إسلام ويب

من حكمة الله جل وعلا البالغة أن اختار جزيرة العرب لتكون مهبط الوحي لخاتم الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ وذلك لأن العرب أمة لم تعرف ديناً من قبل سوى ملة إبراهيم، ولم يصلها من حضارات وفلسفات الأمم من حولها شيء، لتحافظ بذلك على وحدة المصدر المتلقى عنه، دون أن تضيف إليه شرائع وأحكام وقوانين البشر، كما أن خلو بقعة الرسالة في الجزيرة من الجيوش أو الملوك ساعد على عدم قمع الدعوة في مهدها، وساهم في صنع الأحلاف لدولة الإسلام مع غيرها، وجعل الدعوة تبني جيش الإسلام.

الحكمة من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم في جزيرة العرب

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فمع الدرس الثالث من دروس السيرة النبوية: الفترة المكية.

هناك سؤال قد يستغربه البعض: لماذا ينزل الوحي في مكة؟ لماذا تحدث قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجزيرة العربية؟

لماذا لم يبعث الرسول صلى الله عليه وسلم في فارس أو الروم، أو في فلسطين مثل بقية الأنبياء، أو في مصر مثل سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام؟

إخواني! لا توجد نقطة واحدة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم عشوائية؛ إذ كل شيء بحساب، كل شيء مقصود؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سيكون قدوة لكل المسلمين إلى يوم القيامة، فلابد أن تكون كل خطوة في هذه الشخصية محسوبة تماماً.

كان الوضع في جزيرة العرب هو الوضع المناسب لقيام الدعوة الإسلامية, يتضح ذلك من آثار التجربة الإسلامية الأولى، فقد كانت تجربة ناجحة تماماً، والبيئة التي نشأت فيها الرسالة كانت بيئة صالحة، فقد رأينا الإسلام ينتشر بسرعة في الأرض، ففي غضون سنوات قليلة لا تحسب في التاريخ بشيء وصل الإسلام من أقصى الأرض إلى أقصاها، بل ودخل الناس في دين الله أفواجاً، راغبين غير مكرهين.

إذاً: فنحن نسأل هذا السؤال ونهدف من ورائه لمعرفة المقومات التي أنجحت رسالة الإسلام.

من المعلوم أن الرسالة من الممكن أن تحقق نجاحاً ذاتياً في أي مكان تقوم به؛ لأن الرسالة في ذاتها عظيمة تصلح لكل زمان ومكان، لكن من منظور هذه المجموعة من الدروس نحن نقول: كيف نبني أمة؟ فأول البناء هو وضع الأساس، ونحن نريد أن نعرف لماذا ربنا سبحانه وتعالى اختار هذا المكان بالذات لوضع الأساس لهذا المشروع العظيم، مشروع الإسلام.

ما هي مواصفات هذا المكان؟ ما هي ظروفه؟ ما هي طبيعته؟ لو استطعنا أن نعرف هذه المواصفات لسوف نستخرج قواعد في غاية الأهمية لإعادة بناء الأمة الإسلامية على أساس صحيح، وسوف نعلم ما هي البيئة التي يمكن أن تكون أصلح لنشأة الدعوة الإسلامية، ولنشأة هذا الدين وتمكينه.

أما الحكمة الكامنة وراء ذلك الأمر فلا يعلمها إلا الله عز وجل، لكن نحن نحاول أن نبحث على قدر الاستطاعة، ونسأل الله عز وجل التوفيق.

المحافظة على نقاء الرسالة ووحدة المصدر

أول حكمة تتبدى في ذلك الأمر: أن هذه المنطقة ليس لها تاريخ ثقافي يذكر، ولا فلسفات سابقة، أو تشريعات مركبة، أو قوانين مفصلة، بل حياة بسيطة إلى أبعد درجات البساطة، الحضارات المعاصرة لها كانت لها أفكار مرتبة وفلسفات خاصة وتاريخ طويل، فالدولة الرومانية الغربية والشرقية كانت فيها قوانين كثيرة، وتشريعات في معظم المجالات، وكان بها ظلم وقهر وبطش.

فاليونان كانت جزءاً من الدولة الرومانية الشرقية، وكانت فيها فلسفات كثيرة قوية، وظهر فيها فلاسفة كبار، أمثال: أرسطو وأفلاطون وسقراط.. وغيرهم.

والدولة الفارسية ظهر فيها مزدك صاحب الشيوعية وزواج المحارم، وظهر فيها زرادشت صاحب النار.

والهند كان فيها حكماء كثيرون جداً كما يقال.

والصين ظهر فيها بوذا وكونفوشيوس ولاوتسو .

ومصر كان فيها الفراعنة وتاريخهم طويل وقديم وقوي، وعندهم أيضاً قوانين وتشريعات وأحكام، ومع كل هذا نزلت الرسالة في مكان يعتبر تقريباً بلا تاريخ ثقافي، اللهم الشعر، لكن حتى الشعر لم يكن له دور فعال في بناء الأمة الإسلامية، ولم يكن ذا أهمية خاصة في إنشاء الأمة الإسلامية على الأقل في البداية، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف نظم الشعر على بلاغته وفصاحته صلى الله عليه وسلم، وقد كان أبلغ البشر أجمعين، ومع ذلك لم يكن يقول الشعر، وفي هذا يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس:69] يعني: لا يصح أن يقول شعراً، وما ينبغي له ذلك؛ لئلا يختلط على الناس الأمر، ويعتقد الناس أن القرآن نوع جديد من الشعر ساقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل أراد ألا يختلط القرآن بأي شيء من كلام البشر، حتى لو كان من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كل هذا من أجل نقاء الرسالة، وحتى لا تختلط بأفكار سابقة، ثم يقال: إن الإسلام مجرد تطور للمعتقدات السابقة.

فـكونفوشيوس أو بوذا أو سقراط.. أو غيرهم من الفلاسفة لهم معتقدات معينة، وقواعد خاصة وضعوها منذ مئات السنين، بعضها قد يحض على معنى معين حض عليه الإسلام أيضاً، ولكن سيكون بشيء من الاختلاف أو التغيير، فقد يحض بعضهم مثلاً على الصدق، أو الزهد في الدنيا، أو الأمانة، فإذا جاءت هذه الأفكار في الإسلام قد يعتقد البعض أنها مجرد تطور لأفكار سقراط أو بوذا.. أو غيرهما، وهذا ما قاله بعض المتطاولين على الإسلام، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان بعيداً عن هؤلاء الفلاسفة، وما كان يقرأ صلى الله عليه وسلم، فما بالكم لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم نشأ في بيئة مليئة بالفلاسفة وبالثقافات القديمة، ماذا سيقال عنه؟ ثم أيضاً قد تتسرب بعض هذه الأفكار إلى الإسلام دون دراية المسلمين بذلك، فقليلاً قليلاً يختلط الصواب بالخطأ، ويختلط الحق بالباطل، فإن قواعد الجاهلية التي كانت مترسخة في الناس أخذت مجهوداً ضخماً من الإسلام؛ لكي يلغيها من أذهان الناس، فمثلاً: عادة التبني، لكي يلغيها الإسلام حصلت القصة المشهورة من طلاق زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه للسيدة زينب بنت جحش ، ثم زواج الرسول صلى الله عليه وسلم منها. كل هذا أحدث هزة كبيرة جداً في المجتمع المسلم، والناس كلها تنتبه إلى أن هذه العادة ليست من الإسلام.

وتخيل لو أن هذا البلد مليء بتشريعات وقوانين وفلسفات، كيف سيصبح الوضع؟

فربنا سبحانه وتعالى يريد للرسالة أن تكون نقية تماماً، ليس فيها أي خلط بأي أفكار أخرى، وربما من أجل هذا أيضاً ما نزلت الرسالة في فلسطين، فلو نزلت فيها الرسالة فستبقى مجرد امتداد لليهودية أو النصرانية، نعم، أصول التوحيد واحدة، لكن الإسلام أتى بتشريع كامل متكامل يحكم الدنيا والدين.

إن الله سبحانه وتعالى أراد للرسالة الخاتمة أن تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة؛ حتى لا يدعي بعض المدعين على الرسول عليه الصلاة والسلام أنه أخذ التوراة والإنجيل وحرف فيهما قليلاً، واستخرج منهما الإسلام، ادعى أهل مكة أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يتلقى هذه الآيات من غلام نصراني، فكيف لو نزلت الرسالة في بلد مملوء بأهل التوراة والإنجيل مثل فلسطين؟

لذلك نزلت هذه الرسالة في مكان ليست فيه بالفعل أي نوع من الثقافات السابقة أو القوانين أو التشريعات، كل هذا من أجل أن يبقى الدين في النهاية نقياً خالصاً: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:3] .

ونحن رأينا بأعيننا بعد ذلك آثار اختلاط الإسلام بالأفكار الغريبة عنه، ومدى الخطورة على الإسلام لو أدخلنا عليه أي أفكار، حتى ولو كانت من أفكار الفلاسفة وكبار الحكماء كما يقولون.

مثال ذلك: دخول المناهج الفلسفية اليونانية إلى الإسلام، عندما ترجمت كتب الفلاسفة اليونانية إلى العربية - سقراط وأرسطو وأفلاطون - ظهرت فرق شنيعة في الإسلام مثل: المعتزلة والمعطلة والجهمية.. وغيرهما من الفرق التي ظهرت بسبب تطبيق هذه الأفكار الفلسفية على الإسلام، وظهرت تفريعات كثيرة جداً في العقيدة جعلت من العقيدة شيئاً غير مفهوم، وفتحت أبواب مسائل ما فتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، وفتن المسلمون بفتن ضخمة مثل: فتنة القول بخلق القرآن، أو أين الجنة؟ وغيرها من المسائل.

كل هذه الأمور ضيعت على المؤمنين وقتاً طويلاً جداً، وشغلت المسلمين بأنفسهم، وحدث الصراع والجدال والقتال بين المؤمنين، وعطل الجهاد، وأضعفت شوكة المسلمين، بل أخرجت بعض المتكلمين من دين الإسلام أصلاً.

إذًا: كل ما حدث كان نتيجة اختلاط أصول الرسالة بغيرها، فضاع نقاء الرسالة، ونزول الرسالة في مكة كان يوفر عليهم كل هذا الخلط، وبالذات وهي لا زالت في أول الطريق في المهد، والدرس واضح للمسلمين: حافظوا على نقاء رسالتكم. نحن لسنا محتاجين غير القرآن والسنة إلى أي شيء آخر يتخذ معهما كأصل من أصول التشريع: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله، وسنتي).

لو ألقيت نظرة على المفاهيم التي دخلت على دين الإسلام كيف غيرت اعتقادات وأفكار وأخلاق الناس ستستغرب، وتقول: هل يمكن لدولة إسلامية أن يكون فيها هذا؟!

على سبيل المثال: اختلاط أفكار الناس بأفكار الغرب أو الشرق في قضية اللباس، انظر إلى ملابس الفتيات، اختلطت المفاهيم وضاع نقاء الرسالة، أصبح هناك تعريف جديد للاحتشام، وضاع المقياس الإسلامي، وتتعجب كيف خرجت هذه الفتاة بهذا اللباس أمام أبيها أو أخيها أو زوجها؟ لكن المشكلة أن لا أحد يعلم أن هناك مشكلة، أو يشعر بوجودها، بل قد يمدحون ويبدون إعجابهم ويقولون: الحمد لله، هم أحسن من غيرهم بكثير؛ لأن المقياس هو أن يقيس نفسه على جاره أو صاحبه أو دولة غربية أو دولة شرقية.

من المسلمين من يحتفل بـ(الكريسمس) عيد رأس السنة الميلادية، أكثر من احتفاله بعيد الفطر أو الأضحى!

من المسلمين من يعتقد أن من الصواب أن يدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله!

من المسلمين من يعتمد في تفسيره للتاريخ الإسلامي على اليهود والنصارى!

من المسلمين من ينكر الشفاعة ويرد المتواتر من الحديث، ويستهين بصحيح البخاري وصحيح مسلم!

من المسلمين من يقول: الحج شيء جميل، لكن الزحام شديد، وأقترح أن يكون في كل سنة في مكان ما، أو نوسع المكان أو يكون على مدار السنة، بدلاً من تمركزه في وقت واحد في مكان واحد؛ هذا لأنه رأى أساتذته من اليهود والنصارى يغيرون ما يريدون في دينهم. كل ذلك بسبب اختلاط المفاهيم واضطراب المقاييس.

فنزول الرسالة في مكة يعتبر عزلة نسبية عن الأفكار الفلسفية والقوانين المادية والعقائد النظرية الغريبة، وحافظ على نقاء الرسالة، وعلى تكوين الصحابة تكويناً إسلامياً خالصاً، وعلى الجيل الذي سيأخذ الأمانة الإسلامية أن يوحد من مصدره، وأن يجعل القرآن والسنة هو الأول والآخر، لا يخلطه بأفكار الأرض شرقية كانت أو غربية.

أيضاً نزول الرسالة في بلد ليس له تاريخ تشريعي يذكر ويظهر المعجزة الإلهية في التشريع الإسلامي، فهذه المعجزة مهولة بكل المقاييس، سواء بمقاييس الماضي أو الحاضر أو المستقبل كله، من المستحيل فعلاً أن تفهم كيف خرج هذا التشريع المتكامل الشامل المفصل في هذه البيئة البدوية البسيطة منعدمة التاريخ، إلا إذا كانت هناك قوة فوق قوة البشر هي التي فعلت ذلك، تلك هي قوة الله عز وجل.

التشريع الإسلامي فعلاً تشريع عجيب، يعالج كل جزئية -مهما صغرت- من جزئيات الحياة وعمارة الأرض وسيادة الدنيا، فهو يحتوي على قوانين متكاملة في السياسة والقضاء، والمعاملات، والتجارة والاقتصاد، وإدارة البيت وتربية الأولاد، كيف تحارب، وتسالم، وتتزوج، وتشتغل، وتترفه، وهكذا الدخول في أدق التفاصيل بلا خطأ ولا ثغرة ولا عيب ولا قصور.

فنزول الرسالة في مكة بهذا التكامل العجيب كان إعجازاً لا ينكر، ودليلاً قاطعاً على إلهية هذا التشريع وربانية هذا المنهج.

إذاً: نزول الرسالة في مكان ليس فيه تشريعات كثيرة معقدة كان سبباً في نقاء التكوين عند الصحابة، وصحة الطريق بلا ضلال أو غموض، فقد كان يحمي الإسلام من الانحراف أو التخبط، وفي ذات الوقت كان دليلاً معجزاً على أن هذا التشريع من عند الله عز وجل.

فالحكمة الأولى من نزول التشريع الإسلامي في هذه البيئة البدوية البسيطة: المحافظة على نقاء الرسالة ووحدة المصدر.

ولو أردنا أن نرجع أمة الإسلام لوضعها الذي كانت عليه أيام السيادة والتمكين فلابد من عدم خلط القرآن والسنة بأي مصدر آخر، وهذا ليس على وجه الاختيار، بل لزاماً علينا، يقول الله سبحانه وتعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا [الأحزاب:36].

إدراك حقيقة أن النصر بيد الله وأن القلة المؤمنة تغلب الكثرة المشركة

الحكمة الثانية من نزول الرسالة في جزيرة العرب: أن هذه المنطقة ليس لها تاريخ أو واقع عسكري ملموس، لم يكن هناك ما يعرف بالجيوش العربية، بل كانوا قبائل متفرقة متشرذمة، لا يعرفون إلا حرب الإغارات والسطو على بعضهم البعض، وأعدادهم قليلة، وسلاحهم قديم، وخططهم بدائية، فلما جاء الإسلام إلى هذه البقعة من الأرض حصل انقلاب هائل بمعنى الكلمة، إذا بالرجال البدو البسطاء الذين كانوا يعيشون في هذا المكان يصبحون قادة عسكريين على أعلى المستويات، لا مثيل لهم في التاريخ كله، وإذا بالقبائل المتفرقة تكون جيشاً واحداً مترابطاً، وإذا بالبدو الرحل يحاورون ويناورون ويفاوضون، ويفتحون البلاد، ويدعون العباد إلى عبادة رب العباد، اقرءوا تاريخ الفتوح الإسلامية الإعجازية، راجعوا التاريخ من أول نزول آدم وإلى الآن لا تجد لهم نظير، ولا للفتوحات الإسلامية مثيل.

في غضون سنوات قلائل تسقط فارس الدولة الرهيبة العظيمة.

في غضون ثلاث عشرة سنة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، تسقط فارس، التي هي إيران والعراق وأوزبكستان وتركمانستان وطاجكستان وكازاخستان وأفغانستان وباكستان، نصف الأرض تقريباً تسقط في ثلاث عشرة سنة على أيدي هؤلاء البدو الرحل.

كذلك في نفس الوقت على الجهة الغربية من العالم تسقط معظم ممتلكات الدولة الرومانية في آسيا وإفريقيا، معجزة عسكرية هائلة بكل المقاييس، من المستحيل أن تكون من فعل البشر!

ماذا كان موقف العرب من كسرى فارس قبل الإسلام؟

كان العرب مثل أصغر دولة نامية في الأرض في هذا الوقت بالنسبة لأعظم قوة في الأرض في زمانهم دولة فارس ودولة الروم، والعربي إذا أتى إيوان كسرى يقف على بعد خمسة عشر متراً منه، وكان يعتبر ذلك فخراً أبد الدهر.. فـالمغيرة بن شعبة رضي الله عنه وأرضاه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان في جاهليته يفخر على غيره بأنه دخل إيوان كسرى، فهذا يشبه عندما تأتي بشاب من دولة نامية ليقابل رئيس دولة عظمى.

وكان الفرس يتصدقون على العرب بالقمح من شدة المجاعات التي كانت تقع في أرض العرب؛ لذا لما ذهبت الجيوش الإسلامية لفتح فارس تعجب كسرى من العرب، كيف أتوا كي يفتحوا بلاده بينما هو يرى أنه من مضيعة الوقت أن يحاربهم؟ وقال: أنا أعرض عليكم عرضاً مغرياً جداً -في نظره-، سأعطي ثوباً لكل جندي ودرهم. هذا العرض الذي عرضه كسرى فارس على الجيوش الإسلامية، وأما القائد الإسلامي فسيغريه جداً ويعطيه ثوبين ومائة درهم.. كان هذا الرقم مهولاً جداً، وهذه كانت نظرة كسرى فارس ودولة فارس كلها للعرب، وهذه النظرة كانت واقعية بالنسبة لتاريخ العرب وتاريخ فارس، وتذكروا معي مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه لما جيء به من غزوة أحد ليدفن لم يجدوا ما يغطونه به، فعلاً كان الصحابة بسطاء جداً؛ لذا فإن كسرى فارس يقول: أعطيكم ثوباً لكل جندي، وهو يرى أنه يسترهم به.

وحذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه لما ذهب ليأتي بخبر القوم في الأحزاب كان عليه ملابس زوجته؛ لأن الجو كان بارداً. هذا كان وضع الصحابة الذين فتحوا بلاد فارس الرهيبة وبلاد الروم الهائلة.

والعرب لما كشروا عن أنيابهم في الأحزاب بالكاد جمعوا عشرة آلاف، وهذا كان رقماً مهولاً عندهم، فكيف يمكن لهؤلاء أن يفكروا في غزو بلاد فارس، مع علمهم أن جيش فارس لا يقل عن اثنين مليون جندي! فجوة هائلة في التسليح والإعداد! بالإضافة إلى أن الحرب في عقر دار الفارسيين.. في وسط بلاد الفرس في العراق وإيران.. وغيرهما من البلاد على بعد مئات الأميال من المدد. حقاً إنها معجزة عسكرية بكل المقاييس!!

أين كان خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وأبو عبيدة بن الجراح والقعقاع بن عمرو التميمي والبراء بن مالك وأبو موسى الأشعري والزبير بن العوام ومحمد بن مسلمة والمقداد بن عمرو ؟ الكوادر العظام في الإسلام أين كانوا قبل الإسلام؟ أين كان هؤلاء العباقرة العسكريون قبل إسلامهم؟

خالد بن الوليد في أُحد أمام خمسين من الرماة وهو في ثلاثة آلاف لم يحرك ساكناً، لولا خطأ الرماة بترك الجبل فيما بعد وخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلوا من فوق الجبل، هذا هو خالد ، ما الذي جعله يدخل بلاد فارس بثمانية عشر ألف جندي مسلم ويكسر بهم مائة وعشرين ألفاً ولا يغلب في موقعة؟ كيف ينتصر المسلمون باثنين وثلاثين ألفاً في القادسية على ربع مليون فارسي؟ كيف ينتصر المسلمون بتسعة وثلاثين ألفاً على مائتي ألف رومي في اليرموك؟ كيف فتحوا بلاد الأندلس باثني عشر ألفاً وأمامهم مائة ألف إسباني صليبي في عقر دار الأسبان؟ ألغاز لا يمكن أن تفهم إلا بحقيقة واحدة لا ثاني لها: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17].

لو نزلت الرسالة في بلد له تاريخ عسكري طويل وعظيم ومنظم لاعتقد الناس أن الفتوح كانت بسبب قوة الجيوش وأعدادها وتسليحها وخططها، ما الإعجاز في أن تفتح جيوش فارس الدنيا بأسرها؟ ما الإعجاز في أن تفعل ذلك جيوش الرومان الهائلة؟ لكن أن تنزل الرسالة في مكة فيحدث هذا الانقلاب الهائل في العالم، وتتغير خارطة الأرض تغيراً جذرياً في سنوات معدودة، هذا هو الإعجاز بعينه.

القاعدة التي نأخذها من هذا الكلام: أن الله عز وجل دائماً ينصر القلة المؤمنة على الكثرة المشركة. ونحن هنا لا ندعو المسلمين إلى تقليل أعدادهم، أو إضعاف قوتهم، بل على العكس هم مطالبون بإعداد ما استطاعوا من قوة، ونقول: إن من سنن الله عز وجل أن يجعل أهل الباطل دائماً كثرة: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]، ثم هو ينصر المسلمين الثابتين على دينه المتمسكين بشرعه على الكثرة المشركة فتظهر المعجزة، ويوقن الجميع أن النصر من عند الله عز وجل وليس لسبب آخر.

إذاً: نخرج بقاعدة هامة، وهي: أن الجيل الذي يحمل الأمانة لا بد أن يدرك أن النصر بيد الله عز وجل، وأن القلة المؤمنة تغلب الكثرة المشركة بإذن الله عز وجل، وتذكروا قوله تعالى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249].

الاستفادة من تعدد موازين القوى وعدم وجود حكم مركزي أو دكتاتوري في مكة

الحكمة الثالثة من وراء نزول الرسالة في أرض مكة وجزيرة العرب: نظام الحكم في أرض مكة.

لم يكن الحكم في مكة حكماً مركزياً، ولم يكن في مكة ثمة حاكم معين، بل مجلس يضم عشرة أشخاص يمثلون عشر قبائل، حكم ائتلافي يشبه الحكم الديمقراطي، وقد أفادت كثرة موازين القوى في مكة الدعوة، ووجدت إضافة إلى ذلك بعض القوانين الوضعية في أرض مكة استفاد منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون أن يتنازل عن شيء من دينه ولا من عقيدته، ليعلمنا أن المسلم الذكي الواعي الفاهم يستطيع أن يستفيد من هذه القوانين طالما يحافظ على دينه.

وهذا يرد على كثير من غير الفاهمين لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقولون: إننا لا نحتكم مطلقاً لقانون وضعي، لكن هذا الكلام ليس بصحيح على إطلاقه، فنحن لا نحتكم إلى قانون وضعي إذا تعارض مع شرع الله عز وجل، ونستفيد مما ليس له تعارض بالشرع.

فقانون الجوار كان في مكة، ولو كان الحكم مركزياً مثل فارس أو الروم ما تمت هذه الإجارة، والرسول عليه الصلاة والسلام استفاد من هذا القانون، ودخل في جوار المطعم بن عدي المشرك؛ لكي يحميه من أهل مكة، ودخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه في جوار ابن الدغنة المشرك، ودخل عثمان بن مظعون رضي الله عنه في جوار الوليد بن المغيرة المشرك. هكذا استفادوا من قانون الجوار الوضعي في مكة، لكن بدون تفريط في العقيدة أو الدين.

كذلك هناك قانون قبلي أيضاً كان في مكة استفاد منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حماية بني هاشم له، وبالذات في أثناء حياة أبي طالب مع كون معظمهم على الشرك، أبو طالب بالذات كان مشركاً، وبقي إلى آخر لحظة من لحظات حياته مشركاً، ومع ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام قبل حمايته.

كذلك قانون الأحلاف، قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بفكرة الأحلاف مع المشركين، إذا كان الحلف يهدف إلى أمر نبيل ولا يتعارض مع الدين الإسلامي، يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (شهدت وأنا غلام -أي: قبل البعثة- حلفاً مع عمومتي المطيبين) كان حلفاً بين بني هاشم وبني تيم وزهرة على نصرة المظلوم. يقول: (فما أحب أن لي به حمر النعم وأني نكثته، ولو دعيت به اليوم في الإسلام لأجبت).

وأكثر من هذا ما كان في صلح الحديبية، فقد حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيلة خزاعة وكانت مشركة. وكان للمسلمين دولة وكيان معروف وقوي.

ووقع صلى الله عليه وسلم معاهدة مع قريش، وبهذه المعاهدة حالف خزاعة ووضع يده في يدها، وما تنازل عن أي قانون إسلامي أو أي عرف إسلامي، لكنه تعاون مع خزاعة ضد قريش.

إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم استفاد من تعدد موازين القوى، ومن قوانين المجتمع الوضعية ما دامت لا تتعارض مع الدين والشرع والعقيدة.

وهذه الحكمة ما كانت لتظهر لو نزلت الرسالة في بلد فيه حكم ديكتاتوري مثل: فارس أو الروم أو غيرهما من الممالك الموجودة في ذلك الوقت.

إتقان أهل الجزيرة العربية والدعاة للغة العربية لغة القرآن

الحكمة الرابعة من نزول الرسالة في جزيرة العرب: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحدث اللغة العربية، وهي أشرف اللغات، وبها نزل القرآن الكريم، وهي لغة أهل الجنة، والقرآن كلام الله عز وجل، ولم ينزله الله عز وجل بهذه اللغة لأهل الجزيرة فقط، بل للعالم كله: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد زمانه وإلى يوم القيامة.

وقد نزل القرآن بهذه اللغة في وقت كانت فيه لغات كثيرة موجودة في الأرض، واستحدث غيرها من اللغات على مر التاريخ، وستكون لغات أخرى إلى يوم القيامة، ومع ذلك أراد الله عز وجل لهذا القرآن وهذا المنهج أن يكون باللغة العربية؛ لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى.

وهو سبحانه وتعالى يعلم أن اللغة العربية قد تكون أقل انتشاراً من غيرها من اللغات في زمان من الأزمان، مثل زماننا هذا فإن اللغة العربية أقل انتشاراً من الإنجليزية أو الصينية أو الفرنسية، ومع علم الله عز وجل بذلك الأمر إلا أنه أنزل القرآن باللغة العربية، لحكمة كاملة لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى، وأنا في اعتقادي أن سبب ذلك هو أن اللغة العربية أثرى لغة، فالشيء الواحد له أكثر من اسم في هذه اللغة العظيمة، فلك أن تعبر عنه بعشرات الكلمات، فمثلاً: العسل له ثمانين اسماً، والثعلب له مائتا اسم، والأسد له خمسمائة، والجمل له ألف، والسيف له ألف، والداهية لما توصف واحداً بأنه داهية في أربع أو ثلاث كلمات تفسر معنى الداهية، شيء مهول لا يتخيله عقل، هذه هي اللغة العربية.

وأيضاً الكلمة الواحدة في اللغة العربية تكون بنفس الحروف، إلا أن تغيير حركات التشكيل يعطيها أكثر من معنى، كل هذا أعطى اللغة إمكانيات هائلة، تنزل الآية بكلمات قليلة محدودة ومع ذلك تحمل من المعاني ما يصعب حصره.

كلما نظر المفسر في الآية استخرج منها معاني جديدة مختلفة عن التي استخرجها غيره، قد ينظر المفسر الواحد في الآية أكثر من مرة، وفي كل مرة يخرج بمعنى جديد، وتمر الأزمان والأزمان ثم يأتي مفسرون آخرون ليستخرجوا معاني جديدة.

وصدق علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه عندما وصف القرآن بأنه لا يخلق من كثرة الرد، أي: لا يبلى من كثرة الترديد والقراءة.

أيضاً كلمات الرسول صلى الله عليه وسلم كانت باللغة العربية، وآتاه الله عز وجل جوامع الكلم، كان يقول الحديث في كلمات قليلة جداً، فإذا به يحوي أحكاماً لا تنتهي.

فإذا كان ربنا سبحانه وتعالى اختار أن القرآن ينزل باللغة العربية فيلزم الناس أن يتكلموا العربية، بل ووصلوا فيها إلى أعظم درجات الإعجاز البشري، إتقان عجيب جداً للغة، يتصرفون فيها كما يريدون، وأصبحت ألسنتهم سهلة لينة طيعة بها.

وكان أمر الشعر عند العرب عجيباً، فالمعلقات الهائلة التي كانت تعلق على الكعبة من الشعر، فالشعر يقال في كل الظروف، الفرحان يقول الشعر، والحزين يقول الشعر، ويقال في السلم، وفي الحرب، حتى قبل الموت والسيف على رقبة الشخص وهو يقول الشعر؛ لأنه كان على لسانه مثل الكلام عندنا.

كذلك المعارضة بالشعر تأليف فوري، واحد يقول بيت شعر والثاني يرد عليه ببيت على نفس الوزن والقافية وفي نفس اللحظة، ولا يفكر كثيراً، هذه كانت كفاءتهم بالنسبة للغة العربية.

إذاً: من عوامل نجاح الدعوة الإسلامية في الجزيرة العربية، إتقان أهل هذه البقاع اللغة العربية، لماذا إتقان اللغة العربية كان سبباً في نجاح الدعوة؟

أولاً: كان أدعى لإيمان الناس بكلام الله عز وجل وبإدراك الإعجاز الإلهي في كل آية وفي كل سورة، يقول الله سبحانه وتعالى: وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ [الشعراء:198-199].

فالعرب المتقنون للغة أدركوا منذ أول لحظة سمعوا فيها القرآن أن هذا الكلام معجز، لذا لم ينتقدوا آية واحدة من آيات القرآن الكريم، ولم يعارضوا القرآن بمثله أبداً، وما اجتمعوا لكي يعارضوا القرآن الكريم، لم يجتمع شعراؤهم وأدباؤهم وحكماؤهم ليؤلفوا آية واحدة مع تحدي القرآن لهم.

فالقرآن يتحداهم أن يأتوا بسورة أو عشر سور أو بمثل القرآن كله وهم لا يستطيعون، كرجل تقول له: اذهب وخذ هذا البيت، وهو يذهب أصلاً ولا يحاول؛ لأن هذا شيء بالنسبة له معجزة، نعم، أنا قوي وأقدر على أخذ كذا أو كذا أو كذا، لكن ذلك البيت مستحيل، هم كانوا هكذا بالضبط، يعلمون أن القرآن الكريم، وهذه الكلمات والآيات والسور من المستحيل أن تعارض.

فمعرفة العربية كانت أدعى لفهم الإعجاز العجيب في كتاب الله عز وجل.

وهذا الأمر ليس مقصوراً فقط على الإعجاز اللغوي، بل حتى أي نوع من أنواع الإعجاز في القرآن الكريم يحتاج إلى فهم دقيق للغة، بل حتى الإعجاز العلمي الذي نستخرجه من القرآن الكريم لابد له من فقه للغة، ومعرفة معنى الكلمات، ومعنى الآيات، والمقصود من وراء كل كلمة.

ثم أيضاً لابد أن تعلم أن الذي يقرأ ترجمة القرآن يخفى عليه كثير من الإعجاز، ويدرك بوضوح قصور أي لغة على الوصول إلى ما وصلت إليه اللغة العربية، ويعرف أنه يجب عليه لكي يأخذ هذه الرسالة وهذه الأمانة أن يكون متقناً للغة العربية، معظماً لها، يربي عليها أولاده ومجتمعه، يحترمها ويقدرها ويدرسها دراسة متعمقة، كل هذا ضروري جداً لمن سيحمل هذا الكتاب.

فمثلاً: كيف ترجم قول الله عز وجل: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود:44]، تسعين في المائة أو أكثر من جمال الآية سيذهب عند الترجمة، وراجعوا الترجمات للقرآن الكريم بأي لغة.

كذلك الأمر بالنسبة للحديث الشريف، فمن لا يعرف اللغة العربية يصعب عليه أن يستمتع بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفهمه وينقله.

والرسول صلى الله عليه وسلم كان يكتفي كثيراً بقراءة القرآن على الناس فقط؛ لأنه يعلم أن هذا الكلام ليس من عند البشر، لذا يكتفي فقط بقراءة الآية، وقد حصل الكلام هذا مع كثير ممن أسلموا مثل الطفيل بن عمرو بن الدوسي ، وأسيد بن حضير ، وسعد بن معاذ وغيرهم، لكن في هذا الوقت للأسف الشديد أصبحت طوائف كثيرة جداً من المسلمين الذين قال الله عز وجل في حقهم: وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ [الشعراء:198-199] يسمعون آيات القرآن أو حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يفهمونه، وبحاجة دائماً إلى قاموس لمعرفة معنى كل كلمة، وسبب نزول كل آية، وكيف يمكن أن تتحرك بالقرآن وأنت لا تفهم معناه؟ وكيف يمكنك أن تقرأ القرآن أو الحديث الشريف على واحد لا يعرف معاني اللغة العربية، أو كالأعجمين وإن كان مسلماً عربياً.

انظر إلى ردة فعل بعض الصحابة لما سمعوا الآيات، فقد روى البخاري عن جبير بن مطعم رضي الله عنه -وكان مشركاً حينها- أنه قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ [الطور:35-37] كاد قلبي أن يطير فدخلت في الإسلام) فمجرد سماع الآيات يدخله في الإسلام، بل كان يحدث هذا الأثر عندما يتلى القرآن على الكفار؛ لأنهم يعلمون أنه الحق، ومع هذا لا يتبعونه لأسباب كثيرة جداً، سنأتي إن شاء الله إلى تفصيلاتها في الدروس القادمة، فهم يعلمون أنه كلام حق وإعجاز.

عتبة بن ربيعة ، الوليد بن المغيرة، وغيرهما كانوا يتأثرون بكلام الله عز وجل؛ لأنهم كانوا يفهمون معنى كل كلمة من كلمات الله عز وجل.

إذاً: من أهم عوامل نجاح الرسالة الإسلامية في هذا المكان: إتقان الدعاة والمدعوين للغة، ولذلك كان المحاربون للإسلام -الذين فقهوا هذه النقطة- يحاربون اللغة العربية ويضربونها في أعماقها، فهم يدركون أنه لو انتشرت اللغة العربية سيقع ما بعدها من الشر، فهذا أتاتورك لما بدأ في العلمنة التركية ألغى اللغة العربية.

والإنجليز لما أرادوا ضرب الأزهر والمدارس الدينية لم يلغوا هذه المدارس حتى لا يثور الناس عليهم، لكن أنشئوا مدارس علمانية بجانب الأزهر في كل مصر، وكانت اللغة الأساسية في هذه المدارس: الإنجليزية، ثم فتحوا لهم فرصة العمل في البلد بأجور أعلى من فرص العمل المتاحة لأبناء الأزهر والمدارس الدينية، مما دعا الناس إلى التوجه إلى هذه المدارس العلمانية التي باللغة الإنجليزية، بحثاً عن فرص عمل أفضل، وزهدوا في الأزهر وفي اللغة.

ثم هناك مأساة ضخمة جداً ستحصل لو ضعفت اللغة العربية عند المسلمين، سيفقد المسلمون التواصل بينهم لعدم وجود لغة مشتركة، فالأمة الإسلامية في هذا الوقت تتكلم عشرات اللغات، وكل قطر يتكلم بلغة، أليس عيباً أن يضطر المصري إلى الحديث بالإنجليزية مع الباكستاني للتفاهم وكلاهما مسلم؟ هذا هو الواقع الذي نعيشه، وفوق ذلك فإن داخل البلاد التي تتكلم العربية عشرات اللغات العامية، وسأقول اللغات لا اللهجات، كل كلمة أصبح لها بدائل لا تمت للغة العربية بصلة، أصبح من الصعب جداً على مسلمي قطر عربي أن يفهموا مسلمي قطر آخر إلا بقاموس أو بترجمة، وهذا شيء لا يقبله عقل مسلم!

والطامة الكبرى أن يظهر جيل يفتخر بأنه لا يحسن العربية، يفتخر الأب وتفتخر الأم أن الابن يتكلم الإنجليزية ولا يفقه شيئاً من العربية! وأنا لست ضد تعلم اللغات الأجنبية أبداً، بل أُحَبِبُ ذلك وبشدة، ولكن ليس على حساب اللغة العربية، أنا أريد أن أعلم أهل الأرض كلهم اللغة العربية، وأوصل اللغة العربية لكل بقعة على ظهر الأرض؛ ليفهموا القرآن وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كنت أنا غير قادر على هذا لوحدي فعلى الأقل أحافظ على اللغة العربية في أوساط المسلمين، ولابد أن يعلم المسلمون أن من أهم وسائل إعادة بناء الأمة الإسلامية الاهتمام باللغة العربية، وأن نهتم بأن نعلم اللغة العربية لغيرنا، ونجمل اللغة العربية في عيون أبنائنا.

إذاً: الجيل الذي يرجى على يده إصلاح شأن هذه الأمة هو جيل يتقن اللغة العربية ويعظمها، وليس هذا من منطلق قومي لا. (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) ولكن من منطلق أن من يتكلم العربية فهو عربي، ولو كان من عرق مختلف، إنما العربية اللسان، فالباكستاني الذي يتكلم العربية عربي، والإندونيسي الذي يتكلم العربية عربي، والأمريكي المسلم الذي يتكلم العربية عربي، وهكذا إنما العربية اللسان.

وجود بقايا من ملة إبراهيم في الجزيرة

الحكمة الخامسة من وراء نزول الرسالة في جزيرة العرب: أن أهل هذه البقعة من الأرض كانوا يؤمنون بالله سبحانه وتعالى، ويعلمون أنه الخالق، ولكنهم حكموا غيرهم في حياتهم، واتخذوهم إليه شفعاء، قال الله عز وجل في كتابه الكريم: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87].

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف:9].

ويقول: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].

الذي يؤمن بالله ولكن عنده اضطراب في فهمه وقصور في إدراكه أقرب من الذي يؤمن بإله آخر، أو لا يؤمن بوجود إله أصلاً، ما كان في وقت البعثة النبوية على الأرض من يفقه هذه الحقائق إلا القليل، كان هناك على ظهر الأرض من يعبد النار وبوذا ، والمسيح عليه السلام، وبقرة أو شجرة أو فأراً أو ... إلخ، كما هو واقع في الهند، لكن ربنا سبحانه وتعالى يعلمنا أن ندعو الأقرب فالأقرب، ندعو الذي يؤمن بوجود الله عز وجل قبل الذي ينكر وجوده، ندعو الذي يعظم الله عز وجل قبل الذي لا يعظمه، ندعو الذي يحب الدين ولكن لا يتبعه قبل الذي لا يحبه أصلاً.

ولست ضد دعوة اليهود والنصارى وأهل الأرض أجمعين، بل بالعكس، ولكن نبدأ بالأقرب فالأقرب، يعني: لا تترك جارك في السكن أو العمل أو النادي.. أو غيره دون دعوة وهو مسلم، وتتجه إلى دعوة غيره من غير المسلمين، لكن لو انتهيت من الدائرة التي حولك انتقل إلى الدائرة التي تليها، ولما تنتقل إلى الدائرة التي تليها ابحث عمن يحبون الإسلام، فهؤلاء أقرب إلى الدعوة من المعادين لدين الله عز وجل.

صفات خلقية أهلت العرب لحمل رسالة الإسلام

الحكمة السادسة من نزول الرسالة في جزيرة العرب مع كل ما سبق من أجواء أخلاقية وأمراض اجتماعية في جزيرة العرب إلا أن المجتمع كان يتصف بصفات أصلية في فطرة ساكني هذه المنطقة، تساعد على حمل الدعوة ونشر الإسلام، نعم، كان عندهم ظلم وقهر لكن، كان عندهم صفات جبلوا عليها، وهذه الصفات لا بد أن تكون في كل داعية، ولولا هذه الصفات لما استطاعوا حمل رسالة الإسلام.

من هذه الصفات على سبيل المثال: الصدق، وهي أهم صفة مميزة للداعية، فالرسول صلى الله عليه وسلم أهم صفة كانت مميزة له الصدق، فهو الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، وأكثر من ساعد الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، اسمه: الصديق، فصفة الصدق صفة أساسية في الذي يحمل هم هذا الدين.

وتفكر معي ماذا لو أنزلت الرسالة في بيئة من البيئات الكذب منتشر فيها؟ انظروا إلى فعل اليهود والنصارى بدينهم، يقول الله عنهم: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:78] والإسلام يحول الكذاب إلى صادق، لكن ليس بالصورة التي فطر فيها الإنسان على الصدق.

فقد كان العرب يأنفون من الكذب، فيأتي الإسلام بعد ذلك ليحسن ويجمل ويعظم قيمة الصدق عند هؤلاء الصادقين، فيربط الأمر بالجنة، والصديقية عند الله سبحانه وتعالى.

فهذا أبو سفيان لما كان يتحدث مع هرقل عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا بعد صلح الحديبية، وكان لا يزال مشركاً يحارب الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك قال أبو سفيان: كنت أنا أقربهم نسباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال هرقل: أدنوه مني -أي قربوه- ثم قال: قربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا عن النبي فإن كذبني فكذبوه، وبدأ يسأله ووضع أصحاب أبي سفيان وراءه، قال أبو سفيان : فوالله لولا الحياء أن يؤثروا علي كذباً لكذبت عمداً. هو يكرهه جداً، لكن يستحي أن يكذب؛ لأنه رذيلة.

وفي لفظ آخر يقول: فوالله لو كذبت ما ردوا علي -لأنه سيد القوم- ولكني كنت امرأً أتكرم عن الكذب.

وكان الحوار الذي دار بينه وبين هرقل حواراً عجيباً، كأنه داعية يتكلم عن الإسلام، ويدعو إليه.

يقول له هرقل: كيف نسبه فيكم؟ يقول: هو فينا ذو نسب. فيقول له: فهل قال هذا القول منكم أحد قبله قط؟ قلت: لا، قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا، قال: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم، قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا، قال: فهل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما يقول؟ قلت: لا، قال هرقل : فهل يغدر؟ قلت: لا. ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، قال أبو سفيان : ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة، يعني: قوله: نحن في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، لاحتمال أن يغدر بنا، لكن هو قال: لم يغدر قبل ذلك، قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا -مثل بدر- وننال منه -مثل أحد-. قال: بماذا يأمركم؟ قال: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصدق والعفاف والصلة.

لم يكذب، وكل الذي قاله الرسول عليه الصلاة والسلام في حياته لخصه لـهرقل؛ لأنه يكره الكذب.

فلما تنزل الرسالة على أناس بهذا التكريم لصفة الصدق سوف يتحركون بالرسالة بأمانة ويقولونها للناس مثلما نزلت عليهم بالضبط.

إذاً: هذه كانت صفة هامة في أهل الجزيرة العربية، ولم تكن موجودة في أهل الأرض في ذلك الزمن.

الصفة الثانية العظيمة في العرب لما نزلت فيهم الرسالة: صفة الكرم، وهي صفة أصيلة في العرب، كان حاتم الطائي يضرب به المثل في الكرم، وكان يعتق العبد إذا جاءه بضيف؛ لأنه يحب الكرم.

ومن العرب من لم تكن له إلا ناقة واحدة فيأتي له ضيف فيذبحها له كرماً منه، لدرجة أن العرب سموا العنب: كرماً؛ لأنهم يصنعون منه الخمر، ولما يشرب الرجل منهم الخمر ينفق بلا حساب، فمن حبهم الكرم سموا الخمر التي تؤدي إلى الإنفاق بدون حساب: كرماً.

فجاء الإسلام ليهذب هذه الصفة النبيلة، فلا يصل الأمر إلى حد الإسراف والسفه، وأيضاً لا يصل إلى حب الخمر؛ لأنها تدفع إلى الكرم، لكن حرم الله عز وجل الخمر، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تسمية العنب بالكرم، وقال: (إنما الكرم المؤمن).

تخيل أن الإسلام نزل ليقنن الكرم ويدخله في حدود المعقول.

وفي ماذا نحتاج نحن الكرم في إنشاء الأمة الإسلامية؟ إن الله سبحانه وتعالى لما تكلم عن الناس التي ستأخذ هذه المسئولية نص على الجهاد بالمال، فقال: الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [التوبة:20]، فجعل المال نصف الجهاد، وكثير من آيات القرآن الكريم جاءت على هذا المنوال، يقدم الله عز وجل الجهاد بالمال حتى على الجهاد بالنفس، وهذا أمر تحتاج الناس كلها إليه.

فهذا أبو بكر الصديق الكريم رضي الله عنه وأرضاه أنفق الأموال الكثيرة في إعتاق العبيد، وتجهيز الجيوش، والإنفاق على الهجرة.

وكذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه جهز جيش تبوك كله، واشترى بئر رومة، وقام بتوسعة المسجد النبوي.

وفي زمن القحط تصدق عبد الرحمن بن عوف بقافلة تجارية كاملة أكثر من سبعمائة ناقة داخل المدينة المنورة في سبيل الله.

وطلحة بن عبيد الله أنفق سبعمائة ألف درهم في يوم واحد على الفقراء.

وما كان ليتحقق لو كان المسلمون فيهم بخل.

إذاً: الكرم شيء هام جداً لبناء الأمة الإسلامية، والرجل الذي يتصف بالبخل من الصعب أن يصل إلى هذه الدرجات من الإنفاق، فبناء الأمم يحتاج إلى كرم وبذل وإنفاق.

صفة ثالثة كانت موجودة في العرب: الشجاعة، كان العرب قبل الإسلام يفتخرون بالموت قتلاً، ويستهينون بالحياة تماماً، ليس عنده أي مانع أنه يفقد حياته كلها وفاء لكلمته، أو دفاعاً عن صديقه، أو حماية لجواره.

قال أحدهم لما بلغه قتل أخيه: إن يقتل فقد قتل أبوه وأخوه وعمه، إنا والله لا نموت حتفاً على الفراش، ولكن قطعاً بأطراف الرماح، وموتاً تحت ظلال السيوف.

إذا كنا قد ذكرنا منذ قليل أن نصف الجهاد بالمال فالنصف الآخر بالروح وهذا أشق؛ لأن بناء الأمم كما يحتاج إلى أموال وكرم يحتاج إلى أرواح وهمم، والجبان قد يقتنع بقضية المال ولكنه لا يقوى قلبه أبداً على الإقدام عليه.

أما العرب فقد كانت شجاعتهم فطرية، وهذا ساعد الأمة الإسلامية أن تنشأ وتنمو بسرعة في هذه البيئة، فـخالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه كان يبدأ المعارك بنفسه، ويقول: إذا رأيتموني حملت على العدو فاحملوا، أول علامة وأول إشارة للقتال أن يبدأ القائد بالتحرك، مع أنه يمكنه أن يقف وراءهم، لكنه لا يخاف الموت.

والبراء بن مالك رضي الله عنه وأرضاه ألقاه جيش المسلمين في موقعة اليمامة داخل حديقة الموت، التي كان فيها مسيلمة الكذاب ومعه أربعون ألفاً من المرتدين؛ حتى يفتح لهم الباب من الداخل، لم ير لقضية الحياة أهمية، فقد جاء الإسلام ليحسن ويجمل من هذه الصفة ويجعلها في سبيل الله، تموت لتدخل الجنة، لتصير شهيداً في سبيل الله، لكن الجبان يصعب عليك أن تزرع فيه هذه المعاني.

إذاً: صفة الشجاعة كانت صفة في غاية الأهمية لبناء الأمة الإسلامية.

صفة أخرى كانت موجودة أيضاً في العرب: وهي صفة العزة. فالعربي بفطرته يأبى أن يعيش ذليلاً، يأنف من الذل، يرفض الضيق، يعشق الحرية، فهذا عنترة -وقد مات كافراً قبل الإسلام- يقول:

لا تسقني ماء الحياة بذلة بل فاسقني بالعز كأس الحنظل

أي: لا أريد أن أعيش أبد الآبدين ذليلاً، لكن أشرب الحنظل وأموت عزيزاً.

ثم يقول:

ماء الحياة بذلة كجهنم وجهنم بالعز أطيب منزل

لم يكن عنترة يؤمن بجهنم؛ لأنه لا يعلم بالبعث أصلاً، فقد كان كافراً قبل الرسالة، لكن يقصد بجهنم النار الشديدة، يعني، أموت وسط النار الشديدة مرفوع الرأس أحب إلي من أن أعيش ذليلاً خارجها.

هذا كان موقف العرب من العزة، والعزة شيء تحتاجه الأمة الإسلامية أشد الاحتياج، ولا شك أن الأمة التي تنشأ على هذه الروح وهذه العزة لا بد أن تسود وأن تقود.

يأتي الدين الإسلامي ليوجه هذه العزة لله عز وجل: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا [فاطر:10] ولهذا كان قبول المسلمين في فترة مكة لفكرة عدم القتال، وعدم رفع الظلم الذي وقع عليهم، أصعب وأشق من قبول فكرة الجهاد في سبيل الله، وبذل الروح بعد ذلك لما ذهبوا إلى المدينة المنورة؛ لأنهم تعودوا على رفع الرأس. وهذه صفة لا تنفك عن أولئك الذين يحملون أمانة إقامة هذه الأمة.

صفة أخرى أيضاً في العرب: وهي الصبر وقوة التحمل. اكتسب العرب هذه الصفة من طبيعة البلاد التي يعيشون فيها، فهم يعيشون في بلاد جافة، وظروف المعيشة عندهم صعبة قاسية، كانوا بصفة عامة أبعد الناس عن الترف، فكانت هذه الصفة من الصفات العظيمة التي كفلت للدعوة النجاح، كان لا بد من الصبر لتحمل مشاق الرسالة الضخمة، صبر على الفقر ولمدة طويلة، صبر على الجوع؛ لأن الجهاد يحتاج لذلك، يقيم الواحد صلبه بتمرات قليلة، صبر على المشقة والحر والتعب والسفر الطويل والحصار الأطول، صبر على القتال والنزال والجهاد، صبر حتى على تأخر النصر، لا يستعجل، لا يمل، لا يضجر، من كانت هذه صفته وكان بعيداً عن الترف كان دعامة راسخة للأمة الإسلامية.

إذاً: كانت هناك حكمة عظيمة جداً في اختيار هذا المكان دون غيره حتى تنزل فيه الرسالة وتنشأ فيه الأمة. هناك صفات خاصة جداً تمتع بها هذا المكان، وصفات تمتع بها ساكني هذا المكان، ولو تكررت هذه الصفات في زمن من الأزمان، فستقوم الأمة من جديد بنفس الطريقة وبنفس النجاح إن شاء الله.

هذا تلخيص القواعد الهامة لبناء الأمة الإسلامية، وهي عشر قواعد:

القاعدة الأولى: لابد أن تحافظ الأمة على نقاء رسالتها ووحدة مصدرها، وعدم خلط القرآن والسنة بالمناهج الأخرى.

القاعدة الثانية: اعتقاد أن النصر من عند الله عز وجل، وقد جرت سنة الله عز وجل أن ينصر القلة المؤمنة على الكثرة المشركة.

القاعدة الثالثة: على المسلمين أن يستفيدوا من كل قانون موضوع، ما لم يكن هناك تعارض مع الشرع والعقيدة الصحيحة، فإن حدث التعارض يقدم كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

القاعدة الرابعة: الجيل الذي يستطيع أن يبني هذه الأمة هو جيل يتقن اللغة العربية ويعظمها ويتعلم اللغات الأخرى، ولكن لا يقدمها على لغة القرآن.

القاعدة الخامسة: ابدأ بدعوة الأقرب فالأقرب، وأقرب الناس إلى الاستجابة هم المسلمون أنفسهم، جيرانك، أصحابك فابدأ بهم.

القاعدة السادسة: لا تقوم الأمم إلا على أكتاف الصادقين.

القاعدة السابعة: ابدأ بالكريم فإنه أقدر على حمل الدعوة.

القاعدة الثامنة: الجبان قد يقتنع بقضية المال ولكن قلبه لا يقوى على الدفاع عنه، فعليك بالشجاع.

القاعدة التاسعة: لا يحرص على قيام الأمة إلا عزيز النفس، ومن كان يرضى بالذل قَبِلَ أن يكون في ذيل الأمم.

القاعدة العاشرة: الترف مهلكة، والمعتمد على المترفين كالذي يبني قصراً من الرمال، فابحث عمن كان الصبر صفته، وعمن كانت المجاهدة حياته.

كانت هذه هي القاعدة الأخيرة المستخرجة، وتلك عشر كاملة.

أسأل الله عز وجل أن ينفعني وينفعكم بها، وأن ينير طريقنا بمنهج القرآن، وبهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم.

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44]، وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة السيرة النبوية من هنا بدأ الإسلام للشيخ : راغب السرجاني

https://audio.islamweb.net