اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , عشر ذي الحجة للشيخ : عبد الحي يوسف
الحمد لله نحمده ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، بلغ الرسالة, وأدى الأمانة, ونصح الأمة، وجاهد في سبيل ربه حتى أتاه اليقين، ولم يترك شيئاً مما أُمر به إلا بلغه, فتح الله به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وهدى الناس من الضلالة, ونجاهم من الجهالة, وبصرهم من العمى, وأخرجهم من الظلمات إلى النور, وهداهم بإذن ربه إلى صراط مستقيم.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد, وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واهتدى بهداه.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى, وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار, وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، و إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الأنعام:134] .
أما بعد: أيها المسلمون عباد الله! فإن الله عز وجل برحمته قد جعل للعباد مواسم للخيرات, يتزودون فيها من الطاعات, ويتسابقون إلى القربات, ويأجرهم على القليل كثيراً, يعملون أعمالاً يسيرة ضئيلة، لكنه برحمته جل جلاله وفضله يأجرهم عليها الثواب الكثير والأجر العظيم.
ومن أكبر هذه المواسم عشر ذي الحجة, هذه الأيام المباركات التي اجتمعت فيها أمهات العبادات؛ من صلاة وصيام وصدقة وحج وعمرة وذكر ودعاء, وتهليل وتكبير وتحميد.
هذه الأيام المباركات حري بالمسلم أن يغتنمهن, وأن يسارع إلى طاعة الله فيهن, وأن ينوع بين القربات لينال رضا رب الأرض والسموات؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله تعالى من أيام العشر -يعني عشر ذي الحجة- قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء ). أي: لم يرجع لا بنفسه ولا بماله.
وهذه الأيام المباركة أيها المسلمون عباد الله! فيها يوم التروية, وهو اليوم الذي تبدأ فيه أعمال الحج. وفيها كذلك يوم عرفة، وهو خير يوم طلعت عليه الشمس, الدعاء فيه مستجاب, والذنب فيه مغفور، ورحمة الله على عباده ظاهرة.
وبعده يوم النحر الذي هو يوم الحج الأكبر, ترمى فيه الجمار, وتحلق فيه الرءوس, ويتقرب فيه إلى الله عز وجل بالهدايا والأضاحي, وفيه الطواف بالبيت العتيق.
ثم تليها تلك الأيام المعدودات, أيام أكل وشرب وذكر وبعال, وهي التي قال الله فيهن: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203] , فيها يوم القر، وفيها يوم النفر الأول، وفيها يوم النفر الثاني، وهذه كلها ساعات للطاعات, ساعات للذكر والشكر, ساعات للعبادة, ساعات للتقرب إلى الله عز وجل.
أيها المسلمون عباد الله! أكثروا في هذه العشر من ذكر الله عز وجل، فما تقرب العبد إلى ربه بعبادة أيسر ولا أفضل من الذكر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ألا أدلكم على خير أعمالكم, وأزكاها عند مليككم, وأرفعها في درجاتكم, وخير لكم من إنفاق الذهب والورق, وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ذكر الله ).
ذكر الله عز وجل تحميداً وتسبيحاً وتهليلاً وتكبيراً, وقراءة للقرآن, ودعاء له جل جلاله, فهذه العبادة الطيبة المباركة التي يؤجر فاعلها أجراً عظيماً, أكثروا منها في أيام العشر.
وقد كان السلف رضوان الله عليهم، إذا دخل هلال ذي الحجة، كبروا الله عز وجل، وهللوا في بيوتهم وأسواقهم وشوارعهم ومساجدهم على كل أحوالهم، يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، يذكرون الله في الخلوة والجلوة, سواء كانوا وحدهم، أو كانوا مع الناس.
ومن العبادات كذلك أيها المسلمون عباد الله! في هذه العشر أن نكثر من نوافل الصلاة, نكثر من السجود لله عز وجل: ( فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة, وحط عنك بها خطيئة ).
ومن العبادات كذلك أن نكثر من الصيام, ( فمن صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه من النار سبعين خريفاً ), فمن استطاع أن يصوم هذه الأيام التسعة يختمهن بيوم عرفة فبها ونعمت! ومن عجز فليصم أكثرها, ومن عجز فليصم يوم عرفة, فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في صيام يوم عرفة: ( يكفر ذنوب سنة ماضية، وسنة آتية )، يكفر ذنوب سنة ماضية من الصغائر دون الكبائر, وسنة آتية كذلك من الصغائر دون الكبائر.
أيها المسلمون! تقربوا إلى الله عز وجل في هذه الأيام بالصدقة على أرحامكم، وعلى جيرانكم، وعلى المحتاجين من إخوانكم من المسلمين, أغيثوا ملهوفهم, وأعينوا محتاجهم, وأطعموا جائعهم.
وكذلك أيها المسلمون عباد الله! تقربوا إلى الله بصلة أرحامكم, تقربوا إلى الله عز وجل بكل ما يحضركم من عمل صالح, فإنها أيام مباركة.
قال جمهور المفسرين: هي التي أقسم الله بها حين قال: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1-2] يعني: عشر ذي الحجة.
أيها المسلمون عباد الله! في ختام هذه العشر يتقرب حجاج البيت الحرام إلى الله عز وجل برمي الجمار، وحلق الرءوس، ونحر الهدايا، والطواف بالبيت العتيق، استجابة لأمر الله عز وجل حين قال: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29].
وغير الحجاج يتقربون إلى الله عز وجل بنحر الأضاحي, يسيلون الدماء, يتصدقون على الفقراء, يوسعون على الأهل والعيال؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله تعالى من هراقة دم, وإنه ليقع من الله بموقع قبل أن يقع على الأرض, وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها فطيبوا بها نفساً، ما أنفقت الورق في شيء أفضل من نحيرة يوم عيد ).
ومن حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه: ( أن الصحابة قالوا: يا رسول الله! ما هذه الأضاحي؟ قال: سنة أبيكم إبراهيم، قالوا: فما لنا فيها؟ قال: لكم بكل شعرة حسنة ).
أيها المسلمون عباد الله! تخيروا الأضاحي من طيب مالكم، من حلاله, تخيروا الأضاحي من أفضل ما تجدون، قال تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ[آل عمران:92], وقال: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37].
أيها المسلمون! استحضروا نية صالحة، قوموا بهذه الأضحية إحياء لسنة محمد صلى الله عليه وسلم، واتباعاً لسنة الخليل إبراهيم عليه السلام، تقربوا إلى الله عز وجل بهذه الأضحية, وأنتم ترجون ما عنده من أجر وثواب، فرب قليل تكثره النية.
وإياك إياك أيها المسلم! أن يضيق صدرك بما أنفقت في الأضحية، إياك إياك أن تظن أنك قد خسرت، أو أنك قد ضيعت، لا والله, بل قدمت وأبقيت؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذبح شاة ووكل عائشة رضي الله عنها في قسمتها ثم خرج فرجع، قال: ( يا عائشة ! ما فعلت الشاة؟ قالت: ذهبت كلها إلا الذراع، فقال عليه الصلاة والسلام: بل بقيت كلها إلا الذراع ).
فهذا المال الذي تنفقه في سبيل الله قربة إلى الله؛ إحياء لسنن المرسلين, وإطعاماً للفقراء والمساكين، هذا الذي يبقى لك عند الله عز وجل.
يا أيها المسلمون! يا عباد الله! ما أعظمها من أيام, وما أجلها من ساعات، السعيد ثم السعيد من اغتنمها في طاعة الله عز وجل، من أخلص لله فيها ظاهراً وباطناً, فأكثروا من ذكر الله, أكثروا من الصلوات, أكثروا من الصدقات, أكثروا من الصيام, تقربوا إلى الله عز وجل بالدعاء, صلوا أرحامكم, أحسنوا إلى جيرانكم. وأملوا في الله عز وجل خيراً كثيراً.
أسأل الله سبحانه أن يهل علينا هذا الشهر المبارك بالأمن والإيمان, والسلامة والإسلام, والتوفيق لما يحب ويرضى, إنه أرحم الراحمين, وأكرم الأكرمين، وتوبوا إلى الله واستغفروه.
الحمد لله رب العالمين, والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله النبي الأمين، بعثه الله بالهدى واليقين, لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ [يس:70] .
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى إخوانه الأنبياء والمرسلين, وآل كل, وصحب كل أجمعين، وأحسن الله ختامي وختامكم وختام المسلمين، وحشر الجميع تحت لواء سيد المرسلين.
أما بعد: أيها المسلمون! فاتقوا الله حق تقاته، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31] .
واعلموا إخوتي في الله! أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: ( أحب الخلق إلى الله أنفعهم للناس, وأحب العمل إلى الله سرور تدخله على مسلم, تطرد عنه جوعاً, أو تكشف عنه كربة, أو تقضي عنه ديناً, ولأن أمشي في حاجة أخي المسلم أحب إلي من أن أعتكف عشر سنين ).
أيها المسلمون عباد الله! غير خاف على واحد منا ما نزل بإخواننا المسلمين في فلسطين، من تهجير وتقتيل وتشريد، وهدم للبيوت، وانتهاك للحرمات، وإتلاف للزروع وقطع للأرزاق, وخاتمة ذلك حصار محكم يضرب على إخواننا في غزة؛ لأنهم أبوا أن يفرطوا في المقدسات، أبوا أن يعطوا الدنية في الدين, استعصوا على أعداء الله من اليهود والصليبيين.
إخواننا المجاهدون في بيت المقدس وفي أكناف بيت المقدس فيهم الجائع الذي لا يجد طعاماً يسد جوعته، والعاري الذي لا يجد لباساً يستر عورته, والذي هدم بيته لا يجد بيتاً يكنه من الحر والقر, فيهم المريض، فيهم الأسير، فيهم الأرملة التي استشهد زوجها, وفيهم الثكلى التي أزهقت روح ولدها. هؤلاء جميعاً يعانون من البلاء ما الله به عليم.
والواجب علينا إخوتي في الله أن نسعى في تفريج همومهم، وتنفيس كروبهم, وقد فتح الباب للتبرع بالأضاحي لإخواننا المسلمين هناك, ولا مانع أيها المسلمون أن يذبح أحدنا أضحية لأهله وعياله هاهنا في بلده ومحلة قومه، وأن يتبرع بأخرى أو أن يتبرع بعشر أو عشرين أو أكثر، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً, إطعاماً للجائعين من إخواننا هناك، وتفريجاً لهمومهم, وإشراكاً لهم في فرحة العيد.
فما شرعت الأضحية إلا تعبداً لله عز وجل وتنسكاً له, وتفريجاً لهموم المسلمين, قال الله عز وجل: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28] ولو كان عندك شخص قد مات من والد أو أخ أو ولد فلا مانع أن تخرج ثمن الأضحية عنه, ويصل إليه الثواب إن شاء الله.
فالأضحية عن الميت مشروعة يا أيها المسلمون, ( المسلم أخو المسلم, لا يظلمه ولا يحقره ولا يسلمه ولا يخذله ).
اسعوا في تفريج هموم هؤلاء المسلمين المجاهدين الذين ينوبون عن الأمة كلها حين يقفون في وجه هذا العدو الغاشم, في وجه هذا العدو القبيح الذي عادى الله وأنبياءه ورسله وملائكته، قال سبحانه: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة:82] . فعداوة اليهود أعظم من عداوة المشركين عباد الأوثان.
يا أيها المسلمون يا عباد الله! هذه رسالة بلغوها للمقتدرين من المسلمين ممن تعرفون في كل مكان.
أسأل الله عز وجل لإخواننا في فلسطين نصراً عزيزاً, وفرجاً قريباً، اللهم أحسن خلاصهم, اللهم فك أسرهم, اللهم عجل فرجهم, اللهم أطعم جائعهم, اللهم اكس عاريهم, اللهم داو جريحهم, اللهم تقبل شهيدهم, اللهم كن لهم ناصراً ومعيناً.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان، في العراق وأفغانستان وفي الشيشان، وفي كل مكان يا رب العالمين ثبت أقدامهم، وقو شوكتهم، واجمع كلمتهم، وسدد رميتهم، وانصرهم على من عاداك وعاداهم.
اللهم آت نفوسنا تقواها, وزكها أنت خير من زكاها, أنت وليها ومولاها.
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين, واحفظنا بالإسلام قاعدين, واحفظنا بالإسلام راقدين, ولا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين, فرج هم المهمومين, ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم موتانا أجمعين. وفك أسرى المأسورين, وفرج عن عبادك المسجونين, برحمتك يا أرحم الراحمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201] .
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , عشر ذي الحجة للشيخ : عبد الحي يوسف
https://audio.islamweb.net