إسلام ويب

يخبر الله تعالى عباده المؤمنين أنهم إن نكحوا المؤمنات أو الكتابيات وعقدوا عليهن فطلقوهن من غير دخول بهن فإنه ليس عليهن عدة، وعلى المطلقين أن يقدموا لهن متعة تطييباً بخاطرهن، وأن يطلقوهن إن شاؤا طلاقاً لا ضرر فيه ولا مطالبة بما وهبه لهن أزواجهن.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ...)

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

ومع النداء الثاني والستين في الآية التاسعة والأربعين من سورة الأحزاب، قول ربنا تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً [الأحزاب:49].

قرأ حمزة و الكسائي : (ثم طلقتموهن من قبل أن تماسوهن).

معاني مفردات الآية

هذه الآية المباركة تتناول حكماً من أحكام الطلاق في شريعة الإسلام، يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ [الأحزاب:49]، (نكحتم) في الآية هنا بمعنى: عقدتم، بدليل قوله سبحانه: ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الأحزاب:49]، وأصل النكاح إذا أطلق في القرآن فإنما يراد به العقد، ولم يرد به الوطء إلا في قوله تعالى: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة:230]، (تنكح) هنا مراد به مجموع العقد والوطء معاً.

ودائماً لفظ (النكاح) في القرآن يكنى به عن الوطء مثلما يكنى بالغشيان فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً [الأعراف:189]، ويكنى بالمسيس: أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ [آل عمران:47]، ويكنى كذلك بالملامسة والقربان والإتيان.

قوله: الْمُؤْمِنَاتِ ))، ليس المراد تخصيص المؤمنات بالحكم، سواء نكحتم مؤمنات أو نكحتم كتابيات، لكن كأن الآية -والله أعلم- تشير إلى أنه حري بالمؤمن إذا أراد أن يتزوج أن يختار المؤمنة وأن يجتنب الفاسقة فضلاً عن الكافرة.

قوله تعالى: ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ [الأحزاب:49]، الطلاق هو: حل عقدة الزوجية.

قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الأحزاب:49]، كنى بالمسيس هنا عن الوطء، أي: من قبل أن تدخلوا بهن.

قول الله عز وجل: فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [الأحزاب:49]، أي: فما لكم عليهن عدة، وجيء بـ(من) لإفادة العموم، والعدة هي المدة التي تتربص فيها الزوجة بعد طلاقها أو وفاة زوجهـا؛ فإذا انقضت تلك المدة حل لها أن تتزوج رجلاً آخر غير زوجها السابق.

والعدد في الكتاب والسنة خمسة:

عدة الحامل، ثم عدة المطلقة، ثم عدة المطلقة التي لا تحيض لكبر أو صغر، ثم عدة المرأة غير الحامل إذا توفي عنها زوجها، قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [البقرة:234]، ثم عدة الأمة إذا طلقت فإنها تعتد بحيضة واحدة كما ثبتت بذلك السنة.

قول الله عز وجل: فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [الأحزاب:49]، أي: تتكلفون عدها وإحصاءها، من قولهم: عددت الدراهم، أي: أحصيتها.

قول الله عز وجل: فَمَتِّعُوهُنَّ [الأحزاب:49]، والآن سمعنا في الآيات التي تليت قول الله عز وجل: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:241]، وقبلها قال: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236]، وفي سورة الأحزاب أيضاً: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً [الأحزاب:28].

أيها الإخوة الكرام! المتعة عطية يقدمها الزوج للمرأة إذا طلقها لجبر كسرها ومداواة جرحها، تقديراً للعشرة التي كانت بينهما، مثلما أنه حين تزوجها قدم لها مهراً ومتاعاً، فكذلك إذا طلقها فالإسلام يأمر الزوج بأن يقدم لها هذه المتعة.

قول الله عز وجل: وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً [الأحزاب:49]، يعني: يا أيها الزوج! إذا أردت أن تطلق فليكن طلاقك بالمعروف، لا يصحبه نشر أسرار، ولا كشف عيوب، ولا حديث عن النقائص، وإنما كما تزوجت زواجاً جميلاً فسرح سراحاً جميلاً.

المعنى الإجمالي للآية

في هذه الآية المباركة يخاطب ربنا جل جلاله عباده المؤمنين، مبيناً لهم حكماً لا بد أن يحيطوا به، وهو أن الواحد منهم إذا تزوج امرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها فلا ينبغي أن يكلفها بأن تعتد ولا أن يأمرها بذلك، فليس عليها عدة.

ومطلوب منكم أيها المسلمون إذا طلقتم أمران:

الأمر الأول: أن تدفعوا المتعة طيبة بها نفوسكم، وهذه المتعة لم تقدرها الشريعة وإنما حسب الطاقة: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:236]، قد يكون هذا المتاع ثياباً، قد يكون أثاثاً، قد يكون مالاً، قد يكون ذهباً، قد يكون غير ذلك، قال الله عز وجل: فَمَتِّعُوهُنَّ [الأحزاب:49].

الأمر الثاني: وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً [الأحزاب:49]، من غير تعريضهن لأذى، من غير تبشيع بهن وإظهار لعيوبهن، بل لا تمنعوهن حقوقهن، سرحوهن سراحاً جميلاً.

فوائد من قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن...)

وهذه الآية المباركة يستفاد منها فوائد:

الفائدة الأولى: هذه الآية مخصصة لآيات العدة التي في سورة البقرة وسورة الطلاق، إذ ليس على المطلقة قبل الدخول عدة بإجماع المسلمين.

الفائدة الثانية: أن المرأة إذا توفي عنها زوجها قبل أن يدخل بها فعليها العدة بإجماع المسلمين، وهذا السؤال يسأله كثير من الناس، إذ يقول: تزوج رجل ثم مات قبل أن يدخل بها فهل على المرأة حبس كما يعبر الناس؟ نقول: نعم. بالإجماع، يجب عليها أن تعتد، وبعض الناس يسأل فيقول: إذا كان المراد من العدة معرفة براءة الرحم فهذه لم يدخل بها أصلاً فما الحكم؟ نقول: ليست الحكمة معرفة براءة الرحم فقط، بل هناك عدة أمور:

أولاً: المرأة تعتد تعبداً لله.

ثانياً: تعتد إظهاراً للحزن على فقد الزوج ومواساة لأهله.

ثالثاً: تعتد من باب تعظيم عقد الزوجية الذي سماه الله: مِيثَاقاً غَلِيظاً [النساء:21]، يعني: لا يصلح أن يموت الرجل اليوم والمرأة تتزوج غداً؛ بل لا بد أن تمكث فترة من أجل تعظيم هذا العقد.

الفائدة الثالثة: إباحة طلاق المرأة قبل الدخول بها، فلو دعا داع أو نشب خلاف وتعثرت سبل الإصلاح فلا حرج من أن يطلق الإنسان قبل أن يدخل بزوجته.

الفائدة الرابعة: استدل بهذه الآية أساطين العلماء: كـابن عباس ، و سعيد بن المسيب، و الحسن البصري، و علي بن الحسين زين العابدين، وجماعة من السلف على أن الطلاق لا يقع إلا إذا تقدمه نكاح. يعني: مثلاً بعض الناس ممن اعتاد الكلام بالطلاق، وليس عنده زوجة ولكنه كلما تكلم يقول: عليه الطلاق، عليه الطلاق، عليه الطلاق، فمثل هذا كلامه لغو لا يقع به طلاق؛ لأن الله عز وجل قال: إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ [الأحزاب:49]، فلا طلاق إلا بعد نكاح، أما هذا الذي يطلق فلا نقول له: هذا الطلاق يلزمك إذا تزوجت أن تكون زوجتك طالقة بعدد ما تلفظت به.

الفائدة الخامسة: أن المرأة إذا طلقت قبل الدخول فلا عدة عليها فتتزوج من فورها من شاءت.

الفائدة السادسة: وجوب المتعة للمطلقة قبل الدخول.

الفائدة السابعة: أن التسريح يجب أن يكون بمعروف لا يصحبه أذى ولا حيف.

الفائدة الثامنة: أن الحياة الزوجية في الإسلام قائمة على المعاشرة بالمعروف، وكذلك الطلاق يجب أن يكون طلاقاً بالمعروف.

الفائدة التاسعة: أن الالتزام بأحكامها من مقتضيات الإيمان. فإذا طلق الإنسان بالمعروف ودفع المتعة للزوجة المطلقة طيبة بذلك نفسه فهذا دليل على أنه مؤمن، وكذلك الإنسان الذي يطلق بغير المعروف ولا يؤدي الحقوق التي أوجبها الله عليه فهذا دليل على نقص في إيمانه.

الفائدة العاشرة: أن الطلاق إذا كان لا يقع إلا بعد نكاح فكذلك ما كان دون الطلاق من الظهار والإيلاء ومثله لا يقع إلا بعد النكاح.

وفي الآية إشارة إلى كرم الأخلاق، وينبغي للمؤمن ألا يؤذي أحداً بغير حق ولو كلباً أو خنزيراً، ولا يظلم ولو بشق تمرة، ولو وقع شيء من الأذى والجور فإنه يجب الاستحلال والإرضاء.

يقول بعض العلماء: ورأينا كثيراً من الناس في هذا الزمان يطلقون ضراراً، ويقعون في الإثم مراراً، يخالعون على المال بعد الخصومات كأنهم غافلون عما بعد الممات، الواحد منهم زهد في الزوجة لكن يرفض أن يطلقها إلا إذا دفعت له شيئاً؛ فهذا حرام وهو من أكل أموال الناس بالباطل.

أسأل الله أن يهدينا سواء السبيل.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سورة الأحزاب - الآية [49] للشيخ : عبد الحي يوسف

https://audio.islamweb.net