إسلام ويب

لقد حثنا الله تعالى أن نطلب منه أن يهدينا صراطه المستقيم، وهو صراط الذين أنعم الله عليهم من الرسل والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. كما حثنا على أن نطلب منه أن يجيرنا من صراط المغضوب عليهم، وهم اليهود، وصراط الضالين، وهم النصارى.

تفسير قوله تعالى: (صراط الذين أنعمت عليهم)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قد تقدم الحديث فيما إذا قال العبد: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] إلى آخرها أن الله يقول: (هذا لعبدي ولعبدي ما سأل).

وقوله تعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] مفسر للصراط المستقيم، وهو بدل منه عند النحاة، ويجوز أن يكون عطف بيان، والله أعلم.

والذين أنعم الله عليهم هم المذكورون في سورة النساء، حيث قال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا [النساء:69-70] ].

المنعم عليهم أربعة أصناف: النبيون، والصديقون، والشهداء، والصالحون، والصالحون: هم سائر المؤمنين على تفاوت في مراتبهم، والصالحون ثلاث طبقات: السابقون المقربون، والمقتصدون، والظالمون لأنفسهم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال الضحاك عن ابن عباس : صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] بطاعتك وعبادتك، من ملائكتك وأنبيائك والصديقين والشهداء والصالحين، وذلك نظير ما قال ربنا تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.. [النساء:69] الآية.

وقال أبو جعفر الرازي : عن الربيع بن أنس : صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] قال: هم النبيون.

وقال ابن جريج عن ابن عباس : هم المؤمنون. وكذا قال مجاهد ، وقال وكيع : هم المسلمون، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هم النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه. والتفسير المتقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما أعم وأشمل، والله أعلم ].

لكن القول بأنهم المسلمون أوسع؛ لأن المسلم يطلق على العاصي وغير العاصي، وأما المؤمن فلا يطلق إلا على المطيع، ولا يطلق على غيره إلا بقيد.

مرض القلوب بالنفاق

قال تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة:125] والمراد بالمرض النفاق، وهو يزيد وينقص، والكفر كذلك يزيد وينقص، والإيمان يزيد وينقص، وأدلة الزيادة هي أدلة على النقص، وكذلك يستدل بحديث: (أن النساء ناقصات عقل ودين)، وحديث: (الإيمان بضع وسبعون شعبة) ووجه الدلالة: أنه إذا نقصت شعبة من الإيمان نقص الإيمان، ومثله حديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) فهذا فيه دلالة على نقص الإيمان.

بيان صحة إمامة الصديق

قال الأمين الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان عند تفسير قوله تعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]: فيها وجهان:

الأول: يؤخذ من هذه الآية الكريمة صحة إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ لأنه داخل فيمن أمرنا الله أن نسأله سلوك صراطهم؛ لأن الله بين لنا من هم أهل الصراط المستقيم الذين أنعم عليهم، فعد منهم الصديقين، وقد بين صلى الله عليه وسلم ذلك.

وفيها رد على الرافضة الذين ينكرون إمامته، ويقولون: إنه مرتد! وإنه اغتصب الخلافة، والصحابة أجمعوا على خلافة الصديق وإمامته، وهم لا يجمعون على معصية، وهو داخل في الصديقين، بل هو أول الصديقين.

ومما يدل على أنه صديق قول النبي صلى الله عليه وسلم حين ارتقى جبل أحد هو وأبو بكر وعمر وعثمان ، فاهتز أحد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أثبت أحد؛ فما عليك إلا نبي وصديق وشهيدان) والشهيدان هما: عمر وعثمان ، وهذه شهادة لـأبي بكر رضي الله عنه بأنه صديق.

دخول مريم عليها السلام في الذين أنعم الله عليهم

والوجه الثاني الذي ذكره الأمين الشنقيطي قوله: قد علمت أن الصديقين هم من الذين أنعم الله عليهم، وقد صرح تعالى بأن مريم ابنة عمران صديقة في قوله: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ [المائدة:75] الآية، فهل تدخل مريم في قوله تعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] أو لا؟

قال الشنقيطي : دخولها فيهم يتفرع على قاعدة أصولية مختلف فيها، والقاعدة تقول: هل ما في القرآن العظيم وما في السنة من الجموع الصحيحة المذكرة ونحوها مما يختص بجماعة الذكور تدخل فيه الإناث أم لا يدخلن فيه إلا بدليل منفصل؟

وفي هذا الوجه الذي ذكره الأمين رد على ابن حزم القائل: بأن مريم نبية!

والرد عليه: أن الله تعالى سماها صديقة في مقام الامتنان، فكان أشرف وصف لها الصديقة، ولو كانت نبية لذكرها الله بالنبوة، وابن حزم يقول: إن النبوة قد تكون في النساء، وقال: إن مريم أم عيسى نبية، وكذلك أم موسى نبية؛ لقوله تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص:7] قال: وهذا وحي من جنس ما ينزل على الأنبياء، وكذلك أيضاً سارة امرأة إبراهيم بشرتها الملائكة فهي نبية! وهذا من أغلاطه رحمه الله، والصواب: أن النساء ليس فيهن نبية، وأعلى ما جاء في حقهن الصديقية.

تفسير قوله تعالى: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] قرأ الجمهور (غير) بالجر على النعت، قال الزمخشري : وقرئ بالنصب على الحال، وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب ، ورويت عن ابن كثير ، وذو الحال الضمير في عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، والعامل أَنْعَمْتَ [الفاتحة:7]، والمعنى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7] ممن تقدم وصفهم ونعتهم، وهم أهل الهداية والاستقامة والطاعة لله ورسله، وامتثال أوامره وترك نواهيه وزواجره، غير صراط المغضوب عليهم، وهم: الذين فسدت إرادتهم فعلموا الحق وعدلوا عنه، ولا صراط الضالين، وهم: الذين فقدوا العلم، فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق.

وأكد الكلام بلا؛ ليدل على أن ثم مسلكين قاصدين وهما: طريقة اليهود والنصارى، وقد زعم بعض النحاة: أن غير ههنا استثنائية، فيكون على هذا منقطعاً؛ لاستثنائهم من المنعم عليهم وليسوا منهم، وما أوردناه أولى؛ لقول الشاعر:

كأنك من جمال بني أقيش يقعقع عند رجليه بشن

أي: كأنك جمل من جمال بني أقيش، فحذف الموصوف واكتفى بالصفة، وهكذا غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] أي: غير صراط المغضوب عليهم، اكتفى بالمضاف إليه عن ذكر المضاف.

وقد دل عليه سياق الكلام وهو قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7] ].

ومن ذلك قول الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا [الرعد:31] فحذف الجواب وقد دل عليه سياق الكلام، والتقدير: وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى [الرعد:31] لكان هذا القرآن، بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا [الرعد:31] فحذف جواب (لو) لدلالة السياق عليه.

أقسام الناس

قوله تعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] فيها بيان أن الناس ثلاثة أقسام: منعم عليهم، ومغضوب عليهم، وضالون.

الطائفة الأولى: المنعم عليهم، وهم: الذين سلكوا مسلك الهداية، وهم الذين منَّ الله عليهم بالعلم والعمل، فعلموا الحق ثم عملوا به، وهم أربع طبقات: الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون كما بينهم الله تعالى في سورة النساء بقوله: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69].

الطائفة الثانية: المغضوب عليهم، وهم الذين يعلمون ولا يعملون، أي: عندهم علم ولكن لا يعلمون به، فهؤلاء فسدت إرادتهم والعياذ بالله، فمن فسد من علماء هذه الأمة فقد ألحق نفسه بالمغضوب عليهم، وفي مقدمتهم اليهود.

الطائفة الثالثة: الضالون، وهم الذين ليس عندهم علم، فتجدهم يتخبطون في دياجير الظلمات، فقد فقدوا العلم، وقد يعملون ولكن على غير بصيرة، نسأل الله السلامة والعافية، ومن فسد من عباد هذه الأمة فقد ألحق نفسه بالضالين، وفي مقدمتهم النصارى.

محل (لا) من الإعراب في قوله تعالى: (ولا الضالين)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ومنهم من زعم أن (لا) في قوله تعالى: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] زائدة، وأن تقدير الكلام عنده: غير المغضوب عليهم والضالين، واستشهد ببيت العجاج :

في بئر لا حور سرى وما شعر...

أي: في بئر حور، والصحيح ما قدمناه؛ ولهذا روى أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب فضائل القرآن عن أبي معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقرأ: غير المغضوب عليهم وغير الضالين. وهذا إسناد صحيح.

وكذلك حكي عن أبي بن كعب أنه قرأ كذلك، وهو محمول على أنه صدر منهما على وجه التفسير ].

هذه القراءة لم تثبت قرآناً، وتحمل على وجه التفسير؛ لأنها ليست قراءة متواترة، ومن ذلك ما في مصحف ابن مسعود رضي الله عنه في كفارة الأيمان، فقرأ ابن مسعود : (فصيام ثلاثة أيام متتابعات)، وتحمل هذه القراءة على إرادة التفسير. ومن ذلك ما قرأه بعضهم في سورة الكهف: (وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين)، فهذه القراءة تحمل على التفسير.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فيدل على ما قلناه من أنه إنما جيء بلا لتأكيد النفي؛ لئلا يتوهم أنه معطوف على الذين أنعمت عليهم، وللفرق بين الطريقتين ليجتنب كل واحد منهما ].

أي: طريقة المغضوب عليهم وطريقة الضالين، هذه طريقة وهذه طريقة أخرى، فقوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ [الفاتحة:7] هذه طريقة، وقوله: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] هذه طريقة أخرى، والإتيان بلفظة (لا) للتأكيد، فلو حذفت لا، من قوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ وَلا الضَّالِّينَ لم يكن هناك فصل بين الطريقتين، فلفظ (لا) في موضعها من أفصح الكلام، وكلام الله أفصح كلام وأفضل كلام وخير كلام.

اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فإن طريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم بالحق والعمل به، واليهود فقدوا العمل، والنصارى فقدوا العلم، ولهذا كان الغضب لليهود والضلال للنصارى ].

هما طريقتان منحرفتان عن الحق، فمن فسدت إرادته يسمى غاوياً، ومن تعبد لله على جهل يسمى ضالاً، ومن علم وعمل يسمى راشداً، وقد برأ الله نبيه الكريم من هاتين: الغواية والضلال، وذلك في قوله عز وجل: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:1-2]، فلم يكن ضالاً عليه الصلاة والسلام، ولم يكن غاوياً، لم يكن ضالاً؛ لأنه على بصيرة من ربه، فقد علمه ربه وأدبه ربه فأحسن تأديبه وتعليمه، قال سبحانه: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:113] ، وهو عليه الصلاة والسلام راشد؛ لأنه يعمل بما يعلم، فهو أعبد الناس، وأزهد الناس، وأفضل الناس، وأتقى الناس، وأعبد الناس لربه عز وجل، عليه الصلاة والسلام.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولهذا كان الغضب لليهود والضلال للنصارى؛ لأن من علم وترك استحق الغضب بخلاف من لم يعلم، والنصارى لما كانوا قاصدين شيئاً لكنهم لا يهتدون إلى طريقه؛ لأنهم لم يأتوا الأمر من بابه، وهو اتباع الحق، ضلوا، وكل من اليهود والنصارى ضال مغضوب عليه، لكن أخص أوصاف اليهود الغضب، كما قال تعالى عنهم: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ [المائدة:60]، وأخص أوصاف النصارى الضلال كما قال تعالى عنهم: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:77] ].

الغالب على اليهود العلم، لكن قد يوجد من بعض اليهود من هو ضال ليس عنده علم ولا بصيرة، كما قال سبحانه: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [البقرة:78] يعني: ليس له إلا مجرد التلاوة، فبين سبحانه في هذه الآية: أن من طوائف اليهود من هو جاهل ليس عنده علم.

والنصارى الغالب عليهم الضلال، لكن قد يوجد في بعض طوائفهم علماء، ولذا يقول سبحانه عنهم: ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [المائدة:82]، وقال سبحانه: لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ [المائدة:63] أي: أن العبّاد والعلماء موجودن في كلتا الطائفتين من اليهود والنصارى، لكن الغالب على طوائف اليهود العلم وفساد الإرادة، فتخلف عنهم العمل، والغالب على طوائف النصارى الضلال وعدم العلم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وبهذا جاءت الأحاديث والآثار، وذلك واضح بين فيما قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال: سمعت سماك بن حرب يقول: سمعت عباد بن حبيش يحدث عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: (جاءت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا عمتي وناساً، فلما أتوا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوا له فقالت: يا رسول الله! نأى الوافد، وانقطع الولد، وأنا عجوز كبيرة ما بي من خدمة؛ فمنّ علي منّ الله عليك، قال: من وافدك؟ قالت: عدي بن حاتم ، قال: الذي فر من الله ورسوله؟ قالت: فمنّ علي، فلما رجع ورجل إلى جنبه ترى أنه علي، قال: سليه حملاناً فسألته فأمر لها، قال: فأتتني فقالت: لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها، فإنه قد أتاه فلان فأصاب منه وأتاه فلان فأصاب منه، فأتيته فإذا عنده امرأة وصبيان وذكر قربهم من النبي صلى الله عليه وسلم) ].

ومعنى قولها: لقد فعل فعلة، أي: لقد فعل الرسول عليه الصلاة والسلام فعلاً حسناً ما فعله حاتم ، وهو معروف بالكرم مشهور به، ويضرب به المثل في ذلك، وهذه أخته، وهذا عدي ابنه.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [(قال: فعرفت أنه ليس بملك كسرى ولا قيصر، فقال: يا عدي ما أفرّك أن يقال: لا إله إلا الله؟! فهل من إله إلا الله؟ ما أفرك أن يقال: الله أكبر؟ فهل شيء أكبر من الله عز وجل؟! قال: فأسلمت، فرأيت وجهه استبشر وقال: إن المغضوب عليهم اليهود، وإن الضالين النصارى). وذكر الحديث ].

وليس المراد أن الغضب خاص بهم، بل المراد أنهم يدخلون فيه دخولاً أولياً، وإلا فكل من فسد من العلماء ولم يعمل بعلمه فهو مغضوب عليه، وكل من تعبد الله على جهل فهو ضال، نسأل الله السلامة والعافية.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ورواه الترمذي من حديث سماك بن حرب ، وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديثه.

قلت: وقد رواه حماد بن سلمة عن سماك عن مري بن قطري عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، قال: هم اليهود. وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] قال: النصارى هم الضالون).

وهكذا رواه سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن عدي بن حاتم به.

وقد روي حديث عدي هذا من طرق وله ألفاظ كثيرة يطول ذكرها ].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن بديل العقيلي أخبرني عبد الله بن شقيق (أنه أخبره من سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بواد القرى على فرسه وسأله رجل من بني القين، فقال: يا رسول الله! من هؤلاء؟ قال: المغضوب عليهم -وأشار إلى اليهود- والضالون هم النصارى) .

وقد رواه الجريري وعروة وخالد الحذاء عن عبد الله بن شقيق فأرسلوه، ولم يذكروا من سمع من النبي صلى الله عليه وسلم.

ووقع في رواية عروة تسمية عبد الله بن عمرو ، فالله أعلم.

وقد روى ابن مردويه من حديث إبراهيم بن طهمان عن بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن أبي ذر قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المغضوب عليهم؟ قال: اليهود. قلت: الضالين؟ قال: النصارى).

وقال السدي : عن أبو مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]: هم اليهود، وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] هم النصارى .

هذا إسناد صحيح، والسدي هذا ثقة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال الضحاك وابن جريج : عن ابن عباس : غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]: هم اليهود، وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]: النصارى.

وكذلك قال الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد.

وقال ابن أبي حاتم : ولا أعلم بين المفسرين في هذا اختلافاً.

وشاهد ما قاله هؤلاء الأئمة من أن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون الحديث المتقدم، وقوله تعالى في خطابه مع بني إسرائيل في سورة البقرة: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ [البقرة:90]، وقال في المائدة: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:60]، وقال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78-79].

وفي السيرة عن زيد بن عمرو بن نفيل : أنه لما خرج هو وجماعة من أصحابه إلى الشام يطلبون الدين الحنيف، قالت له اليهود: إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله. فقال: أنا من غضب الله أفر. وقالت له النصارى: إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من سخط الله، فقال: لا أستطيعه، فاستمر على فطرته وجانب عبادة الأوثان ودين المشركين، ولم يدخل مع أحد من اليهود ولا النصارى، وأما أصحابه فتنصروا ودخلوا في دين النصرانية؛ لأنهم وجدوه أقرب من دين اليهود إذ ذاك، وكان منهم ورقة بن نوفل ، حتى هداه الله بنبيه لما بعثه فآمن بما وجد من الوحي رضي الله عنه) ].

وورقة بن نوفل من أول من آمن رضي الله عنه، فإن خديجة رضي الله عنها لما جاءها النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرها بما رأى هدأت من روعه، وذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل ، وكان قد تنصر وقرأ في الإنجيل، فسأله فأخبره فقال: (هذا الناموس الذي كان يأتي موسى، -ومراده بالناموس أي: جبريل- يا ليتني كنت جذعاً حين يخرجك قومك، ولو بقيت لأنصرنك نصراً مؤزراً. فقال: أو مخرجي هم؟! قال: نعم، لم يأت أحد بمثل ما أتيت به إلا عودي)، فلم يلبث أن مات، وكان شيخاً كبيراً قد عمي.

عناد اليهود وتعنتهم

عامة اليهود مغضوب عليهم، وهم قوم بهت، يقول الله عنهم: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:81]، ويقول عنهم: تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ [المائدة:80]، ولم يخرج من هذا الوصف منهم إلا قلة كـعبد الله بن سلام رضي الله عنه، وقد ثبت أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامي يبهتوني، فاسألهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي) أي: أول ما أسلم ابن سلام رضي الله عنه اختفى عند النبي صلى الله عليه وسلم وجاء اليهود فدخلوا، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: (ما تقولون في عبد الله بن سلام ؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، ثم خرج عبد الله بن سلام من المكان الذي اختفى فيه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فقالوا: شرنا وابن شرنا) قالوا هذا في المقام نفسه، نسأل الله السلامة والعافية.

ولا يسلم من اليهود إلا القلة القليلة، والآن في المكاتب التي تدعو إلى الإسلام يسلم على أيديهم كثير من النصارى، ولكن ما سمعنا أن أحداً من اليهود أسلم؛ لذا جاء في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أسلم عشرة من اليهود لتبعهم قومهم) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان هذا الحديث يحتاج إلى بحث عن صحته، لكن الواقع شاهد بهذا، أي: أن اليهود قوم بهت ولا يسلم منهم إلا القلة القليلة، وعندهم عناد وتعنت، بخلاف النصارى فإنهم أقرب إلى الحق، كما قال الله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى [المائدة:82].

اغتفار عدم تحرير الضاد من الظاء

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [مسألة: والصحيح من مذاهب العلماء أنه يغتفر الإخلال بتحرير ما بين الضاد والظاء؛ لقرب مخرجيهما، وذلك أن الضاد مخرجها من أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس، ومخرج الظاء من طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا، ولأن كلاً من الحرفين من الحروف المجهورة، ومن الحروف الرخوة، ومن الحروف المطبقة؛ فلهذا كله اغتفر استعمال أحدهما مكان الآخر لمن لا يميز ذلك، والله أعلم].

أي: أن الذي يميز ينبغي له أن يعتني بهذا الأمر، والمسألة إبدال حرف بحرف، وطالب العلم الذي عنده بصيرة ينبغي عليه أن يميز بينهما.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأما حديث: (أنا أفصح من نطق بالضاد) فلا أصل له، والله أعلم ].

هذا الحديث مشهور عند النحاة وعند أهل اللغة، وهو موضوع.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الفاتحة [12] للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي

https://audio.islamweb.net