إسلام ويب

حثت الشريعة الإسلامية على آداب الطعام، ومن ذلك: الاستئذان عند دخول بيوت الآخرين، وأيضاً الانتشار بعد الفراغ من أكل الطعام، وأن طعام الوليمة ملك للمضيف، وإنما أذن للضيف في الأكل فلا يجوز له أن يحمل شيئاً في جيبه من طعام الوليمة.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ...)

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

ومع النداء الثالث والستين في الآية الثالثة والخمسين من سورة الأحزاب، قال ربنا تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً [الأحزاب:53].

سبب نزول الآية

هذه الآية قد اشتملت على كثير من الأحكام، وسبب نزولها كما روى الإمام البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ( لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش صنع طعاماً بخبز ولحم، ثم دعا القوم فطعموا وجلسوا يتحدثون، وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام قام من قام وبقي ثلاثة نفر، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخرج ثم يرجع، فانطلق إلى حجرة عائشة ، فطرق حجر نسائه كلهن يسلم عليهن ويسلمن عليه ويدعون له، ثم إنهم قاموا) أي: الثلاثة الذين كانوا جالسين (قال أنس: فانطلقت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فألقي الحجاب بيني وبينه، وأنزل الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ [الأحزاب:53] )، هذا هو سبب نزول الشطر الأول من هذه الآية.

وأما الشطر الأخير وهو قول ربنا جل جلاله: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً [الأحزاب:53]، ذكر أن ذلك نزل في رجل قال: (لئن مات محمد لأتزوجن امرأة من نسائه سماها، فأنزل الله عز وجل: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً [الأحزاب:53]).

القراءات الواردة في الآية

قول الله عز وجل: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ [الأحزاب:53]، (بُيوت) بضم الباء هذه هي قراءة أبي جعفر يزيد بن القعقاع و ورش عن نافع و حفص عن عاصم و أبي عمرو بن العلاء .

وأما الجمهور فقد قرءوا بكسر الباء (لا تدخلوا بيوت النبي ) لمناسبتها للياء التي بعدها.

معاني مفردات الآية

قول الله عز وجل: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ [الأحزاب:53]، فيه تحريم لدخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلم.

وقوله: إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ [الأحزاب:53]، هذا الاستثناء. أي: إلا أن يؤذن لكم في الدخول فلا تدخلوا من أنفسكم وإنما ادخلوا بناءً على دعوته عليه الصلاة والسلام لطعام أو غيره.

وقول الله عز وجل: غَيْرَ نَاظِرِينَ [الأحزاب:53]، (ناظرين) بمعنى: منتظرين، كما قال الله عز وجل: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ [يونس:102].

قوله: إِنَاهُ [الأحزاب:53]، (إناه) من أنى يأني مصدر، أنى الشيء إذا حان، كما قال الله عز وجل: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد:16]، ومعناه: لا تدخلوا بيوت النبي إلا إذا صدر إذن منه لكم، ولكن إذا دخلتم فلا تدخلوا قبل وقت الطعام وأنتم تنتظرون نضجه وحضوره.

قوله: وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا [الأحزاب:53]، الأمر هنا للندب.

ثم قال الله عز وجل: فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا [الأحزاب:53]، (فإذا طعمتم) بمعنى: أكلتم، ومنه يقال للآكل: طاعم.

قوله: فَانْتَشِرُوا [الأحزاب:53]، الأمر هنا للوجوب، إذا أكلتم الطعام فانتشروا عائدين إلى بيوتكم أو أعمالكم.

قول الله عز وجل: وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ [الأحزاب:53]، يعني: لا تجلسوا بعضكم يؤنس بعضاً بالحديث في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم قال الله: إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ [الأحزاب:53]، (إن ذلكم) الإشارة لما مضى، إن ذلكم اللبث والمكث وطول البقاء كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قوله: فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ [الأحزاب:53]، ( كان عليه الصلاة والسلام أشد حياءً من العذراء في خدرها )، ( وكان لا يواجه أحداً بشيء يكرهه )، ( وكان إذا كره الشيء عرف في وجهه عليه الصلاة والسلام )، كان يستحي أن يقول لكم: انصرفوا فقد طعمتم.

قوله: وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ [الأحزاب:53]، الله جل جلاله لا يستحيي أن يقول الحق، قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: حسبك في الثقلاء أن الله عز وجل لم يحتملهم، يعني: أن الله جل جلاله لم يحتمل هؤلاء الثقلاء.

قال الإمام الألوسي رحمه الله: وعندي كالثقيل المذكور -يعني: فيه نوع آخر من الثقلاء- من يدعى في وقت معين مع جماعة، فيتأخر عن ذلك الوقت من غير عذر شرعي. يعني: مثلاً قيل له: العشاء في الساعة التاسعة، فيتعمد أن يأتي في العاشرة من غير عذر شرعي، بل لمحض أن ينتظر ويظهر بين الحاضرين مزيد جلالته، وأن صاحب البيت لا يسعه تقديم الطعام للحاضرين قبل حضوره مخافة منه، أو احتراماً له، فيتأذى بذلك الحاضرون أو صاحب البيت.

قال: وقد رأينا من هذا الصنف كثيراً، نسأل الله تعالى العافية! فهذا الصنف الذي يتعمد أن يتأخر عن الطعام من أجل أن يظهر للحاضرين أن صاحب البيت لن يستطيع تقديم الطعام إلا إذا حضره؛ لأنه الجليل المحترم المفخم، هذا يعتبر من الثقلاء.

ثم قال الله عز وجل: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ [الأحزاب:53]، الضمير هنا يعود إلى أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا بدليل قوله (بيوت النبي).

قوله: مَتَاعاً [الأحزاب:53]، المتاع ما ينتفع به كالأواني ونحوها.

قوله: فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53]، هذا حكم لأزواج الرسول صلى الله عليه وسلم لا يحل لكم أيها المؤمنون أن تواجهوهن مباشرة بل لا بد أن تكون المواجهة من وراء ساتر، أو من وراء حجاب.

قوله: ذَلِكُمْ [الأحزاب:53]، أي: ذلك السؤال من وراء حجاب أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53] أي: أبعد لكم من الخواطر الفاسدة، ثم قال تعالى: ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً [الأحزاب:53].

فوائد من قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ...)

المعنى الإجمالي في هذه الآية ظاهر، وننتقل إلى بيان الفوائد:

الفائدة الأولى: بيان ما ينبغي للمؤمنين أن يلتزموه من الآداب في الاستئذان، والدخول على البيوت لحاجة الطعام ونحوه. يعني: ليس هذا الحكم خاصاً بالرسول صلى الله عليه وسلم، بل أي بيت لا يجوز لك أن تدخله إلا أن يؤذن لك، ثم لا يجوز لك أن تأتي قبل وقت الطعام، ثم إذا طعمت فلا يجوز لك أن تجلس مستأنساً للحديث، بل إذا طعمتم فانتشروا.

الفائدة الثانية: بيان كمال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلقه، حتى إنه كان ليستحي أن يقول لضيفه: اخرج من البيت، رغم أنه صلى الله عليه وسلم يتأذى. يعني: الآن ربما الواحد منا عنده مجلس للضيوف وعنده أيضاً مخدعه، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان عنده غرفة واحدة لـزينب، وقد جلست رضي الله عنها مستقبلة الجدار، والصحابة جالسون و زينب جالسة مستقبلة الجدار حياء، والغرفة كانت صغيرة بحيث إنك لو مددت رجلك نلت جدارها، ولو مددت يدك نلت سقفها، يعني: أشبه بالكشك، وهؤلاء القوم جلوس.

الفائدة الثالثة: وصف الله تعالى نفسه بأنه لا يستحي من قول الحق، وأن يأمر به عباده.

الفائدة الرابعة: بيان أن الإنسان لا يخلو من خواطر السوء، إذا كلم المرأة ونظر إليها.

الفائدة الخامسة: حرمة نكاح أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته؛ لأن الله تعالى قال في صدر السورة: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب:6].

الفائدة السادسة: قال ابن عاشور رحمه الله تعالى: في هذه الآية دليل على أن طعام الوليمة وطعام الضيافة ملك للمضيف، وليس ملكاً للمدعوين ولا للأضياف؛ لأنه إنما جاز لهم أن يأكلوا منه خاصة ولم يملكوه، فلذلك لا يجوز لأحد أن يرفع شيئاً من الطعام. يعني: لو دعيت إلى طعام، هذا الطعام ملك لصاحبه. فلك أن تأكل منه ما شاء الله، ولا يجوز لك أن ترفع شيئاً، خاصة من الأشياء التي تحمل في الجيوب، يعني: يجوز لك أن تحمل شيئاً في جيبك؛ لأن الطعام ليس ملكاً لك، هو أذن لك في الأكل ولم يأذن لك في الحمل.

الفائدة السابعة: قال ابن عاشور رحمه الله أيضاً: في هذه الآية دليل على أن سكوت النبي صلى الله عليه وسلم على الفعل الواقع بحضرته إذا كان تعدياً على حق لذاته لا يدل سكوته على جواز ذلك الفعل. يعني: ليست القاعدة مفترضة في أن السكوت في معرض الحاجة بيان، لا. النبي صلى الله عليه وسلم يسكت في هذه الأحوال حياءً وليس رضى منه عليه الصلاة والسلام.

الفائدة الثامنة: حرمة إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في أي قول أو فعل يعامل به من شأنه أن يسوءه عليه الصلاة والسلام.

الفائدة التاسعة: أن من واجبات الدين على الأمة ألا يستحيي أحد من الحق الإسلامي لمعرفة إذا حل به ما يقتضي معرفته، وفي إبلاغه وهو تعليمه، وفي الأخذ به. يعني: ينبغي للناس أن يجهروا بالحق وقد أمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أسأل الله أن ينفعني وإياكم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سورة الأحزاب - الآية [53] للشيخ : عبد الحي يوسف

https://audio.islamweb.net