إسلام ويب

سورة الشعراء من السور المكية، والتي تقص أحوال الرسل مع أقوامهم؛ لتكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم عبرة وعظة مع قومه الذين كذبوه وأعرضوا عنه، وأن العاقبة دائماً للمتقين، فلينظر إلى حال موسى مع فرعون، وحال هود مع عاد، وحال صالح مع ثمود، ولوط مع قومه، فقد كانوا أشد عداوة للرسل فأهلكهم الله وأنجى المؤمنين.

حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إيمان أهل مكة وإعراضهم عنه

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

سورة الشعراء سورة مكية، وهي من أطول سور القرآن في عدد الآيات، لكن آياتها قصار، وفواصلها كثيرة، وهذه السورة المباركة تصور أحوال الرسل مع أقوامهم.

ذكر الله في بداية السورة حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة، وكيف لقي مقاومة شديدة من ناس نسوا الله فأنساهم أنفسهم، وألفوا ما هم عليه من الكفر والفسوق والعصيان، وكرهوا أن يـأتيهم نبي فيقول لهم: قولوا: لا إله إلا الله.

وهؤلاء الناس كانوا يعلمون يقيناً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزين لإعراضهم، متأسف لصدودهم، فكانوا يمعنون في الإعراض، ويزيدون في الإسفاف، فأنزل الله عز وجل في صدر هذه السورة قوله: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3]، يعني: الله عز وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: أنت مهلك نفسك؛ لأن هؤلاء كفروا وأعرضوا، ثم قال: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ [الشعراء:4]، أي: لو شاء الله عز وجل لأتاهم بآية قاهرة، ومعجزة باهرة، وأمر مادي يرونه بأعينهم، لكنه جل جلاله شاء أن تكون آياته وحياً يتلى.

قبيلة عاد وتكذيبهم لهود عليه السلام

ثم يذكر ربنا جل جلاله خبر قبيلة عاد، هؤلاء الذين كانت قاماتهم مديدة، وعضلاتهم مفتولة وأجسادهم قوية وعقولهم تامة، ثم بلغ بهم الغرور أن يقول قائلهم: من أشد منا قوة؟! هكذا يقولون.

وكانوا قد بلغوا في الحضارة شأواً بعيداً، كما قال ربنا في هذه السورة على لسان هود عليه السلام: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ [الشعراء:128]، (بكل ريع) أي: بكل ربوة، أي: بكل مكان مرتفع، (آية) علامة يستدل بها الناس في طرقاتهم، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [الشعراء:129]، المصانع: قيل: هي الأبنية الشاهقة المرتفعة، وقيل: هي خزانات المياه، وقيل: هي السدود، وقيل غير ذلك، لكن لا يخفى عليكم بأنه لا عيب على الإنسان لو اتخذ سداً أو خزاناً، فهذه كلها مسخرة لخدمة بني آدم، لكن العيب كل العيب أن يكون الترف هو دين المرء وديدنه؛ ولذلك قال لهم: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشعراء:128-130]، وهذه هي نفس العلامات الموجودة في حضارة الصليبيين المعاصرة، الأمريكان والأوروبيين، هؤلاء يتبجحون: ويقولون: من أشد منا قوة؟!

ثم إنهم يبنون تلك البنايات الشاهقة، ويغرقون في الملذات ويغفلون عن حق رب الأرض والسموات، ثم بعد ذلك إذا عادوا فإنهم يوغلون في العداوة ويسرفون في الخصومة، ولا يبالون، كما قال ربنا: وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشعراء:130]، أي: يتخذون تلك الأسلحة التي تفني البشر وتهلك الحرث والنسل ولا يبالون بأحد، فكانت عاقبة هؤلاء أن الله عز وجل أخذهم أخذ عزيز مقتدر.

وكذلك قبيلة ثمود، وهؤلاء جميعاً كانوا في الجزيرة العربية، وأهل مكة يعرفون أخبارهم، وذكر ربنا خبر قوم لوط وخبر أصحاب الأيكة، الذين كانوا يعبدون شجرة من دون الله عز وجل، وبين سبحانه وتعالى أنه أهلكهم جميعاً.

التنويه بشأن القرآن في أول سورة الشعراء وفي آخرها

ثم في ختام سورة الشعراء ينوه الله عز وجل بشأن القرآن، فيقول: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ [الشعراء:192-193]، وهو جبريل عليه السلام، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:194-195]، ثم في نهاية السورة يقول: وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنْ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء:210-212].

دعوة للتوحيد في أول السورة وآخرها، وتنويه بشأن القرآن في أول السورة وآخرها.

أسأل الله سبحانه التوفيق والسداد، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

النظر إلى الآيات الدالة على وحدانية الله والتفكر في أحوال الأمم السابقة

ثم إن الله يأمرهم أن ينظروا في آياته الكثيرة الدالة على وحدانيته وألوهيته، فقال سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ [الشعراء:7]، يعني: هذه الأرض جعلها الله عز وجل صفراء، جرداء، قاحلة، ثم ينزل عليها مطراً، فإذا هي تهتز خضراء، فهذه آية من آيات الله.

ثم بعد ذلك، فلينظروا إلى ما حولهم من الأمم والحضارات الذين كذبوا الرسل، وأعرضوا عن دعوتهم وأساءوا إليهم، ماذا فعل الله بهم؟! وهل ينتظر أهل مكة أن ينزل بهم إلا مثل ما نزل بمن سبقهم؟ كما قال شعيب عليه السلام: وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ [هود:89].

خبر موسى الكليم مع فرعون اللئيم وإيمان سحرته

ثم ذكر الله عز وجل هاهنا أيضاً في هذه السورة المباركة، في سورة الشعراء خبر موسى الكليم مع فرعون اللئيم، وكيف أن فرعون كان واثقاً تمام الثقة من أن الناس لن يتبعوا موسى ، وأن موسى لن يهزم سحرته، أما أن يؤمن السحرة أنفسهم فهذا أمر أبعد من الخيال! لكن قدر الله عز وجل أن يغلبه موسى وكان الحال كما قال ربنا: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الشعراء:46-48]، هاهنا أسقط في يد فرعون وبدأ يتهدد ويتوعد، ويقول لهم: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ [الشعراء:49].



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تأملات في سور القرآن - الشعراء للشيخ : عبد الحي يوسف

https://audio.islamweb.net