اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير آية - الممتحنة [1] للشيخ : عبد الحي يوسف
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.
أما بعد:
فيقول الله عز وجل في الآية الأولى من سورة الممتحنة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [الممتحنة:1].
هذه الآية نزلت في شأن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه وكان من المهاجرين الذين شهدوا بدراً، وذلك أنه كتب إلى المشركين كتاباً وكان فيه: أما بعد: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه إليكم بجيش كالليل، يسير كالسيل، وأقسم بالله لو لم يسر إليكم إلا وحده لأظفره الله بكم وأنجز له موعده فيكم، فإن الله وليه وناصره.
وروى الإمام مسلم في صحيحه: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ( بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا و الزبير و المقداد فقال: ائتوا روضة خاخ )، وهو موضع بينه وبين المدينة اثنا عشر ميلاً ( فإن بها ظعينة) أي: امرأة مسافرة ( معها كتاب فخذوه منها، فانطلقنا تعادى بنا خيلنا ) أي: نسرعها ( فإذا نحن بامرأة، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها ) أي: من ضفائر شعر رأسها ( فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا به: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حاطب ، ما هذا؟ فقال: لا تعجل علي يا رسول الله! إني كنت امرأً ملصقاً في قريش وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يداً يحمون بها قرابتي، ولم أفعله كفراً ولا ارتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام، وقد علمت أن الله منزل بهم بأسه، وأن كتابي لا يغني عنهم من الله شيئاً، وأن الله ناصرك عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق، فقال عمر رضي الله عنه: دعني يا رسول الله! أضرب عنق هذا المنافق، فقال صلى الله عليه وسلم: إنه شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ).
قال الإمام القرطبي رحمه الله: هذا كله معاتبة لـحاطب ، وهو يدل على فضله وكرامته ونصيحته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق إيمانه، فإن المعاتبة لا تكون إلا من محب لحبيبه، كما قال:
أعاتب ذا المودة من صديق إذا ما رابني منه اجتناب
إذا ذهب العتاب فليس ود ويبقى الود ما بقي العتاب
وفي هذه الآية أحكام:
الحكم الأول: حرمة موالاة الكافرين بالنصرة والتأييد والمودة دون المسلمين.
الحكم الثاني: الذي ينقل أسرار المسلمين إلى الكفار على خطر عظيم وإن صلى وصام.
الحكم الثالث: فضل أهل بدر وكرامتهم على الله عز وجل.
الحكم الرابع: قبول عذر الصادقين الصالحين ذوي السبق في الإسلام إذا زل أحدهم اجتهاداً منه.
الحكم الخامس: التجسس خيانة عظمى وكبيرة من الكبائر إذا فعله المسلم، وهو من صور موالاة الكفار التي يتراوح الحكم فيها بين الكفر المخرج من الملة إذا كان تجسسه حباً في انتصار الكفار وعلو شوكتهم على المسلمين، وبين الكبيرة من كبائر الذنوب إذا كان لغرض شخصي أو دنيوي أو جاه أو ما أشبه ذلك.
الحكم السادس: قال أبو عبد الله ابن القيم رحمه الله: يؤخذ من هذه القصة: جواز قتل الجاسوس وإن كان مسلماً؛ لأن عمر رضي الله عنه لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل حاطب، أجابه: بأن فيه مانعاً من قتله وهو: شهوده بدراً، وفي الجواب بهذا كالتنبيه على جواز قتل جاسوس ليس له مثل هذا المانع، وهذا مذهب مالك وأحد الوجهين في مذهب أحمد ، وقال الشافعي و أبو حنيفة : لا يقتل. والصحيح: أن قتله راجع إلى رأي الإمام، فإن رأى في قتله مصلحةً للمسلمين قتله، وإن كان استبقاؤه أصلح استبقاه.
الحكم السابع: قال رحمه الله أيضاً: ومن فوائد هذه القصة: أن الكبيرة العظيمة مما دون الشرك قد تكفر بالحسنة الكبيرة الماحية، كما وقع الجس من حاطب مكفراً بشهوده بدراً، فإن ما اشتملت عليه هذه الحسنة العظيمة من المصلحة وتضمنته من محبة الله ورضاه وفرحه بها ومباهاته للملائكة بفاعلها أعظم مما اشتملت عليه سيئة الجس من المفسدة، وتضمنته من بغض الله لها، فغلب الأقوى على الأضعف فأزاله وأبطل مقتضاه.
وأذكر هنا جملة مباحث في الولاء والبراء:
المبحث الأول: معنى الولاء والبراء:
الولاء: المودة والمحبة والقرب والنصرة.
والبراء: البغض والعداوة والبعد، وهما من أعمال القلوب، ولكن مقتضياتهما تظهر على اللسان والجوارح.
والولاء لا يكون إلا لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، قال سبحانه: إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ [المائدة:55].
أما البراء: فهو من الكفار والمنافقين، ويكون ببغضهم ديناً ومفارقتهم، وعدم الركون إليهم أو الإعجاب بما هم عليه من الكفر والضلال، والحذر من التشبه بهم، وتحقيق مخالفتهم شرعاً، وجهادهم بالمال واللسان والسنان، ونحو ذلك من مقتضيات العداوة في الله عز وجل.
المبحث الثاني: منزلة عقيدة الولاء والبراء في الشرع:
أولاً: هي جزء من معنى الشهادة، فقول: لا إله، من (لا إله إلا الله) معناها: البراءة من كل ما يعبد من دون الله، وهي شرط في الإيمان، قال تعالى: تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:80-81].
وهي أوثق عرى الإيمان، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله ) رواه أحمد .
وهي سبب لتذوق حلاوة الإيمان ولذة اليقين.
وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم من حديث أنس : ( ثلاث من وجدهن وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع في الكفر كما يكره أن يلقى في النار ).
وهي الصلة التي يقوم على أساسها المجتمع المسلم إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[الحجرات:10]، وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ[التوبة:71].
وبعقيدة الولاء والبراء تنال ولاية الله، قال ابن عباس رضي الله عنه: من أحب في الله وأبغض في الله ووالى في الله وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك.
وعدم تحقيقها -والعياذ بالله- يوقع في الكفر، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51].
قال ابن جرير الطبري : أي من أهل دينهم وملتهم.
ثانياً: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه عليها، فعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: ( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبايع، فقلت: يا رسول الله! ابسط يدك حتى أبايعك واشترط علي فأنت أعلم، قال: أبايعك على أن تعبد الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتناصح المسلمين وتفارق المشركين ) رواه أحمد و النسائي وغيرهما.
وهنا أذكر صوراً من موالاة الكفار في هذا الزمان:
الصورة الأولى: الرضا بكفر الكافرين وعدم تكفيرهم، أو الشك في كفرهم أو تصحيح أي مذهب من مذاهبهم الباطلة، أو السماح لهم بترويج كفرهم والدعوة إليه ونشره بين المسلمين، ويدخل في ذلك إقامة المؤتمرات التي تهدف إلى إزالة الفوارق بين الإسلام والديانات المحرفة، وتهدف إلى تجاوز الخلاف العقدي بين المسلمين وغيرهم.
الصورة الثانية: اتخاذهم أعواناً وأنصاراً وأولياء، قال تعالى: لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً[آل عمران:28].
الصورة الثالثة: مودتهم ومحبتهم، قال تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ[المجادلة:22] الآية.
الصورة الرابعة: الركون إليهم، قال تعالى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ [هود:113].
الصورة الخامسة: مداهنتهم ومداراتهم ومجاملتهم على حساب الدين، قال تعالى: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم:9]، ومن ذلك مشاركتهم في أعيادهم، وتهنئتهم بها، قال تعالى: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ[الفرقان:72]، أي: أعياد الكفار.
ومنه أيضاً: زيارة الكنائس والمعابد الشركية التي يسب فيها الله تعالى ويكفر به.
الصورة السادسة: اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين، وبطانة الرجل خاصته وأهل ثقته ومشورته، قال تعالى: لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ[آل عمران:118]، وفي الحديث: ( المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ) رواه أبو داود و الترمذي .
الصورة السابعة: طاعتهم فيما يأمرون وما يشيرون به، قال تعالى: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28].
الصورة الثامنة: مجالستهم والدخول عليهم وقت استهزائهم بآيات الله، قال تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً [النساء:140].
الصورة التاسعة: استئمانهم وقد خونهم الله تعالى.
الصورة العاشرة: الرضا بأعمالهم، والتشبه بهم والتزيي بزيهم.
الصورة الحادية عشرة: البشاشة لهم، والطلاقة وانشراح الصدر بهم، وإكرامهم وتقريبهم.
الصورة الثانية عشرة: معاونتهم على ظلمهم ونصرتهم، وقد ضرب الله بذلك مثلاً: امرأة لوط التي كانت ردءاً لقومها، حيث كانت على طريقتهم راضيةً بأفعالهم القبيحة تدل قومها على ضيوف لوط عليه السلام.
الصورة الثالثة عشرة: مناصحتهم والثناء عليهم.
الصورة الرابعة عشرة: تعظيمهم وإطلاق الألقاب عليهم، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقال للمنافق: يا سيد، والكافر من باب أولى، ونهى أيضاً عن ابتدائهم بالسلام، فقال: ( لا تبدأوا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه ) رواه مسلم .
الصورة الخامسة عشرة: السكنى معهم في ديارهم.
نسأل الله عز وجل أن يجعل في قلوبنا محبة لأهل طاعته وعداوة لأهل معصيته، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير آية - الممتحنة [1] للشيخ : عبد الحي يوسف
https://audio.islamweb.net