لم تنطلق منهم، فلم يخرج لنا مهندس معماري موريتاني أو مدني يحدد لنا العلم، أو حتى فنان يحدد لنا العلم لماذا يرمز؟ وإنما جاءت من قبل أعدائنا، فالنصارى هم الذين وضعوا هذا العلم، وهم الذين جعلوه رمزاً لأمر مخصوص لديهم، وجعلوه لوحة مبهمةً لا نفهمها نحن، إلا من خلال فهمنا لهم، فما كان الأخ يشرح به الآن ألوان العلم هو الذي يشرح به الفرنسيون ألوان علمهم.

وكذلك بالنسبة للاتحاد الذي يشرح به البريطانيون ألوان علمهم، والأمريكان ألوان علمهم والنجوم التي في علمهم، هذه أمور هم الذين وضعوها ونحن لا علاقة لنا بها، ومع ذلك أصبحت داخلةً في كيان كل فرد منا، فالفرد الموريتاني لو خوطب بأنه من أنيجولا أو من مدغشقر أو من جزر القمر لأنف من ذلك، لماذا تأنف من ذلك يا أخي ما الفرق؟ كلها أرض الله الواسعة الشاسعة، ( وكلكم بنو آدم وآدم من تراب )، فلا فضل لأي مكان على آخر إلا بأهله، كما قال أبو حيان رحمه الله:

فما فضل الأرجاء إلى رجالها وإلا فلا فضل لترب على ترب

الاستعمار المباشر بمختلف وسائله

كذلك من هذه التحديات: الاستعمار المباشر بمختلف أنواعه لهذه الأمة، فهذا الاستعمار تحدٍ للأمة كلها، وتحدٍ للشباب بالخصوص، فالشاب عندما ينشأ على قيم النخوة والعزة، ويستشعر في نفس الوقت أنه مملوك، وأن الذي يدرسه قد رسم له من قبل أعدائه وأن الراتب الذي يأخذه هو من ضرائب أعدائه أو من قروضهم، وأن المباني التي يستغلها هي من بناء أعدائه ومن عملهم، ستعود العزة فيه أدراجها، وسيشعر بالمهانة والمذلة.

إن هذا الاستعمار ليس مقتصراً فقط على ما نراه في فلسطين وفي الشيشان وفي أفغانستان الآن، وفي غيرها من البلدان الإسلامية، التي يطؤها الأعداء بسلاحهم، ويشردون ويهلكون سكانها، بل هو في مختلف البلدان في العالم الإسلامي كله، والدليل على ذلك أن هذا الاستعمار غير مختص بالاستعمار العسكري، بل هو باستغلال الخيرات، وكلنا يعرف خيرات بلاده، فأين الحديد الذي يستخرج من الجبال وأين الأسماك التي تستخرج من المحيط؟ وأين المعادن الأخرى التي نهبت من قبل؟ وأين النحاس؟ وأين الذهب؟ وأين التربة النادرة؟ وأين الفوسفات؟ وغيرها.

إن هذه جميعاً قد انتهبها أعداؤك في بلاد أوروبا وأمريكا، وليس هذا الوطن إلا مثالاً واحداً من الأمثلة الكثيرة في العالم الإسلامي كله، فالذي يدخل نيجيريا الآن سيرى هذا الشعب المسكين من أفقر الشعوب على وجه الأرض، وسيجد إذا ذهب إلى شركات النفط الكبرى أنه من أكبر البلدان المصدرة للنفط من ناحية الكميات التي يستخرجها، ويجد أرضه جميعاً أرضاً زراعية خصبة، ويجد الأنهار منتشرة فيها والمياه، فيعجب لماذا؟! لكن الجواب كلمة واحدة: الاستعمار، كل النفط الذي تستخرجه الآبار يومياً في بلادنا الإسلامية يذهب إلى الأعداء وهم الذين يحددون السعر، وهذا السعر بعد أن يحددوه يضعون عليه ضريبة الكربون، ثم أمريكا الآن تضع ضريبة أخرى تسميها ضريبة المواد الصلبة.

ومع ذلك تسعى للعولمة التي تقتضي إلغاء الجمارك، وإلغاء الضرائب الجمركية فيما يتعلق بالبضائع المصنعة، والمنتجة في البلاد السبع المصنعة الكبرى، لماذا؟ ما لبائك تجر وبائي لا تجر؟ ما أنتجته الدول السبع المصنعة الكبرى لا توضع عليه الضرائب، وما خرج من بلاد المسلمين يؤخذ كله بالضرائب ولا يبقى له أية قيمة، إن السبب هو الاستعمار.

كذلك يفرضون تغيير المناهج وأن تدرس المواد الفلانية باللغة الفلانية، وهذا أمر لا تستطيع أية حكومة من حكوماتنا الإسلامية المناقشة فيه، بل لا بد أن تطبقه طوعاً أو كرهاً، وأن يكون تسيير المشاريع التنموية خاضعاً لصندوق النقد الدولي، وأن يكون ممثل البنك الدولي هو الذي يمسك بزمام الأمور في كل مشروع تنموي، فيأخذ ميزانيته نصفه راتبه الشخصي، والنصف الثاني يسير به المشروع على وفق ما يريده هو لماذا؟ للاستعمار هذا الجواب.

كذلك وسائل الإعلام لا تبث إلا أمراً مكرراً عما تبثه رويتر، ووسائل الإعلام الغربية، فإذا نظرت إلى وسائل إعلامنا العربية أو الإسلامية تجد ما فيها من الأخبار متلقى كما يتلقى المكرفون الصوت مباشرة عن وسائل الإعلام الغربية، وهو ترديد لما يعلنه الغربيون تماماً بالصياغة والحرف، قد يكون أقل درجة منه وأقل صدقية، فأنتم الآن إذا أردتم سماع الأخبار الصحيحة فستذهبون في الغالب لوسائل الإعلام الغربية إذاعة لندن بي بي سي، أو سي إن إن، أو أي قناة أخرى، حتى الجزيرة كانت في البداية نعم لديها مصداقية لدى الناس، لكن الآن تراجعت مصداقيتها، وأيضاً من يملك الجزيرة ومن يملك غيرها من القنوات الفضائية، إن كل ذلك جوابه: الاستعمار.

كذلك عندما يفكر أحدنا فيما يراه متردياً من الأوضاع في بلاده، ويرى انشغالاً بأمور أخرى هي أدنى وأقل شأناً، فمثلاً يقام ملعب رياضي تكاليفه كبيرة جداً في مكان معين، وهذا الملعب يبقى مغلقاً لا يفتح إلا عندما يأتي نادي خارجي، فيقال: لماذا بنيت هذه المنشآت الرياضية؟ هل بنيت للأجانب أم بنيت لأبناء الوطن؟

الجواب: الاستعمار، نفس الشيء في كل المنشآت، وكذلك كل الأعمال التي يقام بها بقصد الرفاهية والراحة، إنما تكون مخصصة للأجانب، ويقال: لماذا لا ينعم أهل البلد بخيره؟ الجواب عن ذلك: الاستعمار.

إذاً هذا التحدي السافر من هذه التحديات.

الاستعمار العسكري المباشر

ومنه أيضاً الاستعمار العسكري المباشر، وأعظم مثال له ما نراه في فلسطين، حيث زرعت هذه الطغمة الصهيونية في قلب الأمة الإسلامية، فدنست مقدساتها وانتهبت خيراتها، وأهلكت الشعب المسلم بالقتل، والتشريد، وهدم المنازل، واغتصاب الأراضي، وغير ذلك، واستمر الوضع على هذا حتى أصبح من المسلمات، وأصبح الذي يبحث فيه هو التطبيع مع الصهاينة، والتطبيع معناه: أن نجعلهم أصدقاء بعد أن كانوا أعداءً، ما السبب؟ أنهم انتصروا علينا، وأننا انهزمنا أمامهم، فهم لم يتنازلوا عن أي شيء، ولا يمكن أن يتنازلوا عنه، ولا نرجو منهم أي خير، ولا أية منفعة، لكن فقط لأننا انهزمنا أمامهم، هذا هو الاستعمار.

وكذلك الحال في البلدان الأخرى التي ما زالت تئن تحت وطأة أعداء الإسلام، كالحال في الجمهوريات الإسلامية التي تحتلها روسيا، ومن الشيشان وداغوستان وأنغوشا، وغيرها من البلدان التي ما زالت تئن تحت وطأة روسيا، ومثل ذلك البلدان التي تئن الآن تحت الجيوش الأمريكية، التي بدأت تغزو البلدان، وأعلن رئيسها أن الحرب القائمة التي سماها حرباً على الإرهاب هي حرب صليبية، وأنها حرب مقدسة، وأن كل ما يفقد فيها من الأرواح والممتلكات هو لصالح أمريكا، وشرط السبعة عشرة شرطاً على رؤساء الدول، لكي يثبتوا ولاءهم لـأمريكا، لا بد أن يوافقوا على هذه السبعة عشر شرطاً.

فمن هذه الشروط: أن كل المعلومات لا بد أن تسلم إلى أمريكا، ولا تحجب عنها أية معلومات تحتاج إليها في أي مكان من العالم، فأية سفارة لأية بلد، لا يمكن أن تستأذن وزارة الخارجية في إعطاء المعلومات للسفارة الأمريكية عن أي معلومة أرادتها، بل مباشرة تعطيها دون الرجوع إلى مرجعها.

كذلك إن أي شيء منسوب للجيش والعسكر، هو تحت سلطة أمريكا ما دامت محتاجة إليه، سواء كان مطاراً، أو قاعدة، أو دبابة، أو طائرة، أو فرداً، أو سلاحاً، كل ذلك تحت يد أمريكا متى ما أرادته أخذته دون أن ترجع إلى المرجع فيه.

كذلك منها قضية توقيف الأرصدة والأموال التي تشتبه أمريكا فيها أو لا ترغب في نمائها، وتريد تعطيلها وتجييرها لصالحها. وكذلك الحال بالنسبة لتوقيف الأشخاص ولو كانوا ذوي حصانة دبلوماسية، أو حتى أعضاءً في حكومات إذا أرادت أمريكا توقيفهم، وكذلك الحال بالنسبة لمنح صلاحية تحقيق للأجهزة الأمنية الأمريكية على كل البلدان، فهذه بعض الشروط التي شرطوها على العالم حتى يثبت أنه معهم وليس مع الإرهاب، وهي كما تعلمون شروط مجحفة، وهي غاية في الاستعمار.

هذا عن الاستعمار العسكري.

الاستعمار الثقافي

إذا ذهبنا إلى الاستعمار الثقافي نجده أشد وأنكى من الاستعمار العسكري، ومن الاستعمار الاقتصادي الذي سبق، فـأمريكا تريد للعالم كله أن يأخذ بالقيم الأمريكية، وأن يكون جميعاً مثقفاً بثقافة الماكتولنج، وماكتولنج: المطاعم الخفيفة للوجبات السريعة، هذه هي التي تسمى به الثقافة الأمريكية، ويريدون من العالم كله أن يتخلق بالقيم الأمريكية وأن يأخذ بملابسهم، وطريقة أكلهم، وحتى طريقة رقصهم، فكل ما عندهم يريدون فرضه على الناس بالقوة، ولا تستغربوا أن يفرض في بلدان كثيرة على الفتيات المقتنعات الدارسات في الجامعات أن ينزعن الحجاب عن رؤوسهن؛ لأن ذلك تابع لهذا الاستعمار الثقافي.

ونظير هذا كثير جداً وهو من هذه التحديات السافرة التي بين أيدينا.

تحدي الشباب للعجز وعدم إيجاد نقطة الانطلاق

إن هذه التحديات التي سقناها يأتي تحدٍ آخر أكبر منها، وهو تحدي العجز، أمام كثير من الشباب يقول: أنا أشعر بالهزيمة، فإذا ذهبت إلى أي تحدٍ من التحديات قلت: هذا الذي يجهز علي ولن يترك لي مجالاً للحياة، وهذا التحدي لا يقع فريسة له إلا الضعفاء، ضعفاء الإيمان والتدبير، أما أهل الإيمان والقوة، فإنهم يقولون: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً [الأحزاب:22].

وهم جادون مجتهدون لنصرة الله تعالى بما يستطيعون، ويعلمون أن الله لا يكلفهم إلا ما يطيقون، ومن هنا لا يمكن أن يهنوا، ولا أن يتمسكنوا، ولا أن يذلوا: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:139-141].

كذلك تحدي الآخر الذي يظهر بارزاً في زماننا هذا هو تحدي نقطة البداية، يشعر كثير من الناس بأن عليه أن يعمل شيئاً، ولكنه يقول: من أين أبدأ؟ فكثير من الشباب لم تعتدل عرباتهم بعد على سكة الحديد، وهم يحتاجون إلى الوقت الذي تعتدل فيه العربات على سكة الحديد لتنطلق في مسارها، ولذلك هم في تردد فموقفهم اليوم هو موقفهم في الأمس، وهو موقفهم غداً، وهم في نفس المكان يراوحون مكانهم.

إن هذا الأمر غير إيجابي، وعلى أولئك أن ينطلقوا في مسيرتهم وأن لا ينتظروا بعمل اليوم غداً، فلغدٍ عمل آخر، وسيزداد التحدي، وستفد لنا تحديات أخرى ليست من هذا النوع الذي نخطط له الآن.

ومن هنا فعلينا أن نبادر البدار البدار، وأن لا نرجئ أي عمل لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه نستطيع القيام به اليوم إلى غد، بل لا بد أن نبادر بذلك كله قبل فوات الأوان، وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[المنافقون:9-11].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وتاب علي وعليكم إنه هو التواب الرحيم، وجعلني وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

فأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الشباب والتحديات للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

https://audio.islamweb.net