إسلام ويب

لقد اقتضت سنة الله الكونية أن يكون بين الناس تعاملات، وتبادل المنافع والمصالح لحاجة الناس بعضهم إلى بعض في ذلك، ومن ذلك البيع فقد أحله الله، إلا ما ورد في بعض صوره أنها محرمة، كأن يكون عين المبيع محرماً، كالخمر والخنزير، أو يكون مرد التحريم إلى وجوه مخالفة شرعية بحتة، كالنهي عن البيع بعد الأذان الثاني يوم الجمعة، وكذلك بيع السلاح زمن الفتنة، وغيرها من الصور.

أقسام البيع باعتبار المبيع

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه ورضا نفسه، وزنة عرشه ومداد كلماته.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى.

أما بعد:

أيها الإخوة الكرام! إن من آكد أحكام المعاملات وأهمها على الإطلاق البيوع، والكلام في هذا الدرس إن شاء الله يتناول أقسام البيوع، ثم التنبيه على بعض البيوع المحرمة، وبيان سبب التحريم.

أما أقسام البيوع فبعدما عرفنا أن البيع مما تدعو إليه ضرورة الحياة البشرية أحياناً، وحاجتها أحياناً، وترفهها أحياناً، وعرفنا أن الأصل في البيع الحل، فكل من ادعى التحريم في صورة معينة فلا بد أن يأتي بالدليل؛ لعموم قول الله عز وجل: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275].

وإذا أردنا أن نقسم البيوع فإننا نقسمها باعتبار المبيع، وباعتبار أسلوب تحديد الثمن، وكيفية أدائه:

أما باعتبار المبيع: فالبيوع على ثلاثة أقسام: بيع مطلق، وبيع الصرف، وبيع المقايضة.

أما البيع المطلق: فهو ما يمارسه الناس في سائر أيامهم، من مبادلة عين بنقد، فالإنسان عندما يدفع نقوداً ويأخذ في مقابلها سلعة، هذا نسميه بيعاً مطلقاً.

النوع الثاني: وهو بيع الصرف: مبادلة نقد بنقد، وهذا الذي يحصل أيضاً من الناس كثيراً حين يبيعون ريالات بجنيهات أو دولارات بدراهم، أو الجنيه الإسترليني باليورو، ونحو ذلك مما يجري في حياة الناس، هذا تسميه الشريعة صرفاً.

أما النوع الثالث فهو المقايضة: وهو أيضاً يجري بين الناس بنفس الاسم, وهو: مبادلة عين بعين، ومبادلة سلعة بسلعة.

إذاً: البيع من ناحية المبيع ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

إما بيعاً مطلقاً وذلك حين نبادل عيناً بنقد.

وإما صرفاً وذلك حين نبادل نقداً بنقد.

وإما مقايضة وذلك حين نبادل عيناً بعين أو سلعة بسلعة.

أقسام البيع باعتبار الثمن

أقسام البيع من ناحية أسلوب تحديد الثمن

أما من ناحية أسلوب تحديد الثمن فهو أيضاً ينقسم إلى ثلاثة أنواع: إما بيع المساومة، أو بيوع الأمانة، أو بيوع الوضيعة.

بيع المساومة: وهو الذي عليه أكثر الناس اليوم، وهو البيع الذي لا يظهر فيه البائع رأس ماله، فيبيع لك سلعة، وأنت لا تدري بكم اشتراها، هذا حال أغلب التجار الآن، وهذا البيع نسميه بيع المساومة، وهو يعتمد على مهارة البائع والمبتاع. يقول لك: هذه السلعة ثمنها كذا، ثم بعد ذلك إذا ماكسته وساومته فلربما أنقص لك من ثمنها.

النوع الثاني: وهو لا يكاد يوجد في دنيا الناس اليوم وهو ما يسمى ببيوع الأمانة، وهي: البيوع التي يظهر فيها البائع رأس ماله، وعلى أساسه يتحدد الشراء.

بمعنى: أنه يقول لك: هذه السلعة أنا اشتريتها بتسعة, وسأبيعها لك بعشرة، أو بخمسة عشر أو كذا، يظهر رأس ماله وهو في ذلك أمين، وهذا كما ذكرت لا يكاد يوجد في دنيا الناس اليوم، وبيوع الأمانة هذه تنقسم بدورها إلى: بيع مرابحة، وبيع وضيعة، وبيع تولية.

النوع الأول: بيع المرابحة: وهو البيع برأس المال مع زيادة ربح معلوم، كأن يكون اشتراها بتسعة فيبيعها بعشرة، ونسميه بيع مرابحة؛ لأنه ربح ثمناً معلوماً.

النوع الثاني: بيع الوضيعة: وهو البيع برأس المال مع نقص، أي: مع خسارة، كأن يكون اشتراها بعشرة فيبيعها بتسعة، وهذا نسميه بيع الوضيعة، وبعضهم يسميه بيع الحطيطة.

النوع الثالث: بيع التولية: وهو أن يبيع بنفس القيمة التي اشترى بها، فلو اشترى بعشرة فإنه يبيع بعشرة.

إذاً: بيع الأمانة ينقسم إلى ثلاثة أقسام: إما أن يكون مرابحة بزيادة على رأس المال. وإما أن يكون وضيعة أو حطيطة بنقص عن رأس المال. وإما أن يكون تولية بأن يبيع بمثل ما اشترى به.

ثم بعض الفقهاء يزيدون أنواعاً أخرى يقولون: هناك بيع المسترسل وبيع الإشراك.

بيع المسترسل: هو البيع بسعر السوق، والمسترسل هو الجاهل بقيمة السلعة، والذي لا يحسن المماكسة.

مثاله: بدوي جاء بإبله إلى الحاضرة وهو لا يحسن المماكسة؛ لأنه ما اعتادها، فينظر في السوق بكم يبيعون الناقة، وبكم يبيعون القعود، وبكم يبيعون بنت اللبون، فيبيع بمثل سعر السوق، هذا نسميه بيع المسترسل.

وأما بيع الإشراك: فهو بيع بعض المبيع ببعض الثمن، يعني: السلعة ما يبيعها كلها وإنما يبيع بعضها. مثال ذلك: إنسان عنده قطعة أرض يبيع جزءاً منها ببعض الثمن الذي افترضه.

وبعد ذلك: هناك بيع المزايدة: وهو البيع لمن يزيد، وهو ما نسميه الآن بالمزاد أو بالدلالة، فهناك إنسان يعرض سلعته، ثم بعد ذلك يعرض الناس الثمن الذي يرتضونه فيقول: من يزيد؟ ثم بعد ذلك يستقر البيع على من دفع أعلى سعر يعرضه المتزايدون.

يقابله الشراء بالمناقصة: الشراء بالمناقصة، إنسان راغب في سلعة ما، فيطلب من التجار أن يعرضوا ما عندهم، ويشتري ما كان ثمنه أقل.

أقسام البيع باعتبار كيفية أداء الثمن

بعد ذلك: عندنا تقسيم البيع باعتبار كيفية أداء الثمن، وينقسم إلى أربعة أقسام:

القسم الأول: منجز البدلين، وهو ما نمارسه يومياً، بمعنى أنك تشتري شيئاً فتنجز للبائع الثمن، وينجز لك السلعة أو العين أو البضاعة، فلا يشترط تأجيل الثمن ولا تأجيل المثمن، وإنما كلاهما يسلم في مجلس العقد، ويسمى أيضاً بيع النقد، وهو ما كان منجز البدلين.

القسم الثاني: مؤجل الثمن، ويسمونه بيع النسيئة، بمعنى أنك تذهب إلى الدكان فتشتري ما شاء الله لك أن تشتري، فإذا قال لك: الثمن عشرة، تقول له: سآتيك به غداً أو أمهلني إلى آخر الشهر، لا مانع من هذا، ونسميه بيع النسيئة، وهو ما كان الثمن فيه مؤجلاً.

القسم الثالث: على العكس، الثمن يعطى عاجلاً، والمثمن يكون مؤجلاً، وهو ما يسميه فقهاؤنا ببيع السلم، الذي يمارسه المزارعون، بمعنى أنه يأخذ منك ثمناً معلوماً في مقابل مثلاً مائة شوال من القمح أو من الفول أو من التمر على أن يعطيه لك وقت الجذاذ، في اليوم الأول من شهر أغسطس مثلاً من عام كذا، هذا نسميه بيع السلم. وقد مارسه الصحابة قبل أن يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وبعدما قدم المدينة، وقال لهم عليه الصلاة والسلام: ( من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ).

القسم الرابع: وسيأتي فيه الكلام تفصيلاً، وهو: مؤجل البدلين، وهو ما يسمى بيع الدين بالدين، أو بيع الكالئ بالكالئ.

أعيد مرة أخرى: البيع أقسامه باعتبار كيفية أداء الثمن ينقسم إلى أربعة أقسام:

القسم الأول: ما كان منجز البدلين، وهو بيع النقد، بمعنى أن يعجل الثمن ويعجل المثمن.

القسم الثاني: ما كان المثمن عاجلاً والثمن مؤجلاً، وهذا نسميه بيع النسيئة، وكلاهما جائز.

القسم الثالث: ما كان الثمن معجلاً والمثمن مؤجلاً، ونسميه بيع السلم، وهو أيضاً جائز، وهو من قبيل بيع المعدوم؛ لأن السلعة ليست حاضرة، وليست موجودة أصلاً، الزراعة ليست موجودة, وقد تكون وقد لا تكون. وقد علمنا أن من شروط صحة البيع أن يكون المبيع حاضراً مقدوراً على تسليمه، لكن الشريعة أباحت بيع السلم استثناء لحاجة الناس إليه.

القسم الرابع: ما كان مؤجل البدلين، وهو بيع الدين بالدين.

شروط صحة البيع

أيها الإخوة الكرام! نكرر بأن البيع من أجل أن يقع صحيحاً لا بد له من شروط، وهذه الشروط بعضها يتعلق بالعاقدين، وبعضها يتعلق بالمعقود عليه.

الشروط التي ينبغي أن تتوافر في المتعاقدين

أما ما يتعلق بالعاقدين فلا بد أن يكون العاقدان مختارين, فليس أحدهما مكرهاً، ولا بد أن يكون العاقدان رشيدين، فلا ينعقد بيع المجنون، ولا ينعقد كذلك بيع الصبي غير المميز؛ لأن هذا موقوف على إجازة وليه.

الشروط التي ينبغي أن تتوافر في المعقود عليه

أما ما يتعلق بالمعقود عليه: فذكرنا فيما مضى أن له شروطاً:

الشرط الأول: لا بد أن يكون المعقود عليه طاهراً أو متنجساً يمكن تطهيره، أما إذا كان نجساً كالكلب فلا يجوز بيعه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ثمن الكلب خبيث )، ومثله الخمر؛ لأن الخمر لا تتطهر، ومثله الخنزير فلو غسلته ببحار الدنيا فإنه لا يطهر فهو نجس العين، فلا بد أن يكون المبيع طاهراً.

الشرط الثاني: أن يكون المعقود عليه منتفعاً به، فلا يصح أن يباع الشيء الذي لا ينتفع به؛ كالأوساخ والقاذورات وما أشبه ذلك.

الشرط الثالث: لا بد أن يكون المعقود عليه مملوكاً للبائع.

الشرط الرابع: لا بد أن يكون المعقود عليه مقدوراً على تسليمه، وقد ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الملاقيح والمضامين ) . الملاقيح: ما كان في أصلاب الآباء. والمضامين: ما كان في أرحام الأمهات.

يعني: عندي تيس فأقول لك: هذا التيس في صلبه عشرة تيوس مثلاً، أو عشر شياه أبيعها لك بكذا، هذا ما يصح؛ لأن هذا الشيء ليس مقدوراً على تسليمه، قد يموت التيس بما في صلبه.

ومثله أيضاً: نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع المضامين، وهو ما كان في أرحام الأمهات، ( ونهى صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة ) ؛ لأن هذا كله غير مقدور على تسليمه.

ومثله أيضاً: بيع البعير الشارد، وبيع السمك في الماء، والطير في الهواء، هذا كله ليس مقدوراً على تسليمه، فلا بد أن يكون المبيع مالاً طاهراً منتفعاً به مقدوراً على تسليمه، مملوكاً للبائع وقت العقد.

الشرط الخامس: لا بد من العلم بالثمن والمثمن، ولا بد أن تنتفي الجهالة أو ما سمته الشريعة غرراً، وسيأتي معنا الكلام في أن الغرر إذا كان يسيراً قليلاً فإنه مغتفر.

الشرط السادس: كذلك من شروط صحة البيع عدم التوقيت، ما معنى عدم التوقيت؟

ما يصح أن أبيعك داري، فأقول لك: أبيعك هذه الدار بثمن كذا إلى سنة كذا، لا، بل البيع يقتضي تمليك المبيع للمشتري مطلقاً، وهذا مقتضي صيغة البيع؛ لأنه كما قلنا: الإيجاب هو إرادة التمليك، والقبول إرادة التملك، فلا يصح التوقيت في المبيع، بمعنى: أني أبيعك الشيء إلى أجل معلوم فهذا لا يصح بحال، وهو الذي يسميه علماؤنا بيع الوفاء.

بيع الجزاف.. صفته وحكمه

أيها الإخوة الكرام! أريد أن أذكر مسألة يسيرة، والحاجة ملحة في عرض حكمها، وهو ما يسميه علماؤنا ببيع الجزاف. ما معنى كلمة الجزاف؟

الجزاف: الشيء غير المقدر على وجه التحديد، لما أقول: فلان هذا يتكلم جزافاً يعني لا يبالي، وبيع الجزاف الآن شائع في عالم الاستثمارات، أن تباع كمية كبيرة من السلع دفعة واحدة دون أن يعرف مقاديرها على وجه التفصيل. تعقد صفقات ضخمة مرة واحدة، دفعة واحدة، على سبيل الإجمال.

ومثاله الآن: مما يحصل في هذه البلاد مثلاً أن الناس يبيعون المحاصيل بالرؤية، وهذه المحاصيل مما يمكن أن يكال، ويمكن أن يوزن، لكن ما يكيلونه ولا يزنونه وإنما يبيعونه جزافاً.

ولذلك نقول: بيع الجزاف في اصطلاح أهل العلم: هو بيع ما يكال أو يوزن أو يعد جملة بلا كيل ولا وزن ولا عد، مثاله أيضاً بيع الطوب، أو البطيخ، أو البرتقال وغيرها، والفواكه عموماً ومحاصيل الخضروات وما أشبه ذلك تباع في الغالب جزافاً.

الدليل على حل بيع الجزاف

بيع الجزاف مباح، لكن بشروط، ما الدليل على كونه مباحاً؟

حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في صحيح مسلم قال: ( كنا نشتري الطعام من الركبان جزافاً، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه )، والركبان: الذين يأتون من أماكن الزراعة.

والنهي هنا متوجه للبيع، يعني: أنا اشتريت جزافاً، والرسول صلى الله عليه وسلم ما نهانا، لكن نهانا أن نبيعه حتى ننقله، وهذا دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر من إغلاء الأسعار في صفقات وهمية.

بمعنى أني -وهو حاصل الآن- أشتري اللوري جزافاً من فلان من الناس، ثم بعد ذلك وهو في مكانه أبيعه للثاني، والثاني يبيعه للثالث، والثالث للرابع حتى إذا وصل إلى السوق يكون قد تضاعف أضعافاً كثيرة فيتضرر الناس، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم يريد ألا يكون البيع بيعاً صورياً، وإنما يكون بيعاً حقيقياً، فنهى صلى الله عليه وسلم عن بيع هذه السلع التي اشتريت جزافاً حتى يحصل نقلها؛ لأنها إذا نقلت استفاد الناقل الذي هو السواق، واستفاد الحمال، ثم إذا رأى الناس الطماطم والعجور والبطيخ وغيرها تروح وتجيء يحصل للناس طمأنينة بأن السلع والحمد لله موفورة, ولا يحصل لهم الهلع؛ لأنه أحياناً تسري شائعة بأن سلعة كذا ستنعدم في الأسواق فيتدافع الناس فيشترونها ويجففون السوق، ويفضي ذلك إلى إغلاء الأسعار، أما إذا اطمأننت مثلاً بأن الخبز موجود، فإني لن أشتري اليوم إلا ما يكفي لعشائي، وإذا أصبحت سالماً بحول الله أشتري للفطور فقط، ثم بعد ذلك أشتري ما آكله في الظهيرة وهكذا.

إذاً: الحديث الأول الذي يدل على أن بيع الجزاف مباح: حديث عبد الله بن عمر في صحيح مسلم قال: ( كنا نشتري الطعام من الركبان جزافاً، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه )، وفي رواية، البخاري و مسلم : ( رأيت الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ابتاعوا الطعام جزافاً يضربون في أن يبيعوه في مكانه وذلك حتى يؤووه إلى رحالهم ).

شروط بيع الجزاف

بيع الجزاف مباح لكن بشروط، وأكثر من فصل في هذه الشروط المالكية رحمة الله عليهم قالوا:

الشرط الأول: رؤية المبيع حال العقد، ما لم يترتب عليه فساده، ومثال رؤيته حال العقد: رؤيته قبله إذا استمر على حالته إلى وقت العقد دون تغيير، فلا يشترط أن يكال ولا أن يوزن ولا أن يعد لكن يشترط أن يرى.

الشرط الثاني: أن يكون المتبايعان معاً جاهلين بمقدار المبيع، فالبائع لا يستطيع أن يجزم بأن هذا اللوري فيه كذا من الآصع أو كذا من الأرطال أو من الكيلوهات أو كذا، وأيضاً المبتاع يكون جاهلاً بقدر المبيع.

ثم قالوا: ومن الشروط -وهذا من دقتهم- استواء الأرض التي يوضع عليها، حتى لا يقع غرر في التقدير، يعني: ما تكون الأرض متعرجة, وإنما تكون ثابتة بحيث أن هذا الكوم من البطيخ مثلاً يكون واضحاً، ويكون التقدير فيه سليما، بأن هذا الكوم تقريباً فيه كذا.

والشريعة أباحت بيع الجزاف لحاجة الناس إليه؛ ولو أن الشريعة قالت: لا، وأن كل سلعة تباع فلا بد أن تكال أو توزن أو تعد، فهناك سلع ما تحتمل مثل الطماطم، فالطماطم لو قعدنا نعدها خاصة في جونا هذا، فسدت، ومثلها الشمام وغيرها.

يعني: هناك سلع لا تحتمل التأخير وإنما لا بد أن تتداول سريعاً، ومثله أيضاً الموز, فالموز سريع الفساد كما هو معلوم، فالشريعة إذاً خففت في مثل هذا.

بيع المال الربوي بجنسه جزافاً

أيها الإخوة الكرام! لا يجوز بيع المال الربوي بجنسه جزافاً.

عندنا الأموال نوعان: أموال ربوية، وأموال غير ربوية.

الأموال الربوية التي عينها رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أصناف: ( الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والتمر بالتمر، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح رباً إلا مثلاً بمثل، يداً بيد, هاء وهاء، فمن زاد أو استزاد فقد أربى, الآخذ والمعطي سواء ).

والعلة في الذهب والفضة الثمنية، أنهما أثمان للأشياء، ويقاس عليها الآن النقود، فلا يصلح أن أعطي لك كوماً من الجنيهات، ثم بعد ذلك أقول لك: أعطني مثلها من الريالات أو الدولارات أو أدين نصفها مثلاً فهذا لا يجوز؛ لأن هذه أموال ربوية لا بد فيها من العد، فلا يصلح الجزاف فيها.

والأربعة الأصناف الأخرى التي هي البر: الذي هو القمح والشعير والتمر والملح العلة فيها الاقتيات والادخار، أي: أنها مقتاتة ومدخرة، فيقاس عليها كل مقتات مدخر؛ مثاله: الذرة، الدخن، الفول، الفاصوليا، السكر، العدس، وقس على ذلك مما يسميه علماؤنا بالقطنيات ونحوها.

فما يصح بيع شيء من هذه بغيره جزافاً، فلا يجوز أن أعطي لك لورياً من القمح، وأقول لك: أبادله لك بلوري من الشعير، لا، لا بد هاهنا من الكيل أو الوزن؛ لأن هذه أموال ربوية يشترط فيها التماثل إذا اتحد الجنس، فإذا كان قمح بقمح أو فول بفول، أو تمر بتمر فلا بد من التماثل والتقابض.

أما إذا اختلف الجنس كتمر بقمح مثلاً فإنه لا يشترط التماثل، لكن يشترط التقابض، فممكن أن أبيع لك شوالاً من التمر بشوالين من القمح، لكن لا بد من التسليم والتسلم.

وبهذا يتضح أن المعاملة التي تحصل في بعض الولايات أو بعض الأقاليم، من أنه يبيع لك شوالاً من فول جديد بشوالين قديم، أو شوالاً من تمر جديد بشوالين قديم، ومثله ما يفعله النساء حين تذهب إحداهن إلى بائع الذهب فتسلم إليه ذهبها القديم فيزنه، ثم بعد ذلك يعطيها ذهباً جديداً أقل، فهذه معاملة ربوية، ولو كره الناس هذا الكلام لا بد أن نقوله.

إذاً: الأموال الربوية التي هي ستة أصناف, لا يصح بيعها جزافاً، بل لا بد من العد في المعدود، والوزن في الموزون، والكيل في المكيل؛ لماذا؟ لأن العلماء ذكروا قاعدة: أن الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل، يعني: لو أننا جهلنا التماثل فهو حرام، مثلما لو أننا علمنا أن التفاضل حرام، فلا بد من العلم بالتماثل.

أسباب النهي عن بعض البيوع

إذا علم هذا فننتقل إلى البيوع المحرمة، أو بعبارة أخرى البيوع المنهي عنها:

وأسباب النهي عن البيع قد ترجع إلى العقد, وقد ترجع إلى غيره.

البيع المنهي عنه لاختلال شرط من شروط المبيع

فالنهي الذي يرجع إلى العقد مرده إلى اختلال شرط من شروط المبيع، والمبيع لا بد أن يكون طاهراً منتفعاً به مملوكاً للبائع مقدوراً على تسليمه معلوماً بالعين إذا كان موجوداً، أو معلوماً بالصفة إذا كان غائباً.

فإذا اختل شرط من هذه الشروط فنقول: هذا البيع منهي عنه، وهذه القواعد الكلية لو عرفناها أيها الإخوان، نستطيع أن نطبقها الآن على كثير من أنواع البيوع التي تستجد في كل يوم، فليس بالضرورة أن تنص الشريعة على كل عين، مثلما نقول في عموم قول الله عز وجل: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157].

الشريعة لم تقل: الملوخية حلال، والفول حلال، والبوش حلال، والفتة حلال، والكذا حلال, هذه كلها طيبات، والشريعة ما قالت: أكل الصرصار حرام، وأكل الزنبور حرام، وأكل السفة حرام، وأكل الكذا حرام, وإنما هي داخلة في عموم: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157].

وأقول هذا الكلام؛ لأن بعض الناس ممن قل علمه يقول لك: لا، أعطني آية أن الشيء هذا حرام، أو أعطني حديثاً؟ فنقول له: لا، الشريعة تأتي بقواعد كلية تندرج تحتها جزئيات كثيرة.

فإذا تخلف شرط وجود المعقود عليه مثلاً فإننا نقول: هذا البيع فاسد أو هذا البيع باطل على اختلاف اصطلاحات العلماء، كما مثلت لكم قبل قليل ببيع الملاقيح وبيع المضامين، نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن المبيع غير موجود وغير مقدور على تسليمه.

وأيضاً مثلاً: تخلف شرط التقوم أو الانتفاع الشرعي، كبيع الخنزير، فالخنزير لا يصلح لا للأكل ولا يحلب دره، أي: لبنه فهو تبع للحمه، فاللحم نجس واللبن نجس، ما ينتفع بلحمه، ولا ينتفع بلبنه، ولا يركب ظهره، ولا يحمل عليه، ولا ينفع حتى للحراسة.

يعني: الكلب فيه فائدة قليلة، فالكلب يمكن أن يحرس، أما الخنزير فهو عديم الفائدة غير منتفع به، ولذلك نقول: بيعه باطل، وثمنه خبيث، ومثله أيضاً: المحرمات والنجاسات فإنها لا تعتبر أموالاً متقومة.

البيع المنهي عنه لأمر خارج عن العقد ولازمه

قد يكون البيع منهياً عنه لا لشيء يتعلق بذات العقد وإنما بلازمه؛ لأنه قد يشتمل العقد على ربا، قد يشتمل على غرر وجهالة، أو قد يكون النهي عن البيع ليس راجعاً إلى ذات العقد ولا إلى لازم العقد، ولكن لأمر خارج عنهما، فلا يتعلق بالعقد ولا بلازم العقد.

مثلاً: ما يكون مرده إلى النهي عن التضييق والإضرار بالمسلمين، ( الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع الرجل على بيع أخيه )، فهذه السلعة منتفع بها، ومقدور على تسليمها ومتقومة، وطاهرة وغير ذلك من الشروط، والعقد بيني وبينك صحيح، ما اشتمل على ربا ولا اشتمل على غرر، لكنني بعت على بيع أخي.

يعني: بعدما اشتريت أنت من فلان جئت وقلت لك: رد السلعة وأنا أبيع لك بأقل، هاهنا نقول: هذا البيع منهي عنه لاشتماله على الإضرار بالمسلم الآخر.

ومثله أيضاً: الاحتكار، ومثله: بيع السلاح في زمن الفتنة، ومثله: بيع التمر لمن يتخذه خمراً، أنا أعرف بأن فلاناً هذا خمار ويبيع الخمر, فإذا جاء يشتري مني تمراً وقال لي: أعطني ربعين، كل يوم سآتي لآخذ منك ربعين، في الصباح ربعين وفي العصر ربعين، فلا يجوز، وأتعلل بأنني أبيع له تمراً، والحمد لله ليس فيه غرر ولا ربا ولا شيء، وإنما الثمن معجل والمثمن معجل.

نقول: لا، أنت تعلم بأن مآل هذا البيع إلى الحرام، والاستعانة على معصية الله عز وجل.

وإذا كان بين المسلمين فتنة وحرب فلا يصلح بيع السلاح، كذلك لا يصح بيع المصحف لكافر من أجل أن يستدل به على التلبيس على المسلمين.

صورة للنهي عن البيع بسبب مخالفة شرعية لا علاقة لها بالبيع

ما يكون مرد النهي فيه إلى وجود مخالفة شرعية بحتة، مثاله: كالبيع بعد النداء الثاني يوم الجمعة، يعني: بعدما يجلس الإمام على المنبر يوم الجمعة، وإنسان باع سلعة مباحة، والعقد ليس فيه غرر ولا ربا، نقول: هذا البيع حرام؛ لأنه مشتمل على مخالفة لأمر الله عز وجل الذي قال: وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9]: يا أيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9].

وهذا الكلام لا بد من إعادته وتكراره للناس ولا نمل من التكرار, فإن التكرار موجود في القرآن، عندكم: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13]، في سورة الرحمن تكررت إحدى وثلاثين مرة، وعندنا قصة موسى عليه السلام تكررت في القرآن ثلاث وعشرون مرة، وتكررت قصة إبراهيم، والرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم ردد الكلام ثلاثاً، حتى يعقل عنه عليه الصلاة والسلام، وهذا من رأفته ورحمته.

فالبيوع المنهي عنها: إما أن يكون النهي فيها متعلقاً بالمبيع، وإما أن يكون متعلقاً بالعقد أو بلازم العقد أو بأمر خارج عنهما.

فما كان متعلقاً بالعقد: فإما أن يكون البيع في ذاته محرماً، وإما أن يكون العقد مشتملاً على غرر أو ربا.

وما كان خارجاً عن العقد ولازم العقد: فإما أن يكون مرد النهي فيه إلى التضييق على المسلمين والإضرار بهم وإيذائهم، كما لو كان احتكاراً، أو كان بيعاً على بيع أخيك، أو سوماً على سوم أخيك، وإما أن يكون مرده إلى مخالفة شرعية كالبيع بعد النداء الثاني يوم الجمعة, أو بيع السلاح في زمن الفتنة ونحو ذلك.

الأسباب الأكثر شيوعاً للبيوع المنهي عنها في وقتنا المعاصر

أكثر الأسباب شيوعاً في وقتنا المعاصر راجعة إما إلى تحريم عين المبيع، كالبلاد التي يباع فيها الخمر مثلاً، وإما أن يكون راجعاً إلى اشتمال العقد على الربا، فهذا كثير في هذه البلاد وغيرها، وإما أن يكون لاشتمال العقد على الغرر، وهذا كثير أيضاً في هذه البلاد وفي غيرها، وإما أن يكون راجعاً إلى الشروط الفاسدة التي تئول إلى الربا أو الغرر أو مجموعهما.

والخلاصة: أن البيوع الفاسدة في زماننا هذا: إما أن يكون الفساد فيها راجعاً إلى أن عين المبيع في ذاته محرم، وإما لاشتمال العقد على الربا، أو اشتماله على الغرر، أو اشتماله على شروط تئول في مجموعها إلى الربا أو الغرر.

بيع الدين بالدين وعلاقته بالبيوع المحرمة

نذكر أيها الإخوان! البيوع المحرمة تفصيلاً:

فأول البيوع المحرمة: بيع الدين بالدين، أو بيع الكالئ بالكالئ، وقد ورد النهي عن بيع الكالئ بالكالئ في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما, وأخرجه الطحاوي في مشكل الآثار، و الحاكم في المستدرك, و البيهقي و الدارقطني : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ )، وهذا الحديث إسناده ضعيف، ولكن حصل الإجماع عليه، وليس معنى أن الحديث إذا كان ضعيفاً أنه يهمل، فهناك أحاديث ضعيفة باتفاق، والعمل عليها حاصل باتفاق، مثال ذلك حديث: ( الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على طعمه أو لونه أو ريحه )، هذا الحديث ضعيف، ولكن باتفاق أهل العلم أن الماء إذا تغير طعمه أو لونه أو ريحه فإنه لا يجزئ التطهر به.

إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه بشيء نجس فلا يصلح أن يستعمل أصلاً لا في عبادة ولا عادة، وأما إذا تغير بشيء طاهر فممكن أن يستعمل في العادات، مثاله: ماء وضعت فيه الشاي، فتغير طعمه ولونه وريحه، فلا ينفع أن تتوضأ به, ولكن ممكن أن تشربه هنيئاً مريئاً.

فإذاً هذا حديث ضعيف، ولكن الإجماع منعقد على العمل به.

مثال آخر: حديث أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الذي يرويه عن أبيه عن جده في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي فيه تفصيل الصدقات أي: الزكوات التي تتعلق ببهيمة الأنعام، وفيه تفصيل الديات؛ أن في المارن كذا وفي المنخر كذا، وفي الشفة كذا، وفي الإصبع كذا، وهذا الحديث أيضاً ضعيف، ولكن الإجماع واقع على العمل به.

وهاهنا أيضاً حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع الكالئ بالكالئ)، فهذا الحديث ضعيف, لكن قال الإمام أحمد : ليس فيه حديث صحيح, لكن إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين.

هذا الكلام نقله الحافظ ابن حجر رحمه الله في التلخيص الحبير عن الإمام أحمد .

صور بيع الدين بالدين

إذا عرفنا هذا. فما هي صور بيع الدين بالدين؟

الدين الذي يباع لا يخلو من أن يكون ثمناً مؤجلاً، فهناك بيع يسمى بيع النسيئة، فما معنى بيع النسيئة؟ المعنى: أن آخذ السلعة من مالكها وأؤجل الثمن، إذاً الثمن هذا صار ديناً في ذمتي، هذه صورة، وسيأتي التفصيل.

أو سعلة معينة مؤجلة التسليم بعكس الصورة الأولى التي هي بيع السلم، الثمن فيها معجل والمثمن مؤجل، وهذا أيضاً دين، لكنه دين في ذمة البائع.

ففي الصورة الأولى: الدين في ذمة المشتري.

وفي الصورة الثانية: الدين في ذمة البائع؛ لأن الثمن معجل والمثمن مؤجل.

ولكل صورة من هذه الصور حكمها:

صورة بيع ثمن مؤجل بثمن مؤجل وحكمها

الصورة الأولى: بيع ثمن مؤجل بثمن مؤجل.

ومعناه: إسقاط ما في ذمة المدين في ثمن يتأخر قبضه عن وقت الإسقاط، ومعنى هذا الكلام يتضح بهذا المثال: أنا اشتريت منك سلعة أيها التاجر، وهذه السلعة ثمنها ألف، وقلت لك: إن شاء الله أنقدك الثمن في اليوم الأول من ربيع، الذي هو الشهر الآتي وهذا يكون بعد اثني عشر يوماً إن شاء الله، فلما جاء اليوم الأول من ربيع، قلت لي: أين الألف يا عبد الله؟ فقلت لك: هذه الألف بعنيها بألف ومائة، على أن أعطيك ألفاً ومائة في رمضان.

فهذه من أبشع الصور وأنكدها وهي التي كان يفعلها أهل الجاهلية، يقول لك: أنظرني أزدك، أي: أخرني وأنا أزيدك، هذه من أوضح الصور المحرمة، فبيع الدين بالدين في هذه الصورة، بيع الثمن الذي وجب في ذمة المدين بثمن أعلى منه يتأخر عن وقت الإسقاط.

صورة التصارف بين دينين من الأثمان مؤجلين وحكمها

الصورة الثانية: التصارف بين دينين من الأثمان مؤجلين في الذمة، ومعناه أن أقول لك: بعني ألف دولار على أن أعطيك ألفين وسبعمائة، ويكون التسليم والتسلم بيننا في الأول من ربيع.

هاهنا البدلان مؤجلان في الذمة، فلا يصلح هذا؛ لأنه تقدم معنا هناك في أن الأموال الربوية لا بد فيها من تقابض، فلا يصلح أن يكون الثمنان أو أحدهما مؤجلاً في الذمة، بل لا بد من التسليم والتسلم في مجلس العقد، وإلا يقع الصرف باطلاً، وهذه صورة من الصور المحرمة.

ومثله أيضاً: لو قلت لك: بعني شوالاً من الفول بشوال من الفول على أن يكون التسليم والتسلم بيننا في تاريخ كذا، هذا أيضاً من بيع الدين بالدين وهو من الصور المحرمة.

صورة بيع ثمن مؤجل بسلعة معينة مؤجلة التسليم وحكمها

الصورة الثالثة: بيع ثمن مؤجل بسلعة معينة مؤجلة التسليم، يعني: مثلاً أنت عندك أغنام فأقول لك: بعني مائة شاة على أن استلم منك في الأول من ربيع، وأسلمك الثمن في الأول من ربيع، فهذا دين بدين.

لكن هذه الصورة جائزة لأنها غنم بقروش، وهذه التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر : ( لما أعيا بعيره، فنخسه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: ضربه بعصاه فالبعير نشط وصار قوياً، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال له: بعنيه، قال له: لا يا رسول الله! قال له: بعنيه، ووضع له ثمناً معيناً، واشترط جابر ألا يسلمه البعير إلا في المدينة، والرسول صلى الله عليه وسلم قبل بالشرط، فلما وصلوا إلى المدينة، جاء جابر بالبعير، والرسول صلى الله عليه وسلم أعطاه الثمن, قال له: البعير رد عليك )، يعني: خذ الدينار وخذ البعير، فأعطاه الثمن وتصدق عليه بالمثمن.

فهاهنا تأجيل للثمن والمثمن، وهي صورة جائزة, والناس يمارسونها, وليس فيها شيء إن شاء الله.

صورة بيع ثمن مؤجل بسلعة موصوفة في الذمة وحكمها

الصورة الرابعة: بيع ثمن مؤجل بسلعة موصوفة في الذمة مؤجلة، بمعنى أنك مزارع مثلاً: تقول لي: إنني أريد أن أزرع وأبيعك مائة شوال من التمر إن شاء الله في وقت الحصاد، في الأول من أغسطس أو في الأول من سبتمبر مثلاً: فأقول لك: قد قبلت، والثمن كذا على أن أسلمه لك في الأول من ربيع، فهذا البيع لا يجوز؛ لأن هذا من بيع الدين بالدين.

فشرط صحة عقد السلم أن يكون الثمن معجلاً في مجلس العقد.

صور عقود الاستصناع وحكمها

لكن هناك صورة أخرى: وهي بيع الاستصناع، أو عقد الاستصناع، بمعنى: أن فلاناً من الناس نجار مثلاً، أو أن فلاناً من الناس حداد، أو ما أشبه ذلك من الصنائع، فأنا أشترط عليك وأقول: أريد كذا وكذا من الأثاث، وأنت تشترط علي كذا من المال، فأقول لك: بأني سأدفع لك الثمن إن شاء الله في الأول من ربيع.

بعض أهل العلم يقول: بأن عقد الاستصناع لا بأس أن يكون الثمن فيه مؤجلاً إلى أجلٍ معلوم.

الصورة الرابعة: بيع سلعة موصوفة في الذمة مؤجلة بسلعة موصوفة في الذمة مؤجلة.

مثاله: أبيعك سيارات ليست موجودة وإنما موصوفة, لا زلنا نصنعها -مثلاً في مصنع جياد- على أن يكون في مقابل هذه السيارات ثلاجات من مصنع لبهر الموجود هاهنا، وليست السيارات موجودة ولا الثلاجات موجودة، مثلما نقول: بيع سلعة موصوفة في الذمة بسلعة مؤجلة موصوفة في الذمة، كلاهما مؤجل وكلاهما موصوف في مؤجل التسليم.

فإذا ألحقنا هذا ببيع السلم فلا يصلح؛ لأن بيع السلم شرط صحته أن يكون الثمن معجلاً في مجلس العقد، أما إذا ألحقناه بعقد الاستصناع فلا يظهر فيه حرج عند من يقولون: إن الاستصناع عقد مستقل لا يلحق بعقد السلم فلا يضر فيه تأجيل الثمن، أو المثمن المؤجل أصلاً، تأجيل الثمن أو تأجيل قبض رأس المال في مجلس العقد.

قريب من هذه الصورة ما ذكره أبو عبيد رحمه الله في كتاب الأموال في تصويره لبيع الكالئ بالكالئ حيث قال: صورته أن يسلم الرجل الدراهم في طعام إلى أجل, فإذا حل الأجل يقول الذي عليه الطعام: ليس عندي طعام، ولكن بعني إياه إلى أجل، فهذه نسيئة انقلبت إلى نسيئة، فلو قبض الطعام ثم باعه منه أو من غيره لم يكن كالئاً بكالئ.

يعني: بيننا عقد سلم، فتقول لي: سأسلمك في اليوم الأول من أغسطس مائة شوال من التمر، وأقول: وأنا أعطيك الثمن، فإذا جاء الأول من أغسطس تقول لي: تمر السنة هذه ما حمل، ولكن هذه المائة شوال بعني إياها، فهذا لا ينفع؛ لأن هذا من بيع الدين بالدين.

أسأل الله أن يعلمني وإياكم علماً نافعاً، وأن يرزقنا عملاً صالحاً، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , أنواع البيوع للشيخ : عبد الحي يوسف

https://audio.islamweb.net