اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة البقرة الآية [3] للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي
قال المؤلف رحمه الله: [قال أبو جعفر الرازي عن العلاء بن المسيب بن رافع عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: الإيمان التصديق. وقال علي بن أبي طلحة وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما: يُؤْمِنُونَ [البقرة:3]: يصدقون.
وقال معمر عن الزهري : الإيمان: العمل.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس : يُؤْمِنُونَ [البقرة:3]: يخشون.
قال ابن جرير: والأولى أن يكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولاً واعتقاداً وعملاً، وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان الذي هو تصديق القول بالعمل ].
الحق كما قال ابن جرير رحمه الله، وهو الإيمان يشمل القول والعمل والاعتقاد.
وأصل الإيمان هو التصديق بالقلب، ثم يتبعه العمل، وخلاصته الخشية لله عز وجل، فالإيمان أصله التصديق، ويدخل فيه قول القلب وهو التصديق، وعمل القلب، وهو النية والإخلاص، وعمل الجوارح، وأقوال اللسان، وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة، أي: أن الإيمان قول باللسان، وتصديق بالقلب، وعمل بالقلب والجوارح، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، كما قال ابن جرير رحمة الله عليه: الإيمان قول واعتقاد وعمل، فلهذا يقال: الإيمان عمل ونية، فعمل القلب: النية والإخلاص والصدق والمحبة والرغبة والرهبة، وعمل الجوارح معلوم، وأقوال اللسان والقلب كل ذلك داخل في مسمى الإيمان، خلافاً للمرجئة القائلين بأن الإيمان هو تصديق القلب، وأما الأعمال فيخرجونها من مسمى الإيمان، وهذا غلط، وقد قال بهذا المرجئة المحضة، وهم الجهمية، وقال به مرجئة الفقهاء، وهم أبو حنيفة وأصحابه من أهل الكوفة، فأهل الكوفة قالوا: الإيمان التصديق، والعمل لا يدخل في مسمى الإيمان، لكنه مطلوب.
وقال أهل السنة والجماعة قاطبة ما عدا مرجئة الفقهاء: الإيمان التصديق والعمل، وكلاهما داخل في مسمى الإيمان، وكلاهما واجب.
وقال الأحناف: العمل واجب آخر، فالإيمان شيء والعمل شيء آخر، وكلاهما واجبان.
وأما المرجئة المحضة وهم الجهمية فيقولون: إذا عرف الإنسان ربه بقلبه كفى. وهذا من أبطل الباطل، فهم ما قالوا: الإيمان التصديق، وإنما قالوا: الإيمان المعرفة، وعلى هذا ألزمهم أهل السنة والجماعة بأنه يدخل جميع الكفرة المعترفين بهذا في الإيمان، فإبليس عارف بربه، وفرعون عارف بربه، واليهود عارفون بربهم، وأبو طالب عارف بربه، وهؤلاء كفار بالإجماع، نسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال: وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان الذي هو تصديق القول بالعمل، والإيمان كلمة جامعة للإيمان بالله وكتبه ورسله وتصديق الإقرار بالفعل.
قلت: أما الإيمان في اللغة فيطلق على التصديق المحض، وقد يستعمل في القرآن والمراد به ذلك، كما قال تعالى: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [التوبة:61]، وكما قال إخوة يوسف لأبيهم: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف:17].
وكذلك إذا استعمل مقروناً مع الأعمال، كقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الشعراء:227]، فأما إذا استعمل مطلقاً فالإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقاداً وقولاً وعملاً، هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة، بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيد وغير واحد إجماعاً ].
أبو عبيد هو القاسم بن سلام الفقيه صاحب كتاب (الأموال)، وأما أبو عبيدة -بالتاء- فهو معمر بن المثنى اللغوي المعروف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيد وغير واحد إجماعاً: أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص ].
وهذا هو الذي عليه عامة أهل السنة، وهو الصواب، وإن كان الإيمان أصله في اللغة التصديق، لكن الإيمان الشرعي لابد فيه من أعمال القلوب والجوارح مع اعتقاد القلب وتصديقه وإقراره واعترافه، وهو يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد ورد فيه آثار كثيرة وأحاديث أفردنا الكلام فيها في أول شرح البخاري، ولله الحمد والمنة ].
الحافظ ابن كثير رحمه الله له شرح على البخاري ، وما أدري هل وجد منه شيء أم لا.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ومنهم من فسره بالخشية، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [الأنبياء:49].
وقوله: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق:33].
والخشية: خلاصة الإيمان والعلم، كما قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].
وقال بعضهم: يؤمنون بالغيب كما يؤمنون بالشهادة، وليسوا كما قال تعالى عن المنافقين: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14].
وقال: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1].
فعلى هذا يكون قوله: (بالغيب) حالاً، أي: في حال كونهم غُيَّباً عن الناس ].
الخشية هي: خوف مع علم، فهي أبلغ من الخوف، ولهذا قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] ؛ لأن الخشية الكاملة تكون للعلماء، وإلا فكل مؤمن يخاف الله عنده أصل الخشية، والخشية الكاملة هي خشية العلماء، وفي مقدمة العلماء الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.
وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أما الغيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة وأمر النار وما ذكر في القرآن.
وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو عن سعيد بن جبير- عن ابن عباس : بِالْغَيْبِ [البقرة:3] قال: بما جاء منه. يعني: من الله تعالى. وقال سفيان الثوري عن عاصم عن زر قال: الغيب القرآن.
وقال عطاء بن أبي رباح : من آمن بالله فقد آمن بالغيب. وقال إسماعيل بن أبي خالد : يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3] قال: بغيب الإسلام ].
وهذه الألفاظ كلها مرادة، فالغيب: ما لم يشاهده الإنسان، والمؤمن يؤمن بما أخبر الله به في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من أمر الغيب، فيؤمن بالله وبالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر خيره وشره، والبعث بعد الموت، والجنة والنار، وبما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة مما يكون في آخر الزمان، وبما يكون في القيامة من الحشر والنشر والحساب والصراط والميزان والحوض، فكل هذا داخل في الإيمان بالغيب.
وقوله: (بغيب الإسلام) ظاهره أنه ما أخبر به الإسلام من أمور الغيب وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، أو جاء في كتاب الله من أمور الغيب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال زيد بن أسلم : الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3] قال: بالقدر. فكل هذه متقاربة في معنى واحد ].
وكلها حق وأمر مطلوب، ولكن عادة السلف رحمهم الله أنهم يفسرون الكلام ببعض معناه، والمراد به الكل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فكل هذه متقاربة في معنى واحد؛ لأن جميع هذه المذكورات من الغيب الذي يجب الإيمان به.
وقال سعيد بن منصور : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كنا عند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه جلوساً، فذكرنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما سبقونا به، فقال عبد الله : إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بيناً لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيماناً أفضل من إيمانه بغيب، ثم قرأ: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:1-3] إلى قوله: الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5].
وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم في مستدركه من طرق عن الأعمش به، وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وفي معنى هذا الحديث الذي رواه أحمد : حدثنا أبو المغيرة أنبأنا الأوزاعي حدثني أسيد بن عبد الرحمن عن خالد بن دريك عن ابن محيريز قال: قلت لـأبي جمعة : حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: نعم، أحدثك حديثاً جيداً: (تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، فقال: يا رسول الله! هل أحد خير منا أسلمنا ومعك وجاهدنا معك؟ قال: نعم، قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني).
طريق أخرى: قال أبو بكر بن مردويه في تفسيره: حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن مسعود حدثنا عبد الله بن صالح حدثنا معاوية بن صالح عن صالح بن جبير قال: (قدم علينا أبو جمعة الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس يصلي فيه، ومعنا يومئذ رجاء بن حيوة، فلما انصرف خرجنا نشيعه، فلما أراد الانصراف قال: إن لكم جائزة وحقاً، أحدثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلنا: هات رحمك الله، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا معاذ بن جبل عاشر عشرة، فقلنا: يا رسول الله! هل من قوم أعظم منا أجراً آمنا بالله واتبعناك؟ قال: ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء، بل قوم بعدكم يأتيهم كتاب من بين لوحين يؤمنون به ويعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجراً مرتين) ].
إن صح هذا الحديث فإن هذه تكون فضيلة خاصة، فهم أفضل من جهة الإيمان بالغيب، وهذا مثل حديث القابض على دينه كالقابض على الجمر، فإن فيه (للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم، فقالوا: يا رسول الله! أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين منكم).
فيكون له أجر خمسين من جهة صبره على الدين وتحمله مع كثرة المنكرات وعدم المعين على ذلك، ولا يدل هذا على أنه أفضل من الصحابة، فهم أفضل الناس بعد الأنبياء، قال عليه الصلاة والسلام: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم). فالقاعدة تقول: الفضيلة الخاصة لا تقضي على الفضائل العامة، فهذه فضيلة خاصة في هؤلاء، وفضيلة لمن آمن بالغيب، لكنها لا تقضي على الفضائل العامة، فالصحابة أفضل الناس، فالصحبة لها مزية، وكذلك الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبليغ الدين، والسبق إلى الإيمان، والهجرة، والجهاد، فهذه أعمال عظيمة لا يلحقهم فيها من بعدهم، ولهذا قال فإن بعض السلف قيل له: أيهما أفضل معاوية بن أبي سفيان أو عمر بن عبد العزيز ؟ فقال: إن الغبار الذي دخل في أنف معاوية من جهاده مع رسول الله خير من عمر بن عبد العزيز وعدله.
فالمقصود من هذا أن مزية الصحبة والسبق إلى الهجرة والجهاد لا يلحق الصحابة فيها أحد بعدهم، وإن كان من بعدهم قد يكون له فضيلة ومزية خاصة؛ لكنها لا تقضي على الفضائل العامة، فهذه قاعدة.
وكذلك الفضائل التي تكون للأنبياء، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور). يعني أن هذه منقبة لموسى، أي: هل لم يصعق، أم أنه صعق وأفاق قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه مزية، لكنها لا تدل على أنه أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم.
ومثل ما ورد في الحديث الصحيح: (أن الناس يحشرون يوم القيامة حفاة عراة، وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم) عليه الصلاة والسلام، فهذه مزية له، لكنها لا تدل على أنه أفضل من نبينا صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه مزية خاصة، والمزايا العامة تكون للفاضل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم رواه من حديث ضمرة بن ربيعة عن مرزوق بن نافع عن صالح بن جبير عن أبي جمعة بنحوه.
وهذا الحديث فيه دلالة على العمل بالوجادة التي اختلف فيها أهل الحديث ].
الوجادة: هي أن يجد إنسان كتاباً فيه مرويات محدث فيرويها عنه، فهل ذلك حجة أم ليس بحجة؟ فلو قال صاحب الكتاب: يروي عني من أخذ هذا الكتاب صار هذا الفعل إجازة، لكن المراد هنا إذا وجد كتاباً فيه مرويات محدث ثم روى عنه، فهل هو حجة أو ليس بحجة؟
في ذلك خلاف بين أهل العلم، وهذا الحديث فيه العمل بالوجادة؛ لأنه لما سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم -إن صح الحديث- عمن هم أعظم منهم إيماناً قال: (قوم بعدكم يأتيهم كتاب من بين لوحين يؤمنون به ويعملون بما فيه). فقوله: (يأتيهم كتاب بين لوحين) هذه هي الوجادة، يعني: يجدون القرآن والسنة ويؤمنون بهما، فهذا حجة لمن قال بالعمل بالوجادة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهذا الحديث فيه دلالة على العمل بالوجادة التي اختلف فيها أهل الحديث كما قررته في أول شرح البخاري؛ لأنه مدحهم على ذلك، وذكر أنهم أعظم أجراً من هذه الحيثية لا مطلقاً، وكذا الحديث الآخر الذي رواه الحسن بن عرفة العبدي : حدثنا إسماعيل بن عياش الحمصي عن المغيرة بن قيس التميمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي الخلق أعجب إليكم إيماناً؟ قالوا: الملائكة، قال: ومالهم لا يؤمنون وهم عند ربهم؟! قالوا: فالنبيون، قال: ومالهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟! قالوا: فنحن، قال: ومالكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟! قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن أعجب الخلق إلي إيماناً لقوم يكونون من بعدكم يجدون صحفاً فيها كتاب يؤمنون بما فيها).
قال أبو حاتم الرازي : المغيرة بن قيس البصري منكر الحديث.
قلت: ولكن قد روى أبو يعلى في مسنده، وابن مردويه في تفسيره، والحاكم في مستدركه من حديث محمد بن أبي حميد -وفيه ضعف- عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله أو نحوه، وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد روي نحوه عن أنس بن مالك مرفوعاً، والله أعلم ].
هذا إذا كان الضعف ليس شديداً بحيث يشد بعض الأحاديث بعضها إن لم يكن فيه متروك، ومحمد بن حميد الرازي أظن أنه يضعف عند الحاكم، وحديث أنس هذا رواه البزار في مسنده من طريق قتادة عن أنس رضي الله عنه وقال: غريب.
إذاً: فيه ضعف وعنعنة قتادة، واحتمال أنه يشد بعضه بعضاً؛ لأن محمد بن حميد بن حيان الرازي حافظ ضعيف، وكان ابن معين حسن الرأي فيه، وهو من العاشرة.
فيكون الحديث حسناً لغيره، فيكون حجة، ففيه دلالة على أن من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم له هذه المزية، وله هذه الفضيلة الخاصة، والإيمان بالغيب مزية فيها فضيلة على الصحابة، لكن الصحابة لهم ميزتهم وفضلهم وسابقتهم ونصرتهم وجهادهم مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وحديث أحمد الأول الذي قال فيه: حدثنا أبو المغيرة ، أنبأنا الأوزاعي، حدثنا أسيد بن عبد الرحمن، عن خالد بن دريك عن ابن محيريز، كل رجاله هؤلاء ثقات إلا أن خالد بن دريك جاء في سند عند أبي داود أنه يروي عن عائشة، وهو لم يدرك عائشة ، ولكن هنا يروي عن ابن محيريز، وهو من نفس طبقته.
وذكر ابن المنذر أنه روى عنه، وقال عنه في التقريب: ثقة يرسل.
وإذا كان قد روى عن ابن محيريز فنه يكون متصلاً، فرجاله كلهم ثقات، وليس فيه انقطاع فتكون الأحاديث الثلاثة التي بعده تقويه وتشده، وتدل على أن من بعد الصحابة الذين آمنوا بالغيب لهم هذه المزية العظيمة وهذا الفضل العظيم.
قال في فتح الباري: إن الحديث الذي رُوِيَ عن ابن دريك عن ابن محيريز إسناده صحيح.
قال في التقريب: خالد بن دريك بالمهملة والراء والكاف، بوزن (كليب) ثقة يرسل.
فهذا الحديث ثابت، فيدل على أن الإيمان بالغيب فيه فضل ومزية، وهي مزية لمن آمن بالغيب على الصحابة من هذه الجهة.
وسؤال أبي عبيدة بقوله: (هل أحد خير منا؟) مقيد، وهذا هو التأويل جمعاً بين النصوص الكثيرة التي تدل على أن الصحابة هم أفضل الناس، كحديث: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)، حيث إنَّ التقييد إنما جاء من الجمع بين الأحاديث، فالأحاديث التي فيها فضل الصحابة هي في فضيلة ومزية عامة للصحابة، فهم خير الناس وأفضل الناس، ولا يلحق بهم من بعدهم في الصحبة والجهاد مع الرسول صلى الله عليه وسلم والهجرة وتبليغ الشريعة وغير ذلك، وأما من بعدهم فقد تكون لهم فضائل خاصة، مثل الإيمان بالغيب، ومثل الصبر على الدين عند الفتن.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن محمد المسندي ، حدثنا إسحاق بن إدريس ، أخبرني إبراهيم بن جعفر بن محمود بن سلمة الأنصاري ، أخبرني جعفر بن محمود عن جدته بديلة بنت أسلم ، قالت: صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة، فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا سجدتين، ثم جاءنا من يخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام، فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء، وصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام)، قال إبراهيم : فحدثني رجال من بني حارثة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه ذلك قال: أولئك قوم آمنوا بالغيب).
هذا حديث غريب من هذا الوجه ].
بديلة ذكرها ابن حجر في الإصابة، فمرة قال: نويلة، ومرة قال: تويلة ، ورجح تويلة.
وذكر أنها نويلة بالنون في تهذيب الكمال، وقالابن حجر في التهذيب تويلة بالتاء، وفي الإصابة قال كذلك، وكذلك ابن الأثير في أسد الغابة.
وهذا الإسناد فيه إسحاق بن إدريس، قال عنه ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، قال: ضعيف الحديث. وسئل أبو زرعة عنه فقال: واهي الحديث ضعيف: يعني إسحاق بن إدريس ، وقال ابن أبي حاتم : عن جعفر عن محمود قال أبو حاتم : صالح.
فعلى هذا يكون الحديث ضعيفاً، وقد يكون صحيحاً إن جاء له متابع، فلو صح كان هذا من الإيمان بالغيب؛ لأنهم صدقوا، لكن قد يقال: إنهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن يسألوه بعد ذلك، فهم ليسوا كمن جاء بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا في مسجد آخر.
وقد ذكر النسائي عن ابن عمر هذا الحديث، أي أن هذا الحديث له طريق آخر يعضده ويشده، فيكون حسناً لغيره.
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: ومن الإيمان: الإيمان بجميع ما أخبر الله به من الغيوب الماضية والمستقبلة، وأحوال الآخرة، وحقائق وأوصاف الله وكيفيتها، وما أخبرت به الرسل من ذلك، فيؤمنون بصفات الله ووجودها ويتيقنونها، وإن لم يفهموا كيفيتها.
فكل هذا من الإيمان بالله وصفاته وأسمائه، والإيمان بالملائكة وأحوالهم وكيفياتهم، وأنهم أشخاص وذوات محسوسة، والإيمان بالكتب المنزلة، والإيمان بالرسل، والإيمان باليوم الآخر، كل هذا داخل في الإيمان بالغيب، ويكلون علم الحقيقة إلى الله عز وجل.
وقال قتادة : إقامة الصلاة: المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها.
وقال مقاتل بن حيان : إقامتها: المحافظة على مواقيتها وإسباغ الطهور فيها، وتمام ركوعها وسجودها، وتلاوة القرآن فيها، والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا إقامتها ].
كل هذه الأقوال حق، فإقامة الصلاة تشمل إتمام الركوع والسجود، وتشمل المحافظة على الطهور، والمحافظة على الوقت، والمحافظة على الخشوع، والإتيان بها في الجماعة، ومتابعة الإمام، والعناية بحضور القلب، والإخلاص، فكل هذا داخل في الإقامة؛ لأن الإقامة معناها: الإتيان بالشيء تاماً بجميع حقوقه، يقال: أقام الشيء، أي: أقام حقوقه.
وكون بعض السلف قال: إقام الصلاة: إتمام الركوع والسجود، وبعضهم قال: المحافظة على الطهور ونحو ذلك؛ إنما هو من تفسير المعنى ببعضه على عادة السلف، وكل تلك الأقوال تشملها الآية، فإقامة الصلاة: أن يقيمها بإخلاص وصدق ورغبة ورهبة، وأن يؤديها في وقتها في جماعة، وأن يحافظ على الركوع والسجود، ويحافظ على الطهارة، ويحافظ على متابعة الإمام، فكل هذا داخل في الإقامة.
وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ، قال: نفقة الرجل على أهله، وهذا قبل أن تنزل الزكاة.
وقال جويبر عن الضحاك: كانت النفقات قرباناً يتقربون بها إلى الله على قدر ميسرتهم وجهدهم، حتى نزلت فرائض الصدقات سبع آيات في سورة براءة مما يذكر فيهن الصدقات هن الناسخات المثبتات، وقال قتادة: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فأنفقوا مما أعطاكم الله، هذه الأموال عوارٌ وودائع عندك يا ابن آدم يوشك أن تفارقها ].
قوله: [عوارٍ]: جمع عارية، وأصله: عواري، ثم حذفت الياء، أي: أمانة في يدك وعارية لابد من أن تردها، وأنت مؤتمن على هذه الأموال لتؤدي حق الله منها، فتؤدي الزكاة، وتؤدي النفقات الواجبة، وكذلك مؤتمن على كسب هذه الأموال، فهل كسبتها من حلال أم من حرام أم من متشابه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ واختار ابن جرير أن الآية عامة في الزكاة والنفقات، فإنه قال: وأولى التأويلات وأحقها بصفة القوم أن يكونوا لجميع اللازم لهم في أموالهم مؤدين ].
وهذا هو الصواب، كما قال ابن جرير، أي أن الآية شاملة في الزكاة وفي الصدقات، كصدقة التطوع، فهم ينفقون مما رزقهم الله من الزكاة فيؤدونها، ويؤدون النفقات الواجبة الشرعية، ويتصدقون أيضاً وينفقون في الأمور الخيرية.
قال رحمه الله تعالى: [ فإنه قال: وأولى التأويلات وأحقها بصفة القوم أن يكونوا لجميع اللازم لهم في أموالهم مؤدين، زكاة كانت ذلك أو نفقة من لزمته نفقته من أهل أو عيال وغيرهم ممن يجب عليهم نفقته بالقرابة والملك وغير ذلك؛ لأن الله تعالى عم وصفهم ومدحهم بذلك، وكل من الإنفاق والزكاة ممدوح به محمود عليه.
قلت: كثيراً ما يقرن الله تعالى بين الصلاة والإنفاق من الأموال، فإن الصلاة حق الله وعبادته، وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه وتمجيده والابتهال إليه ودعائه والتوكل عليه، والإنفاق هو من الإحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم، وأولى الناس بذلك القرابات والأهلون والمماليك ثم الأجانب، فكل من النفقات الواجبة والزكاة المفروضة داخل في قوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:3].
ولهذا ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت).
والأحاديث في هذا كثيرة ].
والله سبحانه وتعالى كثيراً ما يقرن بين الصلاة والزكاة، وبين الصلاة والنفقة؛ لأن الصلاة فيها إحسان في عبادة الخالق، والزكاة والنفقة فيها إحسان إلى المخلوق.
فالمؤمن يجمع بين الإحسان في عبادة الله والإحسان إلى عباد الله، فلهذا مدحهم الله بذلك وجمع بين الصلاة والزكاة، وذكر وصفهم أنهم يجمعون بين الأمرين: بين الإحسان في عبادة الخالق والإحسان إلى المخلوق.
لها حارس لا يبرح الدهر بيتهاوإن ذبحت صلى عليها وزمزما ].
قوله: [ صلى عليها ] يعني: دعا لها، فالصلاة: الدعاء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال أيضاً:
وقابلها الريح في دنهاوصلى على دنها وارتسم ].
الدّن: كأس الخمر، أو إناء الخمر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أنشدهما ابن جرير مستشهداً على ذلك.
وقال الآخر -وهو الأعشى- أيضاً:
تقول بنتي وقد قربت مرتحلاًيارب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي نوماً فإن لجنب المرء مضطجعا ].
قوله: [ مثل الذي صليت ]: يعني دعيت، والشاهد أن الصلاة معاها الدعاء، والأوصاب: الأمراض والأوجاع.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يقول: عليك من الدعاء مثل الذي دعيته لي، وهذا ظاهر، ثم استعملت الصلاة في الشرع في ذات الركوع والسجود والأفعال المخصوصة في الأوقات المخصوصة بشروطها المعروفة وصفاتها وأنواعها المشهورة ].
فالصلاة هي أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم، لها أوقات خاصة وهيئات خاصة، وأركان خاصة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال ابن جرير: وأرى أن الصلاة سميت صلاة لأن المصلي يتعرض لاستنجاح طلبته من ثواب الله بعمله مع ما يسأل ربه من حاجته].
قوله: [ الاستنجاح طلبته ] أي: لطلب نجاح الحاجة، فالاستجاح: استفعال من النجاح.
أي أن الصلاة مشتملة على دعاء العبادة ودعاء المسألة.
فدعاء العبادة: الركوع والسجود، والقيام والقعود، والتشهد والقراءة.
ودعاء المسألة: كأن يقول المصلي: رب اغفر لي، والدعاء في آخر التشهد دعاء مسألة، فهو مشتمل على دعاء العبادة ودعاء المسألة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقيل: هي مشتقة من الصلوين إذا تحركا في الصلاة عند الركوع والسجود، وهما: عرقان يمتدان من الظهر حتى يكتنفان عجب الذنب، ومنه سمي المصلي، وهو التالي للسابق في حلبة الخيل، وفيه نظر.
وقيل: هي مشتقة من الصلي وهو ملازمة للشيء من قوله تعالى: لا يَصْلاهَا أي: لا يلزمها ويدوم فيها، إِلَّا الأَشْقَى [الليل:15]، وقيل: هي مشتقة من تصلية الخشبة في النار لتقوم، كما أن المصلي يقوم عوجه بالصلاة، إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]، واشتقاقها من الدعاء أصح وأشهر. والله أعلم ].
الصواب أن الصلاة مأخوذة من الدعاء، وهذا هو الأقرب؛ لأن المصلي يدعو دعاء بلسان الحال وبلسان المقال، فدعاؤه بلسان الحال: ركوعه وسجوده، وقيامه وقعوده وتشهده، وبلسان المقال كدعائه بين السجدتين: رب اغفر لي، وفي آخر التشهد. وأما الزكاة فسيأتي الكلام عليها في موضعه إن شاء الله تعالى.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة البقرة الآية [3] للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي
https://audio.islamweb.net