إسلام ويب

ابتدأ الشيخ حفظه الله الخطبة بذكر الحكمة الإلهية من خلق الإنسان، وهي: العبادة، وبيّن أن من امتثل الأمر فأطاع واستجاب؛ فهو ناج من عذاب الآخرة، وأن من عصى وتكبر ورفض الاستجابة لربه فقد سبب لنفسه الشقاء في الدنيا والأخرى. وقد ذكر حفظه الله أنواع الظلم، وبين أنها ثلاثة أنواع: ظلم العبد لربه، ولنفسه، ولغيره. ثم ذكر عاقبة الظلم. ثم خلص بعد ذكره لما تقدم إلى أن الاستجابة هي الخيار الأمثل بل هي الخيار الوحيد، وتحدث عن حال الرافض للاستجابة عند الموت وما بعد ذلك، وختم خطبته ببشرى لمن استجاب لربه تعالى.

الحكمة من خلق الإنسان

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على هديه واقتفى أثره إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فيا عباد الله: لقد خلقنا الله عز وجل لعبادته.. لم يخلقنا عبثاً، ولم يتركنا هملاً، قال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ [الأنبياء:16]، وقال سبحانه: ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص:27]، وقال جل جلاله: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصفْحَ الْجَمِيلَ [الحجر:85]، وقال عز وجل: لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء:17-18] وقال جل وعلا: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:115-116].

لم يخلقنا ربنا ليتكثر بنا من قلة، ولا ليتعزز بنا من ذلة، ولكن خلقنا وأوجدنا لرسالة سامية، ولغاية نبيلة، ولهدفٍ جليل بيَّنه الله في كتابه، وقال فيه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58].

خلقنا وأمرنا بطاعته، وبين لنا أن سبيل السعادة والفوز في الدنيا والآخرة هو سبيل الطاعة، فقال عز وجل: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132]، وقال عز وجل: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:71]، وقال: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً [النساء:69].

خلقنا الله لعبادته وطاعته ونهانا عن معصيته، ومخالفة أمره، والتمرد على شرعه ودينه، وتوعدنا إن نحن عصيناه بالنار، وأخبرنا أننا لا نستطيع أن نفلت من قبضته، ولن يمنعنا منه أحد، فإنه يمنع من كل شيء، ولا يُمنع منه شيء وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا [هود:102-108] نسأل الله بفضله أن يجعلنا من الذين سعدوا بطاعة الله، سعدوا، وبالاستجابة لأوامره، وبالسير على منهجه؛ فكان جزاؤهم: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ * فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ [هود:108-109].

أما من يضل وينحرف ويرفض السير على الطريق المستقيم؛ فلا تحزن عليه، وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل:127]، ويقول رب العزة والجلال: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [فاطر:8]، فإنهم مراقبون وتحت الرصد الرباني، وسوف يُقبض عليهم، ولن يفلتوا من قبضة الله. وهناك وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ [هود:109].

نهى الله عن معصيته.. فهو لا يحب أن يعصى، يقول ابن القيم في كتابه الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، وهو ينقل أثراً قُدسياً، يقول الله عز وجل: (إني إذا أُطعت رضيت، وإذا رضيت باركت، وليس لبركتي نهاية، وإني إذا عُصيت غضبت، وإذا غضبت لعنت، ولعنتي تبلغ السابع من الولد) غضب الله لا يقوم له شيء.

ففي يوم القيامة حين يدمر الله هذا الكون ويغير معالمه من أجل فصل القضاء بين العباد يقول الله: إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ [الانفطار:1-4] ويقول سبحانه: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ [التكوير:1-2]، ويقول عز وجل: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق:1].

هذه العوالم كلها تتغير عن طبيعتها، ويُبعث من في القبور يقولون: مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا [يس:52] أي: من أيقظنا من رقدتنا الطويلة هذه؟ فيقول أهل الإيمان: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس:52-53].

في تلك اللحظات يبلغ الكرب مبلغه بالناس، والشمس تدنو من الرءوس حتى تغلي منها أدمغة العباد كما يغلي اللحم في القدور، وليست هناك عمارات ولا سيارات ولا مظلات، إلا مظلة واحدة: مظلة الرحمن يظل بها سبعة فئات، سبعة أصناف من الأمة، والبقية في عرصات القيامة؛ الشمس تصهرهم صهراً، وتغلي منها أدمغتهم، ويسيل منهم العرق حتى يلجمهم العرق إلجاماً، والناس في كربٍ عظيم، واليوم طويل، مقداره خمسون ألف سنة.

أنت إذا وقفت في طابور تنتظر إجراء معاملة، أو قطع تذكرة، وقفت عشر دقائق، أو ربع ساعة، أو نصف ساعة أو أكثر تعجز، لكن في يوم القيامة تقف خمسين ألف سنة، وكيف يكون هذا الوقوف؟

يقول الله عز وجل عن هذا الوقوف: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إبراهيم:42].

أنواع الظلم وعواقبه

الظلم كلمة عامة يحملها الناس على محمل ونوع واحد، لكن الظلم ثلاثة أصناف: ظلم العبد لربه، وظلم العبد لنفسه، وظلم العبد لغيره.

ظلم العبد لربه

ظلم العبد لربه بأن يشرك به؛ لأن الله يقول: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه، ومعناه هنا: أن تجعل العبادة لغير ربك الذي خلقك، أو أن تصرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله، أو أن تجعل لله نداً وهو خلقك، أو أن تخاف، أو أن ترجو، أو أن تدعو، أو تستغيث، أو تلجأ، أو تقدم نوعاً من أنواع العبادة من ذبحٍ أو قربى لغير الله، هذا كله شرك حتى لو كان لنبي أو ولي أو ملك.

لا تفعل كما يفعل بعض الناس في غير هذه البلاد.. يطوف بالقبر، ويزور الولي، ويقدم له النذور والقربات، ويقول: يا سيد العارفين -ومعلوم أن العارف لا يُعرَّف، والشكوى على أهل البصيرة عيب- أنت تعلم ما في نفسي. -يقول هذا لصاحب القبر الذي لا يعلم شيئاً كأنما يخاطب الله سبحانه وتعالى.

هذا شرك أكبر مخرج من الملة.. لا ينفع معه صوم ولا حج ولا صلاة ولا عبادة؛ لأن الله يقول: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23] الشرك عظيم ولا يغفره الله.. شرك الدعاء والرجاء والاستعانة والاستغاثة والتوكل والنذر والذبح، وأي نوع من أنواع العبادة لا تصرف إلا لله، يقول الله عز وجل للقبوريين الذين يطوفون بالقبور، ويقدمون لها النذور ويعبدونها من دون الله، يقول الله لهم: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14] فالظلم: أن تصرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله.

ظلم العبد لنفسه

ظلم العبد لنفسه: أن يرد بها المعاصي، ويتعدى بها الحدود؛ والله يقول: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق:1] إذا تعديت حدود الله ببصرك فنظرت به إلى الحرام فقد ظلمت نفسك، وإذا تعديت حدود الله بأذنك فسمعت بها الحرام من الغناء أو الكذب أو الغيبة أو النميمة فقد تعديت حدود الله وظلمت نفسك، وإذا تكلمت بلسانك كلاماً يسخط الله فقد ظلمت نفسك، وإذا بطشت بيدك أو مددتها على ما لا يحل فقد ظلمت نفسك.

وقد تقول كيف ظلمت نفسي؟ أقول لك: إن هذه الجوارح التي هي ملك يمينك، وفي قبضتك، ورهن طاعتك؛ في يوم القيامة تشهد عليك، يقول الله عز وجل: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [فصلت:19] عجيبةٌ هذه الكلمة! فهي تهز نياط القلوب، تأمل كيف يصف الله هؤلاء الناس بأنهم أعداؤه! ومن كان عدواً لله فويل له ثم ويل له من عداوة الله، من ينصره على الله، وهو الذي بيده مقاليد كل شيء؟ خلقك، ورزقك، ودبَّرك، ثم كلَّفك، ثم أمهلك، ثم هو يدعوك ليقبضك، فكيف ترد عليه وهو عدوك؟ إذا وردت على عدو قادر عليك فكيف يكون وضعك؟! قال الله: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [فصلت:19] أي: يجمع أولهم على آخرهم، كما تجمع الغنم إذا أدخلتها في زريبتها.

حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ [فصلت:20] أذنك التي تَسرها بالأغاني تشهد عليك يوم القيامة، شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ [فصلت:20] عينك هذه التي تمتعها بالنظر إلى الجميلات.. تعذبك يوم القيامة وتكون ضدك وَجُلُودُهُمْ [فصلت:20] يعني: تشهد عليك جميع جوارحك بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [فصلت:20].

فيستغرب أعداء الله في هذا الموقف، ويستنكرون هذا التصرف من جوارحهم، ويقولون لها: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا [فصلت:21]، نحن مارسنا الذنوب، وسرنا في المعاصي من أجلكم، ومن أجل تلبية رغباتكم.. سمعت الغناء لأمتعك أيتها الأذن! ونظرتُ إلى الحرام لأمتعك أيتها العين، وسرت في الزنا لأمتعك أيها الفرج! فلم شهدتم علينا؟ والجوارح مأمورة لا تملك شيئاً، فمن أنطق هذه اللحمة ينطق هذه الشحمة، قال عز وجل: قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت:21] لا نملك من أمرنا شيئاً، أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ [فصلت:21-22] أي: ما كنتم تستطيعون أن تمارسوا العظائم والذنوب والمعاصي مستترين عن جوارحكم.. هل يستطيع الإنسان أن يعصي وينظر إلى الحرام بغير عينه؟ لا. وهل يسمع الحرام بغير أذنه؟ لا. هل يستطيع أن يعصي بجسم آخر؟ لا. فهم شهود عدول حضروا الواقعة ليس فيهم جرح أبداً وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ [فصلت:22] هذا هو السبب.

غابت عنكم مراقبة الله وكنتم تستخفون من الناس ولا تستخفون من الله، تخجلون من الناس ولا تخجلون من الله، إن الزاني إذا انفرد بالزانية ثم علم أن هناك طفلاً عمره سنتان ينظر إليه لا تجرأ على الزنا.. يستحي ويخاف من مخلوق وينسى الله ونظره إليه، وظن بالله أنه لا يعلم بحاله وأفعاله، قال الله: وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ [فصلت:22-23] هذه العقيدة الفاسدة، وهذا التصور الممسوخ.. أنك لست تحت رقابة إلهية وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ [فصلت:23-24] ظلمك لنفسك أن توردها المعاصي، فلا تظلم نفسك بل انجُ بنفسك، وتذكر أن عينك اليوم هي عينك لكنها غداً عدوك، وأذنك اليوم هي أذنك ولكنها غداً تبرز هناك تشهد عليك وتكون عدوك.

هل الأسلم لك أن تنجو بنفسك من عذاب الله، أو أن تستمر كالدابة التي تساق إلى حتفها بظلفها وهي لا تدري؟

تهلك نفسك بسماع الغناء، والنظر إلى الحرام وأكله، والبطش بالحرام والسعي إليه، وترك الطاعات، ثم تندم ولكن حين لا ينفع الندم.

هذا هو الظلم الثاني.

ظلم العبد لغيره

الظلم الثالث هو: ظلم العبد لغيره، لا تظلم مسلماً بهتك عرضٍ، أو بأكل مالٍ، أو بعدوانٍ، أو بأي صورةٍ من صور الظلم، والظلم ظلمات يوم القيامة، وهو يشمل المجتمع من القمة إلى القاعدة، كل واحد في الدنيا مسئول، فأنت في بيتك مسئول عن زوجتك وأولادك، وفي رئاستك مسئول عن رعيتك.

فلا تظلم زوجتك فتوردها موارد الهلكة فتوفر لها المعاصي والذنوب.. لا تظلمها فتأمرها بالتبرج والتكشف والخروج بلا حجاب على غير محارمها.. لا تظلمها فتمارس عليها ضغوطاً نفسية وقهرية؛ لأنك في مركز قويٍ.

بعض الناس يقول أنا رجل وهذه امرأتي، وماذا في ذلك؟ فيعاملها معاملة الدواب!!

كيف والله يقول: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228] وهذه الدرجة هي القوامة والمسئولية، أما الحقوق فمتساوية كل بحسبه، لكن الزوجة في نظر الدين شريك، ولا بد لكل شركة من مدير، هل سمعتم بأن شركة لها مديران؟ ستخرب الشركة مباشرة.

فالبيت والحياة الزوجية شركة ولا بد لها من مسئول! ومن المسئول فيها؟ الرجل أو المرأة؟ إن الله عز وجل أعطى المسئولية للرجل، ليس تفضيلاً ولا تكريماً ولا استبزازاً ولا تسلطاً، فقد تكون المرأة أفضل عند الله من الرجل بألف درجة، لكن زيادة عهدة وتكليف، قال الله تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ[النساء:34] فهذا تفضيل في أصل التكوين، فالرجل قوي شجاع يواجه الصعاب، وهذه كلها مميزات يجب أن تكون في القائد والمسئول، ثم وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ[النساء:34] والرجل يدفع المهر والنفقات.

أما الحقوق والواجبات فلها حقوق وعليها حقوق، فلا تظلمها انتبه! لا تظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله؛ لأن بعض الناس كالدجاجة والفأر في جميع ميادين الحياة، أما أمام زوجته فإنه أسد، إذا دخل يستعمل كافة الصلاحيات أمام الضعيف، فيضربها، وينهرها، ويزجرها، ويمارس معها كل أساليب الضغط؛ لأن الناس خارج البيت يضغطون عليه، ولا قدرة له عليهم، فيولد انفجاراته على هذه الضعيفة ، وهي مسكينة ما عندها حول ولا طول، فماذا تصنع؟ تدعو الله عليه، فينصرها الله ولو بعد حين، فلا تظلم زوجتك، ولا أولادك، ولا جارك، ولا أباك بمعصيته، ولا أمك بعصيانك لها، ولا أي مسلم أبداً.

هذا في محيطك الأسري، وفي محيطك العملي أيضاً أنت مسئول، ولو كنت كاتب استيراد وتصدير، لا بد أن تكون عادلاً لا تظلم، وإذا كنت مسئولاً مسئولية أكبر لا تظلم، كما لو كنت رئيس قسم، انتبه! عندك موظفون في القسم، يجب أن تكون عادلاً بينهم، في توزيع العمل، وإتاحة الفرص، والترقية، والدورة أو البعثة أو الانتداب أو أي شيء، كن عادلاً، لا تحب شخصاً دون غيره، لا تحب زميل اللهو واللعب وتكره زميل المسجد والطاعة، تقول: هذا (مطوع)، والله لا يذهب في دورة ولا بعثة ولا يأخذ ترقية؛ هذا مُعقد!

هذا سيعطيه الله حقه كاملاًً من ظهرك يوم القيامة، وإذا كنت مدير إدارة أيضاً فلا تظلم، وإذا كنت ضابطاً عندك جنود لا تظلمهم.

أي موقع أنت فيه فاتق الله فيه؛ لأن الظلم ظلمات، والله يقول في الحديث القدسي في حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه -وهو صحيح-: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا).

ما أعده الله للظالمين من عذاب أليم

يقول الله عز وجل: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم:42]، إن الله لا يغفل عنك، وأنت غافل عنه! أنت مغرور بكرسيك، بجاهك، بمالك، بقوتك وعضلاتك، لكن الله ليس بغافل عنك، ولكن ماذا سيصنع بك؟ قال: إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ [إبراهيم:42-43] الفؤاد: فارغ، والقلب: ارتفع إلى الحنجرة، عندما تكون أنت في الطائرة، ويأتي مطب هوائي تحس أن قلبك ارتفع من مكانه؛ ولهذا تربط نفسك بحزام الأمان من أجل أن تشد على قلبك وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ [إبراهيم:44] يقولون: أعطنا فرصة يا رب! ومهلة وإمكانية نجب دعوتك.. نرفع المظالم، ونعدل مع الناس، ومعك يا رب في أن نوحدك، ومع أنفسنا فلا نعصيك.

نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ [إبراهيم:44] لكن انتهت فرصة هذا التافه، قال الله عز وجل: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ [إبراهيم:44-48] هذا الشاهد من الآيات: تبدل الأرض غير الأرض والسماوات تبدل غير السماوات وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ [إبراهيم:48-49] في السلاسل والأغلال، يقرنون كما تقرن البقر في الأضماد: كل اثنين، كل ثلاثة، كل عشرة مقرنون، ليزداد عليهم النكال والعذاب.

سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [إبراهيم:50-52].

أهمية الاستجابة لله قبل فوات الأوان

إن الله عز وجل حذرك من معصيته وتوعدك بناره إن عصيته، وأنت بالخيار في ذلك، وعليك أن تختار الأفضل والبديل الأمثل الذي يسعدك في الدنيا والآخرة وهو: أن تستجيب لله، أما المعصية فهي خيار سيئ، والكفر بديل خسيس مرهق متعب في الدنيا والآخرة، ولكن اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ [الشورى:47].. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، إن الحياة الحقيقية إنما تنبع من مقدار استجابتنا لله ولرسوله، فمن كان مستجيباً فهو حي، ومن كان غير مستجيب فهو ميت، ولو كان يأكل ويشرب، فالحمير، والبقر، والكلاب، والخنازير، تأكل وتشرب لكن ليس لها حياة الأرواح، كما قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [محمد:12]. ويتمنى الكافر والفاجر يوم القيامة إذا رأى الحمير والبقر تحولت إلى تراب أن يكون مثلهم فيقول: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً [النبأ:40] ليته كان ثوراً وله ذيل وقرون، لكن (يا ليت) لا تبني بيتاً، ولا تنفع يوم القيامة.

فالحياة الصحيحة عندما تستجيب لله، يقول الله عز وجل: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ [فاطر:19] الأعمى أي: الكافر الفاجر، والبصير يعني: المؤمن الطائع، وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ [فاطر:20] الظلمات: الكفر، والنور: الإيمان، وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ [فاطر:21] الحرور: الكفر، والظل: الإيمان، وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ [فاطر:22] الأحياء: أهل الإيمان، والأموات: أهل الكفر والنفاق والمعاصي، ثم قال: إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ [فاطر:22-23].. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24].

يا رب! ما جزاء من يستجيب؟ وما عقوبة من لا يستجيب؟ هذا ما سنذكره في الخطبة الثانية.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

الاستجابة لداعي الله في الأرض

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، ونشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فالمستجيب لله لا يتردد، بل يكفيه داعٍ واحد فقط، وهذا شأن الصحابة عندما سمعوا داعي الله، حتى كان الرجل يدخل في الإسلام فيتغير كل شيء في حياته من نفس اللحظة التي دخل فيها للإسلام.

لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير كسفير له وداعية إلى المدينة قبل الهجرة، فكان أول سفير في الإسلام يرسل لتمهيد العلاقات الدينية هو مصعب بن عمير ، ومصعب هذا شاب من شباب الإسلام، كانت أمه من أثرياء مكة ، وكان له منها عطاء وهبات، وكان إذا مشى في طريق يعرف الناس أن هذا الطريق مشى فيه مصعب بسبب الرائحة التي فيه، ولما أسلم عارضته أمه، وقطعت عنه الهبات فأصبح فقيراً حتى أنه لما قتل في غزوة أحد وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم ليدفنه، ما وجد لديه إلا قطعة ثوب إن غطي بها رأسه انكشفت قدماه، وإن غطيت بها قدماه انكشف رأسه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فغُطي بها رأسه ووُضع على رجله من شجر الإذخر، وقال: (لقد كنت أرى مصعباً وهو أنعم شاب في مكة ) لكن هنيئاً له الجنة.

مصعب عندما قدم المدينة وجلس يعلم الناس، وعلم سعد بن معاذ بالخبر، أرسل إليه أسيد بن حضير ، وقال: أسكت هذا الرجل، وإذا أبى فأت برأسه.

فلما جاء أسيد قال له: اسكت، فقال مصعب : اسمع ما نقول فإن أعجبك وإلا سكتنا، فجلس عنده، فقرأ عليه من القرآن، فدخل الإيمان في قلبه مباشرة، قال: ماذا يقول من أراد أن يدخل معكم في دينكم؟ قال: يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فشهد شهادة الحق، ثم قال لـمصعب : ذاك الجالس زعيم قومه -أي: سعد بن معاذ - اصدق الله فيه يا مصعب.

فرجع أسيد، فقال سعد : والله إن أسيداً رجع بوجه غير الوجه الذي ذهب به.

فهو ذهب بوجه كافر، وعاد بوجه مسلم، تغيرت ملامحه من أول لحظه رغم أنه لم يعمل شيئاً إلا شهادة الحق، فلما جاء إلى سعد قال له: ما لك لم تسكته؟ قال: اذهب أنت أسكته، يريده أن يذهب هو حتى يسمع الكلام، فأخذ رمحه، وقام مغضباً، وركب جواده، وجاء إلى مصعب وقال له: اسكت، قال له: اجلس واسمع ما نقول، فإن أعجبك وإلا كففنا عنك، قال: لقد أنصفت، فقرأ عليه القرآن -والذي يقرأ بإخلاص، ويدعو بإخلاص؛ يرجو بعمله وجه الله؛ يجعل الله في عمله بركة وخيراً- فما إن دخلت هذه الآيات أذن سعد إلا وأعلن شهادة الحق ودخل في دين الله، وهو زعيم الأوس ورئيسهم، ولما رجع قال لقومه: ما أنا فيكم؟ قالوا: أنت سيدنا، وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا، قال: فإن طعامكم، وكلامكم، وشرابكم علي حرام إن لم تؤمنوا بمثل ما آمنت به، فآمنوا كلهم فما بقي بيت من بني عبد الأشهل إلا دخله الإسلام تلك الليلة، تأمل! تجد لديهم استسلاماً واستجابة فورية.

عاقبة المصر على ذنبه الرافض للاستجابة

المصيبة في هذا الزمان أن كثيراً من الناس ما استجاب رغم أنه يدعى منذ زمن، كم سمع من المواعظ والخطب وقرأ القرآن وهو يُمني نفسه ويسوف به الشيطان؟ يحضر كل جمعة الخطبة، ويسمع بصريح العبارة بياناً من الله: أن الغناء حرام ولكنه مصر على الغناء، فبيته مليء بالغناء، وكأنه يعاند الله، الله يقول: اسْتَجِيبُوا [الأنفال:24] وهو يقول: أنا مستجيب، لكن هذه لا. يسمع كل يوم أن النظر للنساء لا يجوز، وهو مصر على النظر، ما استجاب لله في هذه الأوامر، وأن الله حرم عليه الربا، وهو مُصر على الربا، وأن الله حرم الزنا وهو يتوق إلى الزنا، وأن الله أمره بالصلوات الخمس في المسجد مع الجماعة من غير تأخير ولا تعللات، -خصوصاً العشاء والفجر- وهو لا يأتي إلا صلاة الجمعة مرة في الأسبوع، أو الظهر لأنه في الدوام، يريد أن يأخذ نصف ساعة من الدوام باسم الصلاة، ولكنه يوم الخميس لا يذهب للجماعة لأنه في البيت، أو المغرب لأنه أتى من التمشية، لكن العشاء والفجر، هنا الاختبارات الربانية لا يصمد فيها إلا أهل الإيمان، أما أهل النفاق فإن فشلهم يظهر فيها، كما جاء في الحديث -وهو صحيح- قال عليه الصلاة والسلام: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً) والله لو يدري المنافق ما في الفجر والعشاء ثم ما استطاع أن يأتي إلا حبواً على قدميه وركبتيه ويديه والله ما تأخر، لكن لا يدري المسكين ما هو أجر أدائها جماعة، ولا يدري ما هو إثم التخلف عنها!

لكنه سيدري عندما يدخل القبر.. في غرفة التحقيق، هناك يقول: رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99] يقول الحسن البصري : فتقول الملائكة: لَمَ ترجع؟ فيقول: لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:100]، لكي أصلي الفجر، وأصوم، وأعمل الصالحات، فتقول الملائكة: كذبت! أنت من هناك أتيت، أنت من سبعين سنة وأنت على المعاصي والمنكرات.. وقاطع صلاة، ولما ضرب رأسك في القبر تقول: ردوني، أنت كذاب.

قال الله عز وجل: كَلَّا [المؤمنون:100] وهي أداة ردع وزجر وتوبيخ لهذا الكذاب المتلاعب، الذي يعيش ليله ونهاره بعيداً عن الله، وعند دخول القبر يقول: ردوني أعمل صالحاً، قال الله: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المؤمنون:100-102] أي: بالإيمان والعمل الصالح فأولئك هم المفلحون، نسأل الله من فضله وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ [المؤمنون:103] أي: ليس لديه شيء من الحسنات فهو مسكين مفلس، وإن كان عنده في الدنيا عمارة أو وظيفة، أو رصيد، أو منصب، لكن ما عنده شيء في الآخرة، ولما انتقل إلى الآخرة لم يتزود بشيء من الدنيا، فهو لا ينزل قبره بملابسه، ولا سيارته، ولا عمارته ولا أي شيء، لا ينزل القبر بالبدلة الرسمية الموحدة عند الناس كلهم: الكفن، هل هناك تمييز بين الناس في الكفن؟ لا. الأمير والمأمور، والملك، والمملوك، والغني والفقير، والقوي والضعيف، كلهم يُدخل القبر بزي موحد، قال الله: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام:94]، أين عماراتكم ومتاعكم وأولادكم؟ لأن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ:35] يقولون: نحن عندنا مال ورجال، نمتنع بالمال، وندفع بالرجال، نحن أصحاب ثراء، أصحاب رءوس أموال، قال الله تعالى: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى [سبأ:37] والله لا تنفعكم أموالكم شيئاً إلا من كان عنده شيء آخر غير هذا المتاع الزائف، يقول سبحانه وتعالى: إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ:37].

يقول فرعون لأهل مصر: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:51-52]، كان فرعون يرى موسى في أقل درجة، وكان يقول: أنا ربكم الأعلى، لكن أين هو الآن؟ قال الله: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ * وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ [غافر:46-47] لكن ما تنفع هذه المحاجّة.

فيا عبد الله -يا مسلم- يقول الله عز وجل: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً [الكهف:105] ليس لهم قيمة، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ [المؤمنون:102-103] ما عنده شيء مما ينفع في الآخرة.

الآن لو دخل علينا في هذا المجلس ملك الموت -ألسنا على يقين بأننا سنموت كلنا- وقال: يا جماعة! يا أهل هذا المسجد! أنا مأمور بقبض أرواحكم كلكم، وكل واحد يخبرني بما عنده من زاد، وكلكم سيتكلم: أحدكم سيقول: أنا عندي صلاة، وآخر سيقول: أنا عندي قرآن، وثالث يقول: أنا عندي عمارة على الشارع العام، سيقول له: اسكت ما تنفع هذه، ويقول الرابع: أنا مدير، فيرد عليه: لا تنفعك إدارتك، الخامس يقول: أنا عندي أربعة أولاد، وعندي زوجتان، وعندي سيارة، وعندي، فيقول: كلها لا تنفع، أين أصحاب الصلاة والزكاة؟ فيقومون. أين أهل الحج والعمرة؟ فيقومون. أين أهل القرآن والذكر والعبادة؟ هؤلاء هم الذين سينتفعون بما قدموا، أما من كان عنده شيء من الدنيا فلا.

قال: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ [المؤمنون:103-105] يا من تصر على سماع الغناء، والنظر إلى الحرام، والزنا والمعاصي وأنت تسمع آيات الله تتلى عليك، أين عقلك؟ يقول الله: أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [المؤمنون:105]، والتكذيب هنا تكذيب عملي؛ لأن التكذيب القولي للكفار والتكذيب العملي للمنافقين الذين يسمعون أمر الله ويرفضونه، قال الله عز وجل: قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون:106-107]، يقولون: أخرجنا لترى كيف نصنع، لترى منا العمل والعبادة؟!

أيها الأخوة! أسألكم بالله، هل من المنطق والمعقول أن يسوف الإنسان بالمعاصي والذنوب حتى يدخل النار، ثم يقول رب أرجعني؟ فلم لا تعمل من الآن، أم تريد أن تجلس حتى تصل إلى ذلك المصير، ثم تطلب الرجوع ولا تجاب؟ أين عقلك؟! لا إله إلا الله!!

فيكون الرد عليهم: قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108] هناك تُمنع المراجعة، إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ [المؤمنون:109-110]، تتفكهون بهم، وتسخرون منهم، فإذا رأيتم شاباً ملتزماً أطلق لحيته ورفع ثوبه، قلتم: معقد أبله، وإذا رأيتم من يسحب ثوبه ويكنس الشوارع كالمرأة، قلتم: فلان رجل اجتماعي.

وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ [المؤمنون:110] قال الله: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ [المؤمنون:111].

أهمية المسارعة إلى الاستجابة والصبر عن المعاصي

هذه الدعوة لك يا أخي المؤمن أن تصبر على وعورة الطريق، واستهزاء المستهزئين، وآلام ومعاناة ترك المعاصي، إذا أردت أن تترك الغناء لن تكون هذه الخطوة سهلة عليك، ستحس برغبة وشوق إلى سماع أشياء قد تعودتها، لكن قل لنفسك: أريد أن أسمع كلام الله في الجنة، أريد أن أسمع خطاب الحور العين في الجنة، أريد أن يسلم علي الله، ويقول: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:24] أنا أضحي بالأغاني هذه في سبيل تلك الدار الخالدة، ولما أجري مقارنة أجد أن الفرق شاسع والبون عظيم، لكن يحتاج إلى صبر، قال عز وجل: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ [المؤمنون:111]، ثم يُخاطب أهل النار، فيقال لهم: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ [المؤمنون:112] كم بقيتم في الدنيا حتى ضيعتم طاعة الله، وطال عليكم الأمد، لأنكم تقيسون الآخرة على الدنيا، يوم الآخرة خمسون ألف سنة، والدنيا ستون سنة فهي أقل بكثير من يوم: قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [المؤمنون:113] يقولون: نحن لسنا متأكدين فهل مكثنا يوماً أو بعض يوم: فاسْأَلِ الْعَادِّينَ [المؤمنون:113] أي: الذين عندهم تسجيل وعدد، فيقول الله لهم: ...إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً [المؤمنون:114] والله ما نلبث في هذه الحياة إلا قليلاً قياساً على الآخرة لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [المؤمنون:114-118].

لا بد يا أخي أن تستجيب لأمر الله؛ فقد سمعت الكثير، وقامت عليك الحجة، ما بقي عليك إلا أن تقول: إليك يا رب! تائباً مستسلماً منيباً، لا تتردد ولا تؤجل؛ لأنك ربما تموت اليوم، بعض الناس يقول: أنا ما زلت شباباً، يا أخي! كم مات من الشباب مثلك، آلاف من الشباب ماتوا، فهل عندك ورقة أنك لن تموت إلا بعد عشرين سنة، فإذا كان عندك صك بهذا فنقول لك: ما عندنا مانع، ونقول: أخِّر التوبة وقبل الموت بيوم أو يومين تهيأ واستعد، أما ما دام عندك علم بأنك ستموت والموعد مجهول، ما تدري متى الموت فكن دائماً على أهبة الاستعداد، فإن مد الله في أجلك كان لك بكل يوم تعيشه درجة في الجنة، وإن فاجأك القضاء والقدر فإنك لن تتأسف ولن تندم ولن تقول: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100].

فتب يا أخي من الآن وصحح المسار، ومن تاب من الذين قد هداهم الله في الماضي والتزموا بدين الله فعليهم الثبات، إذا عرفت الهداية فلا تلتفت عنها لأنك قد ترجع، الآن سلكت الطريق إلى الله، والله يقول: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153] فلا تلتفت يميناً ولا شمالاً ولا تتوقف؛ لأنك إذا توقفت لحقك إبليسُ وردك، ولكن سِرْ إلى الله بالليل والنهار، بالسر والجهر، حرصاً على طاعة الله، ومحافظة على فرائض الله، وتلاوة دائمة لكتاب الله، وملازمة للذكر، ومتابعة لحلق العلم، وأمراً بالمعروف، ونهياً عن المنكر، ودعوة إلى الله، وحباً في الله، وبغضاً في الله، وطاعة للوالدين.

طاعة الوالدين .. خطوة في طريق الاستجابة

هناك مشكلة عند كثير من الطيبين وخصوصاً الملتزمين فتجده طيباً، ويصلي، ويصحب الإخوة في الله، ويذهب إلى الندوات، لكنه عاصٍ لأمه، هذا لا خير فيه، لأن من لم يكن فيه خير فيه لأمه لن يكون فيه خير للناس، هي أولى الناس بِبِرك، في الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام وقد سئل: (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قيل: ثم من؟ قال: أمك، قيل: ثم من؟ قال: أمك، قيل: ثم من؟ قال: أبوك).

بعض الناس أولى الناس بصحابته زميله، فإذا دعاه زميله وهو جالس قفز كالحصان، وتدعوه أمه وهو جالس يرقد ما يريد أن يلبي لأمه أمراً، لا يجوز ذلك، فكن براً بها، طائعاً لها، منفذاً لرغباتها في غير معصية الله، قد تقول: إنها عاصية، تسمع الأغاني، ولا تصلي، فنقول لك: دورك هنا، من تريد أن يدعو أمك؟ هل تريد أن يأتي من الشارع من يدعو أمك إلى الاستقامة؟ إذا كنت عاجزاً عن دعوة أمك، فهل تريد أن تدعو الناس؟ عليك أن تدعو أباك وأمك أول الأمر، وقد يقول قائل: دعوت، ولم يستجيبوا، نقول: لا. بل سيستجيبون لأنهم مسلمين وليسوا كفاراً، لكنك ما عرفت الطريق إلى قلوبهم، فعليك أن تدعوهم بغير منطق الأمر.

فبعض الشباب يدخل البيت صارخاً هذا حرام وهذا حرام.. ممنوع.. اقعدوا.. قوموا! فتقول أسرته: من أين أتانا هذا؟ من منذ أن اهتدى ما أراحنا في البيت يوماً والله ما ريحنا في البيت، لا يا أخي! هذا بيت ليس لك فيه أمر، إنما لك فيه الدعوة برفق فقط.

أولاً خذ نفسك بالكمال، أما أمك وأبوك وإخوانك فعاملهم باللطف واللين ثم قدم للبيت أكثر مما تأخذ، قد تقول: كيف؟ الجواب: في البيت رابط أربعاً وعشرين ساعة في البيت، لا تخرج إلا للصلاة وتعود، فإذا جاء أباك ضيفٌ إذا بك تصب القهوة، وإذا طرق الباب طارق إذا بك تفتح الباب، وإذا طلبوا منك مطلباً إذا بك تأتي به، ثم قدِّم خدمة لأمك، فإذا رأيتها تعمل في أي عمل شاركها فيه، كما لو كانت تكنس تقول لها: والله ما تكنسي هذه الغرفة أنا سأكنسها، واغسل الصحون فتقول لأمك: اليوم علي تغسيل الصحون، وتغسل الثياب في الغسالة وتقول: اليوم علي، أنا اليوم في البيت غداً أنا بمفردي، دعيني أتعلم، فماذا ستقول أمك؟ ستقول: بارك الله في ولدي هذا، منذ أن هداه الله وهو يغسل الصحون ويشتغل معي في المطبخ، تعتبر أمك الهداية أنك تغسل الصحون، فلما تأتي أمك وتقول لها: يا أمي ما رأيك فيما قمت به؟ فتقول: نعم أحسنت، والله يجزيك خيراً، لماذا؟ لأنك غسلت لها الصحون!!

لكن بعض الشباب يدخل غرفته، وقد رتبت أمه غرفته، لعل لها نصف ساعة ترتبها، فإذا دخل كأنه عفريت يرجم المخدة هناك، والبطانية هنا، ثم يخرج ويتركها، وتدخل الأم وتقول: حسبنا الله! ما هذا الولد؟ حتى فراشه ما أراحني من ترتيبه، فتكرهه وتكره دعوته. وإذا سألوه أين أنت؟ يقول: مع الزملاء لدي موعد.. وإذا دخل ألقى أوامر: افعل.. وافعل.. ولا ينفعهم بشيء؛ هذا يسيء بدعوته، ولا يمكن أن يستجيب له أحد من أهله، لكن باللطف، وبحسن العشرة، وبالمعاملة، وبالخدمة؛ يدخل الناس في دين الله أفواجاً.

بشرى لمن استجاب لله

فيا من اهتدى وسار في الطريق! امشِ، ويا من يتردد! حوِّل الوجهة وانطلق، وكن منتظراً للجزاء العظيم، الذي يقول الله فيه في سورة الرعد: لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى [الرعد:18] ما هي الحسنى؟ الجنة وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [الرعد:18] هل تريد الجنة أم تريد النار؟

كل واحد يقول: أريد الجنة، فهل تريدها بلا مقابل؟... لو أتيت صاحب المخبز وقلت له: تقول: أريد قرصاً من الخبز. فسيقول: هات ريالاً فلو قلت: ما عندي، فماذا يقول لك؟ سيقول: اذهب وابحث عن ريال!!

وأنت تريد جنة عرضها السماوات والأرض بلا مقابل وأنت على المعاصي والذنوب، وبعضهم دجال يخادع الله ويقول: إن الله غفور رحيم، هل الله غفور رحيم لك ولأمثالك؟ نعم إنه غفور رحيم لكن للمؤمنين الذين إذا ساروا في الطريق، وزلت أقدامهم ووقعوا في معصية وتابوا وغفر الله لهم، أما المعاندون لله المحاربون له والذين استدبروا أمره عز وجل ويقولون: الله غفور رحيم، فلا.

ألا وصلُّوا على خير خلق الله فقد أمركم بذلك مولاكم، فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر الكفرة واليهود والملحدين وأعداء الدين، اللهم أنزل عليهم بأسك الشديد وعذابك الأكيد فإنهم لا يعجزونك، اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعل عملهم في رضاك، واهدهم إلى هداك، وارزقهم البطانة الصالحة، ودلهم على ما يرضيك، إنك على كل شيء قدير، اللهم من أرادنا في هذه الديار أو غيرها من ديار المسلمين بسوء أو شر أو كيد فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره، وأنزل عليه بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.

اللهم أصلح شباب المسلمين، اللهم أصلح جميع المسلمين، اللهم بصرهم بهذا الدين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم نور على أهل القبور قبورهم، اللهم اغفر للأحياء ويسر لهم أمورهم، اللهم فرِّج همَّ المكروبين، واشفِ مرضى المسلمين، واقضِ الدين عن المدينين، واكتب الصحة والسلامة لنا والعافية والعودة إلى أهالينا، وجميع المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا غيث الإيمان في قلوبنا، وغيث المطر في بلادنا وأوطاننا، اللهم إن بالعباد والبلاد من اللأواء والشدة والضيق ما لا نشوكه إلا إليك، فلا تحرمنا يا مولانا من فضلك، واسقنا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90] اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , للذين استجابوا للشيخ : سعيد بن مسفر

https://audio.islamweb.net