اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سورة آل عمران - الآية [118] للشيخ : عبد الحي يوسف
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.
ومع النداء الرابع عشر في الآية الثامنة عشرة بعد المائة من سورة آل عمران؛ قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118].
وسبب نزول هذه الآية -كما قال ابن عباس رضي الله عنهما- أن رجالاً من المسلمين كانت لهم علاقات قديمة مع اليهود، ولما جاء الله بالإسلام لم تنقطع تلك العلاقات، بل كانوا يصلون أولئك اليهود ويوادونهم، ولربما يطلعونهم على بعض أسرار الدولة المسلمة، فأنزل الله هذه الآية.
ويمكن أن يراد بالآية: المنافقون؛ لأن السياق يدل على ذلك، فبعدها قول الله عز وجل: وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ [آل عمران:119]، وهذه صفة المنافقين كما قال ربنا في سورة البقرة: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14]، فيمكن أن يراد بالآية: أهل الكتاب، ويمكن أن يراد بالآية: المنافقون.
قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً [آل عمران:118]، بطانة الرجل: خاصته، وصفيه، وخليله، وجمعها: بطائن، وأصل البطانة: داخلة الثوب، فشبه الخليل والصفي ببطانة الثوب، وفي ذلك دلالة على شدة ملازمته لصاحبه، كما يقال: فلان شعاري، وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن الأنصار: ( الأنصار شعار والناس دثار )، دلالة على قربهم منه.
وقوله تعالى: مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران:118]، أي: من غيركم، كما قال سبحانه: لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:28]، أي: من غير المؤمنين.
وقوله: لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً [آل عمران:118]، قوله: (لا يألونكم) من الألو؛ وهو التقصير، يقال: ألا فلان في الأمر يألو إذا قصر فيه.
والخبال هو الفساد، ومنه يقال: رجل مخبول إذا كان فاسد العقل ناقصه، ومعنى الآية: لا تتخذوا بطانة غير آليكم خبالاً بادية بغضاؤهم.
وقوله: وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ [آل عمران:118]، أي: ودوا ما فيه إرهاقكم والمشقة والضرر عليكم في دينكم ودنياكم.
وقوله: قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ [آل عمران:118]، أي: أظهر الله عز وجل في فلتات لسانهم ولحن قولهم ما يدل على شيء مما تخفيه صدورهم.
فقوله: قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ [آل عمران:118]، أي: لاح على صفحات وجوههم من العداوة؛ لأنهم لا يتمالكون أنفسهم من شدة البغض لكم، كما قال سبحانه: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:30].
وقوله: وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118]، أي: ما تخفي صدورهم من العداوة للإسلام والبغضاء لأهله أكبر مما ظهر على صفحات وجوههم وفلتات ألسنتهم.
يقول سيد قطب رحمه الله: إنها صورة كاملة السمات، ناطقة بدخائل النفوس وشواهد الملامح، تسجل المشاعر الباطنة، والانفعالات الظاهرة، والحركات الذاهبة الآيبة، وتسجل بذلك كله نموذجاً بشرياً مكرراً في كل زمان وفي كل مكان، ونستعرضها أمس واليوم وغداً فيمن حول الجماعة المسلمة من أعداء، يتظاهرون للمسلمين في ساعة قوة المسلمين وغلبتهم بالمودة، فتكذبهم كل خالجة وكل جارحة، وينخدع المسلمون بهم فيمنحونهم المودة والثقة وهم لا يريدون للمسلمين إلا الاضطراب والخبال، ولا يقصرون في إعنات المسلمين ونثر الشوك في طريقهم والكيد لهم والدس ما واتتهم الفرصة في ليل أو نهار.
أيها الإخوان! هؤلاء الكفار يظهرون للمسلمين أنهم يودونهم، ويعطفون عليهم، ويرجون الخير لهم، ويتعاطفون مع قضاياهم، لكن الله عز وجل أبى إلا أن يظهر من كلماتهم ما يدل على بعض مما تخفيه صدورهم، فتارة يتكلمون عن نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم بكلمات كلها حقد، وكلها شر، وكلها سوء أدب، وتارة يصفون الإسلام بأنه دين الكراهية والتعصب، وتارة يصفون الحضارة الإسلامية بأنها حضارة متخلفة، وأنها ما أتت للبشرية بخير، إلى غير ذلك.. وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118].
قال الله عز وجل: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ [آل عمران:118] أي: قد أظهرنا لكم الدلالات الواضحات التي يتميز بها الولي من العدو.
قال الإمام القرطبي رحمه الله: نهى الله المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الأهواء دخلاء وولجاء، يفاوضونهم في الآراء، ويسندون إليهم أمورهم، ويقال: كل من كان على خلاف دينك فلا ينبغي لك أن تحادثه، أي: بسرك، وقد قيل:
عن المرء لا تسل وسل عن قرينهفكل قرين بالمقارن يقتدي
قال القرطبي رحمه الله: وقد انقلبت الأحوال في هذا الزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبة وأمناء، وتسودوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء، هذا على زمان القرطبي رحمه الله.
بعض الناس يقول: ما مر على المسلمين زمان شر من هذا الزمان، وهذا القول ليس بصحيح، فقد مر على المسلمين أزمنة سوء هي شر مما نحن فيه الآن، ففي بعض الأزمنة كان اليهود هم أصحاب المناصب وأصحاب الشورى في الدولة الإسلامية، حتى قال بعض الفقهاء:
أحبابنا نوب الزمان مريرة وأمر منها إمرة السفهاء
فمتى يفيق الدهر من نكباتهوأرى اليهود بذلة الفقهاء
يتمنى أن يأتي زمان يرى فيه اليهود أذلة كذلة الفقهاء والعلماء، فقد كان العلماء مبعدين، وقد أقصوا ونحوا، وبالمقابل الكفار من اليهود وغيرهم رفعوا وأُجلوا.
وهذه الآية عملت عملها في زمان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا لا يتخذون بطانة من دون المؤمنين.
فـعمر بن الخطاب رضي الله عنه جاءه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه ومعه غلامه، وكان كاتباً حاسباً حافظاً، يعني: خازناً جيداً، فـعمر رضي الله عنه أعجب به، فقال له: لو قرأت علينا شيئاً من القرآن؟ فقيل له: لا يستطيع يا أمير المؤمنين! أن يقرأ، فقال: أجنب هو؟ يعني: عليه جنابة قالوا: لا. بل نصراني، فضرب عمر رضي الله عنه أبا موسى وقال له: أتتخذ بطانة من دون المؤمنين، لا تصدقوهم وقد كذبهم الله، ولا تقربوهم وقد أبعدهم الله.
قال ابن كثير رحمه الله: ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين واطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب؛ ولذلك قال تعالى: لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً [آل عمران:118]، فهناك وظائف أيها الإخوان! فيها إجماع من أهل العلم على أنه لا يجوز أن يتولاها غير المسلم، ومنها:
الإمامة الكبرى أي: الحكم، فلا يجوز أن يتولاها غير المسلم؛ لأنها خلافة موضوعة لحراسة الدين وسياسة الدنيا به، ولا يمكن أن يحرس الدين من لا يدين به، ولا أن يسوس الدنيا به من لا يدين به.
كذلك: منصب قيادة الجيش لا يمكن أن يتولاه غير المسلم.
كذلك: القضاء، وأمر الزكاة، فهذه كلها مناصب ذات صبغة دينية، لا يتولاها غير المسلم.
ومنها كذلك: المناصب التي فيها اطلاع على أسرار الدولة المسلمة ومعرفة بأحوالها الباطنة الدقيقة، فلا ينبغي أن يتولى ذلك غير المسلم، ولا المنافقون وأهل الأهواء.
وهذه الآية أصل في تحريم مولاة الكفار، وفي معناها قول الله عز وجل: لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ [المائدة:57]، وقوله: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ [المائدة:51]، وقوله: لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة:1]، وقوله: لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:144]، وقال ربنا سبحانه ذاماً اليهود: تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ [المائدة:80]، أي: من اليهود، يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:80-81].
وموالاة الكفار هي: التقرب إليهم، وإظهار الود لهم بالأقوال والأفعال والنوايا.
ومن صور موالاة الكفار في هذا الزمان: أن يرضى بعض أهل الإسلام أن يستبدل بدار الإسلام دار الكفر، فيترك البلاد المسلمة الطيبة، التي أهلها مسلمون في الجملة، ويستبدل بها بلداً كافرة، لا يسمع فيها أذاناً ولا قرآناً، ويصبح ويمسي على المنكرات بالليل والنهار، وينشأ أولاده في الروضة وفي المدرسة وفي الشارع بين قوم كفار، يتطبعون بطبائعهم، ويتخلقون بأخلاقهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين )، رواه أبو داود و الترمذي .
ومن مظاهر موالاة الكفار في هذا الزمان: أن بعض المسلمين يخجل من بعض شعائر الإسلام، سواء المتعلقة بالجهاد، أو المتعلقة بنظام الأسرة، أو بقضايا المرأة أو بحقوق غير المسلمين أو بغير ذلك، فيحاول أن يتملص منها، وأن يتبرأ، أو لربما يتقول على الله بغير علم؛ فيقول: هذا التشريع ليس من الإسلام.
ومن مظاهر موالاة الكفار كذلك: التشبه بهم، فقد أخرج أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم ).
قال عبد الله بن عتبة رضي الله عنه: ليتقي أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر.
قال محمد بن سيرين رحمه الله: فظنناه يريد هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ [المائدة:51].
أيها الإخوة الكرام! سيمر معنا إن شاء الله في سورة النساء قول ربنا تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً [النساء:144]، وهناك سنتعرض لهذه الصور بالتفصيل إن شاء الله.
وفي هذه الآية فوائد، منها: حرمة اتخاذ الكافرين أولياء وخواص من دون المؤمنين إذا كانوا على الأوصاف الأربعة التي ذكرت في الآية:
الوصف الأول: لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً[آل عمران:118]، أي: لا يقصرون فيما فيه ضرركم وفسادكم وإفساد الأمر عليكم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
الوصف الثاني: وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ[آل عمران:118]، أي: يتمنون ضرركم حالاً ومآلاً في دينكم ودنياكم.
الوصف الثالث: قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ[آل عمران:118]، يظهرون تكذيب نبيكم صلى الله عليه وسلم وكتابكم، وينسبونكم إلى الحمق والجهل، ولا شك أن من اعتقد حمقك وجهلك فإنه لا يحبك.
الوصف الرابع: ما يظهرونه على ألسنتهم من علامات الحقد أقل مما في قلوبهم منه.
أسأل الله عز وجل أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سورة آل عمران - الآية [118] للشيخ : عبد الحي يوسف
https://audio.islamweb.net