إسلام ويب

يجوز للمرء أن يؤدي عن أخيه حقاً مراعاة لحاله، ويجوز له أن يطالبه عند سعته بما أداه عنه إن لم ينو التبرع له، وقد جعل الله في طبيعة العبد ما يدعوه إلى الخير والإحسان، ويزعه من الشر والنكران، والوازع قسمان: شرعي، وطبعي -أي جبل عليه كاستقذار النجاسات- فإذا اج

الأداء للحقوق عن الغير والرجوع عليه

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

[ومن يؤد عن أخيه واجباً له الرجوع إن نوى يطالبا

والوازع الطبعي عن العصيانكالوازع الشرعي بلا نكران

والحمد لله على التمام في البدء والختام والدوام

ثم الصلاة مع سلام شائععلى النبي وصحبه والتابع].

كان آخر ما تكلمنا عليه قول المؤلف رحمه الله:

(وكل مشغول فلا يشغلمثاله المرهون والمسبل).

ثم قال المؤلف:

(ومن يؤد عن أخيه واجباًله الرجوع إن نوى يطالبا).

يقول المؤلف رحمه الله تعالى في هذا البيت: من أدى عن أخيه واجباً من الواجبات، والمقصود بذلك الواجبات المالية، وهذا يشمل ما إذا كان الواجب حقاً لله عز وجل، أو كان حقاً للمخلوق كالدين، فمثلاً: إذا قضى الدين عن غيره فإن له أن يطالب من عليه الدين؛ لأنه أدى عنه هذا الواجب.

ومثال آخر: لو أنفق على أهل زيد لغيبة زيد فإن المنفق له أن يطالب زيداً بالنفقة إذا رجع لأنه رب البيت.

ومثال ذلك فيما يتعلق بحقوق الله عز وجل: لو أخرج كفارة اليمين عن غيره فله أن يطالب من وجبت عليه الكفارة، أو أخرج عنه زكاة .. إلى آخره.

وقول المؤلف: (له الرجوع إن نوى يطالبا)، هذه المسألة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أن ينوي التبرع، فهذا لا يجوز له أن يطالب، ويدل لذلك حديث ابن عباس في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه )، فما دام أنه نوى التبرع نقول: هذا لا يجوز له؛ لأنه أصبح الآن في مقام الهبة ولا يجوز الرجوع في الهبة، فإذا قضى الدين عن غيره ينوي التبرع، أو أنفق على أهل زيد ناوياً التبرع وعدم الرجوع فلا يجوز له أن يرجع.

القسم الثاني: أن ينوي الرجوع فنقول: له أن يرجع، ولهذا قال المؤلف: (له الرجوع إن نوى يطالبا)، أي: إذا نوى أن يرجع لقول الله عز وجل: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التوبة:91]؛ ولأن الأصل هو بقاء الحق، وهنا لم يخرج المال على وجه التبرع، وإنما أخرجه على وجه القضاء والرجوع.

القسم الثالث: أن يطلق فلا ينوي التبرع، ولا ينوي الرجوع، فهذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه لا يرجع؛ لأنه خصص الرجوع بنية الرجوع، أي: إذا نوى المطالبة، فظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه لا يملك الرجوع.

والرأي الثاني: أنه يملك الرجوع ما دام أنه لم ينو التبرع؛ لأن هذا هو الأصل، وهو الصواب في هذه المسألة، والله أعلم.

أقسام الوازع وأحكامها

قال المؤلف:

(والوازع الطبعي عن العصيانكالوازع الشرعي بلا نكران).

الوازع: هو كل ما يحمل النفس على ترك المخالفة والذنب.

والوازع عن الذنوب والمعاصي ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: وازع شرعي، ولهذا جاء في القرآن وفي السنة كثير من النصوص التي فيها التحذير، والترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، وبيان شؤم الذنوب وما رتب عليها من شؤم ونقصان وغير ذلك، فهذه كلها وازع شرعي، والأدلة على ذلك متظافرة في القرآن وفي السنة.

القسم الثاني: وازع طبعي، يعني أن الإنسان ركب في طبيعته مجانبة هذا الشيء والتباعد عنه، وأعني: طبيعة الإنسان السوية، وذلك له أمثلة منها: أكل النجاسات، فطبيعة الإنسان أنه يأنف مثل هذه الأشياء ويتباعد عنها، ويكره مثل هذه الأشياء، وأيضاً إتيان ذوي المحارم، فطبيعة الإنسان أنه يكره مثل هذه الأشياء، ويتجانب عنها… إلى آخره، فهذه أوزاع طبيعية.

ولكن بالنسبة للوازع الطبعي هل هو كالوازع الشرعي في التحريم والتحليل، أو ليس كالوازع الشرعي؟

هذا موضع خلاف بين العلماء رحمهم الله، فذهب بعض العلماء إلى أن الوازع الطبعي قد يكون كالوازع الشرعي في التحليل والتحريم، ولهذا تجد أنه في باب الأطعمة يتكلمون عن الحشرات، وأنها محرمة؛ لأن النفوس تأبى مثل هذه الأشياء وتعافها.

والمشهور عند الشافعية والحنابلة أن ما يستخبثه ذووا اليسار من العرب فهو من المحرمات؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157]، والقرآن نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، فما يستخبثه أهل اليسار -يعني: الغنى- من العرب يقولون بأنه محرم ولا يجوز.

الرأي الثاني: أنه لا يرجع إلى طبائع النفوس فيما يتعلق بالتحليل والتحريم؛ لأن من الناس من يستطيب الخبيث ويستخبث الطيب، والعرب الذين نزل القرآن بلغتهم وقال الله عز وجل: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157] كانوا يأكلون الميتة، ويشربون الخمر، ويأكلون الدم؛ يأتي أحدهم إلى البعير ويفصل عرقه ويمص دمه، وإذا نحرت البعير يجمعون دمها ويشوونه ويأكلونه، وحرم الله عز وجل الدم بقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [المائدة:3] ؛ لأن العرب كانوا يأكلون ذلك، فلا يرجع إلى طبائع النفوس بالتحليل والتحريم، وإنما يرجع إلى النصوص، وهذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

إذاً: المسألة الأولى يعني ما يتعلق بالتحليل والتحريم، نقول: نعم يرجع إلى طبائع النفوس.

المسألة الثانية: وهي ما يتعلق بزيادة العقوبة ونحو ذلك، نقول: الوازع الطبعي إذا وجد مع الوازع الشرعي نعم يزاد في العقوبة، وإذا اختلف العلماء رحمهم الله في هذا الشيء هل هو مما يباح أو مما يحرم والأدلة متكافئة .. إلى آخره، فنقول: الوازع الطبعي يصلح أن يكون مرجحاً، أما أن يشتغل بالتحليل والتحريم فهذا فيه نظر، فمثلاً: إتيان ذوات المحارم زيد في عقوبته، ولهذا بعض أهل العلم يرى أن إتيان ذات المحرم حده القتل، وما يقال: هل هو محصن أو ليس محصناً كالأجنبية؛ إذا أتى أجنبيةً ينظر هل هو محصن أو ليس محصناً.. إلى آخره، لكن إذا أتى ذات محرم فهذا حده القتل، يعني مثل هذه الأشياء تعافها النفوس، وهذا يدل على سوء باطنته، وضعف إيمانه ونحو ذلك.

فنفهم من قول المؤلف رحمه الله: (والوازع الطبعي عن العصيانكالوازع الشرعي بلا نكران) أن الوازع الطبعي تحته هاتان المسألتان فيما يتعلق بالتحليل والتحريم واستقلاله بذلك، وذكرنا فيه موضع الخلاف.

والمسألة الثانية: فيما يتعلق بزيادة العقوبة أو تغليظ العقوبة، أو كونه مرجحاً ..إلى آخره، وهذا يصار إليه لما تقدم من قول الله عز وجل: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157] .

الخاتمة

(والحمد لله على التمامفي البدء والختام والدوام

ثم الصلاة مع سلام شائععلى النبي وصحبه والتابع).

المؤلف رحمه الله حمد الله سبحانه وتعالى في بدء هذه المنظومة، وحمده في نهاية هذه المنظومة، فنسأل الله سبحانه وتعالى بمنه وكرمه أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح منظومة القواعد الفقهية للسعدي [13] للشيخ : خالد بن علي المشيقح

https://audio.islamweb.net