إسلام ويب

الاجتهاد هو: بذل الوسع في النظر في الأدلة الشرعية لاستنباط الأحكام. وهو فرض كفاية من حيث العموم، وقد يكون فرض عين، وقد يكون مستحباً أو محرماً، وللمجتهد في الفروع أجران إن أصاب، وأجر إن أخطأ، وليس كل مجتهد مصيباً في الأصول الكلامية، ومن الأدلة المختلف فيها

الاجتهاد

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

قال المؤلف رحمه الله: [وأما الاجتهاد: فهو بذل الوسع في بلوغ الغرض، فالمجتهد إن كان كامل الآلة في الاجتهاد، فإن اجتهد في الفروع فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فيها وأخطأ فله أجر.

ومنهم من قال: كل مجتهد في الفروع مصيب، ولا يجوز أن يقال: كل مجتهد في الأصول الكلامية مصيب؛ لأن ذلك يؤدي إلى تصويب أهل الضلالة والنصارى والمجوس والكفار والملحدين].

لما تكلم المؤلف رحمه الله عن المجتهد والمفتي والمستفتي والمقلد والتقليد تطرق الآن إلى الاجتهاد.

تعريف الاجتهاد

الاجتهاد في اللغة: بذل الجهد، واستفراغ الوسع لإدراك أمر ما.

وأما في الاصطلاح: فهو بذل الوسع في النظر في الأدلة الشرعية لاستنباط الأحكام الشرعية.

حكم الاجتهاد

الاجتهاد له أحكام: فالاجتهاد من حيث العموم حكمه فرض كفاية؛ لأن المسلمين بحاجة إليه؛ لإلحاق النظائر بنظائرها، مثلاً: بالنسبة للنوازل المسلمون بحاجة إلى مجتهدين، فينظرون في الحوادث والنوازل التي تنزل ويلحقونها بنظائرها وما دلت عليه الأدلة الشرعية، فهذا من حيث الجملة فرض كفاية.

ويكون الاجتهاد فرض عين في حالتين:

الحالة الأولى: يكون الاجتهاد فرض عين كاجتهاد المجتهد في حق نفسه فيما نزل به، فلا يجوز له أن يقلد غيره، إلا كما تقدم لنا إذا عجز عن الاجتهاد؛ إما لتكافؤ الأدلة، أو لعدم ظهور الدليل، أو لضيق الوقت ونحو ذلك، فهذه الحالة الأولى.

الحالة الثانية: اجتهاده في حق غيره إذا تعين عليه ذلك ولم يوجد إلا هو، أو ضاق وقت الحادثة فيجب عليه الاجتهاد على الفور؛ لأنه يؤدي إلى تأخير البيان.

فمثلاً: اجتهاد في أمر من أمور الصلاة، ولا بد من أحد يفتي الآن في هذه المسألة، ولا يمكن أن يؤخر إلى أن يفتي فيها فلان أو فلان، فلا بد أن ينظر فيها هذا المجتهد؛ لأن الوقت ضاق، فنقول هنا: يجب عليه على الفور؛ لأن التأخير يؤدي إلى تأخير الدليل، فأصبح الاجتهاد فرض عين في هاتين الحالتين، وفرض كفاية من حيث العموم.

ويكون الاجتهاد مستحباً في ثلاث حالات:

الحالة الأولى: إذا لم تقع الواقعة، ولم تنزل النازلة، فالنازلة حتى الآن ما وقعت، فيجتهد المجتهد في بيان حكمها؛ لكي يسبق إلى معرفة حكمها، فنقول: هذا جائز، ولكن يقيد ذلك بما إذا كانت الحادثة ممكن وقوعها، أما إذا كان وقوعها غير ممكن فهذا من العبث وإضاعة الوقت.

الحالة الثانية: أن يسأل عن الحادثة قبل وقوعها، ففي هذه الحالة يجوز له أن يجتهد، ويقيد بما تقدم أن تكون ممكنة الوقوع.

الحالة الثالثة: إذا قام غيره بالاجتهاد، فإنه كما تقدم لنا الاجتهاد من حيث العموم حكمه فرض كفاية، إذا قام فيه من يكفي أصبح في حق الباقين سنة.

ويحرم الاجتهاد في حالتين:

الحالة الأولى: يحرم إذا خالف النص الشرعي أو إجماع المسلمين فإنه ليس له أن يجتهد.

الحالة الثانية: أن يكون الاجتهاد ممن لم تتوفر فيه شروط الاجتهاد.

تجزئة الاجتهاد

مسألة أخرى تتعلق بالاجتهاد وهي: تجزئة الاجتهاد، هل يجوز تجزئة الاجتهاد أو لا يجوز؟

هذا موضع خلاف، وجمهور الأصوليين على أنه يجوز تجزئة الاجتهاد، فيصح أن يكون الإنسان مجتهداً في الفرائض، وهو لا يعرف في أحكام المعاملات وأحكام العبادات، ويصح أن يكون مجتهداً في باب سجود السهو، وإن نظر في دلالات الألفاظ وغير ذلك فيصح أن يكون مجتهداً في هذه الجزئية.

فالصحيح أن الاجتهاد يجوز تجزئته؛ لأننا لو قلنا: بأن الاجتهاد لا يجوز تجزئته للزم من ذلك العسر؛ لأنه قد يتعذر أن نجد إنساناً مجتهداً مطلقاً في الفقه وأصول الفقه وفي الحديث.. إلى آخره، فيصح أن يكون هناك مجتهد في مصطلح الحديث، وفي أصول الفقه، وفي الفقه.. إلى آخره، فنقول: الصحيح أنه يصح تجزئته.

ومن الأدلة على أنه يجوز تجزئة أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم أفتوا في بعض المسائل وتوقفوا في بعض المسائل، فهذا يدل على أن الصحابي ليس مجتهداً مطلقاً، وأنه يفتي في بعض المسائل، ويتوقف في بعض المسائل.

تعارض الأدلة عند المجتهد

ومن المسائل: إذا تعارض عند المجتهد دليلان فجمهور الأصوليين على أنه يجب عليه أن يتوقف، وقد تقدم لنا أنه يقلد عند تكافؤ الأدلة، أو إذا لم يظهر له الدليل أو ضاق الوقت.

الاجتهاد في الفروع

قول المؤلف رحمه الله: (فإن اجتهد في الفروع فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فيها وأخطأ فله أجر).

إذا اجتهد الإنسان كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا حكم الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد ).

قال رحمه الله: (ومنهم من قال: كل مجتهد في الفروع مصيب).

فهل كل مجتهد في الفروع مصيب أو نقول: ليس كذلك؟ هذا فيه خلاف بين الأصوليين وبين أهل العلم رحمهم الله على رأيين:

الرأي الأول: أنه ليس كل مجتهد مصيباً، ولكن الإنسان إذا كانت فيه آلة الاجتهاد فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، فليس كل مجتهد مصيباً، بل المصيب واحد ومن عداه مخطئ؛ لأنه قد يجتهد خمسة فلا نقول: كل مجتهد مصيب، بل الذي أصاب الحق عند الله عز وجل واحد، إما التحريم، أو الاستحباب، أو الندب، أو الكراهة، أو الإباحة.

إذاً: الذي أصاب الحق عند الله عز وجل واحد، ومن عداه فهو مخطئ. ولكن هل يؤجر أو لا يؤجر؟

نقول: إذا لم يقصر في اجتهاده فله أجر واحد، وإن قصر في الاجتهاد فإنه لا يؤجر ويأثم، وهذا قول جمهور الأصوليين: أن المصيب واحد ومن عداه مخطئ؛ لأن الحق واحد ولا يمكن أن يتعدد عند الله عز وجل، وقد أصابه أحد المجتهدين وأخطأه الباقون.

الرأي الثاني: أن كل مجتهد مصيب، وهذا قول عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى.

والصحيح -فيما تقدم- هو قول جمهور أهل العلم رحمهم الله: وأنه ليس كل مجتهد مصيباً، بل المصيب واحد ومن عداه مخطئ؛ لأنه كما تقدم لنا أن الحق واحد وليس متعدداً؛ ويدل لذلك أيضاً قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر واحد )، فالنبي عليه الصلاة والسلام قسم المجتهدين إلى قسمين: قسم يصيب، وقسم يخطئ.

الاجتهاد في الأصول الكلامية

تطرق المؤلف رحمه الله إلى الاجتهاد في الأصول الكلامية فقال: (ولا يجوز أن يقال: كل مجتهد في الأصول الكلامية مصيب؛ لأن ذلك يؤدي إلى تصويب أهل الضلالة والنصارى والمجوس والكفار والملحدين).

فهذا الخلاف إنما هو في الفروع، وأما في الأصول فلا نقول هذا، فقولنا: كل مجتهد في الأصول الكلامية مصيب يؤدي ذلك إلى أن نصوب النصارى وأهل الضلال؛ لأنهم مخطئون، ولكن إذا قلنا: إنهم اجتهدوا الآن وأخطئوا فإن قلنا: بأنهم مصيبون يؤدي ذلك كما قال المؤلف رحمه الله: (يؤدي إلى تصويب أهل الضلالة من النصارى والمجوس والكفار والملحدين).

قال رحمه الله: [ودليل من قال: ليس كل مجتهد بالفروع مصيب قوله صلى الله عليه وسلم: ( من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد )، وجه الدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم خطأ المجتهد وصوبه].

هذا الدليل ظاهر استدلال المؤلف رحمه الله.

أقسام الاجتهاد

بقينا في مسألة أخرى تتعلق بالاجتهاد وهي أقسام الاجتهاد، فنقول: الاجتهاد ينقسم إلى أقسام:

القسم الأول: بالنظر إلى أهله، فنقول: الاجتهاد بالنظر إلى أهله ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: مجتهد مطلق، وهذا المجتهد المطلق هو العالم بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة، ممن توفرت فيه شروط الاجتهاد، فهو يجتهد في النوازل لموافقة الشرع.

والقسم الثاني: مجتهد مقيد في مذهب من ائتم به في معرفة فتاويه، وأيضاً في معرفة أقواله ومآخذ هذه الفتاوى، ومآخذ هذه الأقوال، وأصولها، ويتمكن من تخريج هذه الفروع على هذه الأصول، فهذا يسمى مجتهداً مقيداً، ولكن هذا المجتهد لا يقلد إمامه، فهو مجتهد في مذهب من انتسب إليه؛ فيعرف أقواله وأصوله، وأيضاً يعرف مآخذ هذه الأقوال ومآخذ هذه الأصول، ويتمكن أيضاً من أن يخرج على أصوله لكنه لا يقلد إمامه لا في الحكم ولا في الدليل.

القسم الثالث: مجتهد مقيد في مذهب من انتسب إليه؛ يعني ينتسب إلى إمام من الأئمة ويقرر مذهبه بالدليل، فهو عارف لمذهب إمامه ولأقواله وفتاويه وأصول هذه الأقوال ومآخذها ويقررها بالدليل، ولا يتعدى نصوص إمامه، ويمكن أن يخرج عليه لكنه لا يتعدى ما ذهب إليه إمامه.

القسم الثاني: من حيث استيعابه للمسائل وعدمها، أيضاً ينقسم إلى مطلق ومقيد، مجتهد مطلق يمكنه أن ينظر في جميع المسائل، ومجتهد مقيد أو جزئي ينظر في بعض المسائل أو باب من أبواب المسائل.

القسم الثالث: مجتهد بالنسبة للنظر إلى العلة، وهذا تقدم الكلام عليه في باب القياس، وتقدم أيضاً أن تكلمنا عن مسالك العلة، وأن من مسالك العلة الاستنباط، وأن الاستنباط يدخل فيها السبر، والتقسيم، والدوران، وتنقيح المناط، والوصف، والشبه، والوصف المناسب. فهذا مجتهد بالنسبة لعلة الحكم، أي: من ينظر في علة الحكم إذا لم يكن منصوصاً عليها ولا مجمعاً عليها يقوم باستنباطها، وذكرنا فيما تقدم طرق الاستنباط.

القسم الرابع: مجتهد بالنظر إلى قدم المسائل، فهناك مسائل لا قول لأحد فيها من العلماء، فهل يجوز الاجتهاد فيها أو لا يجوز الاجتهاد فيها؟ هذا فيه قولان والصحيح الجواز.

وهناك مسائل تقدم لبعض العلماء فيها قول فيجوز الاجتهاد فيها أيضاً.

القسم الخامس: مجتهد من جهة وقوع النازلة وعدم وقوعها، فالاجتهاد في النوازل ينقسم إلى قسمين: نوازل واقعة، ونوازل لم تقع.

القسم السادس: مجتهد بالنظر إلى بذل الوسع، فالمجتهد إذا بذل وسعه ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: بذل تام، وهو أن يبذل وسعه في النازلة بحيث يحس من نفسه العجز عن المزيد.

القسم الثاني: بذل ناقص لم يكن كذلك.

القسم السابع: مجتهد بالنظر إلى صحته وهو قسمان: اجتهاد صحيح؛ وهو ما توفرت فيه شروطه، واجتهاد غير صحيح؛ وهو الذي لم تتوفر فيه شروطه.

الأدلة المختلف فيها

الحقيقة أن المؤلف في بعض الأدلة المختلف فيها ما ذكرها بالتفصيل، وإنما يذكرها في الإجمال.

شرع من قبلنا

من هذه الأدلة المختلف فيها شرع من قبلنا، وشرع من قبلنا هذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أن تأتي شريعتنا بموافقته، فهذا شرع لنا لاتباع شرعنا.

القسم الثاني: أن يأتي شرعنا بمخالفته فهذا ليس شرعاً لنا.

القسم الثالث: أن يسكت عنه شرعنا، وهذا موضع خلاف، والصحيح أنه شرع لنا؛ لقول الله عز وجل: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]؛ ولأن ذكر الله عز وجل في هذا الشرع لا يظهر منه فائدة أو لا يظهر منه كمال الفائدة إلا إذا قلنا: بأنه شرع لنا.

المصالح المرسلة

من الأدلة المختلف فيها: المصالح المرسلة، وهذه عند المالكية رحمهم الله، والمصالح يقسمها العلماء إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: مصالح ورد الشرع باعتبارها، فهذه حجة.

القسم الثاني: مصالح ورد الشرع بإلغائها، فهذه ليست حجة.

القسم الثالث: مصالح سكت الشرع عنها؛ مرسلة لم يرد الشرع باعتبارها، ولم يرد الشرع بإلغائها، فهذه عند الإمام مالك رحمه الله حجة. وهذا الرأي الأول.

والرأي الثاني: أنها ليست حجة، والصحيح أنها حجة بقيود.

الاستحسان

من الأدلة المختلف فيها الاستحسان عند الحنفية، والاستحسان هذا ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أن تفرد بعض المسائل عن نظائرها بحكم خاص بدليل قوي على ذلك، فمثلاً الجنين تقدم لنا في القصاص أن الجنين فيه ضرر، فالجنين حياته ليست متحققة، فإذا كان كذلك فليس فيه شيء، ولكن أفردت هذه المسألة عن بقية نظائرها بدليل قوي على الإفراد، فهذا لا شك أنه حجة.

القسم الثاني من أقسام الاستحسان: هو أن يستحسن بعقله؛ يعني ينظر في عقله ويعمل رأيه في المسألة فقط، وهذا قال به أبو حنيفة وأنكره عليه العلماء رحمهم الله؛ لأن عقل الإنسان هذا ليس معصوماً ومعرض للخطأ، ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله: من استحسن فقد شرع.

نسأل الله عز وجل أن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يجعل ما سمعناه حجةً لنا، وألا يجعله حجةً علينا، ونسأله سبحانه وتعالى فعل الخيرات وترك المنكرات، وحب المساكين، اللهم اهدنا ويسر الهدى لنا، اللهم اهدنا ويسر الهدى لنا، اللهم زدنا علماً وتقىً وورعاً وخشيةً يا ذا الجلال والإكرام، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح متن الورقات [26] للشيخ : خالد بن علي المشيقح

https://audio.islamweb.net