إسلام ويب

إذا نهى الله عن شيء فإنه يدخل فيه كل جزئياته، والنهي عن شيء نهي عنه وعن كل ما يقرب منه، ويدخل حرف النهي على المسميات الشرعية. وضد النهي الأمر الذي يرد على صيغ منها: الإباحة، والتهديد. والعام هو: اللفظ المستغرق لجميع أفراده بلا حصر، وصيغه كثيرة منها: الاسم

قواعد متعلقة بالنهي

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

يقول المؤلف رحمه الله: [وترد صيغة الأمر, والمراد بها الإباحة، أو التهديد، أو التسوية، أو التكوين.

العام والخاص: وأما العام فهو: ما عم شيئين فصاعداً من قوله: عممت زيداً وعمراً بالعطايا، وعممت جميع الناس بالعطايا، وألفاظه أربعة: الاسم الواحد المعرف باللام، واسم الجمع المعرف باللام، والأسماء المبهمة كـ(من) فيمن يعقل، و(ما) فيما لا يعقل، و(أي) في الجميع، و(أين) في المكان، و(متى) في الزمان، و(ما) في الاستفهام والجزاء وغيره، و(لا) في النكرات. والعموم من صفات النطق، ولا تجوز دعوى العموم في غيره من الفعل وما يجري مجراه ].

تقدم لنا شيء من بحث النهي وذكرنا تعريفه، وذكرنا أن النهي يقتضي شيئين:

الأول: التحريم، وهذا باتفاق الأئمة الأربعة.

والثاني: هل يقتضي فساد المنهي عنه أو لا؟ وذكرنا أن هذه المسألة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أن يعود النهي إلى ذات المنهي عنه، فهذا يقتضي الفساد، كالنهي عن صيام يوم العيدين.

والقسم الثاني: أن يعود إلى أمر خارج، فهذا لا يقتضي الفساد، كما لو صلى في عمامة حرير، أو خاتم ذهب ونحو ذلك.

القسم الثالث: أن يعود إلى شرط العبادة أو شرط المعاملة، فالمشهور من المذهب أنه يقتضي الفساد مطلقاً، لكن قلنا: الصحيح أنه لا يقتضي الفساد إلا مع النظر إلى تلك العبادة أو المعاملة؛ فإذا توجه النهي إلى الشرط مع قرنه بالعبادة أو قرنه بالمعاملة فإنه يقتضي الفساد.

دخول حرف النهي على المسميات الشرعية

من المسائل التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله المتعلقة بالنهي دخول حرف النهي على المسميات الشرعية، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مثل قوله: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )، هنا دخل حرف النهي على مسمىً شرعي وهو الصلاة.

ومثل ذلك أيضاً: قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان )، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من غشنا فليس منا )، وأيضاً قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )، وأيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: ( والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن من لم يأمن جاره بوائقه ).

فشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: بأن كل شيء نفاه الله أو نفاه رسوله صلى الله عليه وسلم من أسماء الأمور الواجبة، كاسم الإيمان والإسلام والدين والصلاة والصيام والحج، فالمراد به نفي الكمال الواجب، لا نفي كمال الاستحباب، ومثل رحمه الله بقوله عليه الصلاة والسلام: ( من غشنا فليس منا ). يقول: لا نقول كما قالت المرجئة: ليس من خيارنا، فيجعلون النفي هنا نفي كمال استحباب، ولا نقول كما تقول الخوارج: ليس من المسلمين، فيكون كافراً، فيقول شيخ الإسلام : بل هو من المؤمنين معه من الإيمان ما يستحق به مشاركتهم في بعض الثواب، ومعه من الكبيرة ما يستحق به العقاب، وهذه المسألة ترد كثيراً، وعلى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الأصل في النهي لكمال الواجب، وليس لأصل الإيمان كما يذهب إليه الخوارج، أو كمال المستحب كما يذهب إليه المرجئة.

تعلق التحريم بكل أجزاء المحرم

من القواعد المتعلقة في النهي: أن الشارع إذا حرم شيئاً فإن هذا التحريم يتعلق بكل جزء منه، فمثلاً: حرم الشارع الخمر فيتعلق التحريم بكل جزء منه حتى وإن لم يسكر، حتى ولو شرب نقطة خمر ولم يحصل له إسكار, فإن هذا محرم ولا يجوز. وكذلك حرم الشارع أكل الخنزير فإن هذا التحريم يتعلق بكل جزء منه.

ومن ذلك قول الله عز وجل: وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196]، فتحريم الشارع حلق الرأس يتعلق بكل جزء منه، وكل شعرة يحرم عليك أن تحلقها، ولا نقول: بأن الشارع حرم حلق الشعر فيكون التحريم للشعر كله، وإذا حلق البعض فإن هذا جائز، لا، بل نقول: بأن النهي بتحريم الشيء تحريم لكل جزء منه.

اجتناب كل ما يقرب من المنهي عنه

من القواعد المتعلقة بالنهي: أن النهي عن الشيء نهي عنه وعما لا يتم اجتنابه إلا به، فمثلاً: الشارع نهى عن أكل الميتة، فالنهي عن أكل الميتة نهي عن الميتة ونهي عما لا يتم اجتناب أكل الميتة إلا به، فإذا اختلطت مذكاة بميتة على وجه لا يتميز فإنه يجتنب الجميع؛ لأنه لا يمكن اجتناب الميتة إلا باجتناب الجميع، فنقول: النهي عن الشيء نهي عنه وعما لا يتم اجتنابه إلا به.

ومثل ذلك أيضاً: نكاح المحرم، فنكاح المحرم نهى عنه الشارع، فإذا اختلطت أو اشتبهت أخته المحرم بالمرأة الأجنبية فإنه يتجنب الجميع، يعني: مثلاً: امرأة رضع معها واشتبهت من هي التي رضع معها, فنقول: لا بد لكي يتحقق اجتناب المنهي أن يجتنب الجميع.

صيغ الأمر

قال المؤلف رحمه الله: (وترد صيغة الأمر، والمراد بها الإباحة، أو التهديد، أو التسوية، أو التكوين).

قوله: (وترد صيغة الأمر), الأولى أن يكون تبعاً للأمر -كما سبق-، فكون المؤلف رحمه الله يدخله في مسائل النهي هذا فيه نظر من حيث التأليف.

وصيغة الأمر ترد لمعان حتى أوصلها الأصوليون رحمهم الله إلى خمسة وثلاثين معنى، ومنهم من أوصلها إلى خمسة عشر معنىً.

ومن هذه المعاني كما مثل المؤلف رحمه الله قال: ترد, ويراد بها الإباحة، مثل قول الله عز وجل: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222]، وأيضاً: قول الله عز وجل: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2] .

وكذلك أيضاً: ترد للتهديد، كما في قول الله عز وجل: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [فصلت:40]، وأيضاً: قول الله عز وجل: قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [إبراهيم:30] .

وأيضاً: ترد للتسوية، كما في قول الله عز وجل: فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور:16].

أيضاً: ترد للتكوين، كما في قول الله عز وجل: كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [البقرة:65] .

وترد أيضاً: للندب، ويراد بها الندب وعدم الوجوب، ويدخل في ذلك سائر المستحبات.

العام

قال رحمه الله تعالى: (العام: وأما العام، فهو: ما عم شيئين فصاعداً، من قوله: عممت زيداً وعمراً بالعطاء، وعممت جميع الناس).

العام من دلالات الألفاظ، وتقدم أنه لا بد للإنسان أن يعرف دلالة الألفاظ من تخصيص العام وتقييد المطلق، وتبيين المجمل، فلا بد من معرفة دلالات الألفاظ، فلا يتم الاستدلال إلا أن يعرف الإنسان أن هذا عام، وأن هذا خاص، وأن هذا مطلق، وأن هذا مقيد. يعني: بحث العام من المباحث العامة.

تعريف العام

العام في اللغة: الشامل.

وأما في الاصطلاح فقال: (فهو ما عم شيئين فصاعداً، مثل قوله: عممت زيداً وعمراً بالعطاء).

قوله: (ما) هي: لفظ، يعني: جنس يدخل فيها المعرف وغيره، فيحتاج إلى قيد آخر لإخراج غير المعرف؛ ولهذا قال: (ما عم شيئين فصاعداً).

وقوله: (عم شيئين) أي: تناول شيئين دفعةً واحدة، وهذا قيد لإخراج أمرين:

الأمر الأول: ما لا يتناول إلا واحداً كالعلم، مثل: زيد أو عمرو أو بكر, هذا علم لا يتناول إلا واحداً.

الأمر الثاني: لإخراج النكرة في سياق الإثبات، فإخراج النكرة في سياق الإثبات ليس من العام، لكنه من المطلق، كما سيأتينا إن شاء الله، كما في قول الله عز وجل: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92]، فـ(رقبة) هذه نكرة في سياق الإثبات، فهذه ليست من العام وإنما هي من الإطلاق، وسيأتينا إن شاء الله عند مباحث المطلق بيان الفرق بين المطلق وبين العام.

وقوله: (فصاعداً) أي: ذهب المعدود صاعداً عن الشيئين، وهذا قيد لإخراج المثنى النكرة في سياق الإثبات، فالمثنى النكرة عم شيئين لكنه ليس من باب العام، فهو من قبيل المطلق، ولا يكون من قبيل العام.

وقوله: (صاعداً) حال.

هكذا عرف المؤلف رحمه الله العام، والأحسن أن يقال في تعريف العام، هو: اللفظ المستغرق لجميع أفراده بلا حصر.

فقولنا: (اللفظ) هذا يخرج الإشارة، ويخرج مجرد الصوت.

وقولنا: (المستغرق لجميع أفراده) خرج ما لا يشمل إلا واحداً كالعلم، مثل: زيد، وخرج أيضاً: المطلق كالنكرة في سياق الإثبات، كما في قول الله عز وجل: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92] .

وقولنا: (بلا حصر) هذا يخرج اللفظ المستغرق لجميع أفراده مع الحصر، مثل: اسم العدد كمائة وألف وغير ذلك، فهذا لفظ مستغرق لجميع أفراده لكن مع الحصر، فأسماء الأعداد ألفاظ مستغرقة لجميع ألفاظها لكن مع الحصر، فمائة محصور بمائة، وألف محصور بألف... إلى آخره.

وقوله: (من قوله: عممت زيداً وعمراً بالعطاء) هذا ليس من قبيل العام؛ لأن العام الذي عرفناه هو اللفظ المستغرق لجميع أفراده.

فقوله: (زيداً وعمراً) هذا ليس لفظاً مستغرقاً لجميع أفراده بلا حصر، وليس من العام الاصطلاحي، لكنه عام معنوي عند الأصوليين.

صيغ العام

قال رحمه الله: (وألفاظه) يعني: صيغ العام (أربعة) وهذا أيضاً: ليس على سبيل الحصر، فألفاظه هذه الأربعة وغيرها مما سنورده مما ذكره الأصوليون.

الأول من صيغ العموم قال: (الاسم الواحد المعرف باللام). قوله: (الاسم) أي: المفرد، وقوله: (اللام) أي: الألف واللام الاستغراقية، فإن ما دخلت عليه الألف واللام الاستغراقية تدل على الاستغراق, فهذا عام، وعلامة (ال) الاستغراقية أن يصح أن يحل محلها كل، كما في قول الله عز وجل: إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:2]، فقوله: (الإنسان) هنا (ال) استغراقية تشمل كل إنسان، ومثل: قول الله عز وجل: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، الحمد (ال) هذه للاستغراق؛ لأنه يصح أن يحل محلها كل.

فنقول: الصيغة الأولى من صيغ العموم: الاسم المفرد الذي دخلت عليه الألف واللام الاستغراقية، فإن مدخول الألف واللام الاستغراقية هذا عام، وعلامة (ال) التي للاستغراق: أنه يصح أن يحل محلها كل.

الثاني من صيغ العموم: قال: (واسم الجمع المعرف باللام) وهذا يخرج اللام التي ليست للعهد، واسم الجمع المعرف باللام التي ليست للعهد يشمل ثلاثة أشياء:

الشيء الأول: اسم الجنس.

والشيء الثاني: الجمع.

والشيء الثالث: اسم الجمع.

ومثال الجمع: قول الله عز وجل: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1] هذا جمع عام يشمل كل مؤمن، وأيضاً قولنا: اسم الجنس، مثاله: قول الله عز وجل: إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا [البقرة:70] ، فاسم الجنس يدل على العموم، يدل على أكثر من اثنين، واسم الجنس يفرق بينه وبين مفرده إما بالتاء أو بالياء، فقوله: إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا [البقرة:70] مفرده بقرة وهذا بالتاء، أو بالياء، كما في قول الله عز وجل: غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ [الروم:2-3] مفرده رومي.

وأما اسم الجمع فمثل: قول الله عز وجل: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] ، العالمين هذا اسم جمع، فأصبح الجمع في قول الله عز وجل: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1] ، وقوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [الأحزاب:35] فهذا جمع.

إذاً: اسم الجنس ما يدل على أكثر من اثنين، ويفرق بينه وبين مفرده بالتاء كما في قول الله عز وجل: إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا [البقرة:70]، أو بالياء، كما في قول الله عز وجل: غُلِبَتِ الرُّومُ [الروم:2]، واسم الجمع كما في قول الله عز وجل: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2].

الثالث من صيغ العموم: قال رحمه الله: (والأسماء المبهمة) أيضاً: من صيغ العموم الأسماء المبهمة، وذلك كأسماء الشرط، وأسماء الاستفهام، والأسماء الموصولة فهذه كلها من صيغ العموم.

ومعنى الإبهام في أسماء الشرط وأسماء الاستفهام: أنها لا تدل على معين، أي: أنها تحتاج إلى صلة تعين المراد، مثال اسم الشرط: من يدرس ينجح، فنقول: من شرطية عامة أي: كل من يدرس ينجح.

والاسم الموصول مثاله: قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم )، فقوله: (الذي) يشمل الصغير والكبير.

وكذلك أيضاً: بالنسبة لأسماء الاستفهام، مثل: قول الله عز وجل: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ [التكوير:26] هذا عام يشمل كل مكان تذهبون إليه.

قال المؤلف رحمه الله: (والأسماء المبهمة كـ(من) فيمن يعقل).

قوله: (من فيمن يعقل)؛ كقول الله عز وجل: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123].

وقال: (وما فيما لا يعقل)؛ كقول الله عز وجل: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [البقرة:197] .

قال رحمه الله: (و(أي) في الجميع). يعني: أي، تكون شرطية، وتكون استفهامية، فتكون شرطية كقوله تعالى: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ [النساء:78]، وتكون استفهامية؛ كقول الله عز وجل: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا [الكهف:12]، وتكون موصولة؛ كقول الله عز وجل: ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا [مريم:69].

قال رحمه الله: (و(أين) في المكان، و(متى) في الزمان). أيضاً: أين في المكان تفيد العموم؛ فأين تكون استفهامية للسؤال عن المكان، كما في قول الله عز وجل: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ [التكوير:26]، وتكون شرطية أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ [النساء:78]، ومتى، تأتي استفهامية، كما في قول الله: مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة:214] وتأتي شرطية، مثل: متى تدرس تنجح.

قال رحمه الله: (و(ما) في الاستفهام والجزاء وغيره) فـ(ما) تكون في الاستفهام، وتكون في (الجزاء) يعني: الشرط, (وغيره) أي: الخبر، فمثاله في الاستفهام: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65] .

ومثاله في الشرط: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [البقرة:197] .

ومثاله في الخبر: مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ [النحل:96] ، وهذه كلها تدل على العموم كما ذكر المؤلف رحمه الله.

رابعاً من صيغ العموم: يقول المؤلف رحمه الله: (و(لا) في النكرات) يعني: النكرة في سياق النفي، فإذا وردت النكرة في سياق النفي فإنها تفيد العموم؛ كما قال الله عز وجل: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197].

كذلك ورود النكرة في سياق الشرط تفيد العموم، لكن ورود النكرة في سياق الإثبات لا تفيد العموم، وإنما تفيد الإطلاق، ومن الأمثلة على ذلك قول الله عز وجل: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [البقرة:255]، هنا ورود النكرة في سياق النفي، فهذه تفيد العموم، وورود النكرة في سياق الشرط هذه تفيد العموم، مثل أن تقول: من يعمل شيئاً فله كذا وكذا.

وبقي صيغ أخرى لم يتعرض لها المؤلف رحمه الله مثل: لفظ كل، ولفظ معشر، ولفظ جميع، ولفظ معاشر، ولفظ عامة وكافة، ونحو هذه الأشياء، فهذه تفيد العموم.

كذلك من الصيغ التي تفيد العموم: المفرد أو الجمع إذا أضيف إلى معرفة؛ كما في قول الله عز وجل: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، فنعمة مفرد مضاف إلى معرفة فيفيد العموم، وكذلك إذا كان مضافاً إلى جمع فإنه يفيد العموم؛ مثل قول الله عز وجل: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11]، فالجمع هنا مضاف إلى معرفة والضمير من أنواع المعارف، فالمضاف سواء كان مفرداً أو جمعاً إذا أضيف إلى معرفة فإنه يفيد العموم.

ومثل هذا في ألفاظ الفقهاء إذا قال: هذا وقف على أولادي، فقوله: أولادي جمع مضاف إلى معرفة، فهذا يفيد العموم، وكذلك أيضاً لو قال: أوصيت بهذا لمساكين زيد، هذا جمع مضاف إلى معرفة فيفيد العموم لكل المساكين، أو قال: لمساكين هذا البلد، فهذا مفرد مضاف إلى معرفة، وهذه الألفاظ تحتاج إليها بمثل صيغ الموقفين والموصين، وأيضاً: في الأيمان، فنقول: المضاف إلى معرفة سواء كان مفرداً أو جمعاً فإنه يفيد العموم.

قال رحمه الله: (والعموم من صفات النطق).

قوله: (النطق) بمعنى: المنطوق به، وهو اللفظ، فيقول: بأن العموم من صفات المنطوق به وهو اللفظ.

قال رحمه الله: (ولا يجوز دعوى العموم في غيره من الفعل وما يجري مجراه).

فقوله رحمه الله: (ولا يجوز دعوى العموم في غيره) أي: غير النطق (من الفعل وما يجري مجراه) يعني: أن الأفعال هذه لا تدل على العموم، فمثلاً: لو قيل: فعل النبي عليه الصلاة والسلام كذا وكذا، أو صلى النبي عليه الصلاة والسلام الضحى، فهذا لا يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي الضحى كل يوم.

ومثل ذلك أيضاً: ما ثبت في الصحيحين من حديث بلال قال: ( صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم داخل الكعبة )، فهذا لا يعم الفرض والنفل.

قوله: صلى الضحى، هذا لا يعم كل يوم، فقد يكون مرة واحدة.

وقوله رحمه الله: (وما يجري مجراه)، يعني: الأفعال هذه لا تقتضي العموم، كذلك ما يجري مجرى الأفعال كالقضايا المعينة، مثل: ( قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة للجار )، فهذا قالوا: بأنه لا يعم كل جار، فهذه القضايا المعينة، هل تقتضي العموم؟ أو لا تقتضي العموم؟ هذا فيه رأيان للأصوليين:

الرأي الأول: بأنها لا تقتضي العموم.

والرأي الثاني: أنها تقتضي العموم.

وقوله: الجار، هذه دخلت عليها (أل) المعرفة بلام الجنس، وهذا يدل على أن المراد بذلك العموم، فقوله: (وما يجرى مجراه) هذا المراد به القضايا المعينة، كما مثلنا: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة للجار). فقوله: الجار، هل يشمل كل جار أو نقول: بأنه لا يشمل؟

الرأي الأول: أنه لا يشمل؛ لاحتمال الخصوصية.

والرأي الثاني: أنه شامل؛ لأن كون الصحابي يعبر بهذا يدل على أنه عرف العموم وظن العموم، ودخلت عليه أل التي تفيد الجنس وتفيد العموم، فهذا يدل على أن الراوي علم العموم أو ظنه.

أقسام العام

بقي علينا أقسام العام، فالعام ينقسم إلى أقسام:

القسم الأول: العام بالنظر إلى ما فوقه وما تحته، نقول: ينقسم إلى:

القسم الأول: عام مطلق كالمعلوم؛ فالمعلوم هذا عام مطلق لا أعم منه، فهو يشمل الموجودات والمعدومات.

القسم الثاني: عام نسبي، فهو بالنسبة لما تحته أعم، وبالنسبة لما فوقه أخص، مثلاً: الحيوان، بالنسبة لما تحته عام يشمل الإنسان ويشمل ذوات الأربع، ويشمل كل شيء تدب فيه الحياة من الإنسان وذوات الأربع والطير وغيرها، وبالنسبة لما فوقه فهو خاص بالنسبة للمعلوم، فقلنا: بأن العام المطلق هذا لا أعم منه كالمعلوم.

القسم الثاني: العام باعتبار المراد منه، فإنه ينقسم إلى:

القسم الأول: عام أريد به العام، مثل قول الله عز وجل: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6].

القسم الثاني: عام أريد به الخاص، وهذا مثاله قول الله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آل عمران:173]، فقوله: (إن الناس) المراد به: أبو سفيان وأصحابه، وهذا لا يشمل كل الناس.

القسم الثالث: العام باعتبار تخصيصه، نقول: بأن العام ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: عام محفوظ لم يدخله التخصيص.

والقسم الثاني: عام غير محفوظ أي دخله التخصيص.

فأما بالنسبة للعام الذي لم يدخله التخصيص، كما في قول الله عز وجل: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]، فهذا عام لم يدخله التخصيص، كل دابة في الأرض على الله رزقها، وأيضاً مثاله قول الله عز وجل: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، فـ(العالمين) عام لم يدخله التخصيص.

وعام غير محفوظ قد دخله التخصيص، كما في قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [المؤمنون:5-6]. فقال: (الذين) وهي من ألفاظ العموم -كما قلنا-: الأسماء الموصولة من ألفاظ العموم، (لفروجهم حافظون) إلا أنه استثنى من ذلك إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [المؤمنون:6] فهذا عام مخصوص، يعني: حفظ الفرج من كل شيء، ونوع العموم في قوله تعالى: (الذين هم لفروجهم)، مضاف إلى معرفة فيشمل كل فرج, وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [المؤمنون:5-6]، و(الذين) هذا من الأسماء الموصولة، وأيضاً (ملكت أيمانهم) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المؤمنون:6]. هذا مخصص، فهذا عام غير محفوظ.

وإذا تعارض عندنا عمومان فكان أحدهما محفوظاً والآخر غير محفوظ، فإننا نقدم العام المحفوظ؛ لأنه أقوى من العام غير المحفوظ.

ومثال ذلك: حديث أبي قتادة رضي الله تعالى عنه: ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين )، هذا عام يشمل كل شخص ويشمل كل زمان، حتى أوقات النهي.

وعندنا: حديث أبي سعيد : ( لا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس ) قال: (لا صلاة) فهذا نكرة في سياق النفي تشمل كل صلاة حتى تطلع الشمس أو تغرب الشمس، فتعارض عندنا عمومان، ففي الحديث الأول يقول: ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ) يشمل كل زمان، ويشمل كل مسجد، وقال في حديث أبي سعيد : ( لا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس ) فعندنا تعارض العمومان، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: بأن حديث أبي قتادة هذا عام محفوظ لم يدخله التخصيص، وأما حديث أبي سعيد فهو عام غير محفوظ دخله التخصيص، فقدم العام المحفوظ على العام غير المحفوظ؛ لأن حديث أبي سعيد : ( لا صلاة بعد صلاة الفجر ) دخله التخصيص بركعتي الطواف، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى في أية ساعة شاء في ليل أو نهار )، فخص بركعتي الطواف فإنه يجوز أن تفعل في أوقات النهي، أيضاً خص بسبب الكسوف: ( إذا رأيتم شيئاً من ذلك فافزعوا إلى الصلاة )، وخص أيضاً: بركعتي الوضوء، وخص أيضاً: بإعادة الجماعة، فلما دخله التخصيص ضعف عمومه، فقدم العام المحفوظ على العام غير المحفوظ.

والعام المحفوظ حجة بالاتفاق، لكن بقي العام غير المحفوظ، هل هو حجة فيما بقي من العموم بعد التخصيص أو ليس حجةً؟ فهذا موضع خلاف بين الأصوليين، والصحيح: أنه حجة؛ والدليل على ذلك استدلال الصحابة رضي الله تعالى عنهم؛ لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم تمسكوا بالعمومات مع وجود المخصص لها.

وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، يرى أن غالب العمومات في القرآن محفوظة، ولم يدخلها التخصيص، مثل قول الله عز وجل: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، ومثل قوله: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، فيقول بعض العلماء: بأن العمومات قد دخلها التخصيص أو أغلب العمومات دخلها التخصيص، وهذا محمول على نصوص الأحكام من الأوامر والنواهي.

كذلك أيضاً: مذهب أهل السنة والجماعة على أن للعام صيغة تخصه.

والدليل الأول على ذلك: أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجروا ألفاظ الكتاب والسنة على العموم إلا ما دل الدليل على تخصيصه.

الدليل الثاني: أن إنكار صيغ العموم يؤدي إلى اختلال أوامر الشرع، إذ لا يصح الاحتجاج والاستدلال بلفظ عام.

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح متن الورقات [10] للشيخ : خالد بن علي المشيقح

https://audio.islamweb.net