إسلام ويب

لقد أرسل الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم مبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وأنزل معه كتابه تبياناً لكل شيء، وهدى وموعظة للمتقين، وكما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن فقد جاء بالسنة، فالسنة مبينة للقرآن وشارحة وموضحة له؛ ولذلك كان لابد من التسليم لنصوصها، والإذعان لأوامرها، فكما يسلم لله عز وجل ولكتابه، فلابد من التسليم لرسوله صلى الله عليه وسلم ولسنته، لأنه المبلغ عن رب العالمين، ولأنه لا يستقيم للإنسان الدخول في هذا الدين إلا بالتسليم الكامل للكتاب والسنة.

الغاية من خلق الإنسان

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد:

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: خلق الله الكون كله بسمائه وأرضه، وبأشجاره وأنهاره، وبحاره وسهوله، وكل ما فيه لك أنت أيها المكلف، وخلقك أنت له، فانشغل بما خلقت له، ولا تنشغل بما خلق لك.

يا لها من كلمات! ويا له من غواص! ولعله استقى ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نفث في روعي الروح الأمين أنه لن تموت نفس حتى تستوفي أجلها ورزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)، فما خلق لك فسيأتيك، وما خلقت له فلا بد أن تسعى إليه.

الأدلة على أن الغاية من خلق الإنسان هو توحيد الله

إن الله جل في علاه خلق الخلق لمهمة جسيمة ولغاية عظيمة، وقد جمعها في قوله جل في علاه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وقال جل في علاه: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وقال جل من قائل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، فخلق الله الخلق لمهمة جسيمة وهي توحيده عز وجل، فالدنيا بأسرها أشرقت على شمس التوحيد، وما خلقها الله إلا لتسبح بحمده جل في علاه.

أنواع التوحيد

وتوحيد الله نوعان: توحيد العبادة، أو: توحيد الخالق في أسمائه الحسنى وصفاته العلى وفي ربوبيته وإلهيته، وتوحيد الرسالة.

فتوحيد الخالق هو: توحيد الله جل في علاه، وتوحيد الرسالة هو: توحيد الإتباع.

وقد قال بعض العلماء: إن بينهما تلازماً، فإن توحيد الخالق لا يمكن أن يكون إلا بتوحيد الإتباع، قال بعض العلماء: بينهما تلازم وثيق.

وتوحيد النبي صلى الله عليه وسلم هو: إفراده بالاتباع صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: بل بينهما علاقة تضمن، فتوحيد الله جل في علاه لا يكون إلا بتوحيد الاتباع، وهو: إفراد النبي صلى الله عليه وسلم بالاتباع.

توحيد الاتباع

من أهم أنواع التوحيد: توحيد الاتباع، أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإن القرآن العظيم فيه آيات كثيرة تبين لنا وتجلي أهمية هذا التوحيد، وتوحيد الاتباع هو: إفراد النبي صلى الله عليه وسلم بالاتباع.

الأدلة على وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم

قال الله جل في علاه: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (لا ألفين أحدكم على أريكته شبعان يأتيه الأمر من أمري فيقول: ننظر في كتاب الله، فما وجدناه حلالاً أخذنا به، وما وجدناه حراماً تركناه)، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم مؤسساً أصلاً: (وإنما حرم رسول الله كما حرم الله)، وفي رواية: (ألا وإني قد أوتيت القرآن ومثله معه).

وقد أناط الله جل في علاه طاعته بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يقبل طاعة إلا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، حيث يقول: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، وأقوى من ذلك وأرقى أن الله جل في علاه علق الإيمان على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال جل من قائل: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، وقال جل من قائل: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ [النساء:65]، وهنا أكد بمؤكدات ثلاثة، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].

ومن ادعى محبة الله جل في علاه، وادعى توحيده فإن ذلك لا يكون إلا بتوحيد اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ادعى قوم محبة الله، أو كمال توحيده جل في علاه امتحنهم الله بهذه الآية الممحصة، فقال: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31].

وأما السنة فهناك الكثير من الأدلة يبين فيها النبي صلى الله عليه وسلم أن توحيد الله لا يتم أبداً إلا بتوحيد اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.

اتباع النبي صلى الله عليه وسلم شرط لقبول العبادة

وقد أخبر الله جل في علاه أنه لا يقبل عبادة إلا عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم لا عن طريق الهوى ولا الفقهاء، ولا غير هؤلاء، وإنما عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33]، ويظهر من هذه الآية أنك إن لم تطع الرسول في هذه العبادة التي تتقدم بها عند الله جل في علاه فإن الله لا يقبل هذه العبادة، وهي باطلة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ [محمد:33]، ثم شدد فقال: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [محمد:33]، أي: طاعة مستقلة؛ ليبين التلازم بينهما، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33].

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ر)، أي: باطل لا يقبل عند الله جل في علاه؛ لأنه لم يخرج من مشكاة النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي رواية أخرى قال: (من أحدث في ديننا هذا ما ليس منه فهو رد).

اتباع النبي صلى الله عليه وسلم شرط لدخول الجنة

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الفوز بالجنة والسعادة الأبدية لا تكون إلا لمن أطاع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال كما جاء عنه في الصحيحين -بأبي هو وأمي-: (كل أمتي يدخل الجنة إلا من أبى). فاندهش الصحابة هل هناك أحد يأبى أن يدخل الجنة؟ (فقالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً كما في قصة الثلاثة النفر وهي لا تخفى، عندما قال الأول: (أقوم ولا أنام، وقال الثاني: أصوم ولا أفطر، وقال الثالث: لا أتزوج النساء)، فكأنهم تقالوا عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فيبين النبي صلى الله عليه وسلم مصححاً مقال الصحابة الكرام أن الأعمال ليست بالاجتهاد، ولا بالقيام ولا بالصيام، ولكنها بالاتباع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم معلناً لهذه الأمة أن رأس قبولها عند الله جل في علاه في اتباعه، فقال: (أما أنا فأقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم مصوراً لنا ما يحدث على عرصات يوم القيامة واختلاج أقوام من بين يديه عند الحوض، فيقول: (ربي! أصحابي .. أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً .. سحقاً لمن بدل بعدي)، أي: بعداً .. بعداً لمن بدل بعدي؛ فإن ميزان القبول هو طاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وتمام التوحيد وأساسه لا يكون إلا من خلال اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.

شرطا السيادة والقيادة لأمة محمد

إن الله خلق هذه الأمة لتكون لها مطلق الريادة والقيادة والسيادة، ولكنه اشترط لهم شروطاً حتى تكون لهم هذه القيادة والريادة، وهذه الشروط هي: التمسك بكتاب الله وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم، كما روى الحاكم بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم (بشر هذه الأمة بالرفعة والسناء)، وقال أيضاً: (أمتي كالمطر لا يدرى أين الخير فيها أفي أولها أم في آخرها؟).

اتباع الصديق للنبي صلى الله عليه وسلم

إن أروع الأمثلة التي ضربها الرعيل الأول، ذلك الرعيل الزكي النقي الذي تمكن من ربوع الأرض مشارقها ومغاربها، والذي تمكن من رقاب العباد، وعبّد العباد لرب العباد؛ لأنهم تمسكوا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، موقفهم في المحنة والشدة التي كانت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ارتد من ارتد من العرب، وكفر من كفر من العرب، وما بقي إلا قلة من المؤمنين، فلما حدثت الفتنة وأطلت برأسها على أهل المدينة والحجاز ومكة قام أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه يعلمنا بلسان حاله أن هذه الأمة لن تثبت إلا بالتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

فقام خطيباً في الناس بعد ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن قام عمر في وجه الناس يقول: إن محمداً لم يمت، وإنما ذهب إلى ربه، وليرجعن وليقطعن أيدي المنافقين، فقام أبو بكر ، فقال: على رسلك يا عمر ، فما سكت، فقال: إليك عني.

ثم قام خطيباً في الناس فقال: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.

ومن هنا وقفت الأمة وثبتت على أرض راسخة، وبعد هذا الثبات ثبتت مرة أخرى في حرب الردة عندما قام عمر يعارض أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه في قتال قوم قالوا: لا إله إلا الله. فقال: كيف تقاتلهم؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله)، وقد قالوها. ولكن أبا بكر كان أفقه من عمر ، فقاس الأمر وفيه نص صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال متمسكاً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم -لأن فيها النجاة-: والله والذي نفسي بيده لو منعوني عناقاً أو عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه.

ولذلك قال إسحاق بن راهويه رضي الله عنه وأرضاه: ثبت الله هذا الدين بـأبي بكر في حرب الردة، وبـأحمد بن حنبل في الفتنة.

والغرض المقصود: أن أبا بكر ثبت وثبتت معه الأمة في التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وهناك أمثلة تبين كيف كان يتحرى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاءته الجدة تسأله عن ميراثها قال لها: أما في كتاب الله فلا أعلم لك فرضاً ولا أعلم لك شيئاً، ثم قال: وأما في سنة النبي صلى الله عليه وسلم فلا أعلم ولعله غاب عني سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، فارجعي إلي حتى أسأل الناس، فجمع المهاجرين والأنصار فسألهم عن نصيب أو عن فرض الجدة، فقام المغيرة بن شعبة وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل لها السدس، فقام محمد بن مسلمة أيضاً فقال: وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى لها بالسدس.

فقد كان يتمسك ويعض بالنواجذ على سنة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى نهجه صلى الله عليه وسلم، ولذلك أصبح بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادى بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أصبح أفضل الأمة بعد نبينا صلى الله عليه وسلم.

وعندما جاءه عمر بن الخطاب يقول له: اعزل خالداً ؛ لأن خالداً في قتال مسيلمة قتل مالك بن نويرة ، فجاء أخوه ينعى ذلك، وكان خالد متأولاً، في ذلك؛ لأنه سمعه يقول: إن صاحبكم قد فرض على الناس الزكاة، فقوله: صاحبكم، يقصد به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال خالد : صاحبنا! أوليس بصاحب لك؟! فقتله، وحسبه ارتد ولم يكن كذلك، فتأول فقتله، فكان القتل تأولاً.

فقام عمر فقال: اعزل خالداً فقد قتل المسلمين، فقال له أبو بكر -وانظر إلى دقة نظر أبي بكر ؛ لأنه قد وفق بحق وثبت بحق بالتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان تمسكه بها رفعة ونصراً لهذا الدين- فقال له: والله والذي نفسي بيده لا أغمد سيفاً سله رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان ذلك راجعاً إلى عضه على سنة النبي صلى الله عليه وسلم بالنواجذ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّر خالد بن الوليد على سرية، فقتل بعض من قال: صبأنا صبأنا، وأرادوا الإسلام ولكنهم أخطئوا، فقالوا: صبأنا صبأنا، فلما قالوا: صبأنا صبأنا حسب خالد أنهم على الكفر فقتلهم، وهم كانوا يريدون أن يقولوا له: خرجنا من هذا الدين ودخلنا في دين الإسلام، ولكنهم لم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا أسلمنا، فقالوا: صبأنا صبأنا، فقتلهم متأولاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما بلغه الأمر: (اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد)، أي: إن هذا فعل لا يصح، ولم يعزله النبي صلى الله عليه وسلم، وأقره على عمله،فكان حري بـأبي بكر أن يفعل مثل ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد ، ولا يعزله من مكانه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، فلما عظ بالنواجذ على فعل النبي صلى الله عليه وسلم كان ذلك نصراً للإسلام.

وأيضاً أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد على جيش عرمرم ليغزو الروم، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أسامة من الصغر بمكان قال عمر: اعزل أسامة . يعني: اجعل أحداً من أشياخ المهاجرين أو الأنصار ليكون أميراً عليهم، فقال له أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: والله لا أنزع أحداً وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الخير كل الخير في ما وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فثبت الله له الأمة بتمسكه بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

اتباع الفاروق للنبي صلى الله عليه وسلم

لقد وعى الدرس جيداً عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فتمسك بتلابيب سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان لا ينام ولا يقوم إلا على سنة، حتى إنه لما طاف بالبيت ذهب إلى الحجر الأسود فقبله متعجباً وهو يقول: والله إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك، فهو هنا يعلن التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ تعبداً لله جل في علاه، كما قال تعالى: لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].

فالذي حمله على أن يقبل حجراً لا ينفع ولا يضر هو اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن ذلك أيضاً أنه عندما سئل عن دية الجنين لما قدم رجل من أهل البادية يسأله عن ذلك، فقال: انتظر حتى نرى في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل فقام المغيرة بن شعبة ، ومحمد بن مسلمة وقالا له: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل في دية الجنين غرة أو وليدة، فحكم به؛ لأنه سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

اتباع عثمان للنبي صلى الله عليه وسلم

و عثمان أيضاً يبين للناس أن النجاة كل النجاة في التعبد، ولا يمكن إلا باتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فعندما أُتى بماء ليتوضأ منه قال: قد توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو وضوئي هذا.

فهذا فيه تحري عثمان الخليفة الراشد لسنة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يطبقها ويعلمها للناس.

اتباع علي للنبي صلى الله عليه وسلم

وأيضاً علي رضي الله عنه قال: كان تحت إمرة عثمان ، وكان في الحج، فنهى عثمان بن عفان عن المتعة، وكان علي بن أبي طالب فقيهاً بحق، فعلم أن المتعة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت).

فقام علي بن أبي طالب وقال لـعثمان: أتمنع الناس من المتعة؟ وكان هذا اجتهاداً لـعثمان، لكننا هنا لا ننظر إلى اجتهاد عثمان؛ لأنه خالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كلاً يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن لم نجد أحداً يخالف عثمان فعلى الرحب والسعة، فقال له علي: أتمنع الناس من التمتع وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستحب ذلك؟ لا والله لا نخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد كائناً من كان، ثم قام يعلنها أمام عثمان ولم يعنفه عثمان ؛ لأنه احتج بسنة، وكلهم يحترمون ويعظمون سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وقام علي وقال: لبيك اللهم بعمرة متمتعاً بها بلا حجة.

الأمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين

فهذا هو تمسك الخلفاء الراشدين المهديين بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة أن ينظروا في سنته، فإن لم يجدوا سنة من النبي صلى الله عليه وسلم فعليهم بسنة الخلفاء الراشدين، فقال كما في حديث العرباض بن سارية في مسند أحمد وفي السنن بسند صحيح: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، فقلنا: كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال: عليكم بتقوى الله والسمع والطاعة)، أي: السمع لولاة الأمور والطاعة. ثم قال: (فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً)، وهذا في الرعيل الأول وفي قرون الخيرية، فما بالنا في هذه الأيام؟! فقال: (فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).

وأيضاً في مسند أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر ، وعمر )، وهذا لشدة تمسكهم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جعل لهم سنة مستقلة نأخذ بها إن لم نرَ سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

تمسك الصحابة بسنة النبي صلى الله عليه وسلم

وهذا هو دأب الصالحين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودأب الأكارم والأماجد والسلف الصالح الذين كانوا يعضون بالنواجذ على سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

فهذا بحر العلوم الذي لا ساحل له، والذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (اللهم فقه في الدين، وعلمه التأويلابن عباس حبر هذه الأمة، قام خطيباً في الناس في الحج يعلمهم تفسير كتاب الله جل في علاه، ويقول لهم: إن من السنة أن تتمتع بالعمرة إلى الحج، وكان ابن عباس يرى الوجوب، والجمهور على الاستحباب، والراجح: الاستحباب، فلما قال ذلك قام رجل فقال: يا ابن عباس! كيف تقول ذلك؟ وقد قال أبو بكر بعدم المتعة، وقال عمر بعدم المتعة.

فقال: توشك السماء أن تمطر عليكم حجارة، أقول لكم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر.

فالنجاة النجاة والتمسك بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ويروي أبو هريرة حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في الوضوء مما مسته النار، وكان هذا في بادئ الأمر، وأصبح ذلك منسوخاً، وهناك اختلاف فقهي.

فقام ابن عباس يعترض على أبي هريرة ، فقال لـأبي هريرة : أنتوضأ من الحميم؟ فقال له أبو هريرة : يا ابن أخي إذا حدثتك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تضرب له الأمثال.

وكان ابن عمر رضي الله عنه الذي يتتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم حذو القذة بالقذة، وكان يدافع عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم حتى على أبيه، فعندما سألوه عن التمتع في الحج قال: هي سنة، فقالوا له: أبوك يخالف ذلك، أي: يقول: بغير ما تقول، فقال: ما أمرنا باتباع غيره.

وهذا ليس نفياً مطلقاً لاتباع سنة عمر بن الخطاب وإنما هو مقيد بمخالفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن لم يخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم فلا بد أن نأخذ بقوله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين)، وأما عند المخالفة فإنما أمرنا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي واقعة لـابن عمر تكتب بماء الذهب مع ابنه عندما بين له فضل التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فعارضه ابنه بالنظر، قال ابن عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)، فقال له ابنه: والذي نفسي بيده لنمنعهن، إذاً: يتخذنه دغلاً، أي: يجلسن يتحدثن في أمور الدنيا، ويغتبن، ويتكلمن في أمور لا تنفع ولا تضر، فنمنعهن من هذا فهو أفضل، وكان هذا نظر عائشة رضي الله عنها وأرضاها عندما قالت: (والله لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلت النساء اليوم لمنعهن من المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل).

فقال له الولد: والذي نفسي بيده لنمنعهن، فقال له ابن عمر : لعنك الله، وهذا كلمة ليست بالهينة، وإنما هي نارية، فمعناها الطرد من رحمة الله جل في علاه. فقال: لعنة الله عليك، أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: نمنعهن! لا كلمتك أبداً. فقيل: إنه ما كلمه حتى مات؛ حفاظاً على سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وأيضاً هذا ابن مسعود الذي مدحه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (من أراد أن يأخذ القرآن غضاً طرياً فعليه بـابن أم عبد )، وابن مسعود كان على الكوفة ومعه أبو موسى الأشعري ، فسئل ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه عن رجل مات وترك بنتاً وأختاً وبنت ابن كيف يورثوا؟ وقبل أن يسأل ابن مسعود رضي الله عنه، سئل عنها أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه، فنظر فيها وقال: للبنت النصف، وللأخت الباقي تعصيباً، وهذا التعصيب يسمى تعصيباً مع الغير.

فذهبوا إلى ابن مسعود فسألوه وقالوا: إن أبا موسى الأشعري قال: كيت وكيت في مسألة المواريث، فقال ابن مسعود: إن قلت بقوله فقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، أي: إنني إن خالفت سنة النبي صلى الله عليه وسلم فهو ضلال ولا يمكن أن يكون هداية، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى البنت النصف، وأعطى بنت الابن السدس تكملة الثلثين، وأعطى الباقي للأخت؛ تعصيباً مع الغير.

فالشاهد: أن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه لما رأى مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ضلالاً قال: قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، وهذا هو شأن الصالحين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد عضوا بالنواجذ على سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم علموا أن النجاة لا تكون إلا باتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلموا أن العبادة لا تقبل عند الله إلا باتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

تمسك الأئمة الأربعة بسنة النبي صلى الله عليه وسلم

وجاء الأئمة الأربعة ففعلوا كما فعل الصحابة، فارتقوا كما ارتقوا، وتمكنوا كما تمكنوا.

فهذا الإمام أبو حنيفة الذي قال فيه الإمام الشافعي : الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة وقد كان في مكان يضعف فيه أن يأخذ الأثر عن الثقات، فقدم النظر على الأثر الضعيف الذي لم يخرج من أفواه الثقات الأثبات، وأبو حنيفة نفسه يقول: إذا وجدتم قولي يخالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضربوا بقولي عرض الحائط، وخذوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا هو قول الإمام مالك عندما قال: كل يأخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر.

وجاء رجل إلى الإمام مالك وقد أراد أن يلبي بالعمرة أو بالحج من قبل الميقات فقال له الإمام مالك: لا تفعل، قال: ولم إنما أفعل ذلك زيادة في الخير. فقال له: لا تفعل لا ترى نفسك فعلت شيئاً قد قصر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني أخشى عليك الفتنة. مع أنه جائز، ولكن لما رأى نفسه قد فعل شيئاً قصر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: أخشى عليك الفتنة، فالتخلف عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم تودي بالمرء إلى الفتن، قال الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].

ولما تركت السنة رد الناس إليها الشافعي ، وهو الذي قال فيه الإمام أحمد : كان الشافعي للناس كالشمس للدنيا. وهو الذي رفع راية التمسك بالآثار.

وكان يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي.

ودخل عليه رجل في مجلسه يسأله، وكان هناك من طلبة العلم الكثير، فقام طالب من طلبة العلم قد أذن له الشافعي أن يجيب، فلم يعبأ السائل لهذا الطالب؛ لأن الشيخ موجود، فأجاب الطالب بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هذه المسألة فيها سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فقام الرجل وكان فقهه قليلاً فقال: يا شافعي أتقول بقوله؟ فقال له الشافعي : ولم لا أقول بقوله وقد قال بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أرأيتني خرجت من كنيسة؟ أرأيت في وسطي زناراً؟ وما لي لا أقول بقول النبي صلى الله عليه وسلم.

بل لقد أدب الإمام الشافعي رأساً من رءوس السنة وعلماً من أعلامها، وشيخ البخاري الإمام الحافظ إسحاق بن راهويه ، فقال له كلمة حفرت في صدره إلى أن مات، وذلك أنه لما رحل الإمام أحمد بن حنبل مع إسحاق يريدان ابن عيينة في مكة ليسمعا منه دخلا مكة فقال له أحمد من باب النصح في الله، والدين النصيحة: سأريك رجلاً شاباً لم تر عينك مثله، فعليك به أو فالزمه.

فنظر إليه وقال: نترك مجلس ابن عيينة يقول: حدثنا فلان عن فلان، ونجلس إلى هذا الحدث؟! أي: الرجل الصغير، فقال له الإمام أحمد وكان فقيهاً يعلم الرجال: إن فاتك الحديث من ابن عيينة بعلو فخذه بنزول، يعني: تنزل طبقة وتجد الحديث، فإن فاتك الحديث بعلو فخذه بنزول، وإن فاتك العلم من هذا الفقيه فلن تأخذه من غيره.

فدخل معه جلس في مجلسه، وكان الشافعي يتكلم على رباع مكة هل تملك أم لا تملك؟ وكان الشافعي يرى: أنها تملك، واستدل على ذلك بالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لما نزل مكة قالوا: أتنزل في بيت عقيل ، أو تنزل في بيوت من بيوتك؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من دار؛ لأن عقيلاً ورث أباه وكان كافراً ثم باع هذه الديار؛ فقال: ما ترك لنا عقيل من دار، ولم يفهم إسحاق هذا الحديث ولا مغزى الحديث. ولله در ابن تيمية عندما قال: إذا جاءك الحديث فلك فيه طريقان: إثبات سنده، وفهم متنه.

وفهم المتن هو رأس الأمر، وهو الفقه؛ لأن الفقه: هو الفهم. فلم يعقل إسحاق المغزى من هذا الحديث، وكان يرى عدم البيع، فقال له: يا شافعي ، حدثني فلان عن فلان عن فلان أن عائشة كانت ترى عدم البيع، وحدثني فلان عن فلان أن فلاناً من الصحابة كان يرى ذلك.

فقام الشافعي مستغرباً مندهشاً وقال للناس: من هذا الذي يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم بقول أحد من أصحابه؟ قالوا: إسحاق بن راهويه، قال: هذا فقيه خراسان؟ فقال إسحاق : يزعمون ذلك. ثم تكلم بكلمة فارسية سب بها الشافعي، فقال له الشافعي : تناظر؟ فقال: أناظ، وبعدما ناظره قال له الشافعي : ليتني بك طفلاً صغيراً أعرك أذنك، أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول لي: قالت عائشة ، وقال الزبير ! لا يعارض قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أحد كائناً من كان.

وأختم الأئمة الأربعة بإمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل ، وكيف تحرى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والأقوال الكثيرة في مذهبه يعتذر له فيها أنه كان يتلمس السنة، فيقول بالقول، فيظهر له حديث فيقول بالقول الذي فيه حديث؛ لأنه يتتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال: لا تأخذوا مني، ولا من ابن عيينة ، ولا من الثوري، وخذوا من حيث أخذوا.

يقصد بذلك: أن تأخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، مطبقاً قول شيخه الإمام الشافعي: من استبانت له سنة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يحل له أن يأخذ بقول أحد كائناً من كان.

وقال الإمام ابن القيم:

العلم قال الله قال رسولهقال الصحابة ليس بالتمويه

ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه

فالرفعة كل الرفعة في التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

مخالفة أتباع المذاهب لمذاهبهم المخالفة للسنة

وإليك نبأ القوم الذين جاءوا من بعد هؤلاء الأئمة المتعصبين لمذاهبهم، فإن من مذاهبهم أنهم يوافقون السنة إذا رأوا أنها تخالف المذهب، فمثلاً: الإمام أبو حنيفة كان يتكلم في الاستصناع ويبيحه، لكنه كان يقول أنه غير ملزم؛ لأنه يمكن للبائع أن يقول: لا أبيع لك، ويمكن للمشتري أيضاً أن يرجع عنه. فقام صاحبه محمد بن الحسن فخالفه في الاستصناع، وكذلك أبو يوسف، وقالا: هذا للتقعيد الأثري أقوى.

والإمام مالك مذهبه: عدم الغسل بالتتريب من ولوغ الكلب في الإناء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فاغسلوه سبعاً إحداهن بالتراب)، فكان الإمام مالك لا يقول بالتتريب؛ لعمل أهل المدينة.

فقام بعض أتباعه - أظنه الإمام أصبغ- فقال: سنة النبي صلى الله عليه وسلم تقدم على قول مالك ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعاً، ويعفره الثامنة بالتراب)، فقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم على قول مالك رضي الله عنه وأرضاه.

وكان الإمام مالك لا يرى المسح على الخفين في الحضر ولا في السفر، فقال: وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تقدم على قول مالك ؛ فإنه قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جواز المسح على الخف في السفر يوم وليلة في الحضر، وثلاثة أيام بلياليهن في السفر.

وأيضاً كان الإمام النووي يعلم أنه لا يمكن له أن ينخلع عن مذهب الشافعي ، ومع ذلك لما استبانت له السنة ترك مذهب الشافعي في الوضوء، وذلك أن الشافعي كان يرى أنه لا يجب الوضوء على الإنسان إذا أكل لحم الجزور، فقال الإمام النووي: والسنة وجوب الوضوء على من أكل لحم الجزور، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تقدم على قول الشافعي، بل إن الوضوء من لحم الجزور مذهب الإمام الشافعي أي: أخذه من قول الشافعي : إذا صح الحديث فهو مذهبي.

والعلماء يقولون: كل شافعي وللشافعي عليه منة إلا الإمام البيهقي ، فإن له منة على الشافعي ، فإنه تتبع كلام الشافعي ودلل عليه بالآثار، فكان يأخذ قول الشافعي ويأتي بالحديث الذي يؤكد ما ذهب إليه الشافعي ، وعندما لا يجد سنة في قول قاله الشافعي فإنه يرجع الأمر إلى السنة.

فمثلاً: كان الشافعي يرى أن الوضوء ينتقض بلمس المرأة الأجنبية، لقول الله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [النساء:43].

فقال البيهقي: وصحت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء.

واستدل على ذلك بحديث في السنن والبخاري وهو حديث صحيح أن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل إحدى نسائه فيذهب فيصلي ولا يتوضأ، فقال لها عروة: ما هي إلا أنت، فضحكت).

قال البيهقي: فهذه سنة قد ثبتت من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قبل إحدى نسائه، وذهب فصلى ولم يتوضأ فهذا مذهب الشافعي، ونقل قولاً للشافعي من أن الوضوء لا ينتقض بلمس النساء.

فهؤلاء من الذين يتبعون السنة، وقد قالوا: نعلنها صراحة وإن كان الإمام مبجلاً، وإن كان الإمام يؤخذ بقوله، فهذا عند عدم ورود الأثر، فأما إن جاء الأثر فلا قول لأحد، وإنما كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وللكمال مراتب أربع.

المراتب التي يلزم توافرها لمن أراد الكمال

العلم بالسنة

المرتبة الأولى: العلم بالسنة، فلا يمكن أن يخطو المرء المكلف خطوة إلى الكمال إلا بالعلم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وبما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم مستنهضاً همم الأمة لتعلم سنته صلى الله عليه وسلم: (فضل العالم على غير العالم كفضلي على أدناكم).

فيا لها من كرامة، وأيضاً صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً ولكن ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بخظ وافر).

وكان صلى الله عليه وسلم يميز بين درجة العابد ودرجة العالم ويقول: (فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب). وشتان شتان بين القمر ليلة البدر وبين سائر الكواكب.

إذاً: فالمرتبة الأولى لمن أراد الكمال: العلم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى من خطى هذه الخطوة أن يتذكر قول الله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]، وقوله جل في علاه: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].

العمل بالسنة

أما المرتبة الثانية: العمل بهذه السنة، فإن العلم ينادي بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل.

وقد كان سفيان الثوري رحمة الله عليه يقول: يا أهل الحديث زكوا عن الحديث، فسأله سائل: كيف نزكي؟ قال: على كل أربعين حديث يعمل بحديث واحد.

وقال الزهري: من عمل بحديث تعلمه مرة واحدة كان من أهله.

فلا بد من العمل بعد التعلم، فإن الله جل في علاه قدم ذلك فقال: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19].

الدعوة إلى السنة

المرتبة الثالثة: الدعوة بعد التعلم، وأن تنشر هذا العلم بين الناس، وقد قال ابن عيينة : خير الناس الواسطة بين رب الناس وبين الناس، وقد كان صلى الله عليه وسلم يأمر الأمة أن يبلغوا عنه، فقال: (بلغوا عني ولو آية)، وقال صلى الله عليه وسلم (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعها فأدها كما سمعها، فرب مبلَّغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه ليس بفقيه)، وفي رواية أخرى: (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه).

فهذه المرتبة الثالثة لمن أراد الكمال، وكلها تدور حول سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

الصبر على العمل والدعوة

أما المرتبة الرابعة: فهي الصبر على العمل والدعوة؛ فإن أصحاب السنة غرباء، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عندما قال: (لا تزال طائفة) يقللها، وهم أصحاب السنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم).

فلا بد أن تصبر على ذلك، وكفاك قول الله تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].

واعلم أن الله جل في علاه قد أمرك بأمر لا بد أن تأخذ به، وهو: اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].

نسأل الله الكمال كله دقه وجله.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , توحيد الاتباع للشيخ : محمد حسن عبد الغفار

https://audio.islamweb.net