اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة البقرة [35-39] للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي
قال المصنف رحمه الله: [ يقول تعالى إخباراً عما أكرم به آدم بعد أن أمر الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس، وأنه أباح له الجنة يسكن منها حيث شاء، ويأكل منها ما شاء رغداً، أي: هنيئاً واسعاً طيباً, وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث محمد بن عيسى الدامغاني ، حدثنا سلمة بن الفضيل عن ميكائيل عن ليث عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه, قال: قلت: (يا رسول الله! أرأيت آدم أنبياً كان؟ قال: نعم، نبياً رسولاً يكلمه الله قبيلاً) يعني: عياناً ].
يقول سبحانه : وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة:35] فيها ابتلاء الله تعالى لآدم وزوجه حواء، حيث أدخلهم الجنة، وأباح لهما أن يأكلا مما فيها إلا شجرة واحدة استثناها سبحانه وتعالى، ونهاهما عن أكلها؛ لحكمة بالغة يعلمها سبحانه وتعالى، ومن الحكم العظيمة المترتبة على ذلك أن آدم وزوجه حواء سيأكلان من هذه الشجرة ثم يخرجان من الجنة, ثم يتوب الله عليهما, ثم يخرج من ذريتهما عباداً صالحين وأنبياء ومرسلين, ومطيعين وعصاه, فله حكمة بالغة سبحانه وتعالى. أما هذا الحديث فهو حديث ضعيف، ولكن لا شك أن آدم نبياً مكلماً ورسولاً إلى ذريته.
الراجح القول الأول بأنها في السماء, أما القول بأنها في الأرض فيقولون بأنها بستان.
البلاغ عن ابن عباس منقطع، وهذه القصة من أخبار بني إسرائيل، والله أعلم. فنحن نعلم أن الله تعالى خلق حواء من آدم، كما قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [الأعراف:189]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء:1]، وأما هذا التفصيل من أنه وقع عليه النعاس وأنه لم يهب من نومه حتى خلق الله له حواء، فهو من أخبار بني إسرائيل، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فلما كشف عنه السنة وهب من نومه رآها إلى جنبه، فقال -فيما يزعمون والله أعلم-: لحمي ودمي وزوجتي فسكن إليها، فلما زوجه الله وجعل له سكناً من نفسه قال له قبلاً: يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة:35] ].
لأن من يفعل المعاصي فهو ظالم لنفسه؛ فالمعاصي كلها ظلم, وأعظمها الشرك بالله عز وجل، ثم ظلم العباد فيما بينهم في الدماء أو الأموال أو الأعراض، ثم ظلم الإنسان لنفسه فيما بينه وبين الله, والأكل من الشجرة ظلم من آدم وحواء لأنفسهما فيما بينهما وبين الله، ولهذا قال تعالى: فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة:35]؛ لأن من خالف أمر الله فقد تعدى وظلم، والله نهاهما عن أكل الشجرة، وقال لهما: وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا [البقرة:35] إن أكلتم منها مِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة:35] لتعديكما ما حده الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويقال: إن خلق حواء كان بعد دخول الجنة، كما قال السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبو صالح عن ابن عباس ، وعن مرة عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة: أخرج إبليس من الجنة وأسكن آدم الجنة، فكان يمشي فيها وحيشاً ليس له زوج يسكن إليه، فنام نومة فاستيقظ وعند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه، فسألها: ما أنت؟ قالت: امرأة. قال: ولم خلقت؟ قالت: لتسكن إلي. قالت له الملائكة ينظرون ما بلغ من علمه: ما اسمها يا آدم؟ قال: حواء، قالوا: ولم سميت حواء؟ قال: إنها خلقت من شيء حي. قال الله: يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا [البقرة:35] ].
وقال ابن جرير وابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن اسماعيل بن سمرة الأحمسي حدثنا أبو يحيى الحماني ، حدثنا النضر أبو عمر الخراز عن عكرمة عن ابن عباس قال : الشجرة التي نهي عنها آدم عليه السلام هي السنبلة.
وقال عبد الرزاق : أنبأنا ابن عيينة وابن المبارك عن الحسن بن عمارة عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: هي السنبلة.
وقال محمد بن إسحاق عن رجل من أهل العلم عن حجاج عن مجاهد عن ابن عباس قال: هي البر.
وقال ابن جرير : وحدثني المثنى بن إبراهيم حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا القاسم حدثني رجل من بني تميم: أن ابن عباس كتب إلى أبي الجلد يسأله عن الشجرة التي أكل منها آدم والشجرة التي تاب عندها آدم، فكتب إليه أبو الجلد سألتني عن الشجرة التي نهي عنها آدم وهي السنبلة، وسألتني عن الشجرة التي تاب عندها آدم وهي الزيتونة. وكذلك فسره الحسن البصري ووهب بن منبه وعطية العوفي وأبو مالك ومحارب بن دثار وعبد الرحمن بن أبي ليلى.
وقال محمد بن إسحاق عن بعض أهل اليمن عن وهب بن منبه أنه كان يقول: هي البر، ولكن الحبة منها في الجنة ككلى البقر، وألين من الزبد، وأحلى من العسل.
وقال سفيان الثوري عن حصين عن أبي مالك وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ [البقرة:35] قال: النخلة.
وقال ابن جرير عن مجاهد وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ [البقرة:35] قال: التينة. وبه قال قتادة وابن جريج .
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية : كانت الشجرة من أكل منها أحدث، ولا ينبغي أن يكون في الجنة حدث.
وقال عبد الرزاق : حدثنا عمر بن عبد الرحمن بن مهران سمعت وهب بن منبه يقول: لما أسكن الله آدم وزوجته الجنة ونهاه عن أكل الشجرة، وكانت شجرة غصونها متشعب بعضها من بعض، وكان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم، وهي الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته.
فهذه أقوال ستة في تفسير هذه الشجرة ].
وكل هذه الأقوال لا دليل عليها، بل كلها تخمين, والله أعلم بهذه الشجرة، وليس في تعيينها فائدة, إذ لو كان في تعيينها فائدة لعينها الله سبحانه وتعالى, ولكن الله سبحانه وتعالى نهاهم عن الشجرة المعينة التي عينها لهما، فأكلا منها، وسواء كانت هي التينة، أو النخلة، أو البر.. أو غيرها, فليس هناك دليل صحيح يثبت هذه الشجرة، ولا يترتب على ذكرها فائدة, ولا على جهلها مضرة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله : والصواب في ذلك أن يقال: إن الله عز وجل ثناؤه نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها، فأكلا منها، ولا علم عندنا بأي شجرة كانت على التعيين؛ لأن الله لم يضع لعباده دليلاً على ذلك في القرآن ولا من السنة الصحيحة، وقد قيل: كانت شجرة البر، وقيل: كانت شجرة العنب، وقيل: كانت شجرة التين، وجائز أن تكون واحدة منها، وذلك علم إذا علم لم ينفع العالم به علمه، وإن جهله جاهل لم يضره جهله به، والله أعلم.
وكذلك رجح الإبهام الرازي في تفسيره وغيره، وهو الصواب.].
وهذا كلام جميل وهو الحق، حيث إن شجرة معينة عينها الله لهما ولم يخبرنا بها, وإذا علمنا فلا ينفعنا هذا, وإذا جهلنا فلا يضرنا, لكن العبرة في أن الله نهاهم عن الشجرة فعصيا وأكلا منها, فأخرج من الجنة، والعبرة أيضاً: أن من عصى الله تركت المعاصي عليه آثارها, فالمعاصي لها شؤم وآثار, والله تعالى أخرج آدم وحواء بالمعصية من الجنة, فالمعاصي والذنوب لها آثار, ولها شؤم, هذه هي العبرة, أما أن تكون شجرة التين، أو النخلة، أو العنب، فمعرفة ذلك لا ينفع، والجهل به لا يضر.
وجاء في بعض الأقوال: إنها شجرة الخلد، وكان يأكل منها الملائكة فيخلدون, وهذا ليس بصحيح؛ فالملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون, وإنما هم عباد مكرمون لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:27].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ويصح أن يكون عائداً على أقرب المذكورين وهو الشجرة، فيكون معنى الكلام كما قال الحسن وقتادة : (فأزلهما) أي: من قبل الزلل، فعلى هذا يكون تقدير الكلام: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا [البقرة:36] أي: بسببها، كما قال تعالى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات:9] أي: يصرف بسببه من هو مأفوك، ولهذا قال تعالى فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ [البقرة:36] أي: من اللباس والمنزل الرحب والرزق الهنيء والراحة. وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [البقرة:36] أي: قرار وأرزاق وآجال (إلى حين) أي: إلى وقت ومقدار معين، ثم تقوم القيامة.
وقد ذكر المفسرون من السلف كـالسدي بأسانيده، وأبي العالية ووهب بن منبه وغيرهم هاهنا أخباراً إسرائيلية عن قصة الحية وإبليس، وكيف جرى من دخول إبليس إلى الجنة ووسوسته، وسنبسط ذلك إن شاء الله في سورة الأعراف، فهناك القصة أبسط منها هاهنا، والله الموفق.
وقد قال ابن أبي حاتم هاهنا: حدثنا علي بن الحسين بن إشكاب حدثنا علي بن عاصم عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق آدم رجلاً طوالاً كثير شعر الرأس كأنه نخلة سحوق، فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه، فأول ما بدا منه عورته، فلما نظر إلى عورته جعل يشتد في الجنة، فأخذت شعره شجرة فنازعها، فناداه الرحمن: يا آدم! مني تفر! فلما سمع كلام الرحمن قال: يا رب! لا ولكن استحياء) ].
وهذا الحديث ضعيف، ففيه عنعنة قتادة وهو مدلس، وفيه انقطاع بين الحسن وبين أبي بن كعب ، فهو ضعيف، لكن المعنى صحيح، فإن الله أخبر: فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [الأعراف:22]، فيدل على شؤم المعاصي؛ لأنهما لما عصيا الله سقط اللباس وبدت عوراتهما, وجعلا يأخذان من ورق الشجرة يستران عورتهما، فهو يدل على أن المعاصي تكشف الإنسان.
وقوله: (فأزلهما) قرأها حمزة : (فأزالهما) وقراءة حفص القراءة المشهورة، وقراءة باقي القراء: (فأزلهما الشيطان).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وحدثني جعفر بن أحمد بن الحكم القرشي سنة أربع وخمسين ومائتين، حدثنا سليمان بن منصور بن عمار حدثنا علي بن عاصم عن سعيد عن قتادة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما ذاق آدم من الشجرة فر هارباً فتعلقت شجرة بشعره، فنودي: يا آدم! أفراراً مني؟ قال: بل حياء منك، قال: يا آدم! اخرج من جواري فبعزتي لا يساكنني فيها من عصاني، ولو خلقت مثلك ملء الأرض خلقاً ثم عصوني لأسكنتهم دار العاصين).
هذا حديث غريب وفيه انقطاع بل إعضال بين قتادة وأبي بن كعب رضي الله عنهما ].
قوله: معضل، يعني: سقط من السند اثنان، إذ بين قتادة وبين كعب اثنان، وهو أشد من المنقطع.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال الحاكم حدثنا أبو بكر بن بالويه عن محمد بن أحمد ].
وفي نسخة ابن باكويه وهو خطأ، والصواب أنه محمد بن أحمد بن بالويه شيخ الحاكم.
المقصود من هذا عن ابن عباس أنه وقت ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، وهذا ليس عليه دليل، وإن صح فهو من أخبار بني إسرائيل، ويحتمل أنه لا يصح سنداً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال عبد بن حميد في تفسيره: حدثنا روح عن هشام عن الحسن قال: لبث آدم في الجنة ساعة من نهار، تلك الساعة ثلاثون ومائة سنة من أيام الدنيا ].
وهذا كذلك لا دليل عليه، وهو موقوف على الحسن .
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس قال: خرج آدم من الجنة للساعة التاسعة أو العاشرة، فأخرج آدم معه غصناً من شجر الجنة على رأسه تاج من شجر الجنة، وهو الإكليل من ورق الجنة.
وقال السدي : قال الله تعالى: اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا [البقرة:38] فهبطوا ونزل آدم بهم، ونزل معه الحجر الأسود وقبضة من ورق الجنة، فبثه في الهند فنبتت شجرة الطيب. فإنما أصل ما يجاء به من الطيب من الهند من قبضة الورق الذي هبط بها آدم، وإنما قبضها آدم أسفاً على الجنة حين أخرج منها. وقال عمران بن عيينة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أهبط آدم بدحنا أرض الهند].
عطاء بن السائب اختلط في آخره، والأثر ضعيف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير عن عطاء عن سعيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أهبط آدم عليه السلام إلى أرض يقال لها: دحنا بين مكة والطائف. وعن الحسن البصري قال: أهبط آدم بالهند، وحواء بجدة، وإبليس بدستميان من البصرة على أميال ]
أي: أن هناك مسافة بعيدة بين آدم وحواء، فآدم في الهند وحواء في جدة، وهذه مسافة عظيمة. وكل هذه الآثار من أخبار بني إسرائيل، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأهبطت الحية بأصفهان. رواه ابن أبي حاتم .
وقال محمد بن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار بن الحارث حدثنا محمد بن سعيد بن سابق حدثنا عمر بن أبي قيس عن الزبير بن عدي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أهبط آدم بالصفا، وحواء بالمروة ].
هناك خلاف بين القولين، فالأول: آدم في الهند وحواء بجدة، والثاني: في الصفا والمروة، فليس بينهما مسافة، وكل هذا تخمين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال رجاء بن سلمة : هبط آدم عليه السلام يداه على ركبته مطأطئاً رأسه، وأهبط إبليس مشبكاً بين أصابعه رافعاً رأسه إلى السماء.
وقال عبد الرزاق : قال معمر : أخبرني عوف عن قسامة بن زهير عن أبي موسى قال: إن الله حين أهبط آدم من الجنة إلى الأرض علمه صنعة كل شيء، وزوده من ثمار الجنة، فثماركم هذه من ثمار الجنة غير أن هذه تتغير وتلك لا تتغير.
وقال الزهري عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، يوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها) رواه مسلم والنسائي ].
هذا ثابت في الصحيح.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال الرازي : اعلم أن في هذه الآية تهديداً عظيماً عن كل المعاصي من وجوه: الأول: أن من تصور ما جرى على آدم بسبب إقدامه على هذه الزلة الصغيرة كان على وجل شديد من المعاصي.
قال الشاعر:
يا ناظراً يرنو بعيني راقد ومشاهداً للأمس غير مشاهد
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي درج الجنان ونيل فوز العابد
أنسيت ربك حين أخرج آدم منها إلى الدنيا بذنب واحد ].
هذا كلام طيب للرازي ، والرازي في كتابه مفاتيح الغيب كما قال بعضهم: فيه كل شيء إلا التفسير، ومع هذا فالكلام جيد، حيث إن الله تعالى أخرج آدم من الجنة بزلة صغيرة ليحذر العاصي، ويخبره بأن المعاصي لها شؤم ولها آثار عظيمة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال ابن القيم :
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم ].
يقصد بالعدو وإبليس، ونحن سبي العدو، فهل ترى نرجع إلى أوطاننا وهي: الجنة.
فالجواب: أن هذا بعينه استدل به من يقول: إن الجنة التي كان فيها آدم في الأرض لا في السماء كما قد قصصنا هذا في أول كتابنا البداية والنهاية، وأجاب الجمهور بأجوبة:
أحدها: أنه منع من دخول الجنة مكرماً، فأما على وجه السرقة والإهانة فلا يمتنع .
ولهذا قال بعضهم كما جاء في التوراة: إنه دخل في فم الحية إلى الجنة، وقد قال بعضهم: يحتمل أنه وسوس لهما وهو خارج باب الجنة، وقال بعضهم: يحتمل أنه وسوس لهم وهو في الأرض وهما في السماء. ذكره الزمخشري وغيره. وقد أورد القرطبي ها هنا أحاديث في الحيات وقتلهن وبيان حكم ذلك، فأجاد وأفاد].
قال المصنف رحمه الله: [ قيل: إن هذه الكلمات مفسرة لقوله تعالى: قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23]، وروي هذا عن مجاهد وسعيد بن جبير وأبي العالية والربيع بن أنس والحسن وقتادة ومحمد بن كعب القرظي وخالد بن معدان وعطاء الخرساني وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وقال أبو إسحاق السبيعي : عن جل من بني تميم ، قال: أتيت ابن عباس فسألته ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه؟ قال: علم شأن الحج ].
هذا ضعيف؛ لأن فيه أبا إسحاق السبيعي وهو مدلس، أيضاً فيه رجل مبهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال سفيان الثوري عن عبد العزيز بن رفيع : أخبرني من سمع عبيد بن عمير، وفي رواية قال: أخبرني مجاهد عن عبيد بن عمير أنه قال: قال آدم: يا رب! خطيئتي التي أخطأت شيء كتبته علي قبل أن تخلقني أو شيء ابتدعته من قبل نفسي؟ قال: بل شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك، قال: فكما كتبته علي فاغفر لي، قال: فذلك قوله تعال: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [البقرة:37].
وقال السدي عمن حدثه عن ابن عباس : (فتلقى آدم من ربه كلمات) قال: قال آدم عليه السلام: يا رب! ألم تخلقني بيدك ؟ قيل له: بلى، ونفختَ فيّ من روحك؟ قيل له: بلى، وعطستُ فقلتَ: يرحمك الله، وسبقت رحمتك غضبك ؟ قيل له: بلى، وكتبتَ علي أن أعمل هذا؟ قيل له: بلى، قال: أرأيت إن تبتُ هل أنت راجعي إلى الجنة ؟ قال: نعم ].
هذا أيضاً ضعيف؛ لأن فيه مبهماً.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وهكذا رواه العوفي وسعيد بن جبير وسعيد بن معبد عن ابن عباس بنحوه، ورواه الحاكم في مستدركه من حديث ابن جبير عن ابن عباس، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وهكذا فسره السدي وعطية العوفي .
وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثاً شبيهاً بهذا فقال: حدثنا علي بن الحسين بن إشكاب ، حدثنا علي بن عاصم عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قال آدم عليه السلام: أرأيت يا رب إن تبت ورجعت أعائدي إلى الجنة؟ قال: نعم. فذلك قوله: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ [البقرة:37]) ].
هذا الحديث ضعيف؛ لأنه منقطع بين الحسن وأبي بن كعب ، وكذلك أيضاً فيه قتادة، وهو مدلس وقد عنعن، والصواب أن الكلمات هي ما أخبر الله بها: قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23].
فهذه هي الكلمات، أما هذه الآثار فضعيفة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وفيه انقطاع ].
أي: انقطاع بين الحسن وبين أبي بن كعب ، وفيه عنعنة قتادة أيضاً.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [البقرة:37] قال: إن آدم لما أصاب الخطيئة قال: أرأيت يا رب إن تبت وأصلحت؟ قال الله: إذاً أدخلك الجنة ، فهي الكلمات.
ومن الكلمات أيضاً قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23] ، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه كان يقول في قول الله تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [البقرة:37] قال: الكلمات: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فرحمني إنك خير الراحمين، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم.
وقوله تعالى: إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:37] أي: إنه يتوب على من تاب إليه وأناب كقوله: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ [التوبة:104]، وقوله: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ [النساء:110] الآية، وقوله: وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا [الفرقان:71] وغير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى يغفر الذنوب ويتوب على من يتوب، وهذا من لطفه بخلقه ورحمته بعبيده لا إله إلا هو التواب الرحيم ].
قال: ذكرنا في المسند الكبير من طريق سليمان بن سليم عن ابن بريدة وهو سليمان عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما أهبط الله آدم إلى الأرض طاف بالبيت سبعاً، وصلى خلف المقام ركعتين، ثم قال: اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي، وتعلم ما عندي فاغفر ذنوبي، أسألك إيماناً يباشر قلبي، ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت لي، قال: فأوحى الله إليه: إنك قد دعوتني بدعاء أستجيب لك فيه ولمن يدعوني به، وفرجت همه من غمومه، ونزعت فقره من بين عينيه، وأجرت له من وراء كل تاجر، وأتته الدنيا وهي كارهة، وإن لم يردها)، رواه الطبري في المعجم الكبير.
الأقرب أنه ضعيف لا يصح؛ لأن الأحاديث التي فيها طواف آدم في الكعبة ضعيفة؛ لأن الكعبة إنما بناها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأما قبل ذلك فالله أعلم، إلا أن يقال: إنه طاف بالربوة، وكانت ربوة وأرضاً مرتفعة، ثم أيضاً لم يكن هناك مقام صلى خلفه فالمقام مقام إبراهيم، وإبراهيم من ذريته وهو بعده بدهور، فكيف يصلي خلف المقام والمقام مقام إبراهيم؟ ثم إن هذا الدعاء: (أسألك إيماناً يباشر قلبي ) الحديث يوجد في كتيبات، ويقرؤها بعض الذين يطوفون، والأقرب أن هذا الدعاء لا يصح.
قال المصنف رحمه الله: [ يقول تعالى مخبراً عما أنذر به آدم وزوجته وإبليس حين أهبطهم من الجنة، والمراد الذرية، إنه سينزل الكتب، ويبعث الأنبياء والرسل، كما قال أبو العالية : الهدى : الأنبياء والرسل والبينات والبيان. وقال مقاتل بن حيان : الهدى : محمد صلى الله عليه وسلم. وقال الحسن : الهدى : القرآن. وهذان القولان صحيحان، وقول أبي العالية أعم ].
الهدى عام في القرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم، فالقرآن هدى، والرسول صلى الله عليه وسلم بعثه الله بالهدى.
قال: [ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ [طه:123] أي: من أقبل على ما أنزلت به الكتب، وأرسلت به الرسل فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ [البقرة:38] أي: فيما يستقبلونه من أمر الآخرة وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38] على ما فاتهم من أمور الدنيا، كما قال في سورة طه: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123]، قال ابن عباس : فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124] كما قال هاهنا: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:39] أي: مخلدون فيها لا محيد لهم عنها ولا محيص.
وقد أورد ابن جرير هاهنا حديثاً ساقه من طريقين عن أبي سلمة سعيد بن يزيد عن أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطعة عن أبي سعيد واسمه: سعد بن مالك بن سنان الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما أهل النار الذي هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن أقوام أصابتهم النار بخطاياهم فأماتتهم إماتة، حتى إذا صاروا فحما أذن في الشفاعة) وقد رواه مسلم من حديث شعبة عن أبي سلمة به ].
والمراد بأهلها يعني: الكفرة -نعوذ بالله- فلا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن قوم أصابتهم النار بذنوبهم، وهم عصاة الموحدين، فيموتون فيها إماتة ثم يأذن الله بالشفاعة، وأما الذين هم أهلها فهم الكفرة وهؤلاء لا يموتون فيها ولا يحيون، كما أخبر الله تعالى: ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [الأعلى:13].
وعصاة الموحدين يموتون فيها إماتة خاصة، حيث يصيرون فيها فحماً ثم يلقون على نهر الحياة فينبتون ويحيون.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذكر هذا الإهباط الثاني لما تعلق به ما بعده من المعنى المغاير للأول، وزعم بعضهم: أنه تأكيد وتكرير، كما يقال: قم قم، وقال آخرون: بل الإهباط الأول من الجنة إلى السماء الدنيا، والثاني من سماء الدنيا إلى الأرض، والصحيح الأول، والله أعلم ].
يعني: الصحيح أنه ذكر الإهباط الثاني لتعلق ما بعده بمعنى مختلف عن المعنى الأول.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة البقرة [35-39] للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي
https://audio.islamweb.net