إسلام ويب

إن يوم الجمعة يوم عظيم في الإسلام، هدى الله إليه المسلمين في حين أن اليهود والنصارى ضلوه، وشرع الله فيه صلاة الجمعة، وهي ركعتان قبلهما خطبتان، وهي واجبة عيناً على كل ذكر حر مكلف مستوطن خالٍ من الأعذار، ووقتها كوقت الظهر، وقد ذكر العلماء في سبب تسميتها بهذا الاسم عدة أقوال، كما أنه قد حصل خلاف في العدد الذي تنعقد به صلاة الجمعة.

مقدمة في فضل يوم الجمعة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه ورضى نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكر الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.

أما بعد:

فالكلام هنا إن شاء الله يتناول الأحكام المتعلقة بصلاة الجمعة، ويوم الجمعة هو خير أيام الأسبوع؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة، ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة حذراً من قيام الساعة)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم عرفة)، والجمع بين الحديثين هو كما قال ابن القيم رحمه الله: بأن يوم الجمعة خير يوم باعتبار الأسبوع، ويوم عرفة خير يوم باعتبار السنة.

وثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، وهذا اليوم الذي فرض الله عليهم فضلوا عنه وهدانا الله إليه، والناس لنا فيه تبع، اليهود غداً والنصارى بعد غد).

إذاً: فقد فرض الله على اليهود والنصارى تعظيم يوم الجمعة لكنهم ضلوا عنه، فعوقب اليهود بالسبت وعوقب النصارى بالأحد، وهدانا الله معشر أمة محمد صلى الله عليه وسلم لعبادته في هذا اليوم العظيم، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأجر كبير لمن استوفى شروط الجمعة وأتى بسننها وآدابها، فقد ثبت عنه في الحديث أنه قال: (من غسل يوم الجمعة واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فأنصت كان له بكل خطوة يخطوها أجر صيام سنة وقيامها، وذلك على الله يسير)، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من تطهر يوم الجمعة بأحسن ما يجد من طهر، ثم لبس من أحسن ثيابه، ثم مس من طيبه أو طيب بيته، ثم خرج إلى المسجد فلم يفرق بين اثنين، ثم صلى ما كتب الله له أن يصلي، ثم إذا خرج الإمام جلس فاستمع وأنصت غفر له ما بين الجمعة والجمعة وزيادة ثلاثة أيام، وذلك أن الله يقول: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا[الأنعام:160]).

فيوم الجمعة ثوابه عظيم، وأجره كبير، وحري بالمسلم أن يعرف الأحكام المتعلقة بهذه الفريضة؛ حتى يأتي بها على الوجه الأتم الأكمل، والكلام عن هذه الفريضة العظيمة ينحصر في عدة مسائل نذكرها تباعاً.

حكم صلاة الجمعة

يقول المالكية رحمهم الله: الجمعة فرض عين على المكلف الذكر الحر المقيم الخالي من الأعذار التي تمنع شهود الجمعة، وفرض العين: هو الذي يثبت على كل مسلم استقلالاً لا يغني فيه أحد عن أحد، لكن هذه الفرضية متوجهة لمن توافرت فيه ستة شروط من المكلفين، وكلمة المكلف تعني: من توافرت فيه صفتا البلوغ والعقل، فهذان شرطان، والمالكية أجملوهما في شرط واحد فبدلاً من أن يقولوا: الجمعة فرض عين على البالغ العاقل، قالوا: الجمعة فرض عين على المكلف، أي: البالغ العاقل.

وقد جاء في هذا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رفع القلم عن ثلاث..) وعد منهم الصبي والمجنون.

مطالبة الكفار بفروع الشريعة

والمالكية لم يقولوا: الجمعة فرض عين على المسلم؛ لأن الكافر مطالب بالعبادات وجميع فروع الشريعة وسيحاسب عليها يوم القيامة، فسيحاسب على كفره وسيحاسب كذلك على ترك الصلاة والصيام؛ لأن الله عز وجل قال: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ[المدثر:38-43].

بل وأكثر من ذلك: أن الكافر سيحاسب على النعم في يوم القيامة، فسيحاسب على الماء البارد الذي شربه وسيعاقب عليه، وسيحاسب أيضاً على اللحم الذي أكله وعلى العافية التي كانت في بدنه؛ لأن الله عز وجل قال: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ[الأعراف:32]، ومفهوم قوله تعالى: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا[الأعراف:32]؛ أنها ليست خالصة للكفار.

وكذلك قول الله عز وجل: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا[المائدة:93]، فمفهوم الآية: أن على الكفار جناح فيما طعموا، ويدل على هذا قول الله عز وجل: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ[التكاثر:8]، خاصة إذا علمنا بأن الكافر يدب على أرض الله، ويستظل بسمائه، ويتقلب في نعمه، ثم بعد ذلك يستعمل هذا النعيم كله لحرب الله ورسوله.

من تجب عليهم الجمعة؟

والجمعة فرض على المكلف لا على الصغير، ولا على المجنون، لكن الصغير يؤمر بها؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر)، وفرضيتها: إنما هي على المكلف الذكر، فخرج بذلك الأنثى والخنثى، فالأنثى معروفة، والخنثى: هو الذي اشتبهت ذكوريته بأنوثيته ولم تتبين حقيقته، والدليل على عدم وجوب صلاة الجمعة على الأنثى حديث طارق بن شهاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة العبد المملوك والمرأة والصبي والمريض)، فعد النبي صلى الله عليه وسلم المرأة ممن لا تجب عليهم الجمعة، وهذا الحديث رواه الإمام أبو داود و الطبراني في الكبير و البيهقي ، و طارق بن شهاب رضي الله عنه من صغار الصحابة، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه فهو صحابي؛ لأن الصحابي: هو من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً ومات على إسلامه، وليس المقصود بالرؤية الرؤية البصرية فقط، بل الرؤية البصرية والرؤية القلبية؛ لكي يدخل فيه من كان أعمى كـعبد الله بن أم مكتوم الصحابي الجليل، ويدخل في هذا التعريف ممن غزا معه ومن لم يغز ممن طالت صحبته، وكذلك من صافحه ولامسه صلوات ربي وسلامه عليه ومن رآه ولو من بعيد.

فالجمعة واجبة على المكلف الذكر الحر وحديث طارق بن شهاب استثنى النبي صلى الله عليه وسلم فيه العبد المملوك؛ لأنه مشغول بحق سيده، وهذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم، فبعض العلماء يرى دخول العبد في عموم قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ[الجمعة:9]، وبعضهم يخصص هذه الآية بهذا الحديث، وبعضهم يتوسط ويقول: إن أذن له سيده فقد وجبت عليه، وإن لم يأذن فلا تجب عليه.

عدم وجوب الجمعة على المسافر

فالجمعة واجبة على المكلف الذكر الحر المقيم، فخرج بذلك المسافر، والدليل على أن الجمعة لا تجب على المسافر حديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في أسفاره لا يصلي الجمعة، وإنما يصلي ظهراً)، وروى مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: (لما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم بطن الوادي يوم عرفة نزل فخطب الناس، ثم بعد الخطبة أذن بلال ، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر)، فإن قال قائل: لعله صلى الجمعة فكيف نجيب عليه؟

فالجواب: أن الرسول صلى الله عليه وسلم تلك الصلاة سراً، فهذا دليل على أنها كانت ظهراً ولم تكن جمعة؛ لأننا نعرف أن الصلوات الجهرية: هي الصبح والعشاء والمغرب والجمعة، فلما صلى الرسول صلى الله عليه وسلم سراً دل على أنها كانت ظهراً.

وأيضاً: فقد جاء هنا أنه جمع تلك الصلاة مع العصر، لا تجمع الجمعة مع العصر، فالجمع لا يكون إلا بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء وكذلك نقول: إن خطبة الجمعة تكون بعد الأذان، وفي الحديث أنه خطب قبل الأذان، فعلم بأن هذه الصلاة ليست جمعة، وكذلك فقد خطب رسول الله هنا خطبة واحدة، والجمعة لا تصح إلا بخطبتين كما سيأتي معنا إن شاء الله.

ثم إن جابراً وهو أعلم بما حدث منكم يقول: صلى رسول الله الظهر، فلا داعي أن نستنبط خلافه وهو الذي شاهد ذلك، وهو رضي الله عنه عربي فصيح وقد نص على أنها كانت صلاة ظهر.

فائدة في سبب تسمية الجمعة بهذا الاسم

ويوم الجمعة كان في الجاهلية يسمى: يوم العروبة، وسمي هذا اليوم بيوم الجمعة؛ لأن اكتمال خلق السموات والأرض كان فيه؛ وقد قال الله عز وجل: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ[ق:38]، وقيل: لأن آدم عليه السلام اجتمع خلقه فيه، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن يوم الجمعة كان فيه خلق آدم، وقيل: لأن الأنصار قبل مقدم النبي عليه الصلاة والسلام اجتمعوا على أسعد بن زرارة رضي الله عنه وكان من النقباء ومن سادة الأنصار، فخطب فيهم وذكرهم، وقيل: لأن العرب قبل البعثة كانوا يجتمعون على سعد بن لؤي جد الرسول عليه الصلاة والسلام الأعلى فيخطب فيهم ويذكرهم، وقيل: لأن الناس يجتمعون فيه، وعلى كلِّ هذه الأقوال فهي جمعة مشتقة من الاجتماع، فالاجتماع حاصل في خلق السموات والأرض، وفي خلق آدم، وفي اجتماع الأنصار على أسعد بن زرارة ، أو اجتماع الناس على سعد بن لؤي ، أو لاجتماع المسلمين في مساجدهم.

والإسلام دين جماعة، وهذه الجماعة لها أنواع منها: جماعة الحي: وهي التي تكون في الصلوات الخمس، وجماعة البلد: وهي التي تكون في الجمعة، ففي بعض البلاد تكون هناك مساجد للناس يصلون فيها الصلوات الخمس، ولكن ليس للجمعة إلا جامع واحد، فالصلوات الخمس اجتماع حي، وصلاة الجمعة اجتماع بلد، ثم اجتماع البلاد كلها يكون في يوم عرفة.

أدلة وجوب صلاة الجمعة

ودليل الوجوب من القرآن قول ربنا الرحمن: يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ[الجمعة:9]، ومن الأدلة أن النبي عليه الصلاة والسلام شدد في النهي عن ترك الجمعة، فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لينتهين أقوام عن الجمعات ودعهم أو ليكونن من الغافلين)، ومعنى ودعهم: تركهم، تقول: دع عنك هذا، أي: اتركه، وقال عليه الصلاة والسلام: (من ترك ثلاث جمع تهاوناً طبع الله على قلبه)، قال أهل العلم: أي: يصير الله قلبه قلب منافق؛ لأنه ترك الجمعة تهاوناً ثلاث مرات، وهذا الحديث يحذر مما وقع فيه بعض المسلمين الذين يختارون يوم الجمعة للنزهة فيترتب على ذلك تضييعها، وهذا فيه من الشر والفساد ما يحذرهم منه هذا الحديث: (من ترك ثلاث جمع تهاوناً طبع الله على قلبه)، فالمؤمنون يحافظون على الجمعة، والمنافقون يتهاونون بها، ولذا قال الله عز وجل عنهم: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ[المنافقون:5]، وهذه الآية نزلت في عبد الله ابن سلول لما انخذل بثلث الجيش يوم أحد -وكانت غزوة أحد يوم السبت في الخامس عشر من شوال- فعصى عبد الله بن أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع بثلاثمائة من المقاتلين ثم بعد ذلك في يوم الجمعة خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليصعد على المنبر، وإذا بـعبد الله بن أبي يقول: يا معشر الأنصار هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأنهم لا يعرفونه، مع أن الله قد قال عنهم: وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ[الأعراف:157].

فلما قال ذلك بعدما صنع ما صنع يوم أحد قام في جمعة أخرى ليقول ما يقول فجذبوه من ثوبه وقالوا له: اجلس عدو الله فلست لهذا المقام أهلاً. فلا تستحق أن تنوه برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تأمرنا بنصره وأنت الذي خذلته، فالمنافق -قاتله الله- ظهر نفاقه فخرج يتخطى رقاب الناس مغضباً وترك الصلاة فلقيه بعض الناس على الباب فقالوا له: ويلك! ما شأنك؟ قال: قمت لأشد أمر صاحبهم وأقويه فزجروني وكأني قلت: هجراً، فقالوا له: ويلك! ارجع يستغفر لك رسول الله، فقال: والله ما أريد أن يستغفر لي، فنزلت هذه الآية: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ[المنافقون:5].

ولذلك قال العلماء: إن من الحكمة في صلاة الجمعة أن يقرأ الإمام في الركعتين بسورة الجمعة والمنافقون، فأما الجمعة؛ فلأن فيها قوله تعالى: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ[الجمعة:9]، وأما المنافقون؛ فلأن من صفات المنافقين التهاون بالجمعة، وقد غلط من نسب إلى الإمام الشافعي أن الجمعة فرض كفاية، بل الجمعة فرض عين بإجماع المسلمين، وما قال الشافعي ولا غيره من أهل العلم رحمهم الله بأن الجمعة فرض كفاية على من توافرت فيه هذه الشروط، بأن يكون بالغاً عاقلاً ذكراً حراً مقيماً.

وقت صلاة الجمعة

إن وقت الجمعة كوقت الظهر؛ لأنها بدل عنها، وصلاة الظهر يدخل وقتها بزوال الشمس؛ لأن جبريل عليه السلام نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ليلة المعراج فصلى، ثم نزل فصلى، ثم نزل فصلى حتى صلى الصلوات الخمس، فصلى به الظهر حين زالت الشمس، وصلى به العصر حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى به المغرب حين أفطر الصائم، وصلى به العشاء حين غاب الشفق، وصلى به الصبح حين طلع الفجر، ثم نزل فصلى به الظهر حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى به العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، وصلى به المغرب حين أفطر الصائم، وصلى به العشاء حين ذهب ثلث الليل الأول، وصلى به الصبح حين كادت الشمس أن تطلع، وقال له: يا محمد! الوقت ما بين هذين.

ولذلك فالعلماء في كتب الفقه إذا بدءوا في بيان الأحكام فإنهم يبدءون بصلاة الظهر، وكذلك حين يذكرون الصلوات الخمس فإنهم يبدءون بالظهر ثم العصر ثم المغرب ثم العشاء ثم الصبح، وكثير من الناس يستغرب هذا، ولا غرابة في ذلك؛ لأن الظهر كانت أول صلاة صلاها جبريل برسول الله صلى الله عليه وسلم.

فوقت الجمعة هو وقت الظهر، أما نهاية وقتها فبالغروب وهو الوقت الضروري؛ لأن الصلاة لها وقت اختياري ووقت ضروري، فالوقت الاختياري: إلى أن يصير ظل كل شيء مثله حين يدخل وقت العصر، ووقت العصر الاختياري: منذ أن يصير ظل كل شيء مثله إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه، ومنذ أن يصير ظل كل شيء مثليه إلى أن تغرب الشمس، فذلك هو الوقت الضروري المشترك بين الظهر والعصر، فمن أخر الصلاة إلى هذا الوقت من غير عذر فهو آثم، فلو أن شخصاً نام عن صلاة العصر وهو يعلم بأن صلاة المغرب مثلاً في الساعة السادسة والنصف وخمس دقائق فضبط المنبه على السادسة لكي ينام من الرابعة إلى السادسة ، ثم قام وصلى في السادسة وعشر دقائق فهو آثم؛ لأنه أخر الصلاة إلى وقتها الضروري من غير عذر، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (تلك صلاة المنافق ينتظر حتى إذا كانت الشمس بين قرني شيطان قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً)، لكن أصحاب الأعذار كالمرأة الحائض إذا طهرت فإلى أن تغتسل سيكون ظل كل شيء مثليه فعليها أن تصلي الظهر والعصر، وكذلك المجنون إذا أفاق في هذا الوقت فعليه أن يصلي الظهر والعصر ولا حرج عليه، وكذلك لو أن إنساناً كان صبياً ثم احتلم فهو أيضاً معذور فيصلي في الوقت الضروري، ومثله الإنسان الذي نام لشدة التعب والإرهاق ولم يستيقظ إلا في الوقت الضروري وليست هذه عادته فيجوز له الصلاة في الوقت الضروري.

لكن لو أن بعض الناس عنده عادة وهي أنه يضبط المنبه على الوقت الضروري في صلاة الصبح وقد علم بأن صلاة الصبح يدخل وقتها في الخامسة والنصف، وأن الشمس تشرق في السادسة وتسع وثلاثين دقيقة، فيضبط المنبه على السادسة والنصف ويقول: أقوم وأتوضأ في أربع دقائق ثم بعدها أصلي فأكون قد أديت الصلاة، فهذا إثم واضح.

هذا بالنسبة لأعذار الأفراد، لكن هل يتصور ذلك في صلاة الجمعة بعذر جماعي تؤخر به الجمعة إلى الوقت الضروري؟ الجواب: نعم، فلو قدر الله أن عدواً دهم البلد فشغلنا بدفعه في يوم الجمعة، وما زلنا نقاومه حتى انجلت الغمة وزال الكرب ولم يبق إلا الوقت الضروري، ففي هذه الحالة نصلي الجمعة ثم نصلي العصر.

فظهر بهذا أن وقت الجمعة يبدأ بزوال الشمس وينتهي بالغروب، لكننا نفرق بين الوقت الاختياري والوقت الضروري، والدليل على ذلك حديث أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة حين تزول الشمس).

قال ابن العربي رحمه الله: اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على أن الجمعة لا تجب حتى تزول الشمس، واتفقوا على أنه لو صلاها قبل الزوال لا تجزئه إلا ما روي عن أحمد بن حنبل رحمه الله، فهو يرى بأن وقت صلاة الجمعة هو وقت صلاة العيد أي: إذا طلعت الشمس وارتفعت قيد رمح، وذلك بعد طلوع الرمح بعشر دقائق إلى ربع ساعة، فعند الإمام أحمد يصح أن نصلي الجمعة في ذلك الوقت واستدل في ذلك بآثار مروية عن بعض التابعين، وهذا المذهب انقرض الآن، حتى الحنابلة لا نجدهم اليوم يصلون الجمعة قبل الزوال، ومما استدل به من الآثار قول بعض التابعين: صليت مع أبي بكر صلاة الجمعة في أول النهار، وصليت مع عمر حين كاد ينتصف النهار، وصليت مع عثمان حين كاد يذهب النهار، ولم ينكر أحد عليهم، لكن العلماء قالوا: إن هذا أثر لا يصح.

والذي انعقدت عليه أقوال أهل العلم: أن الجمعة لا تصح إلا بعد زوال الشمس.

العدد الذي تنعقد به الجمعة

وهذه مسألة عويصة بين العلماء.

القول بأنه اثنا عشر سوى الإمام

فقد قال المالكية رحمهم الله: أقل ما يجزئ فيها اثنا عشر حراً ذكراً مكلفاً مستوطناً، ويكون هؤلاء باقين مع الإمام من أول الخطبة إلى انتهاء الصلاة، فيكون الجميع مع الإمام.

ودليلهم: حديث جابر رضي الله عنه في الصحيحين وهو أن الصحابة انفضوا عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلاً، فنزل قول الله تعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا[الجمعة:11]، فهذا هو القول الأول.

القول بأنها لا تنعقد إلا بأربعين

القول الثاني: قول الشافعية والحنابلة: وهو أن الجمعة لا تنعقد إلا بأربعين، ودليلهم: الحديث الذي رواه الإمام أحمد : (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مصعباً بن عمير إلى المدينة، فلما كان يوم الجمعة صلى بهم وكانوا أربعين رجلاً، وكانت أول جمعة في المدينة) وهذا القول نرد عليه بحديث جابر في الصحيحين (بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب في الناس فلما جاءت القافلة -وقد كان الصحابة محتاجين إلى هذه القافلة؛ لما هم فيه من ضيق- فخرجوا رضي الله عنهم ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً)، وأين الدليل على أنهم عادوا؟ بل الأقرب أنهم ما عادوا؛ إذ أن كلاً منهم كان محتاجاً فابتاع منها حاجته، وتفقد كل منهم نصيبه إن كان له في التجارة نصيب، فالأصل أنهم ما عادوا ولا يقال بخلافه إلا أن يقوم دليل ناقل عن هذا الأصل.

وأما المالكية رحمهم الله فالرد عليهم أيضاً نفس ما رد به على الحنابلة والشافعية، فيقال لهم: أثبتوا لنا أنه لو بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم أقل من هذا العدد لقال لهم: إن الجمعة لا تصح، فهذا إنما حصل اتفاقاً من غير قصد، فليس في هذا دليل على أن الجمعة لا تجزئ بأقل من ذلك.

القول بأنها تنعقد بأربعة

وأما القول الثالث: فهو للحنفية: وهو أن الجمعة تنعقد بأربعة، واستدلوا بقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا[الجمعة:9]، فالخطاب للجمع، وأقل الجمع ثلاثة، والإمام هو الرابع، فهم استدلوا باللغة وقالوا: المفرد واحد، والاثنان مثنى، والثلاثة جمع، فلابد أن يجتمع إلى الإمام جمع فيكونوا ثلاثة والإمام هو الرابع، ويرد عليهم بأن يقال: إن الخطاب هنا يراد به الجنس لا الجمع، أي: أن الخطاب متوجه إلى كل واحد من المؤمنين، كقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ[الأحزاب:49] ومعروف بأن المرأة لا ينكحها إلا واحد ولا يطلقها إلا واحد، ولكن الخطاب للجنس، وليس المقصود عدداً بعينه.

والقول الرابع: هو أن الجمعة تنعقد بثلاثة؛ لأن الجماعة تنعقد بثلاثة، وهو الذي رجحه أبو العباس بن تيمية رحمه الله، وأصحاب هذا القول استدلوا على ذلك: بأن أقل الجمع ثلاثة، فلو صلى واحد واستمع اثنان لكانت جمعة، وقد روى أحمد من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه و أبو الدرداء اسمه عويمر بن عامر ، وكان من آخر الأنصار إسلاماً وهو صاحب قصة الصنم الذي كان يعبده، فعمد إليه أحدهم فبال عليه، فجعل أبو الدرداء يمسح البول عنه ويطيبه ويقول له: فعل الله بمن فعل بك كذا وكذا، وفي اليوم الثاني جاء وقد كسر وربط مع ميتة، فهنا أبو الدرداء فطن إلى أن القوم يبعثون إليه برسائل متتابعة بأن هذا الصنم لا يستحق أن يعبد من دون الله، فأسلم بعدها.

و أبو الدرداء رضي الله عنه قد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من ثلاثة في قرية لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان)، فأصحاب هذا القول قالوا: ولفظ الصلاة يشمل الجمعة وغيرها، فتنعقد الجمعة بثلاثة أشخاص.

القول بأنها تنقعد باثنين

القول الخامس: أن الجمعة تنعقد باثنين أحدهما يخطب والآخر يستمع، وهذا القول رجحه الشوكاني في شرح المنتقى أي: في كتابه نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، ودليل ذلك ما يلي: قالوا: في اللغة أقل الجمع ثلاثة، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال: (الاثنان جماعة).

قال الشوكاني رحمه الله: ومن ادعى الفرق بين الجمعة وغيرها فعليه بالدليل، يعني: الصلوات الخمس.

القول بأنها تنعقد بواحد

القول السادس: وهو قول شاذ: وهو أن الجمعة تنعقد بواحد، ودليل شذوذه أنه ما ثبت عن أحد من الصحابة رضوان الله عليهم أنه صلى الجمعة وحده، وإنما ثبت أن ابن مسعود رضي الله عنه صلى مع علقمة و الأسود صلاة الجمعة، وهو القول الذي رجحه ابن تيمية رحمه الله، وأما شخص واحد فلم يرد ذلك.

وقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله، أمير المؤمنين في حديث سيد المرسلين: والراجح أن الجمعة لا تنعقد إلا بجماعة يصح أن يطلق على صلاتهم اسم الجمعة بأن يجتمعوا، وليس ذلك مقيداً بعدد معين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , فقه الصلاة أحكام صلاة الجمعة [1] للشيخ : عبد الحي يوسف

https://audio.islamweb.net