إسلام ويب

اختلف أهل العلم في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء والمعراج فمنهم من قال: إنه رآه بعين رأسه، ومنهم من قال: إنه لم يره، وحمل أدلة القائلين بأنه رآه بقلبه لا بعينه، وهذا القول هو الصواب جمعاً بين الأدلة، والله أعلم.

خلاف العلماء في عدد مرات الإسراء والمعراج وكيفيته

قال الحافظ رحمه الله: [ وأجمع القائلون بالأخبار والمؤمنون بالآثار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسري به إلى فوق سبع سموات ثم إلى سدرة المنتهى، أسري به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مسجد بيت المقدس، ثم عرج به إلى السماء بجسده وروحه جميعاً، ثم عاد من ليلته إلى مكة قبل الصبح، ومن قال: إن الإسراء في ليلة والمعراج في ليلة فقد غلط، ومن قال: إنه منام، وأنه لم يسر بجسده فقد كفر. قال الله عز وجل: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1].

وروى قصة الإسراء عن النبي صلى الله عليه وسلم أبو ذر وأنس بن مالك ومالك بن صعصعة وجابر بن عبد الله وشداد بن أوس وغيرهم.

كلها صحاح مقبولة مرضية عند أهل النقل مخرجة في الصحاح ].

انتقل المؤلف رحمه الله من الكلام على القضاء والقدر إلى مبحث الإسراء والمعراج.

والإسراء معناه في اللغة: السفر ليلاً.

وشرعاً: هو الإسراء بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أو السفر ليلاً بنبينا صلى الله عليه وسلم على البراق صحبة جبرائيل من مكة إلى بيت المقدس.

وأما المعراج: فهو مفعال من العروج، وهو صعود نبينا صلى الله عليه وسلم ليلاً من بيت المقدس إلى السماء بصحبة جبرائيل، والمعراج آلة كالسلم صعد صلى الله عليه وسلم عليها ومعه جبرائيل حتى وصل إلى السماء ودخل السموات، وانتقل من سماء إلى سماء؛ حتى وصل إلى سدرة المنتهى.

يقول المؤلف رحمه الله: وأجمع القائلون بالأخبار والمؤمنون بالآثار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسري إلى فوق سبع سموات ثم إلى سدرة المنتهى، أسري به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مسجد بيت المقدس، ثم عرج به إلى السماء. والمؤلف هنا رحمه الله أدمج الإسراء في المعراج، وأن رسول صلى الله عليه وسلم أسري به إلى فوق، فهو أسري به أولاً من مكة إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى فوق، فأدمج المؤلف رحمه الله الإسراء بالمعراج، وقال: أسري به إلى فوق، وهو أسري به أولاً من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى فوق سبع سموات، ثم إلى سدرة المنتهى.

ثم عاد المؤلف رحمه الله فقال: أسري به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وهو مسجد بيت المقدس، ثم عرج به، ثم عرج به إلى السماء بجسده وروحه جميعاً، ثم عاد من ليلته قبل الصبح. وهذا هو الصواب التي تدل عليه النصوص، والذي أجمع عليه أهل السنة والجماعة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أسري به في الليل من مكة إلى بيت المقدس، والله تعالى بين ذلك في القرآن العظيم، قال سبحانه: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1] ومن أنكر الإسراء فقد كفر؛ لأنه مكذب لله، ومن كذب الله كفر، إلا إذا لم يعلم بحيث كان مثله يجهل هذا، فهذا يبين له النص، وأن الله أخبر في القرآن أن الله أسرى بنبيه صلى الله عليه وسلم ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فإن أصر كفر؛ لأنه كذب الله، ومن كذب الله كفر.

وأما المعراج؛ فإنه جاء في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وهي في الصحاح وفي غيرها، والإسراء والمعراج كما ذكر المؤلف رحمه الله في ليلة واحدة، وهذا هو الصواب، فقد أسري به أولاً من مكة إلى بيت المقدس، وجمع له الأنبياء هناك وصلى بهم إماماً قدمه جبرائيل فظهر فضله عليه الصلاة والسلام، ثم عرج به إلى السماء.

وقال بعض العلماء: إن الإسراء في ليلة والمعراج في ليلة، وهذا قول ضعيف.

والصواب: أن الإسراء والمعراج بجسده وروحه يقظة لا مناماً، مرة واحدة، هذا هو الصواب الذي تدل عليه النصوص، ومن أقوى الأدلة قول الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء:1] ووجه الدلالة: أن العبد اسم لمجموع الروح والجسد، فالصواب أن الإسراء والمعراج في ليلة واحدة، وأنه أسري به عليه الصلاة والسلام بجسده وروحه مرة واحدة.

وقال آخرون من أهل العلم: إن الإسراء كان بروحه دون جسده، وهذا مروي عن عائشة ومعاوية رضي الله عنهم.

وقال آخرون من أهل العلم: إن الإسراء كان مناماً.

وقال آخرون من أهل العلم: إن الإسراء كان مراراً، مرة يقظة ومرة مناماً.

وقال آخرون: أن الإسراء كان مراراً، مرة قبل الوحي ومرة بعده.

وهذه كلها أقوال ضعيفة، والصواب القول الأول: وهو أن الإسراء والمعراج في ليلة واحدة، وأن الإسراء والمعراج كان بروحه وجسده عليه الصلاة والسلام، وأنه كان يقظة لا مناماً، وأنه كان مرة واحدة لم يتعدد، وهناك فرق بين من قال: إن الإسراء كان مناماً، ومن قال: إن الإسراء كان بروحه.

فالقائلون: إن الإسراء كان بروحه، قالوا: إن الروح هي التي عرج بها وجسده باق عليه الصلاة والسلام، ولكن عرج بروحه، وهذا الاستقلال بالروح من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فإن غيره لا تنال روحه الاستقلالية.

وأما الذين قالوا: إن الإسراء كان مناماً، فقالوا: إن الروح والجسد لم يعرج بهما، فالروح والجسد باقيان في مكة، ولكن الملك ضرب الأمثال للنبي صلى الله عليه وسلم فتكون الصورة المعلومة في صورة تأخذ شكل الصورة المحسوسة، ومنام الأنبياء وحي كما قال الله تعالى عن نبيه إبراهيم أنه قال لابنه: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات:102].

والذين قالوا: إن الإسراء كان مناماً استدلوا بحديث شريك بن أبي نمر في الصحيحين وفي غيرهما وفي بعض ألفاظه أنه قال لما ذكر قصة الإسراء والمعراج: (ثم استيقظت وأنا في المسجد الحرام).

استدلوا بهذه اللفظة: (ثم استيقظت). قالوا: إن الإسراء كان مناماً، ولكن شريك بن أبي نمر غلطه الحفاظ في ألفاظه من حديث الإسراء، ولهذا لما روى الإمام مسلم رحمه الله الحديث الشريف قال بعده: فزاد ونقص وقدم وأخر، يعني: شريك بن أبي نمر فهو له أغلاط وأوهام، وإن كان الحديث في الصحيحين، لكن هذه أغلاط وأوهام في بعض الألفاظ، وفي بعضها :(وكان ذلك قبل الوحي) وهذه من أغلاطه أيضاً، والصواب أن الإسراء والمعراج بعد الوحي وبعد النبوة، وكان في مكة قبل الهجرة بسنة أو بسنتين أو بثلاث على خلاف. فهذه أقوال:

قيل: إن الإسراء والمعراج في ليلتين.

وقيل: إن الإسراء كان بروحه دون جسده.

وقيل: إن الإسراء كان مناماً.

وقيل: إن الإسراء كان مراراً: مرة يقظة، ومرة مناماً، وهذا يفعله بعض ضعفاء الحديث، كل ما اشتبه عليهم لفظ زادوا مرة، قال بعضهم: مرتين، وبعضهم قال: ثلاث مرات، والصواب الذي عليه المحققون وتدل عليه النصوص أن الإسراء والمعراج مرة واحدة، في ليلة واحدة يقظة لا مناماً بروحه وجسده؛ لقول الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1] والعبد: اسم لمجموع الروح والجسد، وأنه عاد عليه الصلاة والسلام إلى مكة قبل الصبح وحدث الناس بذلك، وارتد قوم ممن أسلم؛ لأن عقولهم لم تتحمل، وكذلك أيضاً لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم كفار قريش استعظموا هذا الأمر، وقالوا: يزعم محمد أنه ذهب إلى بيت المقدس في ليلة واحدة ونحن نضرب السفر إليها مدة شهر كامل، حتى سألوه عن عير لهم في الطريق مر عليها فأخبرهم متى تصل، ولما أخبر النبي بعض صناديد قريش قالوا: هل تقول هذا يا محمد إذا اجتمع الناس؟ قال: نعم. يستعظمون ذلك، ويريدون تكذيبه، ولما قالوا لـأبي بكر الصديق رضي الله عنه: إن صاحبك يزعم أنه ذهب إلى بيت المقدس وأنه ذهب إلى السموات، فقال أبو بكر رضي الله عنه: إن كان قال ذلك فقد صدق، ولذلك سمي الصديق.

فالمؤلف رحمه الله بين الصواب في هذه المسألة، قال: وأجمع القائلون بالأخبار والمؤمنون بالآثار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسري به، ثم قال: لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1] ثم عرج به إلى السماء بجسده وروحه جميعاً، وهذا هو الصواب.

يقول المؤلف: ومن قال: إن الإسراء كان في ليلة والمعراج في ليلة فقد غلط. وهذا صحيح، فقد غلط بعض العلماء وقالوا: إن الإسراء في ليلة والمعراج في ليلة، والصواب أنها في ليلة واحدة، ومن قال: إنه منام، وأنه لم يسر بجسده فقد كفر.

وهذا غريب من المؤلف رحمه الله، فإن من قال: إن الإسراء كان مناماً لا يكفر؛ لأن له شبهة وإن كان قوله ضعيفاً، فقد استدلوا ببعض ألفاظ الحديث الشريف وفيه أنه قال: (ثم استيقظت). فالقول بالتكفير في هذا ليس بصواب، والتكفير ليس أمره بالهين، ولم أر أحداً من العلماء كفر من قال: إن الإسراء كان مناماً، وإنما يقال هذا قول ضعيف، أو قول مرجوح، أو خلاف الصواب.

يقول المؤلف رحمه الله: وروى قصة الإسراء عن النبي صلى الله عليه وسلم أبو ذر وأنس بن مالك ومالك بن صعصعة وجابر بن عبد الله وشداد بن أوس وغيره.

يعني: إن أحاديث الإسراء جاءت في أحاديث عدة رواها عدد من الصحابة.

يقول المؤلف: كلها صحاح مقبولة مرضية عند أهل النقل مخرجة في الصحاح. وهذا كلام صحيح، فحديث الإسراء متفق عليه، فقد رواه البخاري في صحيحه، ورواه مسلم أيضاً في صحيحه، ورواه ابن قدامة في إثبات صفة العلو.

وقال ابن القيم رحمه الله: إن قصة الإسراء والمعراج متواترة. وقد أفرد بعض العلماء الإسراء والمعراج بتأليف خاص كـالسيوطي ، وجمع الحافظ ابن كثير رحمه الله طرق هذا الحديث في تفسيره في سورة الإسراء وفيها الصحيح والضعيف والحسن.

والبراق: هو الذي أسري به النبي صلى الله عليه وسلم، فدابة البراق دابة فوق الحمار ودون البغل، وسمي براق: لبريقه ولمعانه، فخطوه مد البصر، يعني: الخطوة التي يخطوها مد البصر، فهو أسرع من الطائرة، وقد وصل هذه المسافة في وقت وجيز، ثم كذلك العروج والصعود إلى السماوات بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، وغلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام، والسموات عليها حراس، فيستفتح جبرائيل ومعه النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون: (من هذا؟ فيقول: جبريل. فيقولون: ومن معك؟ فيقول: محمد، فيقول: وقد أرسل إليه -يعني: بعث- فيقول: نعم، قالوا: مرحباً به ولنعم المجيء جاء)، فدخل السماء الأولى فوجد فيها آدم أبا البشر فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ورحب به فقال: (مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح، ثم عرج به إلى السماء السادسة، وكل مرة يستفتح جبريل يقولون: من هذا؟ فيقول: جبريل. فيقولون: ومن معك؟ فيقول: محمد، فيقولون: وقد أرسل إليه؟ فيقول: نعم، فيقول: نعم المجيء جاء)، ووجد في السماء الثانية ابني الخالة عيسى ويحيى فرحبا به وأقرا بنبوته، وقال كل منهما: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح؛ لأنه أخاهم، أما آدم فقال: والابن الصالح.

(ثم عرج به إلى السماء الثالثة فوجد فيها إدريس فرحب به، وقال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح)، ولم يقل: والابن الصالح بالسلالة الأبوية، وبعض العلماء يقول: إن إدريس هو جد نوح، فيكون أباً للنبي صلى الله عليه وسلم.

والقول الثاني: أنه أخ وهذا هو الصواب، ومن أدلته حديث المعراج حيث لم يقل: الابن الصالح، وإنما قال: والأخ الصالح، فدل على أنه ليس من السلالة الأبوية.

(ثم عرج به إلى السماء الرابعة، فوجد فيها يوسف فرحب به وأقر بنبوته، وقال: مرحباً بالنبي الصالح، والأخ الصالح.

ثم عرج به إلى السماء الخامسة، فوجد فيها هارون فرحب به وأقر بنبوته وقال: (مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح).

ثم عرج به إلى السماء السادسة، فوجد فيها موسى، فقال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، فلما جاوزه بكى فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي)وإنما بكى عليه الصلاة والسلام تألماً على بني إسرائيل حيث تخلفوا ولم يبك حسداً، مع أن أتباعه كثيرون عليه الصلاة والسلام.

(ثم عرج به إلى السماء السابعة فوجد فيها إبراهيم عليه الصلاة والسلام فرحب به وأقر بنبوته، فقال: (مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح)؛ لأنه أبوه، ووجد إبراهيم قد أسند ظهره إلى البيت المعمور، والبيت المعمور كعبة سماوية تحاذي الكعبة الأرضية لو سقط لسقط عليها، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك للصلاة والطواف ثم لا يعودون إليه أبداً) وذلك من كثرة الملائكة فلا يصلهم الدور، ثم جاوز حتى وصل إلى سدرة المنتهى، ثم جاوز حتى وصل إلى مكان يسمع فيه صريف الأقلام، وهو مكان لم يصل إليه جبرائيل ولا غيره، ثم كلمه الله من وراء حجاب من فوق سبع سموات على الصحيح. ففرض الله عليه في اليوم والليلة خمسين صلاة، ثم لما مر على موسى في السماء السادسة وسأله أن يسأل ربه التخفيف، وقال: (إن أمتك ضعيفة لا تطيق خمسين صلاة في اليوم والليلة، وإني عانيت من بني إسرائيل أكثر من ذلك، فالتفت إلى جبريل كأنه يستشيره فأشار إليه أن نعم، فعلى به إلى الجبار جل جلاله وسأل ربه التخفيف فوضع عنه عشراً أو خمساً كما في بعض الأحاديث، وما زال يتردد بين ربه وبين موسى حتى صارت خمس صلوات، فأمره موسى في المرة الأخيرة أن يسأل التخفيف وقال: أمتك ضعيفة لا تطيق خمس صلوات اسأل ربك التخفيف، وإني عانيت من بني إسرائيل أكثر من ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني سألت ربي حتى استحيت، ولكن أرضى وأسلم، فنادى مناد من السماء أن أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي، فهي خمس في العدد، وهي خمسون في الأجر، ما يبدل القول لدي) خمس صلوات بخمسين في الأجر، الحسنة بعشر أمثالها، وكلمه الله بدون واسطة لكن من وراء حجاب، فلم يره على الصحيح كما سيأتي.

خلاف العلماء في رؤية النبي لربه ليلة المعراج

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل كما قال عز وجل: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى [النجم:13-14].

قال الإمام أحمد فيما رويناه عنه: وأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل، فإنه مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم صحيح رواه قتادة وعكرمة عن ابن عباس . ورواه الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس ، ورواه علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس ، والحديث على ظاهره كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم والكلام فيه بدعة، ولكن نؤمن به كما جاء على ظاهره ولا نناظر فيه أحداً.

وروي عن عكرمة عن ابن عباس قال: إن الله عز وجل اصطفى إبراهيم بالخلة، واصطفى موسى بالكلام، واصطفى محمد صلى الله عليه وسلم بالرؤية.

وروى عطاء عن ابن عباس قال: رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه مرتين.

وروي عن أحمد رحمه الله أنه قيل له: بم تجيب عن قول عائشة رضي الله عنه: من زعم أن محمداً قد رأى ربه عز وجل .. الحديث؟ قال: بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت ربي عز وجل) .

وفي حديث شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فرجعت إلى ربي وهو في مكانه) ، والحديث بطوله مخرج في الصحيحين، والمنكر لهذه اللفظة راد على الله ورسوله ].

هذا مبحث رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج، ولم يختلف العلماء أنه لم ير أحد ربه في الدنيا، فأهل الحق مجمعون على أنه لم ير أحد ربه في الدنيا، وأنه لا يستطيع أحد أن يرى ربه في الدنيا، ولما سأل موسى الرؤية: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا [الأعراف:143] فلا يستطيع أحد أن يرى الله في الدنيا؛ لأن الله احتجب عن خلقه بالنور ولو كشفه لاحترق الخلق كلهم، كما في الحديث الذي في صحيح مسلم : (لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).

ولا عبرة ببعض الصوفية الذين يزعمون أنه يمكن أن يرى الله في الدنيا، أو الصوفية الملاحدة الذين يزعمون أن الله موجود في الأرض في كل خضرة، لكن أجمعت الأمة قاطبة ما عدا هؤلاء على أنه لم ير أحد ربه في الدنيا ما عدا نبينا صلى الله عليه وسلم، وأجمعوا على أنه لم يره في الأرض، وإنما اختلفوا هل رآه ليلة المعراج فوق السموات، أو لم يره على قولين:

القول الأول: أنه رآه وهذا هو الذي اختاره المؤلف، ولهذا قال: وأنه رأى ربه عز وجل، فالحافظ عبد الغني يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين رأسه ليلة المعراج وهذا من خصائصه، وذهب إلى هذا أيضاً بعض العلماء كـالنووي أيضاً في شرح صحيح مسلم وابن خزيمة في كتاب التوحيد، والقاضي عياض وأبو الحسن الأشعري وأبو إسماعيل الهروي كلهم ذهبوا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج في السماء بعيني رأسه.

واستدلوا أيضاً على هذا -وهو رواية عن الإمام أحمد - بما ثبت عن ابن عباس أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ، وكذلك أيضاً: روي عن الإمام أحمد أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه.

واستدلوا أيضاً بقوله سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:13]، وقوله: أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى [النجم:12]، لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:17-18].

فقالوا: إن النبي رأى ربه بعين رأسه.

القول الثاني: وهو قول جمهور العلماء وجمهور الصحابة، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه بعين رأسه وإنما رآه بعين قلبه، وهذا الذي عليه الجماهير هو الصواب كما سيأتي، والأدلة عليه كثيرة، ومن أصرحها ما رواه مسلم في صحيحه، عن أبي ذر رضي الله عنه: (قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ فقال: رأيت نوراً)، وفي لفظ: (نور أنى أراه)، أي أن النور حجاب يمنع من رؤيته، يعني: كيف أستطيع رؤيته والنور حجاب يمنعني من رؤيته.

واستدلوا بحديث أبي موسى الأشعري عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور -وفي لفظ: النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).

فقوله: (من خلقه) هذه عامة، ومحمد من خلقه فيشمله هذا، أي: لو كشف الحجاب لاحترق الخلق كلهم ومنهم محمد عليه الصلاة والسلام، ومنها أيضاً: قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ [الشورى:51]، هذه الآية تدل على أنواع الوحي الثلاثة، ومحمد كلمه الله بدون واسطة، لكن من وراء حجاب، فهو محجوب عن الرؤية في الدنيا، فلا يستطيع أحد أن يرى الله تعالى.

ولأن الرؤية نعيم ادخره الله لأهل الجنة، وهي أعظم نعيم.

وأما الأدلة التي استدل بها القائلون بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه، فليست صريحة ولا واضحة، أما قوله تعالى: أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:12-13]، فالمراد بهذه الرؤية رؤية جبريل، لقوله تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى [النجم:5-8] هذا جبريل، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:9-11]، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:13] رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام على صورته التي خلق عليها مرتين: مرة في الأرض في بدء الوحي، ومرة في السماء عند سدرة المنتهى.

ولأن الله تعالى قال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا [الإسراء:1] يريه الآيات، ولو كان أراه نفسه لذكر ذلك لأنه أعظم، لكنه قال: لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا [الإسراء:1]، ولم يقل: ليراني، أو لأريه نفسي.

وأما ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه سئل: هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ قال: نعم، فهذا جواب مطلق، وفي رواية أنه قال: رآه بفؤاده، فالمطلق يحمل على المقيد، فقوله: (نعم) يحمل على أنه رآه بقلبه.

وكذلك روي عن الإمام أحمد أنه قال: رآه، وروي عنه أنه قال: رآه بفؤاده، فيحمل المطلق على المقيد، ولم يقل ابن عباس : إنه رآه بعين رأسه، وكذلك الإمام أحمد لم يقل ذلك فالروايات يفسر بعضها بعضاً، فرواية (رآه) تفسرها رواية (رآه بفؤاده)، وهذا هو الصواب الذي عليه المحققون والجماهير، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه ليلة المعراج بعين رأسه وإنما رآه بفؤاده.

وثبت عن عائشة رضي الله عنها أنه سألها مسروق : هل رأى محمد ربه؟ فقالت: (لقد وقف شعري مما قلت، ثم قالت: من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب)، وفي لفظ أنها قالت: (فقد أعظم على الله الفرية)، وهذا هو الذي عليه المحققون كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما قالوا: إن الجمع بين النصوص التي فيها أنه رآه تحمل على رؤيته بقلبه، والنصوص التي فيها أنه لم يره تحمل على أنه لم يره بعين رأسه وبهذا تجتمع الأدلة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل كما قال عز وجل: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى [النجم:13-14] ].

إذاً: المؤلف أثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين رأسه، والدليل الذي قاله المؤلف لا يدل على ما استدل به؛ لأن هذا في رؤية جبريل، قال تعالى في سورة النجم: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:13] يعني: رأى النبي جبريل مرة ثانية، مرة في الأرض وأخرى في السماء، وبهذا لا تكون الآية دليلاً لما ذهب إليه المؤلف من أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين رأسه.

الدليل الثاني: استدل المؤلف بقول الإمام أحمد .

قال المؤلف رحمه الله تعالى: قال الإمام أحمد فيما رويناه عنه: وأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل، فإنه مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو صحيح، رواه قتادة وعكرمة عن ابن عباس ، ورواه الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس، ورواه علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس .

المراد برآه يعني: رآه بفؤاده؛ لأن هذا مطلق.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والحديث على ظاهره كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والكلام فيه بدعة، ولكن نؤمن به كما جاء على ظاهره ].

ولا نطيل فيه الكلام فما روي عن الإمام أحمد أنه قال: رآه فإن هذا مطلق يقيد بالرواية الثانية: وهي أنه رآه بفؤاده، وكذلك ما روي عن ابن عباس أنه قال: رآه فإنه يقيد بالرواية الثانية: رآه بفؤاده. والرؤية بالقلب معناها: الزيادة في العلم.

والدليل الثالث من أدلة المؤلف: قال رحمه الله: وروى عكرمة عن ابن عباس قال: (إن الله عز وجل اصطفى إبراهيم بالخلة، واصطفى موسى بالكلام، واصطفى محمداً بالرؤية).

هذا إن صح عن ابن عباس فهو محمول على أنه رآه بفؤاده، وإن كان ظاهره أنه رآه بعين رأسه.

فلو قيل: إن مراده أنه رآه بعين رأسه، قلنا: إشكال ابن عباس على حسب ما ظهر له، ولذلك قال: إن الله عز وجل اصطفى إبراهيم بالخلة، واصطفى موسى بالكلام، واصطفى محمداً بالرؤية، فكل واحد منهم له خصيصة، ومما يدل على أن هذا ليس على إطلاقه قوله: (إن الله اصطفى إبراهيم بالخلة) وكذلك محمد اصطفاه الله بالخلة، فإبراهيم خليل الله ومحمد خليل الله، إذاً: إبراهيم شارك محمد في الخلة، وقوله: واصطفى موسى بالكلام فإن محمداً شارك موسى في الكلام، فإن الله كلم محمداً ليلة المعراج من رواء حجاب، وقوله: (واصطفى محمداً بالرؤية) ليس صحيحاً، فهو ما رآه بعين رأسه، وإن كان يريد أنه رآه بعين قلبه وأنها رؤيا خاصة فهذا صحيح.

المقصود أن هذا ليس فيه دليل واضح على أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين رأسه؛ أما كونه اصطفى إبراهيم بالخلة فليس خاصاً به فقد شاركه فيها نبينا عليه الصلاة والسلام، واصطفاء موسى بالكلام ليس خاصاً به فقد شاركه فيه نبينا، واصطفاء محمد بالرؤية يحمل على الرؤية بالفؤاد.

وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال: رأى محمد ربه مرتين. يعني: بفؤاده لا بعين رأسه؛ لأن هذا مطلق يحمل على المقيد.

واستدل أيضاً بما روي عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قيل له: بم تجيب عن قول عائشة رضي الله عنها (من زعم أن محمداً قد رأى ربه عز وجل.. ) الحديث؟ -يعني: فقد كذب، وقد أعظم على الله الفرية- قال: بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت ربي عز وجل)، فيحمل على الرؤيا بالفؤاد، ولو حمل على الرؤيا بعين الرأس لو صح عنه يكون هذا رواية عنه، والرواية الأخرى عن الإمام أحمد أنه رآه بفؤاده.

قال المؤلف: وفي حديث شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فرجعت إلى ربي وهو في مكانه)، والحديث بطوله مخرج في الصحيحين.

نعم هذا في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم وغيرهما، قال: والمنكر لهذه اللفظة راد على الله ورسوله، يعني: لفظة: (فرجعت إلى ربي وهو في مكانه)، لكن ليس في هذا إثبات الرؤية.

وبهذا يتبين أن الصواب أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج بفؤاده ولم يره بعين رأسه، وهذا هو الصواب التي تدل عليه النصوص، وعليه المحققون من أهل العلم، والآثار الواردة في هذا ما ورد منها في إثبات الرؤية محمولة على الرؤية بالفؤاد، وما ورد منها بنفي الرؤية يعني: بعين الرأس.

ثبوت الشفاعة العظمى للنبي يوم القيامة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويعتقد أهل السنة ويؤمنون أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع يوم القيامة لأهل الجمع كلهم شفاعة عامة، ويشفع للمذنبين من أمته فيخرجهم من النار بعدما احترقوا، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لكل نبي دعوة يدعو بها؛ فأريد إن شاء الله أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة)، وروى أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال: (قلت: يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: لقد ظننت ألا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث، إن أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قبل نفسه) رواه البخاري ، وروى حديث الشفاعة بطوله أبو بكر الصديق وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر بن الخطاب وأنس بن مالك وحذيفة بن اليمان وأبو موسى عبد الله بن قيس وأبو هريرة وغيرهم ].

الشفاعة في اللغة: الوساطة، وشرعاً: ضم الشفيع نفسه إلى المشفوع له، فيكون شفعاً بعد أن كان وتراً، فإذا دعاك إنسان يريد شيئاً ثم ضممت صوتك إلى صوته شفعت له، فصرت أنت وهو اثنين بعد أن كان واحداً، أو كان يطلب حاجةً ثم شفعت له وضممت نفسك إليه، صرتما اثنين والاثنان شفع، وضم الشفيع نفسه إلى غيره؛ ليكون شفعاً بعد أن كان وتراً، والاثنان شفع والواحد وتر، وقيل في معنى الشفاعة: طلب الخير للغير، وقيل: مساعدة ذي الحاجة عند من يملك الحاجة، والشفاعة تكون يوم القيامة للنبي صلى الله عليه وسلم عندما يأتيه الناس ويطلبون منه أن يشفع لهم إلى الله أن يحاسبهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم يضم صوته إلى صوتهم ويساعدهم ويطلب من الله أن يقضي بينهم، فيكون عليه الصلاة والسلام شفع للخلائق، أي: ضم صوته إلى صوتهم وساعدهم وطلب من الله أن يقضي بين العباد؛ وذلك بعد أن يأتيه الإذن بذلك.

والشفاعة لها شرطان: إذن الله للشافع أن يشفع، ورضاه عن المشفوع له، فلا يمكن لأحد أن يشفع، حتى لو كان نبينا صلى الله عليه وسلم وهو أوجه الناس عند الله، وإذا كان موسى عند الله وجيهاً قال الله: وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب:69]، فمحمد أعظم وجاهة، ومع ذلك لا يستطيع -وهو أفضل الخلق- أن يبدأ بالشفاعة أولاً، بل يسجد تحت العرش فيفتح الله عليه من المحامد التي يلهمه إياها ولا يحسنها في دار الدنيا، ثم يأتيه الإذن من الرب سبحانه وتعالى فيقول: (يا محمد! ارفع رأسك، وقل يسمع، واشفع تشفع، فيرفع محمد رأسه ويقول: يا رب! أسألك أن تقضي بين عبادك، فيشفعه الله فيهم)، فيقضي بين الخلائق.

ونبينا عليه الصلاة والسلام له شفاعة خاصة، وله شفاعة يشاركه فيها غيره، فالشفاعة الخاصة هي الشفاعة العظمى التي تكون لأهل الموقف حينما يوقف الناس بين يدي الله للحساب حفاة لا نعال لهم، عراة لا ثياب عليهم، غرلاً غير مختونين، بهماً ليس معهم شيء، ويشتد الحر، وتدنو الشمس من الرءوس، ويزاد في حرارتها فيكون يوم عظيم، فيموج الناس بعضهم إلى بعض، فيأتون أولاً إلى آدم ويطلبون منه أن يشفع لهم فيعتذر، ويقول: أكلت من الشجرة، لا أستطيع، اسألوا غيري، ثم يرشدهم إلى نوح، فيذهبون إلى نوح فيعتذر، ويقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وقد دعوت على قومي دعوة أغرقتهم، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم عليه السلام، فيأتون إبراهيم فيسألون الشفاعة فيعتذر، ويقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب غضباً قبله مثله ولن يغضب غضباً بعده مثله، وإني كذبت في الإسلام ثلاث كذبات، أجادل بهن عن دين الله، وهي قوله عن زوجته: إنها أختي أي بالإسلام، وعندما كسر الأصنام جعل الفأس على الصنم الكبير وقال: بل فعله كبيرهم، ونظر في النجوم وقال: إني سقيم إيهاماً لهم، وهذه الأقوال جعلها كذبات وهو يجادل بها عن دين الله، ومع ذلك يعتذر عليه الصلاة والسلام ويقول: كذبت في الإسلام ثلاث كذبات، ثم يقول: اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى فإنه كليم الله، فيذهبون إلى موسى فيقولون: يا موسى! اشفع لنا إلى ربك فيعتذر، ويقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، إني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها، وذلك لما قتل القبطي قبل النبوة وقد تاب قبل النبوة، ومع ذلك يعتذر ويقول: اذهبوا إلى عيسى فإنه روح الله، فيذهبون إلى عيسى فيعتذر أيضاً ولا يذكر ذنباً إلا أنه يقول: اتخذت أنا وأمي إلهين من دون الله، ولكن اذهبوا إلى محمد فإنه خاتم النبيين، فيذهبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها.. أنا لها، فيذهب يسجد تحت العرش فيفتح الله عليه من المحامد ويلهمه الله إياها -وقد كان لا يحسنها في دار الدنيا- ثم يستأذن من الرب، فيقول الله: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فيقول: يا رب أسألك أن تقضي بين عبادك فيقول الرب: أنا أقضي بينهم، هذا هو المقام المحمود الذي يغبطه فيه الأولون والآخرون، قال الله تعالى: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79] )، المقام المحمود هو الشفاعة، وجاء في بعض الأحاديث أن المقام المحمود هو: أن يجلسه معه على العرش، وهذا ما استدل به بعض أهل السنة وغيرهم، وإن صح ذلك فإن المقام المحمود يكون شيئين: الشفاعة، وإجلاسه على العرش، وهذان الشيئان من خصائصه عليه الصلاة والسلام، وهما المقام المحمود الذي يغبطه فيه الأولون والآخرون وهذا هو الفخر والعز، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر، أنا أول من تشق عنه الأرض، وأنا أول شفيع) عليه الصلاة والسلام، وهذه خاصة به لا يشاركه فيها أحد.

وهناك شفاعة ثانية، وهي الإذن لأهل الجنة في دخولها، إذ لا يدخل أهل الجنة الجنة حتى يشفع لهم النبي صلى الله عليه وسلم في دخولها وهذه خاصة به.

وهناك شفاعة ثالثة: وهي الشفاعة في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب ، فقد مات على الكفر وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، بل قال: هو على ملة عبد المطلب ، لكن خفف عذابه لإيوائه للنبي صلى الله عليه وسلم، ودفاعه عنه، فيشفع له النبي صلى الله عليه وسلم في أن يخفف عنه العذاب، ولهذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: يا رسول الله! إن أبا طالب يحميك ويذود عنك، فهل نفعته؟ قال: (نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح منها يغلي دماغه من النار)، أي: كانت تغمره النار من جميع الجهات فأخرج إلى ضحضاح من نار يغلي منها دماغه، وهو يظن أنه أشد الناس عذاباً من شدة ما يجد وهو أخفهم، هذه شفاعة تخفيف خاصة به.

وهناك شفاعات مشتركة، منها: الشفاعة في قوم من أهل الجنة حتى ترفع درجاتهم من درجة سفلى إلى درجة عليا، والشفاعة في قوم من عصاة الموحدين استحقوا دخول النار فيشفع ألا يدخلوها فيشفعهم الله لهم، والشفاعة في قوم دخلوا النار فيخرجون منها، والشفاعة في قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم ألا يدخلوا النار.

وقد تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يدخل النار جملة أهل الكبائر) من المؤمنين الموحدين، فلا تأكل النار منهم مواضع السجود، لكنهم دخلوا النار بسبب الكبائر التي ماتوا عليها ولم يتوبوا منها، فهذا دخل النار؛ لأنه مات على الزنا من غير توبة، وهذا مات على الربا من غير توبة وهذا مات على عقوق الوالدين، وهذا مات على قطيعة الرحم، وهذا مات على الغيبة، وهذا مات على النميمة، وهذا مات على أكل مال الناس بالباطل، وهذا مات على شهادة الزور، فمنهم من يعفى عنه، ومنهم من يدخل النار يعذب فيها مدة طويلة أو قليلة على حسب ذنوبهم، ثم يخرجون بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم فيهم. أربع شفاعات، كل مرة يحد الله له حداً ولهذا جاء في الروايات (أنه يشفع في من كان في قلبه مثقال دينار من الإيمان)، وفي بعضها: (من كان في قلبه مثقال نصف دينار)، وفي بعضها: (من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان)، وفي بعضها: (أخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان)، ويشفع الأنبياء والشهداء والصالحون والأفراط، والملائكة، وتبقى بقية لا تنالهم الشفاعة فيخرجهم رب العالمين برحمته، ويقول: (شفعت الملائكة، وشفع النبيون، ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين، فيخرجون من النار لم يعملوا خيراً قط) يعني: زيادة على التوحيد والإيمان.

فإذا تكامل خروج العصاة الموحدين، ولم يبق منهم أحد أطبقت النار على الكفرة بجميع أصنافهم، اليهود والنصارى والوثنيين والشيوعيين والملاحدة والمنافقين، فلا يخرجون منها أبد الآباد، يقول تعالى: عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ [البلد:20] يعني: مطبقة مغلقة، وقال سبحانه: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:37]، وقال سبحانه: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167]، وقال سبحانه: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ:23]، والأحقاب جمع حقب والحقب هو المدد المتطاولة، كلما انتهى حقب يعقبه حقب إلى ما لا نهاية له.

والمؤمنون الذين خرجوا من النار يلقون في نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة.

فهذه هي الشفاعات الست أو السبع الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم ومنها مشتركة، وأهل السنة والجماعة وأهل البدع واتفقوا على الشفاعة العظمى، والشفاعة التي هي لأهل الجنة في دخولها، والشفاعة التي في رفع درجات أهل الجنة، واختلفوا في الشفاعات التي فيها إخراج العصاة من النار، أو الشفاعة لمن استحق دخول النار، فقال الخوارج والمعتزلة وأهل البدع: من دخل النار لا يخرج منها، فأنكروا الشفاعة؛ لأنهم يرون أن مرتكب الكبيرة كافر يخلد في النار، فالخوارج والمعتزلة يرون أن من دخل النار لا يخرج منها، فبدعوهم أهل السنة، وضللوهم، وبينوا لهم أن النصوص في هذا بلغت حد التواتر، ومع ذلك فإنهم ينكرونها. واستدلوا بالنصوص التي نزلت في الكفار فجعلوها في العصاة، منها قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:254]، وقوله تعالى: وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ [البقرة:48]، وقوله تعالى: وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:123]، هذه الشفاعة في الكفرة فجعلوها في العصاة، فأنكر عليهم أهل السنة والجماعة، وبدعوهم وضللوهم وفسقوهم وجعلوهم من أهل البدع.

قال المؤلف رحمه الله: ويعتقد أهل السنة ويؤمنون أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع يوم القيامة لأهل الجمع كلهم شفاعة عامة، هذه هي الشفاعة العظمى، ويشفع في المذنبين من أمته فيخرجهم من النار بعدما احترقوا.

هذه الشفاعة في خروج العصاة من الموحدين التي أنكرها الخوارج والمعتزلة، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لكل نبي دعوة يدعو بها، فأريد إن شاء الله أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة) ].

وهذا الحديث متفق عليه، رواه الشيخان البخاري في صحيحه في كتاب الدعوات وكتاب التوحيد، ورواه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان، ورواه مالك في الموطأ وأحمد في المسند وغيرهم، فهو حديث صحيح في الشفاعة، وفيه الرد على الخوارج والمعتزلة الذين أنكروا الشفاعة.

قال المؤلف رحمه الله: وروى أبو هريرة رضي الله عنه، أنه قال: (قلت: يا رسول! الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: لقد ظننت ألا يسألني عن هذا الحديث أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث، إن أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قبل نفسه) رواه البخاري وفي لفظ: من قلبه رواه البخاري في صحيحه، ورواه الإمام أحمد في مسنده، وفيه دليل على أن الشفاعة لا تكون إلا لأهل التوحيد، أما الكفار فلا نصيب لهم في الشفاعة، قال تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48]، إذاً: من مات على التوحيد من أهل المعاصي وأهل الكبائر، كمن مات وهو يتعامل بالربا أو يعق والديه أو يقطع رحمه، أو يغتاب الناس أو مات على الزنا أو السرقة من غير توبة فإنه تكون له الشفاعة يوم القيامة إن لم يعف الله عنه.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: وروى حديث الشفاعة بطوله أبو بكر الصديق.

وحديثه رواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو يعلى والبزار. وعبد الله بن عباس رواه أحمد في المسند، وفي مسند الطيالسي .

و عبد الله بن عمر بن الخطاب.

وحديثه رواه البخاري في كتاب التفسير، ورواه الإمام مسلم في صحيحه، والبيهقي واللالكائي وابن ماجة .

قال المؤلف رحمه الله تعالى: وأنس بن مالك وحديث أنس بن مالك رواه البخاري في صحيحه.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: وحذيفة بن اليمان وحديثه رواه مسلم في كتاب الإيمان.

قال المؤلف رحمه الله: وأبو موسى عبد الله بن قيس وحديثه رواه ابن أبي عاصم في كتاب السنة.

قال المؤلف رحمه الله: وأبو هريرة وحديثه في سنن الدارمي.

قال المؤلف رحمه الله: وغيرهم أي: من الصحابة.

الأسئلة

الرد على من يجوز دخول الجنة من غير عمل

السؤال: هناك من استدل بحديث: (لم يعلموا خيراً قط) على جواز دخول الجنة والبراءة من النار بدون أدنى عمل، فما توجيهكم حفظكم الله؟

الجواب: هذا باطل، لأن الله تعالى قال: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، والنصوص ترد هذا، وتضم بعضها إلى بعض، فالكافر لا يخرج من النار، والجنة عليه حرام، أما حديث: (لم يعملوا خيراً قط)، يعني: زيادة على التوحيد والإيمان، ومن شرط التوحيد الصلاة، ويدخل في هذا من وحد الله ثم مات في الحال ولم يتمكن من العمل، كمن قتل شهيداً في الحال بعدما أسلم، لكن هذا عام.

المقصود: أن النصوص يضم بعضها إلى بعض، فلا ينبغي للإنسان أن ينظر إلى النصوص بعين عوراء، فيأخذ بعض النصوص ويغمض عينيه عن البعض الآخر، فإن طريقة أهل البدع عدم ضم النصوص بعضها إلى بعض، فالنصوص دلت على أن الجنة حرام على الكافر، وأنه لا يخرج من النار أبد الآباد، قال تعالى: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167]، وقال تعالى: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ:23]، وقال تعالى: وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:37].

تارك الصلاة لا تنفعه الشفاعة

السؤال: هل تشمل الشفاعة تارك الصلاة ليخرج من النار؟

الجواب: هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم فإن كان جاحداً بوجوبها، فإنه كافر بالإجماع، ولا شك في كفره، وإن لم يجحد بوجوبها ففيه خلاف بين أهل العلم، والصواب الذي أجمع عليه الصحابة، ونقل عليه الإجماع عبد الله بن شقيق العقيلي وإسحاق بن راهويه والإمام ابن حزم وغيرهم، والذي عليه المحققون والجمهور أنه لا تناله الشفاعة، ولو أقر بوجوبها.

وذهب بعض المتأخرين من الفقهاء وغيرهم إلى أن كفره كفر أصغر إذا لم يجحد بوجوبها، ويقال: إن معه شعبة من شعب الإيمان وهي التصديق، فيكون كفره كفر أصغر، فعلى هذا تناله الشفاعة، لكن هذا ضعيف والصواب هو القول الأول، وهو أنه كافر كفر أكبر مخرج من الملة؛ لما ثبت في صحيح البخاري عن بريدة بن الحصيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله)، والذي يحبط عمله هو الكافر، وبقية الصلوات مثل صلاة العصر، قال عليه الصلاة والسلام: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) رواه الإمام مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله ، وقال عليه الصلاة والسلام: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)، فجعل الصلاة حداً فاصلاً بين المؤمن والكافر.

إثبات صفة النفس لله

السؤال: ما القول في حديث الشفاعة: (شفعت الملائكة والأنبياء) إلى آخر الحديث، وفي حديث آخر في آخره: (وبقيت شفاعة أرحم الراحمين فيشفع إلى نفسه سبحانه وتعالى) أرجو التوضيح في لفظة: فيشفع الله إلى نفسه؟

الجواب: لفظة يشفع على ظاهرها مثل كونه يكتب على نفسه الرحمة: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:12]، ولقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي)، أي: حرم على نفسه من نفسه، وكتب على نفسه من نفسه، وشفع من نفسه لنفسه.

رؤية الله عز وجل في المنام

السؤال: هل يستطيع كل أحد أن يرى ربه في المنام، وما صحة الكلام المنسوب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حول هذا الموضوع؟

الجواب: رؤية الله في المنام ثابتة، يثبتها جميع الطوائف، إلا الجهمية من شدة إنكارهم للرؤية حتى أنكروا رؤية الله في المنام، قال شيخ الإسلام: إن جميع الطوائف أثبتوا رؤية الله في المنام إلا الجهمية؛ لشدة إنكارهم لرؤية الله حتى أنكروا رؤية الله في المنام، ولا يلزم من هذا التشبيه، بل يرى الإنسان ربه في المنام على حسب اعتقاده، فإن كان اعتقاده صحيحاً رأى ربه في صورة حسنة، وإن كان اعتقاده سيئاً رأى ربه في صورة تناسب اعتقاده، ولا يلزم من هذا التشبيه، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم أصح الناس اعتقاداً قال: (فإني رأيت ربي في أحسن صورة في المنام).

قتل النفس بغير حق وما يترتب عليه

السؤال: من قتل نفساً بغير حق وتاب إلى الله، وبعد تنازل أهل المقتول هل يعذب يوم القيامة، وماذا يجب عليه ليكفر عما عمله، وكيف يحسن للمقتول إذا استطاع، ومن أقيم عليه الحد هل هو كفارة عن عذاب الله يوم القيامة؟

الجواب: القتل عمداً بغير حق أعظم الذنوب بعد الشرك بالله عز وجل، يقول الله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، وفي الحديث: (لزوال الدنيا بأسرها أهون على الله من قتل رجل مسلم)، وفي الحديث: (لا يزال الرجل في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)، وقال تعالى في كتابه العظيم: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]. القتل عمداً يتعلق به ثلاثة حقوق حق لله، وحق للمقتول، وحق لأولياء القتيل، فإذا أداها برئت ذمته.

الحق الأول: حق لأولياء القتيل، فيأتي ويسلم نفسه إليهم، ويصطلح معهم، فإن شاءوا قتلوه قصاصاً وإن شاءوا طلبوا منه الدية أو أكثر من الدية صلحاً، فإذا سلم نفسه إليهم وقتلوه قصاصاً أو اتفقوا معه على نفس الدية أو أكثر منها سقط حقهم، وبقي حق الله وحق القتيل.

فإذا تاب فيما بينه وبين الله توبةً نصوحاً، بأن أقلع عن هذه المعصية وندم على ما مضى وعزم عزماً جازماً على ألا يعود إليها مرة أخرى تاب الله عليه وسقط حق الله، وبقي حق القتيل يوم القيامة، فإذا أدى الحقين: حق أولياء القتيل وحق الله، فالله تعالى يرضي المقتول عنه يوم القيامة بما يعطيه من الثواب والدرجات في الآخرة، فيصفح عن أخيه فيتوب الله عليه.

والصواب أن القاتل له توبة، وهذا هو الذي عليه الجماهير، وروي عن ابن عباس أنه قال: لا توبة له، وروي عنه أنه قال بقول الجمهور: أن له توبة، ومعنى قول ابن عباس : (لا توبة له). ليس معناه أنه يخلد في النار، بل معناه أنه يكون هنالك موازنة بين الحسنات والسيئات، فإذا رجحت السيئات فإنه يعذب في النار بقدر جريمته ثم يخرج منها.

أما إذا كان له توبة كأن تقبل توبته، فإنه لابد أن يعذب في النار ثم يخرج منها، ولا يخلد كالمشرك.

وأما قوله تعالى: خَالِدًا فِيهَا [النساء:93]، فالخلود خلودان: خلود مؤمد له أمد ونهاية، وخلود مؤبد لا نهاية له، فالخلود المؤبد الذي لا نهاية له خلود الكفرة، والخلود المؤمد الذي له خلود ونهاية خلود بعض العصاة الذين قد فشت جرائمهم وغلظت كالقاتل، والمراد بالخلود: المكث الطويل، والعرب تقول: أقاموا فيها فأخلدوا، ويسمى المكث الطويل خلوداً، فخلود بعض العصاة الذين كثرت جرائمهم أو فحشت أو غلظت خلود مؤمد له نهاية، ولو مكثوا مدة طويلة، وأما خلود الكفرة فإنه خلود مؤبد لا نهاية له أبد الآباد.

فإذا تنازل أولياء القتيل سقط حقهم، وبقيت التوبة فيما بينه وبين الله، فإذا تابت فيما بينه وبين الله تاب الله عليه وسقط حق الله، وبقي حق القتيل يرضيه الله يوم القيامة.

أما إذا استغفر أو دعا له، فهذا تبرع منه.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [10] للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي

https://audio.islamweb.net