اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة النور - الآيات [4-5] الأول للشيخ : عبد الحي يوسف
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله وعلى آله وصبحه ومن اهتدى بهداه.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:
يقول الله عز وجل: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:4-5].
هاتان الآيتان الكريمتان تأتيان في سياق الحديث عن وجوب حفظ الأعراض، وقد كانت الآيات السابقة في الكلام عن حرمة الاعتداء على الأعراض بالفعل، فأوجب الله عز وجل على من اعتدى على عرض غيره بأن يجلد مائة جلدة، سواء كان ذكراً أو أنثى، وبشع سبحانه وتعالى جريمة الزنا، وبين أنه لا يقع فيها إلا من كان زانياً أو مشركاً.
وفي هاتين الآيتين يحرم الله جل جلاله الاعتداء على الأعراض بالقول، ويوجب في ذلك ثلاث عقوبات:
قال: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً[النور:4]، هذه العقوبة الأولى، وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً[النور:4]، وهذه العقوبة الثانية، وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:4]، حكم عليهم بالفسق، وهذه العقوبة الثالثة.
ثم فتح لهم باب التوبة، فقال: إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا[النور:5].
وسبب نزول هاتين الآيتين كما قال بعض المفسرين: أنها نزلت في شأن قذف أمنا عائشة رضي الله عنها، وهي الحادثة المعروفة بحادثة الإفك، والتي كانت في غزوة المريسيع، أو غزوة بني المصطلق في أواخر السنة الرابعة، أو أوائل السنة الخامسة.
فبعض المفسرين ذكروا بأن هاتين الآيتين نازلتان في شأن قذف أمنا عائشة رضي الله عنها، وبعضهم قال: بل هي على العموم.
أما معاني المفردات، فقول ربنا جل جلاله: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ[النور:4]، والرمي هو القذف، ويطلق على المعنى الحسي وعلى المعنوي، والمعنى الحسي الرمي، كالرمي بالحجارة، ومنه قول الله عز وجل: تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ [الفيل:4]، ويطلق أيضاً على الشيء المعنوي، وهو أن يرمي الإنسان غيره بما يسوؤه، وينتقص عرضه، ويبشع حاله عند الناس، ومنه قول القائل:
رماني بأمر كنت منه ووالديبريئاً ومن أجل الطوي رماني
والطوي هو البئر.
وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ[النور:4] بفتح الصاد، وقرأ الكسائي بكسر الصاد: والذين يرمون المحصنات، والإحصان في اللغة المنع، ومنه قول الله عز وجل: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ[الأنبياء:80]، وفي قراءة: ليحصنكم من بأسكم، أي: ليمنع عنكم بأسكم، أي: ضرباتكم.
والإحصان في القرآن أطلق على ثلاثة معان:
المعنى الأول: العفة، ومنه هذه الآية: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ[النور:4]، أي: العفائف، ومنه قول الله عز وجل: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ[النساء:25]، أي: عفائف غير زانيات.
المعنى الثاني: يطلق الإحصان على التزوج، فمن تزوج من ذكر أو أنثى فهو محصن، ومنه قول الله عز وجل: فَإِذَا أُحْصِنَّ[النساء:25]، أي: تزوجن، ومنه قول الله عز وجل: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ[النساء:23]، إلى أن قال: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ[النساء:24]، أي: المتزوجات.
المعنى الثالث: الإحصان بمعنى الحرية، ومنه قول الله عز وجل: فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ[النساء:25]، أي: الحرائر، فالأمة لو زنت فإنها تجلد خمسين جلدة، بينما الحرة إذا زنت فإنها تجلد مائة جلدة.
والمقصود بالمحصنات في هذه الآية: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ[النور:4] العفائف، وهاهنا سؤال: قال ربنا جل جلاله: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ، فما حكم الذين يرمون المحصنين؟
نقول: أجمع أهل العلم على أن حكم الرجال والنساء واحد، فمن رمى رجلاً مسلماً فحكمه كحكم من رمى امرأة مسلمة، لكن قال بعض المفسرين: خص الله النساء بالذكر؛ لأن القذف في حقهن أعظم وأضر، فلو أن إنساناً رمى إنساناً وقذفه بالفاحشة -والعياذ بالله- فإن الرجل رميه أهون من رمي المرأة؛ لأن من رمى امرأة فقد شان سمعتها، وشوه سيرتها، وأجرى ألسنة السوء بالقيل فيها، ويجر ذلك ضرراً عظيماً عليها وعلى أهلها؛ ولذلك خص الله النساء بالذكر في هذه الآية، مثل ما قال سبحانه: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ[الفلق:1-4]، والنفاثات: هن السواحر اللائي يعقدن عقداً ثم ينفثن فيه، ومعلوم أن السحر مثل ما هو من النساء قبيح، فكذلك هو من الرجال قبيح، لكن خص الله النساء بالذكر؛ لأن السحر فيهن أكثر، ويلجأن إليه أكثر.
وقال بعض المفسرين: قول ربنا: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ، المحصنات هنا صفة لموصوف محذوف، وتقدير الكلام: الفروج المحصنات، وهذا يشمل الرجال والنساء.
وقال بعضهم: بل التقدير: والذين يرمون الأنفس المحصنات، وهذا أيضاً يشمل الرجال والنساء.
وقوله سبحانه: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ[النور:4]، شهداء جمع شاهد وشهيد، وتقدم معنا الكلام في أن الشهادة إخبار بحق للغير على الغير، قال الله عز وجل: فَاجْلِدُوهُمْ[النور:4].
والجلد هو الضرب على الجلد، مثل ما يقال: بطنه إذا ضرب بطنه، ورأسه إذا ضرب رأسه، وجبهه إذا ضربه في جبهته، وهاهنا أيضاً جلده إذا ضرب جلده.
ثم قال: وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:4]، الفاسقون جمع فاسق، وهو اسم فاعل الفسق، والفسق في اللغة الخروج، ومنه يقال: فسقت الحبة إذا خرجت، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( خمس من الدواب كلهن فاسق، يقتلن في الحرم.. )، فذكر الحدأة والكلب العقور والغراب الأبقع والحية والفأرة، فهذه الخمس تقتل حتى في الحرم، وسميت فواسق لخروجها عن حكم غيرها، وإلا فالدواب لا يطلق عليها العدالة أو الفسق؛ لأن الدواب غير مكلفة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يقصد ههنا الفسق اللغوي، بمعنى أنها خرجت عن حكم غيرها؛ لأن الحرم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا ينفر صيده )، فهاهنا فلما قال في هذه الدواب بأنها فاسقة، فهو يقصد أنها خرجت عن حكم غيرها، فالفسق في اللغة هو الخروج.
وأما الفسق في الشرع فهو الخروج عن حكم الله بارتكاب كبيرة، أو الإصرار على صغيرة؛ ولذلك شارب الخمر فاسق، وآكل الربا فاسق، ومرتكب الزنا فاسق، وسارق أموال الناس فاسق.
ثم قال سبحانه: إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:5]، وسيأتي معنا الكلام في رجوع الاستثناء، هل يرجع إلى العقوبات الثلاث المذكورة أو أنه يرجع إلى بعضها دون بعض.
والمعنى الإجمالي لهاتين الآيتين الكريمتين:
هو أن الله عز وجل قد أوجب حكماً في حق من يرتكب كبيرة القذف، الذي هو الرمي بفاحشة توجب حداً، أو ما يلزم منه ذلك وهو نفي النسب، فمن رمى غيره بفاحشة فقال لآخر: يا زاني! فهذا قد رماه بالفاحشة، أو قال لمرأة: يا زانية! فهذه توجب حداً، أو نفى نسبه، كأن قال له: يا ابن الزانية! أو يا ابن الزاني! أو قال له مثلاً: لست ابن فلان، نفاه من نسبه، أو قال له: أبوك ليس فلاناً، وسيأتي معنا الكلام في أن القذف منه ما هو صريح ومنه ما هو بالكناية. مثل ما قيل في الطلاق: فمن الطلاق ما هو صريح لا يحتاج إلى نية، كما لو قال لها: أنت طالق، أو أنت مطلقة أو طلقتك أو طلقانة، ومنه ما هو كناية، كما لو قال لها: أنت خلية، أنت برية، أنت حرة، اذهبي إلى بيت أبيك، لا ترجعي إلي، استغنيت عنك، فهذه الألفاظ كلها يسأل قائلها عن نيته، يقال له: ماذا نويت؟ هل نويت طلاقاً أو نويت شيئاً غيره، ومثله لو قال لها: الحقي بأهلك، فهذه قد يراد بها الطلاق وقد يراد بها غيره.
فالقذف من كبائر الذنوب، كما في الصحيحين: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: وما هن يا رسول الله! قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات )، فعد القذف من السبع الموبقات.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم: ( قذف محصنة يهدم عمل مائة سنة )، فالإنسان العاقل هو الذي يكف لسانه عن أعراض المسلمين والمسلمات، فلا يقول: بأن فلاناً زاني، ولا يقول: بأن فلاناً ابن حرام، ولا يقول: بأن فلانة سيرتها سيئة، وأن فلانة سلوكها مشئوم، وأن فلانة صفتها كذا وكذا.. هذا كله مما يورد صاحبه ناراً تلظى، نسأل الله أن يسلمنا ويسلم الناس منا.
فالكلام في الأعراض من الخطورة بمكان، والكلام في الأعراض أخطر من الكلام في الذمة المالية، وأخطر من الكلام في الأمانة العلمية، وأخطر من الكلام في سائر الأمور؛ ولذلك ربنا جل جلاله أوجب فيه هذا الحد المغلظ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً[النور:4].
وفي هذه الآية مسائل، فمن المسائل التي ذكرت في الزاني والزانية: ذكر تعريف الزنا، وذكر الوسائل التي جعلتها الشريعة للوقاية من الزنا، وذكر الكلام عن تعريف الإحصان، وذكر الكلام عن حد الزاني البكر، وعن كيفية الجلد، ومن الذي يجلد، وذكر الكلام عن التغريب، وهل هو شامل للذكر والأنثى أم لا، وذكر الكلام عن الشهود وشروطهم، وذكر الكلام عن الإحصان ومعناه، وذكر الكلام عن الرجم، وبأي شيء يكون، وهل يحفر للمرجوم أو لا يحفر، ولو جمعت هذه المسائل ربما تبلغ خمسين مسألة.
ومثلها أيضاً المسائل المتعلقة بحد القذف:
المسألة الأولى: لو أن قائلاً قال: ما الدليل على أن هذه الآية مقصود بها الرمي بالفاحشة؟ يعني: ربنا سبحانه وتعالى قال: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً[النور:4]، ربما يقول قائل: بأن هذه الآية ليست في القذف، فلو قال رجل لآخر: أنت لص، أو قال له: أنت خائن مثلاً أو أنت غبي، أو غير ذلك مما يسوء الناس فقد رماه. أقول: دلت قرينتان في الآية على أن المراد بالرمي هاهنا الرمي بالفاحشة:
أما القرينة الأولى: فهي ذكر المحصنات، وقد تقدم معنا الكلام في أن الإحصان من أولى معانيه العفة، فلما ذكر ربنا جل جلاله العفائف؛ علم أن المقصود بالرمي في الآية ما يناقض العفة، وهي الفاحشة.
القرينة الثانية: قول ربنا جل جلاله: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ[النور:4]، ومعلوم أنه ليس في الحدود ما يحتاج إلى أربعة شهداء إلا الفاحشة، التي هي الزنا، وبعض العلماء ألحق بها ما كان مثلها والعياذ بالله، كاللواط والسحاق وما أشبه ذلك.
وتقدم معنا الكلام في أن أغلب الحقوق تثبت بشاهدين، وبعضها تثبت بشاهد ويمين المدعي، وعندنا شيء واحد يثبت بثلاثة شهود وهو التفليس، ( حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه، فيقولون: أصابت فلاناً فاقة )، فإذا ادعى أحد أنه مفلس، فهذه الدعوى لا تقبل إلا إذا شهد ثلاثة.
أما الجريمة التي تحتاج إلى أربعة فهي الفاحشة والعياذ بالله.
المسألة الثانية: بين ربنا جل جلاله في هذه الآية عقوبة القاذف في الدنيا، وبين في آية أخرى عقوبته في الآخرة، وهي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النور:23-25]، هذه الآية بين فيها ربنا جل جلاله أن القاذف الذي يستطيل بلسانه في أعراض المسلمين والمسلمات، قد حلت عليه لعنة الله، وطرد من رحمة الله؛ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ، وأن هذه الجوارح تشهد يوم القيامة بما كان يقول ويعمل: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ[النور:24-25]، دينهم الحق بمعنى جزاءهم، الدين هنا بمعنى الجزاء، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النور:25].
وأنبه ههنا في قول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ[النور:23]، إلى أن الغفلة هنا ليست من صفات الذم، كما يقال: فلان هذا مغفل أو فلان هذا غافل ونحو ذلك، فالله عز وجل أراد بها هنا المدح، غافلات: أي: غافلات عن الفاحشة؛ لطهارة قلوبهن، وبراءة ساحتهن، ولأن الفاحشة لا تخطر ببالهن؛ ولذلك أمنا عائشة رضي الله عنها، ونسأل الله أن يحشرنا معها، هذه المرأة الطيبة لما جاءت مع صفوان بن المعطل وهو غافل أيضاً رضي الله عنه، طاهر بريء، دخلوا المدينة ضحى، يعني: أقبل يقودها في وقت الضحى، والذي عمل فاحشة، أو يفكر في الفاحشة لا يأتي ضحى أمام الناس.
ولذلك الله عز وجل أثنى على عائشة بأنها من الغافلات، وهذا وصف مدح لا وصف ذم، ومنه قول القائل:
ولقد لهوت بطفلة ميالة بلهاء ...
بلهاء يصفها بالبله، لا ذماً لها وإنما مدحاً.
فهذه الآية بين فيها ربنا جل جلاله عقوبة القاذف في الدنيا، وفي هذا الموضع بين عقوبته في الآخرة.
المسألة الثالثة: قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ[النور:4]، هذا يستدل به على ما مضى ذكره من أن الشهود على الزنا يشترط فيهم الذكورة، وقد مضى معنا أن الشهود على الزنا لا بد أن يكونوا أربعة: مسلمين، بالغين، عاقلين، ذكوراً، أحراراً، عدولاً، يشهدون في مجلس واحد، ويصفون الجريمة وصفاً دقيقاً، لا يكتفى بأن يقول الواحد: زنى فلان بفلانة.
وقد روى الحافظ ابن عساكر رحمه الله في تاريخه: أن أربعة من رؤساء بني إسرائيل راودوا امرأة حسناء عن نفسها، فامتنعت منهم جميعاً، فذهبوا إلى نبي الله داود عليه السلام وشهدوا عنده بأن هذه المرأة لها كلب قد مكنته من نفسها، ودربته على ذلك والعياذ بالله! قذفوها بأن كلباً يأتيها، فأمر بها أن ترجم، وكان ولده سليمان عليه السلام حديث السن لم ينبأ بعد، فلما جن عليه الليل جلس مع ولدان مثله، يعني: صبيان مثله، وتزيا بزي الحاكم، ثم اختار أربعة منهم ليشهدوا، مثل ما شهد أولئك الأربعة، وتزيا خامس بزي المرأة، فلما شهدوا أمر بثلاثة فأخرجوا، ثم سأل الرابع عن لون الكلب، فقال: أحمر، فأخرجه وغيبه، ثم أدخل آخر وسأله عن لون الكلب فقال: أسود، ثم أخرجه وأدخل ثالثاً، فسأله عن لون الكلب، فقال: أبيض، فذهب سليمان وأخبر أباه بما كان بينه وبين أولئك الولدان، فأتى داود عليه السلام بالأربعة فاختلفوا؛ فأمر بهم جميعاً فقتلوا.
ولذلك نقول: لا بد للقاضي أن يسأل الشهود عن جريمة الزنا، أين كانت؟ في أي زاوية؟ في أي زمان؟ ثم بعد ذلك ما كانت تلبس المرأة؟ ماذا كان يلبس الرجل؟ إلى غير ذلك من التفاصيل التي تجعل الحاكم أو القاضي يطمئن إلى أن هؤلاء ما شهدوا إلا بالصدق وبالحق.
يقول الله عز وجل: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً[النور:4]، قد مضى معنا الكلام في أن هذه الحدود مقدرة لا يزاد عليها ولا ينقص منها، وأن الضرب يكون بآلة متوسطة ليست بالشديدة التي تؤذي، ولا بالهينة التي لا يحصل بها المراد من الحد، بل تكون بآلة متوسطة، والضارب لا يضرب ضرب حنق ولا ضرب موات، يعني: لا يضرب ضرب الحانق، ولا يضرب كذلك ضرب موات، وإنما يكون ضرباً متوسطاً، وأن الضرب يوزع على الظهر مما يلي الرقبة إلى العجز، وقال بعض أهل العلم: ويوزع كذلك على الفخذين، وتتقى المقاتل، فلا يضرب رأسه ولا وجهه ولا مذاكيره، وإنما يوزع الضرب.
والحكم الثاني: قال الله عز وجل: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً[النور:4]، هذا الذي تكلم في عرض مؤمن أو مؤمنة ولم يستطع أن يثبت صدقه فيما قال، بعد ذلك ترد شهادته ولا تقبل، فلو جاء يشهد في حزمة جرجير فلا تقبل شهادته.
الحكم الثالث: أنه يوصم بالفسق؛ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:4].
قال الله عز وجل: إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا[النور:5]، ونختم بهذه المسألة وهي: هل الاستثناء يرجع إلى العقوبات الثلاث أو إلى بعضها دون بعض؟ والعقوبات الثلاث هي:
فَاجْلِدُوهُمْ[النور:4]، هذه العقوبة الأولى، وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً[النور:4]، وهذه العقوبة الثانية، وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:4]، وهذه العقوبة الثالثة، ثم قال سبحانه: إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا، أجمع المسلمون على أن الاستثناء لا يرجع للعقوبة الأولى، وهي الجلد، فلو أن رجلاً رمى آخر، فقال: هذا فلان زانٍ، فذهب فاشتكاه، فقالوا له: أين شهودك؟ قال: والله ما عندي شهود! رأيته في المنام يزني مثلاً، أو قال: والله ما أعرف أن القضية هذه تريد لها شهوداً! يقال له: القضية هذه ليست فوضى.
عليك ثمانون جلدة، قال: أتوب إلى الله وأستغفره، نقول له: توبتك تنفعك ديانة، ولا تنفعك قضاء.
عندنا في الدنيا لا بد أن تجلد، أما توبتك إن كنت صادقاً، فتعصمك من عذاب الآخرة.
وأجمعوا على أن الاستثناء يرجع إلى العقوبة الثالثة، وهي قوله تعالى: وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:4]، يعني: أنه قد وصم بالفسق، أي: صار فاسقاً غير عدل، لكنه بعد ذلك إذا تاب واستقام، وكف لسانه عن أعراض الناس، ففي هذه الحالة يرتفع عنه وصف الفسق.
واختلفوا في رجوعه على العقوبة الثانية، وهي قوله: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً [النور:4]، فذهب الأئمة الثلاثة: مالك و الشافعي و أحمد إلى أن الاستثناء يرجع إليها، فمن تاب قبلت شهادته، وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه لا تقبل شهادته، وأن الاستثناء لا يرجع إليها.
والقول الثالث للشعبي عامر والضحاك ، قالوا: تقبل شهادته إن أكذب نفسه، يعني: أن يأتي إلى القاضي، فيقول له: أتوب إلى الله وأستغفره، وأنا كاذب فيما رميت به فلاناً، لكن ألا ترون أن القاذف ربما يكون صادقاً، لكنه يعجز عن إثبات البينة، ما استطاع أن يأتي بالشهود؛ ولذلك هلال بن أمية رضي الله عنه لما جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ورمى امرأته بـشريك بن سحماء ، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( البينة وإلا حد في ظهرك )، قال: الله يعلم أني صادق، وهذا إذا قال: الله يعلم أني صادق، وفعلاً حلف، والمرأة حلفت، والرسول صلى الله عليه وسلم قال له: ( الله يعلم أن منكما كاذباً )، أي: أحدكما كاذب، لا شك في ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يوحى إليه قال: ( انظروها، فإن جاءت به أحيفش، أعيمش، ضعيف الساقين، فهو لـهلال وإن جاءت به أصيهب )، أصيهب يعني: أحيمس، أحمس، ( خدلج الساقين، سابغ الإليتين، فهو للذي رماها به )، فجاءت به على الصفة الثانية، معناه أن زوجها كان صادقاً، لكن ما كان عنده بينة.
فلذلك أقول: لا يمكن أن نشترط أن على الإنسان أن يأتي إلى القاضي فيكذب نفسه؛ لأنه لو أكذب نفسه وهو صادق، فقد وقع في الكذب.
إذاً نقول: الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد قالوا: بأن الاستثناء يرجع إلى الثاني والثالث، والإمام أبو حنيفة قال: بأن الاستثناء يرجع إلى الثالث فقط.
وهاهنا مسألة وهي: لو أن الاستثناء رجع بعد مفردات متعاطفة، عطف بعضها على بعض، فهل يرجع إليها جميعاً، أو يرجع إلى بعض دون بعض؟ هذا ما نبينه في الدرس القادم إن شاء الله، أسأل الله أن ينفعني وإياكم.
السؤال: [ كيف يكون الإنسان صادقاً في علم الله، كاذباً في حكمه؟]
الجواب: هذا بينه وبين ربه، ربنا قال: لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ [النور:13]، قال أهل التفسير: (عِنْدَ اللَّهِ) أي: في حكمه لا في علمه، يعني: في علمه جل جلاله يعلم بأنك صادق، أما في حكمه جل جلاله فإنك تجلد ثمانين جلدة؛ حتى لا تصير الأمور فوضى.
السؤال: [ما الحكمة من تشديد البينة في القذف؟]
الجواب: الحكمة من تشديد البينة كما ذكرت لكم، أن القذف في العرض أضر من القذف في غيره، فلو أن أحداً قال: فلان هذا سارق، ولو قال: فلان هذا زانٍ، فإن الرمي بالزنا أقبح، ما في شك، بل كلمة سارق لم تعد مذمة عند البعض خاصة إذا كان موظفاً، أو كان وزيراً.
السؤال: [ما معنى الهم في قوله تعالى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا[يوسف:24]؟]
الجواب: بالنسبة لقول الله عز وجل: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا[يوسف:24]، أقرب التفاسير -والعلم عند الله تعالى- أن الهم هاهنا هو الميل القلبي، والغريزة الإنسانية التي لا يؤاخذ الله بها عبده، مثاله: إنسان صائم في يوم حار في رمضان، فرجع إلى بيته فوجد الأطفال الصغار معهم العصير، أو يأكلون الطعام مثلاً فسال لعابه، لكنه ما مد يده لطعام ولا شراب، فكون أنه مال إلى هذا الطعام وتمنى، هل يؤاخذه الله؟
فكذلك يوسف عليه السلام، فتى مكتمل الفحولة والرجولة، دعته امرأة ذات منصب وجمال، وغلقت الأبواب، وقالت: هيت لك، فهو بالغريزة البشرية مال إليها، لكنه ما مد يده، ولا حدث نفسه بأن يواقعها في الحرام، بل قال: مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ[يوسف:23]؛ ولذلك قال المفسرون: يوسف بريء بشهادة الله، وشهادة نفسه، وشهادة المرأة، وشهادة النسوة، وشهادة الشاهد، وشهادة الشيطان، عنده ستة شهود، أما شهادة الله عز وجل فقوله: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ [يوسف:24]، وأما شهادته لنفسه، فقوله: هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي[يوسف:26]، وأما شهادة الشاهد، فقوله: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:26-27]، وأما شهادة زوجها، فقوله: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا[يوسف:29]، ومن ثم قال لها: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ[يوسف:29]، فأثبت أن المرأة هي المذنبة، وأما شهادة النسوة، فقلن: حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ[يوسف:51]، وأما شهادة المرأة، فقولها: الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ [يوسف:51]، وأما شهادة الشيطان، فربنا قال عن يوسف: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]، والشيطان قال: فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83]؛ ولذلك كما قال الرازي: من لم يرض بشهادة الله، فليرض بشهادة الشيطان، إذا نفى رجل متشيطن براءة يوسف فها هو الشيطان شهد ليوسف بأنه بريء.
وبعض المفسرين قالوا: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ[يوسف:24]، يعني: ضماً، وَهَمَّ بِهَا[يوسف:24]، يعني: دفعاً وضرباً.
وأما ما يذكر في بعض الكتب من أن يوسف جلس منها مجلس الرجل من امرأته، وحل سراويله، وما إلى ذلك فهذا كذب، معاذ الله! وما يذكر أيضاً في بعض الكتب، أنه جلس مجلس الرجل من امرأته فرأى كفاً مكتوباً عليها: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ [الانفطار:10-11]، ففزع وقام، فلما هدأت نفسه رجع وجلس منها فوجد كفاً مكتوباً عليها: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ[يونس:61]، فقام فزعاً، ومرة أخرى رجع فوجد كفاً مكتوباً عليه: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ [الانفطار:10-11].
نقول: والله هذا لا يليق أن ينسب إلى يوسف؛ لأن أي واحد منا لو أراد فاحشة فلقي بينه وبين المرأة كفاً مكتوباً عليه: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ [الانفطار:10-11]، فلن يعود مرة أخرى.
دعكم من يوسف عليه السلام، والله لن أجرؤ أن أعود مرة أخرى، سأترك لها البلد، فما يتصور بأن نبياً من أنبياء الله يحدث منه مثل هذا القبح، وهذا الفحش.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة النور - الآيات [4-5] الأول للشيخ : عبد الحي يوسف
https://audio.islamweb.net