إسلام ويب

جاء الإسلام بطهارة الإنسان من النجاسة معنوية كانت أم حسية، وقد بين الإسلام كيفية إزالة تلك النجاسة، سواء كانت في البدن أم في اللباس، وأن ما كان يتعذر أو يشق الابتعاد عنه فإنه يعفى عنه كيسير الدم والقيح ونحو ذلك.

تطهير الخف أو الحذاء

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وإذا تنجس أسفل الخف أو الحذاء وجب غسله، وعنه: يجزئ دلكه بالأرض، وعنه: يغسل من البول والغائط، ويدلك من غيرهما ].

اختلفت الروايات عن الإمام أحمد رحمه الله في أسفل الخف أو الحذاء إذا تنجس، فهل يجب غسله على الأصل، أو يكفي في ذلك أن يدلك بالأرض؟ وهل وجوب غسله هو الأصل في الشريعة، كما علل به بعض فقهاء المذهب وغيرهم؟

هذه المسألة فيها أقوال للفقهاء، وفيها عن الإمام أحمد ثلاث روايات:

الرواية الأولى: أنه يجب غسله، وهذا هو المذهب عند الإمام أحمد ، وهو مذهب الإمام الشافعي ، وبعض الكبار من أصحاب أبي حنيفة قالوا: لأن هذا هو الأصل.

والرواية الثانية عن الإمام أحمد: أنه يجزئ دلكه بالأرض؛ لما جاء في حديث أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( إذا وطئ أحدكم الأذى بنعليه فإن التراب لهما طهور ) أي: يكون مطهراً.

والرواية الثالثة عن أحمد، وهي قول لطائفة من الفقهاء: أن الدلك بالأرض يجزئ إلا أن تكون النجاسة ببول أو غائط فيجب الغسل، وهذه المسألة من حيث النظر الفقهي ومن حيث الأدلة الشرعية يقع فيها القول على اعتبار ما ورد من النصوص في هذا الباب، فإنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنما يكون من التراب فإنه يكون طهوراً، وهذا جاء في حديث أبي سعيد وغيره، وهذا نص في المسألة، ولكن هذا النص أيضاً يحمل على تراتيب الشريعة وأحكام الشريعة، فإن النجاسة إذا كانت مما لا يزول عادة بدلكه بالأرض لم يقع بذلك زوال النجاسة؛ ولهذا لا يتجه أن يقول: الأصل هو: وجوب الغسل، وقد سبق معنا أن المقصود في الشريعة هو: زوال النجاسة، سواء كان ذلك بالغسل أو حتى بغير فعل الآدمي، وإن كان هذا قول كثير من الفقهاء، إلا أنه سبق أن عامة الفقهاء يصححون ما هو المقصود من ذلك، وهو أن النجاسة تزول بغير فعل الآدمي، كما قالوه في الخمر إذا تخللت بنفسها، فإنها تكون طاهرة عند عامة أهل العلم، فإذا كان كذلك قلنا: الأصل هو: وجوب إزالة النجاسة، ولا يتجه أن نقول: الأصل هو: وجوب الغسل بالماء، وعليه فيكون حديث أبي سعيد ليس خروجاً عن الأصل، بل هو مصحح للأصل في أن مقصود الشريعة هو: زوال النجاسة، سواء كان بالماء أو بغيره، هذا الذي يظهر في المسألة.

وأن حديث أبي سعيد لم يخرج مخرج التخفيف؛ وإنما لأن النجاسة عادة تزول بذلك إذا كان هذا في النجاسة التي تجري العادة باعتراضها على النعل وطرف الثوب ونحوه، والذي يعرض للثوب وللنعل من ذلك هو ما كان من النجاسة اليابسة، أما ما كان عادة يبين ويتقى فلا يتجه أن يقال: إنه يجزئ فيه الدلك مطلقاً، وعليه فالدلك إنما وضعه الشارع مصححاً وطهوراً؛ لأن النجاسة التي تعرض لطرف الثوب والنعل تزول عادة بمثل ذلك، فحيث كان الأمر كذلك، فإذا رأى شيئاً من النجاسة اليابسة في نعله أو طرف ثوبه فإن ما بعده يكون مطهراً له، ثم إن اسم الأذى في الشريعة عند التحقيق أوسع من اسم النجاسة، ولكن إذا اعتبرنا الأصل السابق، وهو أن المقصود: زوالها، فحيث كان الدلك والمرور بالطريق يطهره ما بعده، كما في حديث أم سلمة، وأن النساء يرخين ثيابهن؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يطهره ما بعده )، وهو الثوب الذي تحتجب به المرأة بعدما تلبس الثوب الذي تلبسه على قدر جسدها، حيث تلبس المرأة ثوباً آخر فضفاضاً يسمى ثوباً ويسمى بغير ذلك، ويكون ساتراً لها ولصفة جسدها، ويكون له ذيل تجره، وهذا معروف عند العرب من جاهليتهم، وبعد الإسلام، وما زال معروفاً إلى عهد قريب عند العرب.

والمقصود: أن ما جاء في قوله: ( يطهره ما بعده )، إنما هو في الأذى الذي يزول عادة بمثل ذلك، سواء حمل الأذى على النجاسة وهو الواجب تركها، أو ما كان مكروهاً، وكذلك الدلك بالنعل، أما لو أتى نجاسة رطبة وبقي أثرها في الثوب أو في النعل وما أزاله ما بعده ولا أزاله الدلك بل بقي مشاهداً، فإن هذا لا يتجه القول بأن الدلك يعلق به الحكم مطلقاً، فهذا ليس في الأدلة ما يقتضيه، وإنما يحمل حديث: ( فإن التراب له طهور )، على أن النجاسة لا يلزم فيها الماء، فهو دال على هذا الأصل، لكنه ليس دالاً على أن التراب يكون كافياً على كل تقدير، فهذا ما يتجه في هذه المسألة.

يسير النجاسات التي يعفى عنها

قال المصنف رحمه الله: [ ولا يعفى عن يسير شيء من النجاسات إلا الدم، وما تولد منه من القيح والصديد وأثر الاستنجاء ].

قوله: (ولا يعفى عن يسير شيء من النجاسات إلا الدم)، وهذا الاستثناء يقوي ما سبقت الإشارة إليه في المسألة السابقة، فإنك إذا قلت: إن دلكه في الأرض يطهره مطلقاً لزم من ذلك تصحيح أنه قد يعفى عن يسيره، فإنه لا يلزم أن الدلك ضرورة يكون مطهراً مطلقاً؛ ولهذا كان الصحيح من المذهب: وجوب الغسل، وهذا سبقت مناقشته.

قوله: (إلا الدم) فإن الدم نجس عند عامة أهل العلم، ويعفى عن يسيره، لما جاء عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم في ذلك من الآثار، وهذا الذي عليه أكثر الفقهاء.

وكذلك ما تولد منه على تعبير الفقهاء، يقولون: (ما تولد منه)، مع أن هذا يحتاج إلى تحقيق من جهة كونه متولداً من الدم، كما قال: (من القيح والصديد) فإنه كذلك يعفى عن يسيره، وهذا فرع عن كون القيح والصديد نجساً، وهذا هو: الراجح، وهو الذي عليه الجمهور: أنه كذلك في حكم الدم.

وقالت طائفة من الفقهاء: إن القيح والصديد طاهر، وإن كان من الأذى الذي يجتنب، والجمهور على خلاف ذلك، لكن الخلاف في المسألة أقوى مما ذكر من خلافٍ في مسألة الدم، فإن الدم عند العامة نجس، بل حكي الإجماع على نجاسته، بخلاف القيح والصديد فإن الخلاف فيه محفوظ.

وأثر الاستنجاء وأنه يعفى عنه.

وهذا إشارة إلى أن أثر الاستنجاء لا يزال نجساً، ولكنه يعفى عنه.

ولهذا نص الإمام أحمد رحمه الله على أن: القيح والصديد أسهل من الدم؛ لأن الخلاف فيه محفوظ.

الخلاف في نجاسة المذي والمني والقيء وما يعفى عن يسيره منها

قال المصنف رحمه الله: [ وعنه: في المذي، والقيء، وريق البغل والحمار وسباع البهائم والطير وعرقها، وبول الخفاش، والنبيذ، والمني: أنه كالدم، وعنه: في المذي: أنه يجزئ فيه النضح ].

(وعنه: في المذي)، المذي: ليس المني وليس البول، وإنما هو: ما يخرج عند بعض دواعي الجماع ومقدماته، وهو معروف، قال: (وعنه: في المذي) أي: أنه كالدم يعفى عن يسيره، وهذا فرع عن كون المذي نجساً، وهذا هو الصحيح: أن المذي نجس، ولكن هل يعفى عن يسيره، أو لا يعفى عن يسيره؟

هذا فيه روايتان عن الإمام أحمد ، والأرجح: أنه لا يعفى عن يسيره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالغسل منه، كما في حديث علي : ( كنت رجلاً مذاءً فكنت أستحي أن أسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته -أي: فاطمة- فأمرت المقداد بن الأسود فسأله، فقال: يغسل ذكره ويتوضأ )، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بغسل الذكر، وهذا هو الأصل في اجتناب النجاسة، ولا يخفف فيه شيء من ذلك إلا حيث جاء فيه دليل.

قال: (والقيء)، كذلك القيء فالجمهور على أنه نجس، واختار طائفة من الفقهاء: أنه طاهر، ولكن القيء يعفى عن يسيره؛ لأنه كما قال الإمام أحمد رحمه الله: إنه لا يتقى منه، يعني: القيء، فيعفى عن يسير القيء.

نجاسة ريق البغل والحمير وسباع البهائم والطير وما يعفى عن يسيره منها

قوله: (وريق البغل والحمار)، البغل وهو أشد حالاً من الحمار، وفيه قولان في مذهب الإمام أحمد وغيره، وهل يعفى عن ريقه، أو لا يعفى؟ وكذلك: الحمار، وإن كان الراجح أن الحمار يعفى عن يسيره؛ لأنه لا يتقى؛ ولأنه مما يبتلى به عادة؛ ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله: ومن يسلم من ذلك، أي: من ريق الحمار لمن كان يركبه أو هو دابته.

قال: (وسباع البهائم والطير)، وهذه لم يرد فيها تخفيف، إلا أن بعض أهل العلم أخذ ذلك مما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن البئر وما ينوبه من السباع قال: ( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث ) فدل على أن سؤرها يكون نجساً، وأخذ بعضهم من قوله في الحديث الآخر: ( لها ما شربت بأفواهها ولنا ما غبر ) أي: ما بقي طهور، لكن هذا حديث لا يثبت بهذا الوجه، إنما المحفوظ وهو أقوى منه حديث القلتين على كل ما فيه، لكن الراجح أنه ثابت، واحتج به أحمد، وغيره من أئمة الرواية، وعليه فيكون سباع البهائم والطير يجتنب ريقها، ويجتنب عرقها، وكذلك (بول الخفاش) فإنه نجس.

نجاسة النبيذ وما يعفى عن يسيره منه

قال: (والنبيذ) ففيه -أيضاً- روايتان عن الإمام أحمد: أنه لا يخفف في يسيره.

والرواية الثانية: أنه يخفف في يسيره، وإذا كان النبيذ هو: المسكر، وهو المقصود هنا، أما إذا لم يكن مسكراً فإنه طاهر، ويشرب، وأما إذا كان النبيذ على معنى: المسكر، وهو المقصود هنا، فإنه يعود إلى الخمر، والخمر نجسة عند الجمهور، كما هو مذهب الأئمة الأربعة.

قال: (وعنه: في المذي: أنه يجزئ فيه النضح) أي: لا يجب غسله، والأظهر: وجوب غسله؛ لحديث علي في الصحيح، قال: ( يغسل ذكره ويتوضأ ).

تنجيس الآدمي بالموت ونجاسة ما لا نفس له سائلة

قال المصنف رحمه الله: [ ولا ينجس الآدمي بالموت ].

قال: (ولا ينجس الآدمي بالموت) لأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه في الصحيح: ( أن المؤمن لا ينجس )، فالآدمي لا ينجس بالموت، وهذا هو الذي عليه أكثر الفقهاء، وما جاء في الحديث، وهو حديث متفق على صحته، فهو مبين في المسألة.

نجاسة ما لا نفس له سائلة

قال المصنف رحمه الله: [ وما لا نفس له سائلة، كالذباب وغيره ]، النفس أي: الدم، وهذا تعبير معروف عند العرب، أنها: الدم، وهذا التعبير المركب (ما لا نفس له سائلة)، قيل: إن إبراهيم النخعي وهو من فقهاء الكوفة هو أول من عبر به (كالذباب وغيره) فإنه لا ينجس بالموت؛ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم، كما ثبت عنه: ( إذا وقع الذباب في شراب أحدكم، فليغمسه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء )، فدل ذلك على أنه لا ينجس بالموت، وإلا كان منجساً للإناء وما فيه.

أقوال العلماء في بول ما يؤكل لحمه وروثه ومنيه

قال المصنف رحمه الله: [ وبول ما يؤكل لحمه، وروثه، ومنيه: طاهر، وعنه: أنه نجس ].

هذا فيه روايتان عن أحمد، وهما قولان للفقهاء، وهو ما يتعلق ببول ما يؤكل لحمه، وروثه، ومنيه.

والراجح: أن ذلك كله طاهر، كبهيمة الأنعام، فإن بول الإبل دل على كونه طاهراً: أن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث العرنيين في الصحيح لما أتوا المدينة واجتووا المدينة ومرضوا فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا في الإبل ويشربوا من أبوالها وألبانها، فدل على أن بولها طاهر، وكذلك ما جاء في حديث جابر بن سمرة، و البراء بن عازب لما سئل عن الصلاة في مرابض الغنم، قال: نعم، فدل على أن روثها يكون طاهراً، وكذلك بولها، فإن مرابضها لا تنفك من ذلك عادة، بل يكاد يستحيل عادة أن تنفك عن ذلك.

والصلاة في مرابض الغنم هو قول عامة أهل العلم خلافاً للإمام الشافعي ؛ فإنه منعه وقال: لأن روثها نجس، فلا يصح الصلاة في مرابضها.

وفي الجملة ففي أحكام النجاسات أعدل المذاهب في هذا الباب هو مذهب الإمام أحمد، و مالك ، وفي مذهب الإمام الشافعي كثير من الإغلاق في أحكام النجاسات، وإن كان لا يطرد، وفي مذهب الإمام أبي حنيفة كثير من الترك في أحكام النجاسات، وإن كان لا يطرد، وأشبه المذاهب بما ورد وبالقواعد هو ما ذهب إليه الإمام أحمد، و مالك؛ ولهذا ذهب مالك إلى أن بول ما يؤكل لحمه وروثه: طاهر.

أقوال العلماء في مني الآدمي ورطوبة فرج المرأة

قال المصنف رحمه الله: [ ومني الآدمي: طاهر، وعنه: أنه نجس، ويجزئ فرك يابسه ].

وكذلك مني الآدمي عند الجمهور فإنه طاهر، وهذا مذهب الإمام أحمد، و الشافعي، وطائفة، وقال أبو حنيفة : إنه نجس، ولكنه قال: يفرك يابسه.

والراجح: أن مني الآدمي طاهر؛ لأن عائشة رضي الله عنها كانت تراه في ثوب النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت: ( كنت أحكه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يابساً بظفري )، فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يتقيه، وكان يبقى في ثوبه عليه الصلاة والسلام إلى أن تحكه عائشة يابساً، وهو أصل بني آدم وخلقة ولد بني آدم، فإن ولد بني آدم تولدوا من هذا الماء الذي خلقه الله سبحانه وتعالى، وما في ذلك من القرائن الشرعية فضلاً عن النصوص الآنفة أو المشار إلى بعضها، هذا كله يدل على أن المني طاهر، وأما كونه يجب منه الغسل فلا يدل على كونه نجساً، فإن الشارع يعلق الأحكام بغير سبب وبغير مناط، فهذا حكم تعبدي، كما ترى أن الشخص إذا أحدث بخروج الريح مثلاً وجب عليه الوضوء، وهو إذا توضأ بالإجماع لا يغسل محل الريح، وإنما يغسل أعضاء الوضوء.

فالشاهد أن مني الآدمي طاهر، وهذا بيّن في الرجحان. وإنما كان يفرك يابسه من فعل عائشة إنما هو من باب الكرامة، وليس لكونه نجساً، لكن مما ينبه إليه في أمر المني أن المني قد يختلط في حال بعض الناس بالمذي، فيكون ما أصاب الثوب، أو ما أصاب اللباس في حقيقته مذياً ومنياً، فإذا خالطه المذي صار له حكم المذي، أي: صار الثوب يعتبر بما أصابه من المذي الذي يجب غسله، وإن كانت الرواية الأخرى عن أحمد أنه يكفي فيه النضح، لكن المذي نجس.

قال المصنف رحمه الله: [ وفي رطوبة فرج المرأة روايتان ].

وهما أقوى الروايات للإمام أحمد ، واختلف فيهما الأصحاب اختلافاً قوياً، والله أعلم بالراجح في هذه المسألة.

أقوال العلماء في نجاسة سباع البهائم والطير والبغل والحمار الأهلي

قال المصنف رحمه الله: [ وسباع البهائم، والطير، والبغل، والحمار الأهلي: نجسة، وعنه: أنها طاهرة ].

(وسباع البهائم والطير) كذلك هي نجسة من حيث الجملة، وإن كان الفقهاء مختلفين في المحل الذي يسمى نجساً، هل يقال: إنها نجسة مطلقاً، أو يقال: اللحم والريق دون الشعر والريش وما إلى ذلك؟

هذا فيه خلاف: القول الأول: وهو أوسع المذاهب في ذلك، وهو مذهب الإمام أبي حنيفة ، فإنه يذهب إلى أن عظم الميتة طاهر، فمن باب أولى الشعر والريش.

والقول الثاني: أن سباع البهائم والطير نجسة، حتى ما يتعلق بشعرها، فشعر السباع يكون نجساً، وهذا هو مذهب الإمام الشافعي.

ومنهم من فرق بين ما له حكم الاتصال وما له حكم المنفصل، فالفقهاء يقولون: إن ما له حكم المنفصل هو الشعر والريش، وإن كان في حقيقته متصلاً، لكن يكون له حكم المنفصل، فإنه يبان عن الدابة أو عن الطير ولا يضره في الغالب.

قال: (والحمار الأهلي نجسة)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في الحمر الأهلية ( إنها رجس )، لما طبخها من طبخها في خيبر نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن النبي صلى الله عليه وسلم يأمركم باجتنابها وإنها رجس )، فبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الحمر الأهلية رجس -أي: نجسة- وهذا الذي عليه الأكثر من الفقهاء.

والرواية الثانية: أن الحمر الأهلية طاهرة في ظاهر الحال الذي يمسه الآدمي.

والراجح في هذه المسألة: أن ما كان من حكم المنفصل فإنه طاهر، بخلاف ما عدا ذلك فإنه نجس، وعليه فإن شعر الحمار وعرق الحمار يكون كله طاهر، وكذلك سؤر الحمار طاهراً، بخلاف السباع فإن سؤرها نجس عند الجمهور إلا أن أبا حنيفة فرق بين سباع البهائم وسباع الطير عملاً بدليل الاستحسان.

ففقهاء الحنفية جعلوا موجب التفريق بين سباع البهائم والطير هو العمل بدليل الاستحسان، وهو العدول عن قياسٍ إلى قياس، ومن أوجهه عند الحنفية العدول عن قياس جلي إلى قياس خفي؛ لقرينة عند المجتهد، ودليل الاستحسان حوله جدل كثير في كتب الأصول، وأقوى من تكلم عنه وانتصر له هم الحنفية، وأكثر من باعد عنه هم الشافعية، والحنابلة والمالكية وسط بين هذين.

إنما من صوره عندهم ذلك، وقالوا: إن أبا حنيفة قال ذلك في سباع الطير، وجعله أصحابه من العمل بدليل الاستحسان، قالوا: لأن الطير إنما يشرب بيابس وهو منقاره، فأشبه العظم، وعظم الميتة عند أبي حنيفة طاهر، فعدل عن القياس الجلي الذي هو الأصل في سباع البهائم إلى قياس خفي وهو أن هذا الطائر يشرب بيابس، فجعلوا هذا من مثال الاستحسان عند الحنفية، ومن أوجه الاستحسان عند الحنفية.

سؤر الهر والسنور

قال المصنف رحمه الله: [ وسؤر الهر والسنور، وما دونهما في الخلقة: طاهر ].

سؤر الهرة وما دونها في الخلقة طاهر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة : ( إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات )، فالهرة وما دونها في الخلقة سؤرها طاهر؛ لحديث أبي قتادة.

تعريف الحيض وسبب الاشتباه والتردد في مسائل الحيض

قال المصنف رحمه الله: [ باب الحيض: وهو دم طبيعة وجبلة ].

هكذا يقول الفقهاء رحمهم الله، وأحكام الحيض معتبرة بالشريعة في الأصل ولا شك.

ولكن لما كان الحيض -وكثير من الأحكام التي عرض فيها خلاف بين العلماء- مشتبه بالاستحاضة، أو بما هو من دم الفساد، وبعضهم يجعل كل ما ليس حيضاً يكون استحاضة، وبعضهم يجعل ثمة نوعاً ثالثاً لا يقع استحاضة، فإن الاستحاضة تكون فاحشة، ويجعل ثمة نوعاً من الدم ليس بحيض ولا استحاضة لكونه ليس فاحشاً، ويجعله نوعاً من الفساد.

فعلى تقدير هذا أو تقدير ذاك، فإن كثيراً من الاشتباه في مسائل الحيض تعود إلى أن المرأة ينتابها أكثر من دم، وهذا مجمع عليه بين الفقهاء، فكما ينتابها دم الحيض، فإنه ينتابها دم الاستحاضة، أو نقول: ينتابها ما هو فساد، ولو لم يكن إلا الاستحاضة لحصل هنا؛ ولهذا تكلم الفقهاء كثيراً، وجاءت النصوص الشرعية النبوية معرفة بما كان من صفة الحيض ومدته، وهذا ما سماه الفقهاء بالعادة والتمييز، وتفرع عن ذلك أحكام متعددة، ولوجود هذا الاشتباه بين الدم أيضاً تكلموا عن أقل الحيض وأكثر الحيض، فمنهم من قال: إن المدة التي تحيض لها المرأة غايتها خمسون سنة، فيجعلون ما بعد الخمسين ليس حيضاً، وبعضهم قال: إلى ستين سنة، كمذهب مالك، فيجعلون ما بعد الستين ليس بحيض، فلو أن المرأة لم يكن ينتابها أكثر من دم، هل يحصل هذا التردد والاشتباه أو لم يحصل؟ لو كان لا ينتابها إلا دم واحد ما حصل هذا التردد.

إذاً: هذا التردد تفرع عن هذا الاشتباه، وجاءت الشريعة مميزة لهذا عن هذا بما جاء في حديث فاطمة بنت أبي حبيش ، وهو يعتبر عمدة في باب الحيض وأحكام الحيض، وكذلك ما جاء في حديث أم سلمة، و عائشة ، فهذه الأحاديث الثلاثة هي عمدة في باب الحيض وأحكامه، ولكن ينبهون إلى معنى في الشريعة، وهو: أن العلم والطب له طرق في تمييز ما كان استحاضة وما كان حيضاً، حتى الفقهاء لا يختلفون أن دم الحيض له صفة؛ ولهذا يقولون: هو دم طبيعة وجبلة، وهو ليس مرضاً في المرأة بل هو أمر خلقه الله، والفقهاء يقولون: خلقه الله لحكمة الولد، فيكون غذاءً.

والمقصود: أنه دم طبيعة، وهكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم )، ولا يقال ذلك في دم الفساد، أو دم المرض، أو دم الاستحاضة؛ ولهذا دم الاستحاضة لكونه عارضاً لم يمنع الصلاة، بل تصلي المستحاضة بإجماع العلماء، بخلاف دم الحيض فإنه يمنع الصلاة، بل لا تصح الصلاة ولا تجوز إذا كانت المرأة حائضاً، وسماه الله في كتابه أذىً.

فإذاً: هذا المعنى يجب استصحابه في تقدير صاحب العلم في الشريعة، وتقدير الفقيه لتصوره في المسألة، ونتيجة هذه الإشارة إلى أن العلم الذي يقرره الأطباء الثقات الخبراء في طبهم، إذا تكوّن لديهم ما هو من العلم المؤكد المميز لبعض الأحوال عن بعض، فهذا لا ينبغي تجاهله، ولا بد من الاعتبار له بوجه؛ ولهذا إذا اختلطت الأمور على بعض النساء وقالت لها الطبيبة التي اطلعت على ذلك، أو أشار عليها أكثر من صاحب طب بحكم من الأحكام، أو معنىً من المعاني، فلا نقول: إن المرأة تعمل بكلام الطبيب أو الطبيبة وتترك ما يقرره الفقهاء، لكن هذا أمر يحتاج إلى معنى من الاستصحاب في نظر الفقيه.

يعني: إذا اتفق الأطباء على أن هذا لا يمكن أن يكون حيضاً، فهذا يجب اعتباره، وهكذا؛ لأنه أمر من الأمور التي يدركها ويميزها الطب.

اعتبار العادة والتمييز في الحيض والعمل عند تعارضهما

وقع في الشريعة صفتان: أحاديث دلت على اعتبار الشارع للعادة، وأحاديث دلت على اعتبار الشارع للتمييز، فإن دم الحيض دم أسود يعرف، كما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة، وهاتان الصفتان وهما: العادة والتمييز، وسيأتينا بما ثبتت به العادة: هل بمرة، أو بمرتين، أو بثلاث؟ والعادة هي التي تعتادها المرأة في حيضها، فالعادة والتمييز إذا اتفقا لا يكون في المسألة إشكال، وإنما الإشكال إذا اختلفت العادة والتمييز، فهل يقدم التمييز، أو تقدم العادة؟

هذا فيه طريقتان للفقهاء، والخلاف في هذه المسألة من أقوى موارد الخلاف، ويتفرع عن الخلاف في هذه المسألة كثير من الفروع في أحكام الحيض، وفي المسألة عن الإمام أحمد روايتان، وإن كان الأظهر من هذين القولين هو: تقديم التمييز على العادة؛ لأن التمييز المقصود به أن دم الحيض دم أسود له صفة، تميزه النساء، ويميزه الأطباء، ودم الاستحاضة دم أحمر خفيف يميزه الأطباء، وتميزه النساء، وهو كما قال ابن عباس : إنما هو كغسالة اللحم، فهو دم مميز، وهذا هو المقصود بالتمييز.

نقول: إذا تعارضت العادة والتمييز فالأظهر تقديم التمييز على العادة، وهذه إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، ورجح هذه الرواية كثير من محققي الحنابلة، وهو قول طائفة من السلف والخلف -وإنما يرجح التمييز عن العادة- ولا بد من السبق في أول الباب بمثل هذه المقدمة حتى تكون الأحكام إذا جاءت يبين وجه ترتيبها، وإنما يرجح ذلك لأوجه: الأول: لأن التمييز صفة متعلقة بالماهية نفسها، أما العادة فإنها صفة متعلقة بوصف خارج عن الماهية، فإن العادة هي اعتياد في المدة، فتجيء العادة بسبعة أيام أو ستة أيام، فهذا وصف لا يتعلق بذات الماهية، وإنما بوصف خارج، والأوصاف التي هي داخل الماهية أقوى من الأوصاف الخارجة عنها، والاعتبار بها أقوى من الأوصاف الخارجة عنها.

الوجه الثاني: أن التمييز إذا اتضح فهو أقرب إلى اليقين من العادة؛ لأن العادة فيها قدر من المظنة، فإنها تختلف بين النساء، بخلاف التمييز إذا بان فإنه لا يختلف بين النساء، فهو أقرب إلى اليقين من العادة.

الوجه الثالث: مضت العادة بمعناها العام على أن النساء يعرض لهن اختلاط واضطراب في العادة، وهذا معروف عند الأطباء الآن، ولا سيما مع الجوانب النفسية، وبعض الأعراض المرضية التي تكون لدى النساء أو المشاكل، فهذا يؤثر على طبيعة حيض المرأة، فيصير في عادتها شيء من الاضطراب، فإذا كانت العادة لا تستقر تمام الاستقرار بخلاف التمييز بان هنا أن الاعتبار بالتمييز أقرب من الاعتبار بالعادة، وأن العادة إنما اعتبرت بالشريعة حيث لا يوجد التمييز، وأما إذا وجد التمييز فإنه أبلغ من العادة.

موانع الحيض وموجباته وما يباح للحائض فعله قبل الاغتسال منه

قال المصنف رحمه الله: [ ويمنع عشرة أشياء: فعل الصلاة، ووجوبها، وفعل الصيام، وقراءة القرآن، ومس المصحف، واللبث في المسجد، والطواف، والوطء في الفروج، وسنة الطلاق، والاعتداد بالأشهر ]، يمنع الحيض عشرة أشياء.

قوله: (فعل الصلاة، ووجوبها) أي: يمنع فعل الصلاة ووجوبها، أي: لا يجوز أن تصلي، ولا تجب عليها الصلاة؛ لما روت معاذة قالت: ( سألت عائشة : ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟ كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة )، والحديث متفق عليه.

قوله: (وفعل الصيام) أي: وكذلك فإنها لا تصوم المرأة، ولا يجوز لها الصيام.

قوله: (وقراءة القرآن): قراءة القرآن على قولين: وسبق أن الحائض لا تمنع من قراءة القرآن.

قوله: (ومس المصحف)؛ لحديث عمرو بن حزم : ( لا يمس القرآن إلا طاهر ).

قوله: (واللبث في المسجد)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المرأة أن تدخل المسجد الحرام.

قوله: (والطواف)؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري )، وقوله في صفية : ( أحابستنا هي ).

قوله: (والوطء في الفرج) فإن الحائض يحرم وطؤها في الفرج إجماعاً؛ لقوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة:222].

قوله: (وسنة الطلاق) أي: ليس من السنة أن تطلق المرأة وهي حائض، وإن كان الجمهور على أنه يقع، ومنهم من يقول: يكره، ومنهم من يقول: يحرم، لكن الأئمة الأربعة على وقوعه.

قوله: (والاعتداد بالأشهر)، لقوله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، وهذا إذا كانت المرأة لها حيض، فإن لم يكن لها حيض فإنها تعتد بالأشهر.

الأمور التي يوجبها الحيض

قال المصنف رحمه الله: [ ويوجب الغسل، والبلوغ، والاعتداد به، والنفاس مثله إلا في الاعتداد ].

فالحائض يجب عليها أن تغتسل إجماعاً وبالنص، وكذلك البلوغ فإذا حاضت المرأة فإنها بالغ؛ لحديث (لا يقبل الله صلاة الحائض إلا بخمار)، أي: إذا حاضت المرأة، أي: بلغت.

قوله: (والاعتداد به) أي: يكون في الاعتبار بالعدة.

قوله: (والنفاس مثله إلا في الاعتداد): فإن النفاس لا يعتبر في العدة.

ما يباح فعله قبل اغتسال المرأة من الحيض

قال المصنف رحمه الله: [ وإذا انقطع الدم أبيح فعل الصيام، والطلاق، ولم يبح غيرهما حتى تغتسل؛ فإذا تطهرن فأتوهن ].

أي: فلا تصلي حتى تغتسل لكنها تصوم، وتطلق، فلو طلقها زوجها لم يكن ذلك على خلاف السنة من هذا الوجه.

قوله: (ولم يبح غيرهما حتى تغتسل) أي: فلا تصل ولا تصح صلاتها ويحرم جماعها قبل أن تغتسل عند أكثر أهل العلم، وهذا هو الراجح، ورخص فيه بعض الفقهاء وهو بعيد، وفيه قبح.

إتيان الحائض

أقوال العلماء في المواضع التي يستمتع بها من الحائض

قال المصنف رحمه الله: [ ويجوز أن يستمتع من الحائض بما دون الفرج ].

والاستمتاع من الحائض إذا كان بما دون الركبة وفوق السرة، فهذا بالإجماع أنه يجوز أن يستمتع من الحائض بما كان كذلك، وأما ما دون السرة وفوق الركبة فالجمهور على منعه؛ لحديث عائشة : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أتزر في فور حيضتي ثم يباشرني )، وذهب الإمام أحمد في الراجح من مذهبه إلى أنه يجوز الاستمتاع من الحائض بما فوق الركبة ودون السرة دون الفرج، واستدل بذلك أيضاً بما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها من وجه آخر.

ودليل الإمام أحمد أن ما جاء في ذلك إنما نزل في اليهود، كما في حديث أبي سعيد في الصحيح، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ذلك: ( اصنعوا كل شيء إلا النكاح )، فدخل فيه المباشرة بما فوق الركبة ودون السرة.

قالوا: وأما حديث عائشة فإنه فعل، وإنما هو في فور حيضتها، فيكون الدم شديداً، فلا تكون دلالته في عمومها، كحديث أبي سعيد : ( اصنعوا كل شيء إلا النكاح ) فإن فيه عموماً كما ترى.

وطء الحائض وكفارة ذلك

قال المصنف رحمه الله: [ فإن وطئها في الفرج فعليه نصف دينار كفارة ]، وفي رواية: عليه دينار أو نصفه، [ وعنه: ليس عليه إلا التوبة ]، وهذا هو الراجح، وكثير من الفقهاء أثبت الكفارة بقول ابن عباس ، والراجح: أنه لا كفارة في ذلك، والكفارات هي تقدير محض من الشارع، فلا تثبت الكفارة إلا بما كان من الشرع، وإنما قال ابن عباس : يتصدق بدينار أو نصفه، لا على سبيل الكفارة، وإنما على سبيل الحسنة التي تمحو السيئة، فهذا كان استحساناً لحال السائل، ولو أن المفتي قال لمن سأله وقد فعل معصية: افعل خيراً، ما دل على أن هذا الوجه من الخير لازم لثبوت التوبة من هذا الفعل، فالأظهر: أن هذا لا يصح جعله كفارة؛ لأن الكفارة من الأحكام الموقوفة على تقدير الشارع وتسميته.

مدة الحيض وأقله وأكثره

أقل سن تحيض له المرأة وأكثره

قال المصنف رحمه الله: [ وأقل سنٍ تحيض له المرأة: تسع سنين، وأكثره: خمسون سنة، وعنه: ستون في نساء العرب ].

قوله: (وأقل سن تحيض فيه المرأة: تسع سنين) فما دون التسع لا يعتبر حيضاً، ولا تكون به امرأة، ولا خلاف في مذهب الإمام أحمد في ذلك، ومنهم من قال: إلى ثنتي عشرة سنة، وهو أقل شيء في ذلك.

قوله: (وأكثره: خمسون سنة، وعنه: ستون) هذا فيما تكون به المرأة آيسة ينقطع حيضها، وسيأتي تفصيل ذلك، وأن الراجح: أن الدم إذا اتصل بالخمسين فإنه يعتبر حيضاً، إذا استمر دمها واستمرت عادتها بعد الخمسين فإنه لا يقال ببلوغه الخمسين: ما زاد يكون ليس بحيض بل هو حيض، إنما محل الإشكال إذا انقطع عليها في خمسين سنة، ثم طرأ عليها بعد ذلك، يعني: إذا انقطع واستقر انقطاعه ثم عاود بعد سنة أو نحو ذلك فهذا هو الذي يتجه فيه كلام الفقهاء رحمهم الله أكثر.

حيض المرأة الحامل

قال المصنف رحمه الله: [ والحامل لا تحيض ].

هذا هو قول العامة من أهل العلم، وفيه آثار عن الصحابة رضي الله عنهم: كأثر عائشة ، فإن عائشة رضي الله عنها نفت ذلك نفياً صريحاً.

إذاً: المصنف أشار إلى أن الحامل لا تحيض، وهذا هو الذي عليه الجمهور.

والقول الثاني: أنه يمكن أن يقع ذلك، وهذا مما يفيد فيه ما سبق في المقدمة إلى أن الحقائق الطبية التي ينتهي إليها علم الطب انتهاءً جازماً يجب أن تعتبر، أو ينبغي أن تقدر في نظر الفقيه في مثل هذه المسائل.

أقل الحيض وأكثره وأقوال العلماء فيه

قال المصنف رحمه الله: [ وأقل الحيض: يوم وليلة، وعنه: يوم، وأكثره: خمسة عشر يوماً، وعنه: سبعة عشر، وغالبه: ست أو سبع، وأقل الطهر بين الحيضتين: ثلاثة عشر يوماً، وقيل: خمسة عشر، ولا حد لأكثره ].

الجماهير من الفقهاء وهو الذي عليه أحمد، و مالك في بعض قوله، وكذلك الشافعي في أكثر مذهبه، و أبو حنيفة في أكثر مذهبه، هو أن أقل الحيض وأكثره والطهر وما إلى ذلك له تقدير، فهؤلاء الجمهور من الفقهاء اعتبروا التقدير، وإن كان أخف المذاهب في ترك التقدير هو مذهب الإمام مالك رحمه الله، وإن كان المالكية قدروا في مسائل، لكنهم أدنى المذاهب في التقدير.

وذهب طائفة من أهل العلم، وهو الذي اختاره ابن تيمية رحمه الله إلى أن جمهور هذه المسائل لا تقدر، فلا يقدر أقل الحيض بشيء، ولا يقدر أكثره بشيء، ومن الجمهور الذين ذهبوا إلى التقدير: ما جاء في المشهور من مذهب الإمام أحمد: أن أقل الحيض: يوم وليلة، فهذا هو المشهور من المذهب، وأكثره: خمسة عشر يوماً، وعليه إذا قلت: إن أكثره: خمسة عشر يوماً، فما زاد عن خمسة عشر يوماً يكون عندهم استحاضة، ومنهم من قال: سبعة عشر يوماً، فعليه ما زاد يكون استحاضة، فهذه هي نتيجة هذا التحديد، أنك إذا قلت: أقل الحيض: يوم وليلة، وأكثره: خمسة عشر يوماً، فما زاد عن خمسة عشر يجعلونه استحاضة.

وذهب مالك في إحدى الروايتين عنه إلى أنه: لا تقدير للحيض لا أقله ولا أكثره، وهذا الذي اختاره طائفة من العلماء منهم ابن تيمية رحمه الله، ومما ذكر مالك في هذا أنه لو كان لأقله شيء لم تثبت أحكامه إلا بيوم وليلة، وهذا وجه من الاستدلال أنه يقول: لو لم يكن حيضاً إلا بيوم وليلة لما ثبتت الأحكام في ترك الصلاة إلا بمضي يوم وليلة؛ لأن ما قبل ذلك يكون مشكوكاً فيه؛ لأنه إذا كان أقله يوم وليلة فمعناه أنه لا يستقر كونه حيضاً ولا يثبت كونه حيضاً بتمييزه، وإنما يثبت كونه حيضاً بمضي يوم وليلة مع التمييز أو مع العادة، فلو أنه انقطع وهو مميز عن يوم وليلة على قول من يجعل أقله يوماً وليلة فلا يجعله حيضاً، فـمالك يقول: فلو كان كذلك لما ثبتت أحكامه إلا بمضي يوم وليلة، وهذا خلاف الإجماع، فإنه حتى من يقول بيوم وليلة، يقول: إنها تبتدئ أحكامه من خروجه، فإذا خرج الحيض ابتدأت أحكامه من جهة ترك الصلاة والصيام إلى آخره، فهذا وجه من الاحتجاج، وليس من القول.

قوله: (وغالبه: ست أو سبع) كما جاء في حديث فاطمة بنت أبي حبيش، وهو كذلك من حديث أم سلمة، قال: (وأقل الطهر بين الحيضتين: ثلاثة عشر يوماً).

الأسئلة

الجمع بين عمرتين في سفرة واحدة

السؤال: هل تجوز عمرتين في سفرة واحدة، وإذا كانت تجوز فما المدة بين العمرتين؟

الجواب: العمرتان في سفرة واحدة جائزة؛ ولهذا المقيم بمكة ليس مسافراً ويعتمر، وتجوز في سفرة واحدة، والصحيح أن أهل مكة يعتمرون، فليس أهل مكة، كما حمل قول ابن عباس أنه ليس لهم عمرة إنما لهم الطواف، فأهل مكة مخاطبون بشعيرة العمرة كغيرهم، لكن: هل يعتمر في السفرة الواحدة عمرتين؟ لا بأس بذلك، ولكن هذا ليس هو الذي ورد عن السلف، وليس من الأولى، ولكن لو أنه فعل ذلك فلا بأس به، ولا يقال: إنه بدعة، وإن كان لم يثبت به سنة، والذي مضت به السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتمر في سفره الواحد مرة واحدة، وهكذا الذي ورد عن الصحابة، لكن لو أن مسلماً من المسلمين قال: إنه لا يبلغ مكة إلا مرة في عمره، وبعدما بقي مدة -ولا سيما على طريقة من يجعل ذلك سفراً إذا طال عن أربعة أيام- أراد أن يعتمر مرة أخرى بعد مضي عشرة أيام أو عشرين يوماً، ويجعلونه مسافراً حتى يسقط عليه أحكام السفر، فهذا لا يستطيع أحد أن يقول: إنه بدعة، وإن كان لم يثبت فيه سنة، لكن تقدير مثل هذه الأحوال.. وكذلك إذا أتى بعمرتين: العمرة الأولى له وعمرة أخرى ليست له، فهذا اعتمر مرتين، ولكن الثانية بالنيابة، كما لو اعتمر عن ميت، وجعل ثوابه له جاز ذلك، ولو كان مثل هذا الفعل ليس من السنن المندوب إليها ابتداءً، لكنه سائغ، وليس من البدع كما قد يقول به البعض أحياناً؛ لأن مثل هذه الأفعال مما أذنت الشريعة به، وفي الشريعة أعمال لا تكون مما ندب إليه، ولكنه مما أقر، وهو عبادة، فإذا فعله أخذ ثواب العبادة، وإن كان الابتداء والقصد ليس فيه ثواب مختص، لكن فيه ثواب العبادة، كما لو أنه قصد إلى صيام يوم الإثنين، أو إلى صيام عاشوراء، قيل: له أجر العبادة، وله أجر القصد إليها؛ لأن هذا اليوم مقصود في الشريعة، ولكنه لو صام يوم الثلاثاء فله أجر العبادة، لكن لا تقل: إن القصد إلى يوم الثلاثاء له أجر يخص؛ لأن هذا القصد ما شرع، وكذلك في الصلاة كمن صلى من الليل أكثر مما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن عائشة رضي الله عنها و ميمونة ما ذكرن إلا إحدى عشرة أو ثلاث عشرة ركعة، وقالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، فمن زاد على ذلك إلى قدر من العدد كإحدى وعشرين أو ست وثلاثين، ثم أتى بالوتر، أو نحو ذلك مما جاء عن أهل مكة في زمن السلف الأول، أو عن أهل المدينة النبوية زمن السلف الأول، فإن هذا العدد الذي هو إحدى وعشرون أو ست وثلاثون ليس عدداً مقصوداً في الشريعة كبقية الأعداد المقصودة في الصلاة، كالصلاة: ( من صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتاً في الجنة ) كما في حديث أم حبيبة ، فهذا عدد مقصود في الشريعة، فالقصد إليه مشروع، والعبادة مشروعة، لكن من صلى إحدى وعشرين، فهذا العدد بهذا الرقم ليس مقصوداً في الشريعة، لكنه ليس بدعة، ولا يصح أن يقال: هذا بدعة، ولو لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله؛ لأنه ليس من شرط السنة من يقول: إنه بدعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل، وهذا غريب؛ لأنه ليس من شرط السنة أن تثبت بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه من المستقر بالإجماع أن السنة هي قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله، بل وإقراره، وإن كانوا يقيدون في الإقرار بعض الأوصاف، لكن بالإجماع أن القول تثبت به الأحكام، بل القول في علم الأصول أبلغ من الفعل؛ ولهذا اختلفوا في كثير من مسائل فعل النبي صلى الله عليه وسلم: هل هي من باب الخصوص؟ وهل الفعل يفيد الوجوب إلى آخره، فالقول بين الفقهاء والأصوليين بلا خلاف أنه أبلغ.

فإذا كان هذا بدهياً في علم الأصول والقواعد والفقه، بل ويكاد يكون معلوماً لدى الخاصة والعامة من المسلمين، فنقول: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل هذا، ولكن دل عليه قوله، وقوله له نظام يفهم من جهة دلالات كلام العرب، وفي حديث ابن عمر المتفق على صحته: جاء رجل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل، قال: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر ما قد صلى)، فقال له: (مثنى مثنى)، وجعل الغاية الزمان، ما قال: فإذا بلغ عشراً، أو بلغ عشرين، قال: (فإذا خشي أحدكم الصبح)، مع أن الرجل يصلي من الليل ما كتب الله له، وقال: (صلاة الليل) لما أراد العدد في صفتها صرح بذلك، وقال: (صلاة الليل مثنى مثنى) حتى لا تقع أربعاً أربعاً؛ ولهذا كره أكثر السلف أن يزاد في صلاة الليل على مثنى مثنى، وكذلك في صلاة النهار، فلا يصلي أربعاً بسلام واحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هنا جعل لنا صفة في صلاة الليل أنها مثنى مثنى، لكن ما بلغ بالعدد مبلغاً، مع أنه ذكر العدد هنا على وجه الإشارة إليه بقوله: (مثنى مثنى)، بل جعل التمام معلقاً بالزمان، وجعل ذلك عائداً إلى اختلاف أحوال المكلفين، وما هم عليه من الإقبال في الخير، فقال: (فإذا خشي أحدكم الصبح)، علماً أن من يصلي مثنى مثنى إلى أن يخشى الصبح إذا ابتدأ مبكراً فإنه يزيد على إحدى عشرة ركعة، إذا كان لا يطيل الصلاة، وهذا كان شأناً معروفاً عند الكثير، حتى في زمن الصحابة، فما كان جميعهم يطيل كصفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم.

لهذا اختلف الفقهاء رحمهم الله في أيهما أفضل: طول القيام، أو كثرة الركوع والسجود؟ فهذا له صفة في الشريعة، وهذا له صفة في الشريعة.

فالمقصود: أنك إذا نظرت إلى النصوص، فلا تجد نصاً دل على أن صلاة الليل توقت بعدد، وأن خلاف ذلك يكون بدعة، بل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أبلغ نصاً في هذا الباب: (صلاة الليل مثنى مثنى)، سواء صلوا فرادى أو مجتمعين، ومن قصد الوقوف على صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على إحدى عشرة ركعة؛ لأنه يقف على ذلك ويكون هذا القصد قصداً مشروعاً فاضلاً، ولكن تحقيقه أن يقف على صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من حيث طول القيام أيضاً.

قال ابن مسعود : حتى هممت بأمر سوء، قيل: وما هممت به؟ قال: هممت أن أقعد وأدع النبي صلى الله عليه وسلم، أي: أن يجلس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي قائماً.

لأنه أحياناً وخاصة أن رمضان آت، يأتي بعض الوعاظ أو بعض المبتدئين في طلب العلم، فيوهمون الناس فيترك كثير من العامة بعض الخير، فيقول له: السنة أن تصلي إحدى عشرة ركعة، ثم إذا كان إمام ويصلي التراويح إحدى عشرة ركعة، ويصلي القيام بعد ذلك، فبعضهم قد يترك القيام، ويقول: نريد السنة، فهذا توهيم للعامة بغير فقه، مثل: إذا أقبلت عشر ذي الحجة قالوا لهم: لا يشرع الصيام؛ لأن عائشة قالت: ( ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صائماً في العشر قط ).

هل أن ما قالته عائشة رضي الله عنها ثابت في نفس الأمر، أو إنما نقول ما قالته عائشة هو نفس الأمر؛ لأن عائشة رضي الله عنها ما نقلت لنا هنا نصاً من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا لانتهى الأمر، وإنما روت حالاً، وقد نبه علماء الأصول على أن الصحابي إذا روى حالاً فالأصل اعتباره ما لم يرد في نقل بعض الصحابة ما يقطع هذه الحال أو يستثنى فيها، فيقال: أليس هذا حديث عائشة ؟ نقول: بلى، هو حديث عائشة من حيث التسمية العامة، لكن ترى أنها تذكر حالاً، و عائشة ذكرت أحوالاً عن النبي صلى الله عليه وسلم نفتها وجاء عن غيرها من الصحابة إثبات هذه الحال، بل جاء عن عائشة نفسها خلاف هذه الحال؛ لأن عائشة رضي الله عنها تروي من حال النبي صلى الله عليه وسلم ما تشاهده، فهي رأت أنه لا يفعل ذلك، فقالت: لم يفعل ذلك، ثم رأت أنه فعل ذلك، فروت لنا، وإذا كان يعتبر قولها بما نفت فمن باب أولى أن يعتبر بما أثبتت.

و عائشة في صلاة الضحى -وكلها روايات رواها الإمام مسلم في صحيحه- مرة قالت: ( ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى قط )، و عائشة لما قالت ذلك: ما كانت تفهم كما يفهم البعض الآن أنه إذا ما صلاها النبي صلى الله عليه وسلم وقد شرعها بقوله أنها تترك، قالت: ( وإني لأسبحها )؛ لأنها سنة ثبتت بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كوصيته لـأبي هريرة لصلاة الضحى.

والمقصود: أن عائشة قالت: ( ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى قط وإني لأسبحها )، وروت في رواية أخرى عنها قالت: ( كان لا يصلي الضحى إلا أن يجيء من مغيبه )، فهذا إثبات، ولكنه إثبات مقيد، وروت رواية ثالثة، قالت: ( كان يصلي الضحى أربعاً ويزيد ما شاء الله )، ومثله في صلاة الليل، قالت: ( ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة )، لكن دلت بعض الرواية عن عائشة أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم كان فيه تنوع، فإنها روت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان هذا ليس زيادة على إحدى عشرة ركعة، لكن الحديث أفاد التنوع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينوع الفعل، وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى من الليل تسعاً فيهن الوتر، وصلى من الليل سبعاً بسلام واحد فيهن الوتر، فهذه حال عرضت للنبي صلى الله عليه وسلم، ووقعت من رسول الله عليه الصلاة والسلام.

فالمقصود: أن من قال: أصلي إحدى عشرة ركعة، فهذا القصد من التأسي قصد مشروع، لكن لا تعطل الصلاة لمثل هذا المعنى، فمن كان له إمام يصلي خلفه، فإنه يصلي خلفه ما صلى الإمام، فهذه هي السنة، فإذا صلى الإمام إحدى وعشرين ركعة، فإنك تصلي خلفه، ولا تقطع صلاتك عن صلاة إمامك، لكن لو أن الإنسان يصلي في بيته من الليل، وقال: أصلي بما قالت عائشة (كان يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن) .. إلى آخره، كما في صحيح البخاري ، فهذا التأسي لا نقول أيضاً: إنه خطأ، بل هذا تأس مشروع، لكن من زاد على ذلك وقال: هو على قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( صلاة الليل مثنى مثنى )، فهذا أيضاً تأس مشروع، والمكلفون لهم أحوال في العبادة: منهم من يغلب عليه طول القيام، ومنهم من يغلب عليه كثرة الركعات، وكثرة الركوع والسجود، فكل هذه أحوال مشروعة.

فإن قيل: فما الفاضل منها؟

قيل: الفاضل التأسي بحال النبي صلى الله عليه وسلم، لكن أن تأخذ صفة من فعله وتدع صفات أخرى، وتغلق بعض الدلالات عن وجهها، فهذا لا يكون كذلك، ومثله في عشر ذي الحجة فإنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صام العشر من ذي الحجة، وإن كان ورد في بعض الأحاديث ذلك، لكن لو سلمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ما صام العشر من ذي الحجة، ولن يدخل بالطبع يوم العيد، ويوم عرفة أيضاً لأنه مشروع صيامه، وإنما يقصدون إذا قالوا: عشر ذي الحجة في الجملة، فإنه لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام ذلك، فتجد البعض يقول: صيام ذلك ليس مشروعاً، وربما ترك بعض العوام من المسلمين صيام العشر من ذي الحجة، مع أنهم كانوا معتادين لذلك بسبب رأي لبعض طلبة العلم أو الشباب في هذا، وهذا خطأ.

أولاً: لأن عامة أهل العلم، بل حكاه بعض أصحاب الشافعي إجماعاً: أن صيام عشر ذي الحجة مشروع، وكما أشرت ما خلا يوم العيد وهذا بدهي، وهو الذي عليه الأئمة الأربعة وأصحابهم، فهذا إن لم يكن إجماعاً فعليه العامة من أهل العلم، بل حكي إجماعاً.

الثاني: أن السنن كما سبق تثبت بقول النبي صلى الله عليه وسلم، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث ابن عباس الذي رواه البخاري، والإمام أحمد وغيرهما: ( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر، قيل: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء )، فالشارع قال: (ما من أيام العمل الصالح)، ولا خلاف بين المسلمين خاصة وعامة أن الصيام من العمل الصالح، أما أن عائشة ما قالت: إن رسول الله نهى عن صيامها، لو قالت: نهى عن صيامها لوجب العمل بذلك، أي: من جهة الترك والاقتداء بنهي النبي صلى الله عليه وسلم بالترك، لكنها قالت: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صائماً في العشر قط، فهل يلزم أن غيرها من الصحابة لم يره؟

صحيح أنها من أقرب الناس إليه، لكن هذا لا يلزم اطراده، ولو قدر أنه وقع من النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يقال: إن النبي عليه الصلاة والسلام له من الحال في التشريع حتى أن عائشة في صلاة الضحى قالت: ( وإن كان رسول الله يدع العمل مخافة أن يعمل به الناس فيفرض عليهم أو يشق عليهم )، أو ما إلى ذلك.

فالمقصود: أنه لو أجري هذا المعنى، وأنه لا يفعل العمل الصالح في عشر ذي الحجة إلا حيث علم أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، لورد أن من يجلس ويقرأ القرآن في عشر ذي الحجة يقال له: ما الدليل على هذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما حفظ عنه، ولم ينقل الصحابة نصاً أنه كان يفعل ذلك، ومن تصدق في عشر ذي الحجة يقال له: ما الدليل أن الصحابة ما نقلوا ذلك، وهذا يئول إلى تفريع هذه العشر من جمهور العبادات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال لنا: ( ما من أيام العمل الصالح )، لم يوصف في الأعمال الصالحة التي تندب إليها في هذه العشر، بل تركها مطلقة بحسب أحوال المكلفين، فهذا يقوى على هذا القدر من العبادة، وهذا يوفق لكثير من العبادة دون الآخر وهكذا.

فالمقصود: أن حسن الفهم للشريعة وقواعدها، ولما كانت هذه المسألة -مع علم الفقهاء وأئمة الحديث كالإمام أحمد وأمثالهم، وعلمهم بحديث عائشة : ( ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صائماً في العشر قط )- لما كانت مسألة اشتباه، وما قال أحد منهم: بكراهية ذلك، بل عامتهم كما سبق على مشروعية ذلك، حتى حكي أنه إجماع.

وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , كتاب الطهارة [10] للشيخ : يوسف الغفيص

https://audio.islamweb.net