اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تأملات في سور القرآن - الأنفال للشيخ : عبد الحي يوسف
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.
سورة الأنفال مدنية بإجماع المفسرين، وتسمى: سورة بدر؛ لأن أغلب آياتها تناولت الأحداث التي وقعت يوم بدر، يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان.
وهذه السورة المباركة مشتملة على خمس وسبعين آية في خمسة آلاف حرف وثمانين، وعدد كلماتها ألف ومائة وخمس وتسعون كلمة.
وسبب نزول هذه السورة المباركة: كما قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: ( قتل أخي عمير بن أبي وقاص يوم بدر، وقتلت سعيد بن العاص وسلبته سيفه، فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اذهب إلى القبض )، والقبض هو: الموضع الذي تجمع فيه غنائم المعركة، يقول سعد رضي الله عنه: ( فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله، قتل أخي وأخذ سلبي، فما لبثت إلا قليلاً حتى أنزل الله سورة الأنفال )، يعني: سعد رضي الله عنه يقول: أنا ابتليت في ذلك اليوم بمصيبتين: أن أخي عميراً قتل، ثم إن الكافر الذي قتلته وسلبته سلاحه بدلاً من أن يعطينيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اذهب إلى القبض فضعه هناك.
وقال بعض الصحابة: ساءت أخلاقنا في غنائم بدر، فسلبنا الله إياها وجعلها لرسوله صلى الله عليه وسلم يضعها حيث شاء؛ ولذلك افتتحت هذه السورة بقوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ[الأنفال:1].
والأنفال: جمع نفل، وهي: الغنائم، قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأنفال:1].
ثم ذكر ربنا جل جلاله صفات هؤلاء المؤمنين، وأنهم: إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2].
سردت السورة أنواع الكرامات التي أكرم الله بها عباده المؤمنين يوم بدر، فمن هذه الكرامات:
الكرامة الأولى: النعاس، كما قال الله عز وجل: إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ[الأنفال:11]، وما جرت العادة أن الإنسان حين يلقى عدوه ينام وعدوه كثير عدده، شديد حرده، عظيم بأسه؛ فإنه في تلك الحال لا يأتيه نعاس أصلاً، لكن الله عز وجل ألقى عليهم النعاس حتى يقول بعض الصحابة: والله إن أحدنا ليسقط سوطه من يده فما يدري به، أي: من شدة النعاس تأميناً من الله عز وجل، كأن الله أعطاهم حبوباً تهدئ روعهم وتخفف غلواءهم رضوان الله عليهم.
الكرامة الثانية: أن بعضهم لما أصابه ذلك النعاس احتلم فأجنب، فجاء الشيطان فوسوس لهم فقال: تزعمون أنكم على الحق وأنكم أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم المبعوث من عند الله، والآن أصابتكم جنابة وليس عندكم ماء تتطهرون به، فقال الله عز وجل: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ [الأنفال:11]، أي: تكون الأرض ثابتة تحت أقدامكم، وبالمقابل أنزل على الكفار مطراً غزيراً جعل الأرض تميد من تحت أقدامهم، كلما قام أحدهم خر.
الكرامة الثالثة: أن الله تعالى أيدهم بالملائكة، يقول الله عز وجل: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [الأنفال:12]، والصحيح من أقوال المفسرين: أن الملائكة شاركوا في القتال يوم بدر؛ بنص هذه الآية، فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ[الأنفال:12]، أي: اضربوا الأعناق، وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ[الأنفال:12]، يقول بعض الصحابة: كنا نعرف قتلى المشركين يوم بدر، باخضرار في أطرافهم، يعني تكون أطرافهم مخضرة، فيعرفون أن هذا القتيل ما قتلوه هم، بل قتلته الملائكة، وكان عدد الملائكة خمسة آلاف، كما قال ربنا في آل عمران: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران:124-125]، مسومين، أي: معلمين بعمائم، فكان عندهم عمائم نزلوا بها في ذلك اليوم.
يقول أحد الصحابة: بينما أنا أشتد وأشتد: يعني أجري، إثر رجل من المشركين، إذ خر صريعاً، فعلمت أن الملائكة قتلته، أي: كان يجري وراء المشرك ليقتله، فخر المشرك من نفسه صريعاً، والحمد لله رب العالمين!
وهذا صحابي آخر: (جاء يقود أسيراً من المشركين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمشرك: من أسرك؟ قال الصحابي: أنا يا رسول الله! فقال الرجل: لا، والله ما أسرني، بل أسرني رجل يلبس ثياباً بيضاً على خيل بلق، ما رأيته قبل اليوم قط! فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للصحابي: ذاك ملك أيدك الله به )، فكانت هذه كرامات سردها ربنا في هذه السورة.
الكرامة الرابعة: التعمية التي كانت على أولئك المشركين، قال الله عز وجل: إِذْ يُرِيكَهُمْ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً[الأنفال:43]، وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ[الأنفال:44]، يعني: جعل المشركين في أعين المسلمين قلة، حتى أن واحداً من الصحابة يسأل أخاه: أتراهم مائة؟! أي: هل الجماعة هؤلاء مائة؟! فيقول له الآخر: فوقهم بقليل! مائة وقليل! بينما كانوا بين التسعمائة إلى الألف، وفي الوقت نفسه قلل المسلمين في أعين المشركين؛ من أجل أن يجترئ الفريقان على بعضهما، قال الله عز وجل: لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً[الأنفال:42].
ومن العجائب! ونعوذ بالله من الخذلان! كما قيل:
يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
أن أبا جهل لعنه الله، برز من بين الصفوف داعياً -وهو إمام المشركين- قال: اللهم من كان أقطعنا للرحم وأتانا بما لم نعرف، اللهم أحنه الغداة، والمسكين يدعو على نفسه ولا يشعر (من كان أقطعنا للرحم)، فمن الذي قطع الرحم؟! من أتانا بما لم نعرف؟ أنت الذي جئت بالشرك! والإنسان مفطور على التوحيد، قال الله عز وجل ساخراً مبكتاً: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ[الأنفال:19]، يعني: يا أبا جهل ! أنت استفتحت، والله استجاب، إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ[الأنفال:19]؛ ولذلك كان من أوائل من صرعوا في ذلك اليوم، نعوذ بالله من الخذلان!
ثم بين ربنا في هذه السورة: أن هناك سمة مشتركة بين الكفار عموماً، وهي: الكبر، والغطرسة، والبطر، رد الحق وغمط الناس، قال الله عز وجل: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [الأنفال:47]، لما قيل لــأبي جهل من بعض المشركين العقلاء، قالوا: طالما العير قد نجت، فلنرجع، فقال أبو جهل متكبراً: والله لا نرجع، حتى نرد بدراً، فننحر الجزور، ونشرب الخمور، وتعزف القيان، فلا يزال العرب يهابوننا، قال الله عز وجل: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ[آل عمران:11]، أي: طريقة أبي جهل هذه قد سبقه إليها فرعون، كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ [الأنفال:54].
في نهاية السورة يأمر الله جل جلاله عباده المؤمنين بأن يوالي بعضهم بعضاً؛ لأن الكفار يوالي بعضهم بعضاً، قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ[الأنفال:73]، أي: إلا تفعلوا هذه الموالاة، تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73]، وهذه الآية يخاطب بها المسلمون في كل زمان ومكان، فواجب عليكم أن تأتلفوا وأن تتحدوا وأن يعطف بعضكم على بعض، وأن تكونوا كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر؛ ولذلك أكبر آفات المسلمين اليوم أنهم ثمانون دولة لا يجمعهم نظام، ولا يوحدهم قانون، ثم بعد ذلك في داخل الدولة الواحدة شيع وأحزاب، وطرق وجماعات، وفئات وتجمعات، وكل يدعي أنه على الحق، كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [المؤمنون:53]، ومن أراد أن يلقى الله تعالى غداً مسلماً فليوالِ المسلمين أجمعين، وليحب المسلمين أجمعين، كل على قدر ما فيه من طاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
وأسأل الله أن يتوفانا على الإيمان! والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تأملات في سور القرآن - الأنفال للشيخ : عبد الحي يوسف
https://audio.islamweb.net