إسلام ويب

ينهانا الله عز وجل عن التفرق والاختلاف، ويأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتبرأ من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، ومن أسباب الاختلاف: التشدد والتعمق في الدين واعتقاد ما لم يرد في القرآن والسنة، والعصبيات الجاهلية، والتساهل في محاربة البدع، وترك الأمور بالمعروف والنهي عن المنكر، والخلل في منهج تلقي الدرس.

المعنى الإجمالي لقوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء...)

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى المهاجرين والأنصار، أما بعد:

ففي الآية التاسعة والخمسين بعد المائة من سورة الأنعام، يقول ربنا الرحمن: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام:159].

قرأ حمزة و الكسائي : إن الذين فارقوا دينهم، على أنه فعل ماض من المفارقة، وهي: الترك. والمعنى: أنهم تركوا دينهم القيم، وكفروا بالكلية.

وقرأ الباقون: فرقوا، على أنه فعل ماض من التفريق، على معنى: أنهم فرقوا دينهم فآمنوا بالبعض وكفروا بالبعض، ومن كان هذا شأنه فقد ترك الدين القيم.

قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ[الأنعام:159] أي: أن من أهل البدع والشبهات وأهل الضلالة من هذه الأمة، وكانوا فرقاً وجماعات متطاحنة، متقاتلة، كالخوارج والروافض وأمثالهم ممن شرعوا في الدين ما لم يأذن به الله، هؤلاء هم الذين شابهوا اليهود والنصارى، والذين حذر الله من سلوك سبيلهم، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:105]، فهؤلاء يا رسول الله صلى الله عليك وسلم أنت بريء منهم، لا صلة بينك وبينهم، ولست مسئولاً عنهم، إنما أمرهم إلى الله، وهو الذي يتولى حسابهم وجزاءهم يوم يقوم الأشهاد.

قال ابن كثير رحمه الله: وهذه الآية كقوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ[الشورى:13]، وفي الحديث: ( نحن معاشر الأنبياء أولاد علات، أمهاتنا شتى وديننا واحد ).

قال سيد قطب رحمه الله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس من هؤلاء كلهم في شيء، إن دينه هو الإسلام، وشريعته هي التي في كتاب الله، ومنهجه هو منهجه المستقل المتميز، ولا يمكن أن يختلط هذا الدين بغيره من المعتقدات والتصورات، ولا أن تختلط شريعته ونظامه بغيره من المذاهب والأوضاع والنظريات، ولا يمكن أن يكون هناك وصفان اثنان لأي شريعة أو أي وضع أو أي نظام: إسلامي وشيء آخر.

إن الإسلام إسلام فحسب، والشريعة الإسلامية شريعة إسلامية فحسب، والنظام الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي الإسلامي إسلامي فحسب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في شيء على الإطلاق من هذا كله إلى آخر الزمان.

إن الوقفة الأولى للمسلم أمام أية عقيدة ليست هي الإسلام هي: وقفة المفارقة والرفض منذ اللحظة الأولى، وكذلك وقفته أمام أي شرع أو نظام أو وضع ليست الحاكمية فيه لله وحده، وبالتعبير الآخر: ليست الألوهية والربوبية فيه لله وحده، إنها وقفة الرفض والتبرؤ منذ اللحظة الأولى، قبل الدخول في أية محاولة للبحث عن مشابهات أو مخالفات بين شيء من هذا كله، وبين ما في الإسلام.

الأحكام المستفادة من قوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء...)

في الآية الكريمة أحكام:

الحكم الأول: تحريم الافتراق في الدين، وهو الخروج عن السنة والجماعة في أصل أو أكثر من أصول الدين القطعية في الاعتقاد أو الأحكام.

الحكم الثاني: تحريم التحزب والتجمع، إذا كان قائماً على هوى أو عصبية أو حب للسيطرة والسلطة.

الحكم الثالث: براءة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء المتفرقين المتشيعين.

الحكم الرابع: الله جل جلاله وحده هو الذي يتولى الجزاء والحساب.

الحكم الخامس: قال العلامة ابن عاشور رحمه الله: تفريق دين الإسلام هو تفريق أصوله بعد اجتماعها، كما فعل بعض العرب من منعهم الزكاة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة.

أما تفريق الآراء في التعليلات والتبيينات، فلا بأس به، وهو من النظر في الدين، مثل الاختلاف في أدلة الصفات وفي تحقيق معانيها، مع الاتفاق على إثباتها، وكذلك تفريق الفروع مع الاتفاق على صفة العمل وعلى ما به من صحة الأعمال وفسادها، كالاختلاف في حقيقة الفرض والواجب، انتهى كلامه رحمه الله.

أسباب التفرق والاختلاف بين المسلمين

قد يسأل سائل فيقول: إن المسلمين اليوم متفرقون، فما هي أسباب هذا الافتراق؟

والجواب، كما وضح الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل في رسالته عن الافتراق وأسبابه:

السبب الأول: كيد الكائدين، بأصنافهم: من أهل الديانات، كاليهود والنصارى والصابئة والمجوس والدهريين.

السبب الثاني: رءوس أهل الأهواء، الذين يجدون مصالح شخصية أو شعوبية في الافتراق، وكذلك أتباعهم من الغوغائية.

السبب الثالث: الجهل، وذلك بعدم التفقه في الدين عقيدة وشريعة، والجهل بالسنة أصولها وقواعدها.

السبب الرابع: الخلل في منهج تلقي الدين، وذلك بأخذه من بطون الكتب دون الاهتداء بالأئمة العدول الثقات وطلاب العلم الموثوق بهم وبعلمهم.

السبب الخامس: اعتبار اتباع الأئمة على هدىً وبصيرة تقليداً، ويفضي ذلك بصاحبه إلى التتلمذ على مجرد الرسائل، فيكتفي بأخذ العلم عن الكتب، وينطوي وينعزل عن الناس.

السبب السادس: التقصير في فهم فقه الخلاف: ما يسوغ وما لا يسوغ الخلاف فيه؟ ومتى يعذر المخالف؟ ومتى لا يعذر؟ ومتى نطلق عليه وصف الكفر والفسوق؟ ومتى لا نطلق؟

السبب السابع: التشدد والتعمق في الدين.

السبب الثامن: اعتقاد ما لم يرد في القرآن والسنة، أو التعبد بما لم يشرع الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم اعتقاداً أو قولاً أو عملاً.

السبب التاسع: العصبيات بشتى أصنافها، سواءً كانت مذهبية أو عرقية أو شعوبية أو قبلية أو حزبية، أو غيرها.

السبب العاشر: تأثر بعض المسلمين بالأفكار والفلسفات الوافدة من بلاد الكفار على المسلمين، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ ).

السبب الحادي عشر: دعاوى التجديد في الدين التي لا خطام لها ولا زمام، والتي تريد تقويض الدين من أساسه.

السبب الثاني عشر: التساهل في مقاومة ومحاربة مظاهر البدع في المسلمين، حتى تنمو وتزيد وتكثر.

السبب الثالث عشر: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومناصحة أولي الأمر وذي الشأن في الأمة.

واعلموا بأن الله عز وجل قد سمانا المسلمين، وهو أشرف الأسماء وأفضلها، واعلموا بأن الإنسان إذا مات ووضع في قبره وتولى عنه مشيعوه، فإنه يأتيه ملكان فينتهرانه ويجلسانه ويسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟ فهذه أسئلة ثلاثة، ولن يسأل: ما حزبك؟ ما جماعتك؟ ما طريقتك؟ ما جنسك؟ ما شعبك؟ فهذا كله ولن يسأل عنه العبد في قبره.

ففتش -أيها المسلم!- عن ما ينجيك بين يدي الله عز وجل، وكن محباً لإخوانك المسلمين دون أن تتقيد بحزب أو جماعة، وكن مبغضاً للكفار وإن ربطتك بهم مصالح، فإن الحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان ).

نسأل الله عز وجل إيماناً صادقاً، ويقيناً ليس بعده كفر، ورحمةً ننال بها شرف كرامته في الدنيا والآخرة، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير آية - الأنعام [159] للشيخ : عبد الحي يوسف

https://audio.islamweb.net