إسلام ويب

جاء في عدد من المواضع في القرآن الكريم بيان حال المنافقين في هذه الأمة، وذلك لشدة خطرهم ونكايتهم في المسلمين، فهم يظهرون ولاءهم للمؤمنين وهم في حقيقة أمرهم يوالون الكافرين، كأنهم بذلك يبتغون عندهم العزة، ونسوا أن العزة إنما هي لله ولعباده المؤمنين، وإذا أصاب المؤمنون خيراً سارعوا إلى المطالبة بنصيبهم منه، وإذا كان للكافرين نصيب سارعوا إليهم يطلبون مكافأتهم على إعانتهم لهم على المسلمين، فهم عبيد للمصلحة، ومصيرهم يوم القيامة الدرك الأسفل من النار، جزاء كذبهم وخداعهم.

تفسير قوله تعالى: (بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

وها نحن مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات الأربع النورانية، فهيا نتغنى بتلاوتها ثم نأخذ في بيان مراد الله تعالى منها، إذ إن هذا القرآن قد سماه الله نوراً، فلا هداية بدونه قط، وسماه الله روحاً فلا حياة طهر وكمال بدونه قط، وقد عرف هذا خصومنا من الثالوث الأسود فصرفوا أمة الإسلام عن القرآن، فأصبح القرآن يقرأ ويحفظ من أجل أن يقرأ على الموتى، أما الأحياء فلا يجتمع اثنان أو ثلاثة ليقرءوا آية ويتدبروا معناها وليقوموا بما أوجب الله أو ينتهوا عما نهى الله طيلة قرون عديدة، فهيا نعد من جديد، والآن الحمد الله نقرأ القرآن ونتدارسه، لكن قبل هذه الفترة فهذا لا يقبل، إذ إنهم كانوا إذا سمعوا من يقول: قال الله يغلقون أذانهم بأصابعهم خشية أن تنزل الصواعق عليهم، كما أنهم قالوا: تفسير القرآن صوابه خطأ وخطؤه كفر، فماتت أمة الإسلام، ولما ماتت سادها الغرب والشرق وأذلوها وأهانوها، وها هي ذا تابعة كالذيل لهم، فلا استقلال ولا وعي ولا كرامة إلا من رحم الله، والسبب هو أنهم تركوا القرآن الذي هو روح، واقرءوا قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، وقال: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8]، فهل تهتدي أمة في الظلام بدون نور؟ مستحيل.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا * وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا * الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:138-141].

كلام من هذا؟ إنه كلام الله تعالى، فهل هناك من ادعى فقال: إن هذا كلامي؟ لا الإنس ولا الجن، إذاً فالحمد لله أننا نسمع كلام ربنا وخالقنا ومحيينا ومميتنا وباعثنا، وبلايين البشر ما سمعوه ولا علموا به، فلا إله إلا الله! فأية نعمة أعظم من هذه؟!

ثم إن هذا الكلام ماذا تسمع منه؟ السياسة الحربية، السلمية، الاجتماعية، الاقتصادية، الروحية، البدنية، فلا إله إلا الله! وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44].

فهيا نتأمل قوله تعالى: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:138]، من منا ما فهم هذه الجملة من العرب؟!

تفسير قوله تعالى: (الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين...)

الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [النساء:139].

الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:139]، أي: يحبونهم وينصرونهم دون المؤمنين.

أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ [النساء:139]، أي: أن هؤلاء المنافقون يطلبون العزة عند الكافرين!

فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [النساء:139]، إذ لا تطلب إلا من مالكها ومن هي في يده، أما الكافرون لا يملكون العزة ولا يعطونها.

تفسير قوله تعالى: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره ...)

وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء:140].

وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ [النساء:140]، أي: القرآن العظيم في سورة الأنعام.

أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ [النساء:140]، وإنما قم وأغلق أذنيك واخرج من المجلس.

حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [النساء:140]، أي: غير الحديث الذي يسبون ويشتمون وينتقدون ويطعنون فيه.

إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140]، أي: في الحكم، إذ إنك لو رضيت بأن يسب الله ورسوله أو يسخر بدينه وكتابه أو بأوليائه فأنت منهم، وهذا حكم الله تعالى.

إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء:140]، فما هناك فرق بين الكافر والمنافق إلا أن خزي المنافق وعذابه أشد، إذ المنافقين في الدرك الأسفل من النار.

تفسير قوله تعالى: (الذين يتربصون بكم...)

الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141].

الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ [النساء:141]، فاسهموا لنا من الغنيمة.

وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ [النساء:141]، من الانتصار والغنيمة قالوا لهم: ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين، إذاً فأعطونا، ولهذا فإن المنافق يمسك العصا من وسطها، أي: إن كان المؤمنون ناجحون فهو معهم، وإن كان الكافرون ناجحون فهو معهم، وإن صالت الدنيا وضجت فهو معها، وإن بكت وصرخت فهو مع الآخرين.

الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ [النساء:141]، وهذا أيام رسول الله والغزو الإسلامي والفتوحات.

قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ [النساء:141]، فلم تحرموننا من الأجر، أي: من الغنيمة.

وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ [النساء:141]، أي: نصيب من الأنصار، وما قال: فتح، إذ ماذا يفتحون؟

قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ [النساء:141]، أي: في المعركة وحطنا بكم حتى دفعنا عنكم المسلمين، وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:141]، فرد الله عليهم فقال: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [النساء:141]، يا معشر المؤمنين والمنافقين.

وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]، أي: لإذلالهم والسيطرة عليهم والتحكم فيهم، وهذه وحدها آية من آيات الله تقول: إن العالم الإسلامي الذي حكمته أوروبا من شرق الدنيا إلى غربها في تلك الأيام ما كان المؤمنون مؤمنين بحق وصدق؛ لأن إخبار الله تعالى لا يتطرق إليه الكذب أو النقص أبداً.

وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النساء:141]، أي: المؤمنين الصادقين في إيمانهم، المؤمنين بحق، وإن شككت في تلك الأيام كيف كان حال المسلمين؟ الشرك والظلم والتسلط والخبث منتشر في البلاد الإسلامية، حتى إن أولياء الله هم الذين بنوا عليهم القباب وعبدوهم مع الله، أما أولياء لله في السوق أو في المسجد أو في المزرعة فلا، وإنما انكح نساءهم، وكل أموالهم، واضرب أولادهم؛ لأنهم ما هم بالأولياء، إذ الأولياء هم الذين بنيت على قبورهم القباب ووضعت التوابيت والأزر، وتوقد الشموع وتؤخذ الأجور، فهؤلاء هم الأولياء! ولا يستطيع مؤمن في العالم الإسلامي أن يسب ولياً من أولئك، أو يقول كلمة سوء فيهم، والرسول يقول عن الله: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، فأولياء الله وإن كانوا رعاة إبل.

وعندنا قصة أبو حمارة وجماعة كلبي، فأما قصة جماعة كلبي فهي أن مستعمِراً في بلد إسلامي من كان له كلب، والنصارى دائماً يعيشون كالكلاب مع الكلاب، إذ لا يفارقوهم أبداً، وشاء الله أن يموت هذا الكلب، فدفنه هذا المستعمر في حديقة قصره ومنزله، ثم بعد فترة مرت بعض عجائز البلاد فشاهدوا قبراً فأخذوا يدعونه من وراء الجدار ويقولون: هذا سيدي فلان، وهذا ولي الله، وأخذوا يستغيثون به ويدعونه، وكان المسلم الحارس يشاهد العجائز يفعلن ذلك، وبعد حين من الزمان قالوا للحارس: يا سيد! لو تفتح لنا الطريق فنزور هذا السيد ونتمرغ بتراب قبره، فقال: إن المعلم لا يسمح بذلك، وهو الآن غائب في أوروبا، فقالوا له: تشجع أنت وكن كذا وكذا، وبعد عدة محاولات معه فتح لهم الطريق إلى القبر، ثم جاء ذاك المستعمر بعد كذا شهراً ووجد النساء في يوم الخميس والاثنين جماعات يزرن القبر! فقال للحارس: ماذا يصنعن هؤلاء؟ فرد عليه فقال: هذا قبر سيد وولي وهم يزورونه، فقال: أليس هذا قبر كلبي؟! ثم أمر بإغلاق الباب وسُدَّ الطريق، وجاء المؤمنات فقلن: كيف يمنعنا هذا الكافر من زيارة ولي الله، إن هذا كافر لا يؤمن بالله، ورُفعت شكوى إلى البلدية، فقضى القضاء بأن ينبش القبر، فإن وجد كلب فالحق لهذا الأوروبي المستعمر، وإن وجد إنسان فهو ظالم ويجب أن يخرج حتى من البستان، فجاءت سيارة الإسعاف والمسئولون ونبشوا القبر وإذا كلب بأنيابه!

وأما قصة قبر سيدي أبو حمارة فهي أن هذا شخصاً كان له حمار يركبه ما بين بلد وبلد آخر، وذلك أيام ما كان المركوب هو الحمار والفرس والبغل في العالم بأسره، وشاء أن مات هذا الحمار في الطريق، فدفنه صاحبه في مكان موته، وبعد فترة من الزمن مر به أناس فقالوا: هذا قبر ولي من الأولياء! وأصبحوا يمرون به ويدعونه ويضعون الفلوس والشموع عنده، وأصبح صاحب الحمار يكثر ماله من ذلك، والشاهد عندنا هو أن صاحب الحمار سافر وترك واحداً ليأخذ المال من الزوار والزائرات، وعند عودته فاجأه ذلك الرجل قائلاً: أنا صاحب الحمار! فاختصموا، فنبش القبر فوجدوا حماراً!

إذاً فهذه هي أمة الإسلام، وهذا النوع مئات الفجرة والسرق واللصوص والسحرة والدجالون والمشعوذون يدعون أنهم أولياء الله تعالى، والآن النكتة السياسية الاجتماعية ما هي؟ من فعل بهم هذا؟ إنه الثالوث المكون من المجوس واليهود والنصارى الذين فقدوا سيادتهم وسلطتهم في العالم الإسلامي، وعرفوا أن ولاية الله محترمة معظمة، وأن أولياء الله معظمون مبجلون، فماذا صنعوا؟ أوجدوا لهم فكرة الأولياء الأموات، أي: سيدي فلان وفلان، وفي خلال خمسين سنة ما بقي ولي بين الناس إلا إذا مات ودفن، ومن هنا أصبح المسلمون بدواً وحضراً، في الشرق والغرب، عرباً وعجماً، لا يحترمون ولياً بينهم إلا إذا كان ميّتاً ويُعبد مع الله بالذبح والنذر له والعكوف عليه والبناء عليه، ومن ثم ما بقي المؤمنون يحترمون بعضهم البعض، وإنما يزنون بنسائهم، ويسرقون أموالهم، ويكذبون ويخدعون بعضهم البعض.

فكيف ولي الله يُسب أو يشتم؟! ما يستطيع أن يقول في ولي منسوب إلى الولاية كلمة سوء، إذ إنه يخاف أن تنزل به الصاعقة، وأولياء الله الأحياء لا وجود لهم، فيفعل ما يشاء، فهذه هي تعاليم الثالوث الأسود، وإلى الآن ما أفقنا، ولكن خف الجهل بعض الشيء، مع أنه ما زلنا لم نعي هذا الوعي أبداً.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هيا بنا ندرس هذه الآيات الأربع بعناية. ‏

معنى الآيات

قال المؤلف: [ قوله تعالى: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ [النساء:138] ] فالذي يبشرهم هو رسول الله، إذ الذي يخاطب الله هو رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي العبارة نوع من التهكم بهم، إذ إن أصل البشرى هو الخبر السار أو المحزن، فالخبر الذي إذا سمعه صاحبه تغير وجهه، فإن كان ساراً تغير وجهه بالبشر والطلاقة والابتسامة، وإن كان الخبر محزناً اكتأب وأسودّ وجهه، فالتغيير حاصل، فلهذا البشرى تكون بالطيب وتكون بغيره.

بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ [النساء:138]، والمنافقون هم من يبطنون الكفر ويخفونه في صدرهم ولا يحاولون أن يطلع عليه مؤمن، وقد يطلع عليه المنافقون من إخوانهم وذلك في مجالسهم الخاصة، فيظهرون الإيمان والإسلام، ويصلون ويجاهدون وهم ما آمنوا بقلوبهم، وسبب إظهارهم للإسلام أن الدولة إسلامية قائمة والرسول حاكم وخلفاؤه موجودون فلا يستطيع أن يظهر الكفر، فإما أن يسلم وإما أن يقتل أو يبعد، إذ لا يسمح لكافر أن يعيش بيننا إلا إذا كان من أهل الكتاب وأهل الذمة، وهم معروفون، أما مشرك كافر فإما أن يؤمن وخاصة في ديار هذه الجزيرة قبة الإسلام، وإما أن يقتل، قال تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:5].

إذاً: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ [النساء:138]، الذين يبطنون ويخفون الكفر، فلا يؤمنون بالله ولا برسوله ولا بلقاء الله ولا بجنة ولا بنار، وإنما يظهرون الإسلام بسلوكهم وقولهم ومنطقهم.

قال: [ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:138]، يأمر الله تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يخبر المنافقين بلفظ البشارة؛ لأن المخبَر به يسوء وجوههم وهو العذاب الأليم، وقد يكون في الدنيا بالذل والمهانة والقتل، وأما في الآخرة فهو أسوأ العذاب وأشده، وهو لازم لهم لخبث نفوسهم وظلمة أرواحهم ].

معاشر المستمعين! هل فهمتم هذا التعليل؟ العذاب لازم للكافرين والمنافقين والفاجرين والظالمين لخبث نفوسهم، فهل النفس تخبث؟! إي والله، وهل النفس تطيب وتطهر؟ إي والله، وهل نستطيع أن نعرف النفس الخبيثة من الطيبة؟ نعم، فإذا طابت النفس فإن كل سلوك هذا العبد طيبة وطاهرة، فنظرته طيبة وطاهرة، وكلمته طيبة طاهرة، ومشيته طيبة طاهرة، بل كل تصرفاته طيبة وطاهرة؛ لأنه ناتج عن روح سليمة طاهرة نقية، وإن كانت الروح خبيثة يغشاها الكذب والخيانة والغش والباطل والشر فإن هذا السلوك نابع من مصدر باطني ألا وهو خبث النفس.

ثم في الآخرة العذاب كالتنعيم يتمان على ضوء خبث النفس أو طهارتها، فلا شرف لأب ولا لأم ولا لقبيلة ولا لنسب أبداً، بل كل البشر أمرهم واحد، أي: عبيد الله، ليس منهم من هو ابن لله ولا أب له ولا قريب له، بل إنهم عبيده، أبيضهم كأسودهم، فمن زكى نفسه وطيبها وطهرها، ومات وهي طاهرة نقية، فهذا لا ينزل إلا في دار السلام، ومن خبثها ولوثها وعفنها بأوضار الشرك والكفر فإن مصيره إلى الدركات السفلى في عالم الشقاء.

وعندنا نص الحكم الإلهي، وأهل الدرس عالمون به، قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، من يعقب على حكم الله؟! هل هناك هيئة قضائية تعقب؟! نفى الله هذا فقال: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41].

معاشر المؤمنين والمؤمنات! لمَ ما نحفظ هذه الكلمة: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] فنعرف مصير البشرية كلها من هاتين الآيتين؟ كن ابن من شئت أو أبا من شئت فالعبرة ليست بالجنس ولا بالملة، وإنما بالروح الزكية الطاهرة النقية أو الخبيثة العفنة المنتنة.

فهل عرفت البشرية هذا؟ ما عرفت، من بلغها؟ من عرفها؟ وبعد أن عرفنا حكم الله فينا فهيا بنا نزكي أنفسنا، إذ أيخبر الله عز وجل ونشك في حكمه؟ فإن قيل: يا شيخ! ما هي المواد المزكية للنفس؟ أين توجد؟ في أية صيدلية؟ كيف نستعملها؟ وهذه الأسئلة فريضة على كل إنسان أن يعرفها، وكم الذين يعرفونها؟ ولا واحد في المليون.

معشر الأبناء والإخوان! هل بلغكم أن حكماً لله قد صدر على الناس؟ قد حلف الله عليه بتسعة أو عشرة أيمان، وذلك من قوله تعالى: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1]، حتى قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9].

إذاً: والله إنا لموقنون إيقاناً كاملاً أن من زكى نفسه دخل الجنة دار السلام ونجا من العذاب والنار دار البوار، وأن من خبث نفسه ولوثها ومات وهي عفنة منتنة فلن يدخل الجنة ولن ينزل بساحتها، وهناك آية توضح هذا المعنى القريب وهي قوله تعالى من سورة الأعراف: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ [الأعراف:40]، أي: لا تفتح لأرواحهم عندما يعرج بها ملك الموت وأعوانه، وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف:40]، والجمل: حيوان معروف عند العرب وهو البعير، وعين الإبرة معروفة عند العجائز، وهي التي يُدخل فيها الخيط، والذي ما عنده بصر قوي ما يستطيع أن يدخل الخيط في عين الإبرة، فهل يستطيع البعير أن يدخل في عن الإبرة؟! مستحيل جداً، وكذلك مستحيل أن يدخل خبيث النفس دار السلام، وهذا قضاء الله وحكمه.

فهيا نعود يا معشر المؤمنين والمؤمنات! إلى الله تعالى، وهيا نعمل على تزكية أنفسنا، فإن قيل: يا شيخ! بما نزكيها؟ أجيبكم فأقول: زكوها بالإيمان الصحيح والعمل الصالح، وأبعدوها عما يخبثها كالشرك والمعاصي، وأعني بالإيمان الصحيح الذي ليس مجرد دعوى الإيمان كاليهود، وإنما الإيمان الذي إن عرضته على القرآن فأنت مؤمن، وأعني بالعمل الصالح الذي بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك من الغسل للجنابة إلى الرباط في سبيل الله، وكل تلك العبادات هي مواد تزكية للنفس البشرية، وأما المخبثات المدسيات للنفس من الكفر والشرك والمعاصي فهي وبال على المسلم في الدنيا والآخرة.

فعلى كل مؤمن يريد أن تزكو نفسه أن يتعرف على إيمانه هل هو إيمان صحيح أم لا؟ وأن يعمل الصالحات التي بينها رسول الله، وهي في كتاب الله تعالى من الوضوء إلى الطواف والاعتكاف، من كلمة الأمر بالمعروف إلى كلمة النهي عن المنكر، فتلك العبادات إذا أوديت أداء صحيحاً بلا تقديم ولا تأخير ولا زيادة ولا نقصان، فإنها تفعل في النفس البشرية الزكاة والطهر كما يفعل الماء والصابون في الثياب والأبدان، فتُحيلها إلى كتلة من النور، وهذه هي الحقيقة، فمن يعرف المسلمين بهذه الحقيقة؟ لو أنهم عزموا على أن يسودوا ويقودوا، أو عزموا على أن يسموا ويرتفعوا لعادوا إلى بيوت ربهم -المساجد- بنسائهم وأطفالهم من المغرب إلى العشاء فقط، وذلك في كل ليلة وطول الحياة، فيتعلمون الكتاب والحكمة، فإذا تعلم أهل القرية الكتاب والحكمة والله ما خرجوا عن دائرة رضا الله وطلب مرضاته، وإنما استقاموا على منهج الحق فعبدوا الله بما شرع، فسمت نفوسهم وأصبحوا أولياء الله، حتى لو كادهم أهل الأرض ما زلزلوا أقدامهم.

العلاقة الحميمة بين المنافقين والكافرين

قال: [ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:138]، يأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر المنافقين بلفظ البشارة؛ لأن المخبر به يسوء وجوههم وهو العذاب الأليم، وقد يكون في الدنيا بالذل والمهانة والقتل، وأما في الآخرة فهو أسوء العذاب وأشده، وهو لازم لهم لخبث نفوسهم وظلمة أرواحهم.

ثم وصفهم تعالى بأخس صفاتهم وشرها، فقال: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:139] ] أي: يتركون المؤمنين فلا يوالونهم ولا يحبونهم ولا ينصروهم ولا يطلبون النصرة منهم، وإنما يوالون الكافرين، وهذا لن يصدر إلا من المنافقين الذين آمنوا بالظاهر وأخفوا الكفر في الباطن.

قال: [ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:139]، فيعطون محبتهم ونصرتهم وولاءهم للكافرين، ويمنعون ذلك المؤمنين، وذلك لأن قلوبهم كافرة آثمة لم يدخلها إيمان ولم يُنرها عمل الإسلام، ثم وبخهم تعالى ناعياً عليهم جهلهم فقال: أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ [النساء:139] أي: يطلبون العزة، أي: المنعة والغلبة من الكافرين، أجهلوا أم عموا فلم يعرفوا أن الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [النساء:139]؟ ]، فيا من يطلب العزة -أدلك على الباب الذي تقرعه- اطلبها من باب الله عز وجل، فإن قال: ما نستطيع؛ لأن باب الله يجب أن نكون طاهراً نقياً، فلا غش ولا خداع ولا شرك ولا كفر، إذاً: تطلبها من الكافرين! والله لن تجدها، ولن تعز أبداً، فلا إله إلا الله.

قال: [ لأن قلوبهم كافرة آثمة لم يدخلها إيمان ولم ينرها عمل الإسلام، ثم وبخهم تعالى ناعياً عليهم جهلهم فقال: أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ [النساء:139]، أيطلبون العزة، أي: المنعة والغلبة من الكافرين، أجهلوا أم عموا فلم يعرفوا أن الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [النساء:139]؟ فمن أعزه الله عز، ومن أذله ذل، والعزة تطلب بالإيمان وصالح الأعمال لا بالكفر والشرك والفساد، هذا ما دلت عليه الآية الأولى والثانية ].

النهي عن مجالسة الذين يكفرون بآيات الله ويستهزئون بها

قال: [ أما الآية الثالثة فإن الله تعالى يؤدب المؤمنين ] الله يؤدبنا لأننا أولياؤه وعبيده المؤمنون به، فأنت ما تؤدب ابنك أو أخاك؟

قال: [ فإن الله تعالى يؤدب المؤمنين ] ونحن إن شاء الله منهم، [ فيذكرهم بما أنزل عليهم في سورة الأنعام ]، وسورة مكية بلا جدال، وقد زفتها سبعون ألف ملك عندما أنزلت، كما أن هذه السورة العظيمة نزلت مجملة، والمفروض على أهل كل بيت أن يدرسونها ويعرفون ما جاء فيها.

قال: [ فيذكرهم بما أنزل عليهم في سورة الأنعام حيث نهاهم عن مجالسة أهل الباطل إذا خاضوا في الطعن في آيات الله ودينه، فقال تعالى ] يخاطب رسوله وأمته معه: [ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68] ]، وهذا صالح لنا، فأيما مؤمن عرف الطريق إلى الله وجلس مجلساً أخذ أهل المجلس يضحكون ويسخرون ينتقدون الحاكم أو الإمام أو العالم الفلاني، فيجب أن يغلق أذنيه ويخرج، ولا يحل له البقاء، وإن جلس ورضي بكلامهم فهو منهم، وإن استطاع أن يقول: هذا منكر لزمه ذلك، لكن في مكة من يقول: هذا منكر؟ أبو جهل يضحك ويسخر وتقول له: إن هذا منكر! سيجرك على الحصباء، لكن إن قدر لك وجلست مع المنافقين وأخذوا يسخرون من القرآن ويستهزئون به، فلا يحل لك أن تبقى في هذا المكان.

وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا [الأنعام:68]، كيف يخوضون فيها؟ بالطعن والنقد، كأن يقولوا: لو كان كذا لكان كذا، فأعرض عنهم ولا تجلس إليهم حتى ينتهي ذاك الخوض ويتكلموا في شيء آخر أو في حديث غيره، وإن فرضنا أنه أنساك الشيطان هذا الأمر ثم تذكرته فعلى الفور اخرج.

كان الحاج مسعود من أهل الحلقة رحمة الله عليه إذا دخل المواليد وهو لا يدري، لما يأخذون بالمدائح والقصائد يأخذ نعله ويخرج، لمَ يا مسعود؟ فيقول: أمرنا بألا نخوض في هذا الباطل.

والآن تعرفون إخوانكم من عمال وموظفين يجلسون في احتفال ما ويخوضون في الطعن والنقد، فهل يجوز أن نبقى ونسكت؟ إما أن نغير المنكر وإما أن نخرج أو نكون قد شاركناهم في الباطل.

قال: [ هذا الأدب أخذ الله تعالى به رسوله والمؤمنين وهم في مكة قبل الهجرة؛ لأن سورة الأنعام مكية، ولما هاجروا إلى المدينة وبدأ النفاق وأصبح للمنافقين مجالس خاصة ينتقدون فيها المؤمنين ويخوضون فيها في آيات الله تعالى استهزاء وسخرية، ذكر الله تعالى المؤمنين بما أنزل عليهم في مكة ]؛ لأن المدينة في العام الأول والثاني والثالث كان المنافقون فيها أكثر من المؤمنين، لكن أخذوا يقلون ويقلون، بل ما مات الرسول وفي المدينة منافق واحد، وإنما مات من مات، ومن لم يمت فقد أسلم وآمن ودخل في الإسلام.

قال: [ قال: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140]، أي: إذا رضيتم بالجلوس معهم وهم يخوضون في آيات الله، مِثْلُهُمْ [النساء:140]، أي: في الإثم والجريمة والجزاء يوم القيامة، إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء:140]، فهل ترضون أن تكونوا معهم في جهنم؟ وإن قلتم: لا ما نرضى، إذاً فلا تجالسوهم.

غش المنافقين للمؤمنين وحرصهم على المصالح المادية الدنيوية

ثم ذكر تعالى لهم وصفاً آخر للمنافقين يحمل على التنفير منهم والكراهية والبغض لهم، فقال تعالى: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ [النساء:141]، أي: ينتظرون بكم الدوائر ويتحينون الفرص، فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ [النساء:141]، أي: نصر وغنيمة، قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ [النساء:141]، فأشركونا معكم، وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ [النساء:141]، في النصر قالوا لهم: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ [النساء:141]؟ أي: نستولي عليكم، وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:141]، أي: يقاتلوكم فأعطونا مما غنمتم، وهكذا المنافقون يمسكون العصا من الوسط، فأي جانب غلب كانوا معه، ألا لعنة الله على المنافقين، وما على المؤمنين إلا الصبر؛ لأن مشكلة المنافقين عويصة الحل، فالله يحكم بينهم يوم القيامة.

أما الكافرون الظاهرون فلن يجعل الله لهم على المؤمنين سبيلاً، لا لاستئصالهم وإبادتهم، ولا لإذلالهم والتسلط عليهم ما داموا مؤمنين صادقين في إيمانهم، وهذا ما ختم الله تعالى به الآية الكريمة إذ قال: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]. ]، ووالله لو وجد في العالم الإسلامي بلد أسلم قلبه ووجهه لله، وأقام دين الله، والله لو كاده من على أقطارها ما زلزلوهم ولا استطاعوا أن يضلوهم أو أن يدخلوا ديارهم، وإن قلت كيف؟ أقول لك: خلال خمسة وعشرين سنة والعالم الإسلامي أصبح من وراء نهر السند إلى الأندلس، كيف تم هذا؟! ليس ذلك بطائراتهم وجيوشهم وما يملكون، وإنما فقط استقاموا على ولاية الله وكانوا أولياء الله فكان الله معهم.

هداية الآيات

قال المؤلف: [ هداية هذه الآيات: أولاً: حرمة اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين ] فلا يحل لك أن تصاحب كافراً، ولا أن تحبه ويحبك، وتهديه ويهديك، وتترك المؤمنين فتبغضهم ولا تهاديهم ولا تعمل معهم، كما لا يحل لك أبداً أن يطلب نصرتك كافر على إخوانك المؤمنين فتمد يدك وتنصره على إخوانك المؤمنين، ومن فعل هذا والله ما هو بمؤمن، فهذا الرسول خرج معه رجل يقاتل معه، فقال له: أنا فلان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ارجع إنا لا نستنصر بكافر ).

ويبقى سياسياً وشرعياً وذلك إذا تصالح وتعاهد المسلمون مع دولة كافرة؛ لأنهم رأوا ضعفهم وعجزهم وعدم قدرتهم على غزوها أو فتحها، واتفقوا على شروط معينة فهذا جائز، لكن الحب في القلب لا، أتحب عدو الله؟!

ثم إذا اتفقنا مع هذه الدولة الكافرة كبريطانيا، وقاتلت بريطانيا دولة مسلمة، فإنه لا يجوز لنا أن نقاتل معهم ضد إخواننا المسلمين، إذ إن هذا يتنافى مع القرآن الكريم، لكن لو قاتلوا دولة كافرة فلا بأس أن نقاتل معهم إذا كان بيننا وبينهم اتفاقية على ذلك.

قال: [ حرمة اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين ]، فتترك المؤمنين ولا تواليهم ولا تنصرهم ولا تحبهم، وتنصر وتحب الكافرين!

قال: [ ثانياً: الباعث للناس على اتخاذ الكافرين أولياء هو الرغبة في العزة ورفع المذلة وهذا باطل، فالعزة لله ولا تطلب منه تعالى إلا بالإيمان وصالح الأعمال ] واتباع منهج الحق.

قال: [ ثالثاً: حرمة مجالسة أهل الباطل إذا كانوا يخوضون في آيات الله نقداً واستهزاء وسخرية.

رابعاً: الرضا بالكفر كفر، والرضا بالإثم إثم ]، كيف الرضا بالإثم إثم؟ جماعة يلعبون القمار وأنت معهم، فهذا رضاً منك وأنت آثم مثلهم، أو جماعة يشربون الحشيش وأنت معهم، فهذا أيضاً راضاً منك وأنت آثم مثلهم، أو جماعة يسبون في الصالحين وفلان وفلان وتسكت فأنت راضي بذلك وأنت آثم، وهكذا الرضا بالكفر بالإجماع كفر، والرضا بالإثم صاحبه آثم.

قال: [ خامساً: تكفل الله تعالى بعزة المؤمنين الصادقين ومنعتهم، فلا يسلّط عليهم أعداءه فيستأصلونهم أو يذلونهم ويتحكمون فيهم ] واسمعوا إلى رسول الله وهو يقول في هذه القضية -هذا الحديث الفيصل-: ( إني سألت ربي )، أي: طلبت من الله مولاي، ( ألا يهلكها -أي: أمته- بسنة عامة )، يعني: بقحط وجدب أو وباء، ( وألا يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم )، أما من أنفسهم فقد أكل بعضهم بعضاً، ( فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً )، وهو معنى قوله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30]، فهذا الدعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم سأل ربه تعالى ألا يسلط على أمته عدواً من غير أنفسهم، فيقتل بعضهم بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً، وحينئذٍ استوجبوا نقمة الله تعالى.

وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة النساء (73) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net