إسلام ويب

إن الهجرة سنة باقية إلى قيام الساعة، فمن كان في بلاد لا يستطيع أن يقيم فيها دينه فيجب عليه الهجرة إلى البلد التي يستطيع أن يقيم فيها دينه، ويحفظ عرضه، ولا عذر لأحد في ذلك إلا من كان لا يطيق ولا يستطيع الهجرة كالنساء والولدان.

الهجرة فريضة شرعية باقية إلى يوم القيامة

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، الحمد لله عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.

أما بعد:

لقد كانت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة نصراً للإسلام وأهله، وإيذاناً للانتقال من حال إلى حال، ومن فترة إلى فترة، فبعدما كان المسلمون قلة مستضعفين في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس، صار لهم في المدينة دولة وصولة وجولة، وصاروا أهل جهاد وغزو وفتح ونصر، وتمت نعمة الله عليهم، حيث أمنوا في دارهم، وعبدوا ربهم، وقاموا بدينهم خير قيام.

إن هذه الهجرة لا ينبغي أن نسرد أحداثها، ولا أن نذكر تفاصيلها على أنها كانت حدثاً من الأحداث ثم انقضى ومر، كلا؛ إن الهجرة صفحة في سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم لها أحكام وآداب، وهي باقية لا تنقطع كما ثبت عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها).

وكل مسلم في أي أرض لا يستطيع أن يُظْهِر فيها شعائر دينه، ولا أن يعبد ربه حق العبادة، وهو بها ذليل مستضعف، فإنه يجب عليه أن يهاجر إلى إخوانه الذين يستعز ويستكثر بهم، ويجب عليه أن يهاجر إلى الأرض التي يعبد فيها ربه، ويقيم فيها شعائر دينه، ويأمن على نفسه وماله وعرضه.

الهجرة سنة الأنبياء

إن هجرة نبينا لم تكن بدعاً في سيرة الأنبياء والمرسلين، بل لقد هاجر الأنبياء والمرسلون صلوات الله وسلامه عليهم قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كإبراهيم خليل الرحمن على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، فبعد أن دعا قومه إلى الله وقال: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ[العنكبوت:25].

وأبى قومه أن يؤمنوا به، قال تعالى: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ[العنكبوت:24].

بعد هذا قال إبراهيم عليه السلام: إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ))[العنكبوت:26]. فترك تلك الأرض التي أبى أهلها إلا الكفر والإلحاد والشرك به جل جلاله، وهاجر إلى الله عز وجل.

وكذلك نوح عليه السلام لما دعا قومه إلى الله فأبوا الإيمان بالله تعالى، فقال له قومه: قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ[الشعراء:116]. قيل المراد بالمرجومين: المخرجين.

وكذلك لوط عليه السلام قال له قومه: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمَرْجُومِينَ [الشعراء:116].

وكذلك نبي الله موسى عليه السلام لما خاف على نفسه من فرعون اللئيم أن يصيبه بسوء خرج من مصر، كما قال الله عز وجل: فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[القصص:21].

وهذا المعنى أيضاً عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ اليوم الأول للدعوة، وذلك عندما نزل عليه جبريل في غار حراء، فرجع عليه الصلاة والسلام إلى خديجة رضي الله عنها يرتجف فؤاده، فطمأنته رضي الله عنها بتلك الكلمات العِذاب: كلا والله يا ابن العم! لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وما اكتفت رضي الله عنها بذلك، بل أخذته إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وكان شيخاً كبيراً قد قرأ الكتاب الأول، وله علم بالعبرانية لغة أهل الكتاب، فقص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى، فقال له ورقة بن نوفل : إنه الناموس الذي كان ينزل على موسى عليه السلام، وقال له: ليتني فيها جذعاً إذ يخرجك قومك، فقال له النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام متعجباً: (أومخرجي هم؟)، أي: هل قومي يجرءون على إخراجي وأنا فيهم من أنا! أنا الصادق الأمين! وأنا العزيز الكريم! وأنا البر التقي؟! فقال له ورقة -وهو العارف العالم-: نعم؛ ما أتى أحد بمثل ما جئت به إلا عاداه قومه وأخرجوه؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام كان متهيئاً لذلك اليوم، ولكنه كان ينتظر أمر الله عز وجل، وكل نبي من الأنبياء كانت الهجرة له ديناً وديدناً، وسبيلاً لنشر الدعوة، وإحقاق الحق، والانتصار لدين الله عز وجل، وهداية الناس، والتماس الأرض التي ينتشر فيها الخير والنور.

وجوب الهجرة لمن ليس متمكناً من إقامة دينه

الهجرة ليست خاصة بفئة معينة، ولا بقوم من الناس معلومة، وإنما هي شريعة ماضية إلى يوم القيامة، ولذلك أثنى الله عز وجل على المهاجرين الذين يتركون الأوطان التي ألفوها، والبلاد التي نشأوا فيها، يخرجون منها طلباً للهداية، وللصلاح، وللسداد، وللانتصار لدين الله عز وجل، يقول ربنا سبحانه في سورة البقرة: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[البقرة:218].

ويقول في سورة الأنفال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[الأنفال:72].

ويقول في سورة التوبة: الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ[التوبة:20].

وفي سورة النساء نجد أن الله عز وجل يعد هؤلاء المهاجرين بسعة الأرزاق، وسلامة الأبدان، وطمأنينة القلوب، فيقول الله سبحانه: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا[النساء:100]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ[الأنفال:74].

إن هذا المعنى الذي تضمنته هذه الآيات المباركات، والذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لا يقبل الله من مشرك عملاً بعدما أسلم أو يفارق المشركين) أي: حتى يفارق المشركين، وهذا المعنى نحن المسلمون اليوم بحاجة إلى تأكيده ومعرفته، فإن كثيراً من المسلمين ممن يقيمون في ديار الكفر، أو الأرض التي تكون الغلبة فيها للكفار والشريعة السائدة هي شريعة الكفر، والأرض التي لا يسمع فيها أذان، ولا يسمع فيها قرآن، ولا يؤمر فيها بمعروف، ولا ينهى فيها عن منكر، وتمارس فيها الفواحش جهاراً نهاراً في الشوارع والطرقات، وأعني بذلك بلاد أوروبا وأمريكا وما أشبه ذلك، فكثير من المسلمين هنالك -نسأل الله السلامة العافية- رضي بأن يعطي الدنية في دينه، وأن يرضى بالذل، وأن يعيش في ذلك الجو المأفون والمليء بالموبقات والفواحش والكبائر والذنوب والمعاصي، والتي لا يسمع فيها لآمر ولا لناهي، فهو قد رضي بأن يقيم في تلك الأرض من أجل دراهم معدودة أو من أجل رغد عيش يطلبه أو نحو ذلك من الأسباب.

إن هؤلاء توعدهم الله عز وجل في القرآن، فقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا[النساء:97].

ثم استثنى ربنا جل جلاله برحمته وعدله وفضله من ألجأتهم الضرورة، ومن أحاطت بهم الحاجة الملحة، فقال سبحانه: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا[النساء:98-99].

فهؤلاء ممن أقاموا؛ لأنهم لا يجدون داراً يلجأون إليها، ولا بلداً يهاجرون إليها، أو كانوا مستضعفين لكونهم نساء أو أطفالاً، فهؤلاء عسى الله أن يعفو عنهم.

يقول الضحاك بن قيس رحمه الله ورضي عنه في هذه الآية: نزلت هذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع.

فمن كان مقيماً في تلك الأرض، وزوجه وبناته لا يستطعن أن يرتدين الحجاب الشرعي، أو كان مقيماً في تلك البلاد، ولكن لا أمر له على أولاده من بنين وبنات لم تجز له الإقامة، والآن بعض الناس يقيم في بلاد أوروبا وأمريكا وهو لا يستطيع أن يأمر ابنته ولا أن ينهاها، وربما تأتي ابنته بصديقها إلى البيت، ولو تكلم اتصلت للشرطة، وكذلك لو أنه وبخ ولده أو ضربه فللولد أن يشكوه، وبعد ذلك تأتي الشرطة وتنتصف من هذا الأب الذي أراد أن يربي ولده، فهناك شعار الحرية المرفوع يكفل لكل إنسان أن يفعل ما يريد، فلا يستطيع والد أن يوجه ولده ولا أن يأمره، ولا أن ينهاه، ولا أن يربيه، فمثل هؤلاء نقول لهم: الهجرة واجبة عليكم، نعم أن بلاد المسلمين أغلب الشريعة فيها غائبة، وأحكام الله فيها إما مبدلة، وإما ليست مطبقة، أو تطبيقها ضعيف، لكن نقول: ما زالت بلاد المسلمين الحياء فيها غالب، والأدب فيها ظاهر، وما زلنا في بلاد المسلمين يملك الوالد أن يوجه ولده وأن يأمره وينهاه، وتملك الأم أن تربي ابنتها على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، ولا يتدخل في ذلك أحد، لكن كثيراً من الناس -نسأل الله السلامة والعافية- استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، رضي بلعاعة من الدنيا، ففتن بتلك المظاهر وبتلك البهارج، لكنه لم يفكر في هذه القوارع التي نزلت في كتاب الله عز وجل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من أقام بين المشركين فقد برئت منه الذمة).

فهذا الحكم واجب علينا أن نتذكره حين نتدارس هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

نسأل الله سبحانه أن يحيينا مسلمين، وأن يتوفانا مسلمين، وأن يلحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , دروس عن الهجرة [4] للشيخ : عبد الحي يوسف

https://audio.islamweb.net