إسلام ويب

رحلتي العلميةللشيخ : أبو إسحاق الحويني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الرحلة في طلب العلم رحلة مليئة بالذكريات والمواقف، تبتدئ من المحبرة وتنتهي في المقبرة، يُستقى فيها من معين الكتاب والسنة علوم شتى، تتزاحم فيها الركب بين أيدي العلماء، فيتعلم من علمهم ويتأدب بأخلاقهم، وما ذلك إلا جهد يسير تجاه العلم والعلماء، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة.

    1.   

    قصتي مع كتاب (صفة صلاة النبي للألباني)

    إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    لقد طلب مني أن أتحدث عن رحلتي في طلب العلم أو عن مراحل طلبي للعلم، وهذا هو التوصيف الصحيح.

    هذا الموضوع يصعب في الحقيقة على نفسي من أن أتكلم فيه؛ لأني لا أرى شيئاً ذا بال يذكر، لكن سأقول طرفاً من كيفية تحصيلي للعلم وكيف كان، لعل الله عز وجل أن ينفع بها.

    كان أول ما فتحت عيني على العلوم الشرعية سنة (1974م) أو (1975) مع مطلع ازدهار الدعوة السلفية في مصر، وقد كنت أصلي في مسجد العين الحياة الذي كان خطيبه الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله، فكان تجار الكتب يعرضون هناك أصنافاً شتى من الكتب، وبعد أن ننهي الصلاة ننظر في هذه الأرففة، فلفت نظري كتاب اسمه (صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم) للشيخ الألباني بالحجم الصغير، الطبعة الثانية، فتناولت الكتاب وقرأت في مقدمته شيئاً وأنا واقف، فأعجبني أسلوبه، ونظرت إلى حواشي الكتاب فأحسست بفخامة الكتاب، ولكن لا أفهم شيئاً، فسألت عن سعر الكتاب، فكان وقتها أظن بـ(15) قرشاً، ولم أكن أقدر على ذلك الثمن آنذاك، فقلت: أؤجله للأسبوع القادم، فدرت أيضاً أبحث، فوجدت (تلخيص صفة صلاة النبي) للشيخ الألباني ، فتناولته وكان بقرشين أو ثلاثة تقريباً، فلما قرأت هذا الكتاب وجدته يزلزل ما ورثته من الصلاة عن آبائي، أشياء جديدة جداً ومختلفة، فجعلت أحلم باقتناء الأصل، وأنا ما زلت خائفاً أني إذا رجعت إلى المسجد مرة أخرى ألا أجده، فقد يشتريه أحدهم، فعندما اشتريت الأصل -كما يقال- ألقيت الألواح ولاح لي المصباح ونور الصباح، وقرأت المقدمة التي -أحمد الله عز وجل- أوقفتني على الطريق من البداية.

    إن الإنسان الذي يتردد ما بين الأفكار لا يكون منهجه سليماً أبداً، مرة يكون على الفكر الفلاني، فيكتشف أنه أخطأ ثم يحول إلى الفكر الآخر فيكتشف أنه أخطأ مرة أخرى، لكن إذا فتح الله عز وجل عينه على المنهج الصحيح من أول أمره فهذا يكون له فاتحة خير.

    فمقدمة الشيخ الألباني على كتاب صفة الصلاة من أمتع ما قرأت في حياتي حتى الآن، لأنها لخصت القسم الثاني من الشهادة (وأشهد أن محمداً رسول الله) أي: لا متبوع بحق سوى النبي عليه الصلاة والسلام.

    فالله تبارك وتعالى لا شريك له في العبادة، والنبي عليه الصلاة والسلام لا شريك له في الاتباع، فهذه المقدمة كانت مقدمة نفيسة، بدأت أشعر بها أن علم الحديث هو العلم الذي بدونه تبقى العلوم كلها مغلقة، لا تشعر بطعمها ولا حلاوتها؛ لأن علم الحديث علم خادم، وبقية العلوم مخدومة.

    ولك أن تتصور منزلاً فيه أمير، ولكنه لا يستطيع أن يصنع لنفسه كوباً من الشاي! فهو لا يستغني عن الخادم، فبقاء الخادم هو بقاء حياته، كذلك علم الحديث بالنسبة لبقية العلوم الأخرى، علم الحديث يحتاج إليه المتكلم في التوحيد والتفسير والفقه؛ لأن أكثر الأدلة التفصيلية جاءت من السنة، فلو لم يكن الفقيه عالماً بتصحيف الآثار، فمن السهل جداً أن يقصر، بل قد وجدنا هذا في كتب الفقه، وكم من واجب صرفوه إلى مستحب بدليل واهٍ ضعيف أو العكس، ولذلك تجد الفقيه المعظم للدليل العالم بصحيحه من سقيمه؛ تجد لفقهه حلاوة لا تجدها للفقيه الصرف.

    وخذ مثلاً بشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله، عندما يتحدثون في الفقه تشعر أن الفقه مثل الحكاية، تقرأ ولا تمل، لكن اقرأ بعض كتب المعاصرين لشيخ الإسلام ابن تيمية ممن بلغ رتبة الاجتهاد في المذهب، كـعلي بن عبد الكافي المعروف بـتقي الدين السبكي ، وقد كان في نظر البلقيني وولي الدين العراقي -ابن الحافظ زين الدين العراقي - قد وصل إلى رتبة الاجتهاد، وقد وقعت محاورة بين ولي الدين العراقي وبين شيخه البلقيني ، يقول ولي الدين لشيخه البلقيني : لماذا تقي الدين السبكي إذا أفتى يفتي بخلاف الدليل، مع أنه بلغ رتبة الاجتهاد؟ فسكت البلقيني ولم يجبه، فقال ولي الدين العراقي : أظن ذلك لأجل الوظيفة، فقد كانت هناك مدارس في تلك الفترة، فمدرسة تدرس الفقه الشافعي، ومدرسة تدرس الفقه الحنفي، وأخرى الحنبلي... إلخ، فلم يكونوا يسمحون لـتقي الدين السبكي أن يخالف المذهب الشافعي، ولما فعل ذلك ابن رجب الحنبلي مع نباهته اعتزله الحنابلة؛ لأنه خالف ابن تيمية ، فـابن رجب أراد أن يقول: إن ابن تيمية مع جلالته ليس نبياً معصوماً، ومن ذلك أنه خالفه في مسألة الطلاق ثلاثاً، فقد كان ابن تيمية يوقعها واحدة وابن رجب يوقعها ثلاثاً كبقية المذاهب.

    فكذلك جماهير العوام من الشافعية لا يتحملون مخالفة تقي الدين السبكي للمذهب الشافعي، فـولي الدين قال: أرى أن ذلك لأنه كان يشغل منصب قاضي القضاة، وله فضائل على الشافعي .

    قال: فتبسم البلقيني . وكأنه أقره على مثل هذا، فأنت عندما تقرأ لـتقي الدين السبكي في أي مسألة فقهية تشعر أن أمامك عقبات لابد أن تتجاوزها، ألفاظاً -من صعوبتها- تحتاج أن تفتح القاموس لكي تفهمها، بخلاف شيخ الإسلام ابن تيمية ، عندما تقرأ له تشعر بالحلاوة، حلاوة الفقه والعرض، وتشعر معه أن المسألة هبة من الله سبحانه وتعالى.

    فكانت مقدمة الشيخ الألباني في وجوب اتباع النبي عليه الصلاة والسلام مع تشديد نقل ما قاله الأئمة المجتهدون في تعظيم الرسول عليه الصلاة والسلام، وأنه لا ينبغي لأحد أن يوضع في مقابل النبي عليه الصلاة والسلام، وجدد لنا الكلام الذي لم نكن نعرفه عن علماء (إذا صح الحديث فهو مذهبي) ونحو هذه العبارات.

    فعندما قرأت هذه المقدمة وجدت أن علم الحديث ينبغي أن يكون هو أولى العلوم الأكاديمية التي أدرسها، وأقول: (الأكاديمية) حتى لا يُستدرك علي بعلم التوحيد، أقول: أول العلوم الأكاديمية علوم الآلات، طالما دخلنا في الدراسة بعد اعتقادنا أنه لابد من دراسة العلم العيني، الذي لا تصح عبادة المرء إلا به، وإذا كان هناك جهد إضافي فيكون في علم الحديث.

    1.   

    حضور دروس الشيخ المطيعي رحمه الله

    في تلك الفترة كان الشيخ المطيعي رحمه الله صاحب تكملة المجموع في شرح المهذب للنووي ، يعطي في ذلك الوقت أربعة دروس في بيت طلبة ماليزيا، فكان يشرح صحيح البخاري والمجموع للنووي وكتاب الأشباه والنظائر للسيوطي .

    فبدأت أواظب على حضور دروس الشيخ المطيعي رحمه الله، ولكني تكاسلت عن حضور هذه الدروس في أواخر حياة الشيخ المطيعي في مصر بسبب كلمة قالها في الشيخ الألباني ، والألباني هو الذي فتح عيني على الحق فأواليه، وهذه طبيعة الإنسان، ولذلك استأذنت أن أقول: من المفروض أن الإنسان عندما يدرس الفقه يدرسه بالدليل؛ لأنك بهذا تجعل الطالب يوالي صاحب الكلام، الذي هو الرسول عليه الصلاة والسلام.

    وكان من ضمن المسائل التي تكلم فيها المطيعي رحمه الله مسألة قضاء الفوائت، والمعلوم أن الجماهير يقولون بوجوب القضاء حتى على المتعمد، خلافاً لـابن حزم ومن نحا نحوه كـابن القيم مثلاً، واختار هذا القول الشيخ الألباني .

    فأنا عندما قرأت على الشيخ المطيعي ووصل إلى هذا الموضع في تدريس الفقه، قال: إن الصواب الإعادة.

    - فقلت: يا شيخ! هناك من العلماء من يقول: إنه لا يستطيع أن يقضيها ولو أراد؛ لأن الصلاة فاتته من عشر سنوات فكيف يقضيها الآن، والله عز وجل يقول: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103] (موقوتاً) أي: لها وقت أول ووقت آخر، فكما لا يجوز أن يصلي المرء قبل الوقت لا يجوز أن يصلي بعد الوقت.

    - فقال لي: من قال بهذا؟

    - فأنا كنت حديث عهد، ما قرأت في المحلى ولا أعرف أن هذا مذهب ابن حزم ، فقلت له الشيخ: الألباني .

    - قال: من الألباني ؟

    - قلت: هذا عالم.

    - قال لي: من أصحابنا -أي: الشافعية-؟

    - فقلت له: لا، هو عالم معاصر.

    - قال لي: دعك من المعاصرين.

    بعد ذلك جئت أكلم الشيخ المطيعي على مختصر البخاري للشيخ الألباني ،وقال لي: إن البخاري لو أحياه الله لقال: لا أعرف هذا الكتاب، وإن مثل هذا المختصر كمثل رجل كتب حديثاً ثم مزقه -أي: الأوراق- وبدأ يجمع الأوراق مرة أخرى.

    فالحقيقة بعدما سمعت هذا الكلام غضبت قليلاً وقلت: طالما أنه يقع على الشيخ الألباني فأنا لا أحضر الدرس، وتقاعست عن حضور الدروس مدة شهر أو شهرين، لكنني شعرت بحاجتي الشديدة لهذه الدروس، فما استطعت أن أتركها، وتبين لي مقدار الخسارة في ترك مثل هذه الدروس، خاصة لما قرأت تراجم العلماء وأنه لا يجوز للطالب أن يهجر أستاذه إذا وجد في خُلقه شدة أو نحو ذلك، ولقد تأثرت بما قرأته في ترجمة الطيماني الحنفي عندما قال: كنت أقرأ سنن الدارقطني عليه، فوقع الدارقطني في أبي حنيفة فتركت مجالسته، فمات الدارقطني وما قرأت عليه السنن، قال: ما ضر الدارقطني أني لم أقرأ، وندم كثيراً؛ لأنه تغيب عن هذه المجالس وفاته الخير الكثير.

    وهذا خلق مذموم من الطالب أن يهجر شيخه لمجرد أنه آنس منه شيئاً يخالف هواه، كان الأعمش رحمه الله يشتد على طلبته، لدرجة أنه كان يهينهم أحياناً، جاءه راوٍ مشهور فقال: يا أبا محمد ! اكتريت حماراً بنصف دينار وجئت لأسمع منك حديثاً. فقال له: اكتر بالنصف الآخر وارجع، وأبى أن يحدثه.

    وجاءه طالب آخر، فقال له: يا أبا محمد ! حديث كذا وكذا.. ما إسناده؟ فأخذ بحلقه فألصقه بالحائط وقال: هذا إسناده، ولم يجبه، ولم يعطه الحديث.

    والمشهور أن الأعمش ربى له كلباً، كان إذا سمع همهمتهم ودبدبة أرجلهم كان يطلق عليهم الكلب، وكان شعبة بن الحجاج وسفيان الثوري لما يرجعون إليه مرة أخرى، فكان الأعمش يقول لهم: لو تركتم ما عندي لسوء خلقي خسرتم.

    فالحقيقة أن كلام الشيخ المطيعي في الألباني هون قليلاً من الاستفادة الكبرى والمواظبة التي كنت أواظبها على الشيخ المطيعي ؛ لأن الألباني أول من فتح عيني على المنهج الحق، فصرت أواليه وأحبه، حتى إنه كان في فترة من الفترات في بداية الدعوة السلفية في مصر كان يوالى ويعادى على شخص الشيخ الألباني ، وكنا نرى أن هذا مشروع، بدليل قول العلماء: إذا رأيت الرجل يبغض أحمد ؛ فاتهمه على الإسلام، أي: لا يجتمع بغض أحمد مع السنة؛ لأن الإمام أحمد علم مشهور عندما يصفونه يقولون: إمام الحديث والسنة، مما يشعرك أن الرجل قد يكون إماماً في الحديث وليس إماماً في السنة، فكنا نأتي بمثل هذه الأقوال، ونقول: الألباني في زماننا مثل الإمام أحمد في زمانه، فنحن نوالي ونعادي عليه، فكانت هذه لها بعض السلبيات.

    1.   

    رحلتي مع علم الحديث

    لما أردت أن أقرأ في علم الحديث لم أكن أعرف إطلاقاً اسم كتاب من كتب المصطلح، فبدأت أذهب إلى المكتبات أبحث في الأرفف عن أي كتب في الحديث، فأول كتاب تناولته -وهو الذي فتح عيني- الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني ، فأخذت هذا الكتاب، وبدأت أعرف أن هناك أحاديث مكذوبة، وبدأ هذا الكتاب يعكر علي المتعة العظيمة التي كنت أعيشها مع الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله، لقد كنت أذهب إلى خطبة الجمعة متعجلاً في الأسبوع كله، أتمتع بالإلقاءات والأحاديث، ولكن اكتشفت فيما بعد أن الشيخ رحمه الله كأنه كان يحضر خطبة الجمعة من الفوائد المجموعة، من كثرة الأحاديث الموجودة فيه.

    فأول حديث وقفت عليه في الكتاب وسمعته من الشيخ عبد الحميد رحمه الله كان حديث: (إن الله يتجلى للناس عامة، ويتجلى لـأبي بكر خاصة) كان الشيخ -رحمه الله- له درس بعد صلاة المغرب، وكان الناس يأتون يقبلون يده بكثرة، فما استطاع أن يمنعهم، فصار يتركها، يجلس على الكرسي ويمد يده، فمن مقبل ومن مصافح، ونحو ذلك.

    فأنا وقفت في الطابور من أجل أن أنتظر دوري في السلام فسلمت عليه، وهمست في أذنه، وقلت: يا شيخ! هناك حديث قرأته لـابن القيم رحمه الله قال فيه: الحديث مكذوب وموضوع، وهو حديث كذا وكذا، قال لي: لا، هذا الحديث صحيح. فما راجعته.

    لكن هذا الكتاب فتح عيني على أن هناك أحاديث موضوعة ومكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك أحاديث نسمعها من الواعظين ومن هم في نظرنا من العلماء؛ لأنا لم نكن نفرق آنذاك بين العالم والواعظ، فوجدت كثيراً من الأحاديث التي يحتج بها هؤلاء موجودة ضمن هذه المجموعة، فشدني هذا أكثر إلى ضرورة دراسة علم الحديث؛ حتى أميز بين الأحاديث الصحيحة من الأحاديث الموضوعة والمنكرة والشاذة.

    وبعد اقتناء هذا الكتاب صار عندي قناعة كاملة في ضرورة دراسة هذا العلم الشريف، وبينما أنا أطوف أيضاً على الكتب وجدت أول مائة حديث من سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للشيخ الألباني ، لما تناولت السلسلة الضعيفة ووجدت أن الشيخ كان حريصاً على أن يحقق أشهر الأحاديث على ألسنة الناس، فأصبت بشيء من الإحباط، وظننت أنه لا يوجد حديث صحيح؛ من كثرة الأحاديث المشهورة على ألسنتنا التي أوردها الشيخ في السلسلة الضعيفة.

    فبدأت مع الشيخ المطيعي رحمة الله عليه أفهم لأول مرة المصطلحات التي كان يقولها عن الإسناد وأنا لا أفهمها، سألته عن كتب أستعين بها، فدلني على كتاب اسمه (احتراز السنة في تبسيط علوم الحديث)، فأخذت هذا الكتاب، ومن خلال حواشي الكتاب عرفت كتب الفن التي ينقل منها، مثل: تدريب الراوي، وفتح المغيث، توضيح الأفكار، وغيرها من الكتب التي بدأت أنقب عنها.

    المهم: وصلت إلى المائة الأولى من السلسلة الضعيفة، ووجدت أن الشيخ الألباني له أحكام مختلفة على الحديث، فمرة يقول: باطل، ومرة يقول: موضوع، ومرة يقول: منكر.. شاذ.. ضعيف.. معل، فسألت نفسي: هل هذه الألفاظ كلها لها معنى واحد أم لها معانٍ مختلفة، أو أن الإنسان عنده الحرية أن يعبر بأي لفظ من هذه الألفاظ على أي حديث..؟

    فبدأت دراسة السلسلة الضعيفة، وكانت من أمتع الدراسات التي درستها ونفعني الله عز وجل بها كثيراً في تمييز الأحاديث.

    أول حديث حققت معناه (المنكر)، والمنكر في الاصطلاح: هو مخالفة الضعيف للصدوق، فحديث الصدوق يكون مقبولاً، وحديث الضعيف يكون منكراً، لكن أجد أحياناً أن الثقة إذا خالف فإنه يكون منكراً أيضاً، فبدأت بهذه الطريقة، حتى استكملت الخمسة الأجزاء الأولى -التي هي الخمسمائة حديث الأولى- مع بقية السلسلة، وبدأت أنظر في كل حديث قال فيه الشيخ الألباني: منكر، هل هناك سمة معينة في كل حديث قال فيه: منكر، بحيث أعرف حد المنكر أم لا؟ فقرأت كل الأحاديث التي قال فيها: منكر كاملةً، فلم أجد شيئاً أستطيع أن أفسره آنذاك، لكن صار عندي رسم للمنكر ونفيه، أول ما أرى هذا الحديث أعرف أنه منكر، ولا يقال عليه مثلاً: باطل أو موضوع أو نحو ذلك.

    هناك فرق كبير جداً ما بين المحدث والرجل العالم بالاصطلاح، المحدث نادر الوجود، إنما الذي يعرف الاصطلاح كثيرون، فأنت ربما وجدت رجلاً لم تقف له على تحقيق حديث، لكن له فهم في مصطلحات أهل الحديث، وهذا ليس صعباً، لكن هل هو محدث بمعنى: هل له ملكة يستطيع بها تمييز الحديث الصحيح من الضعيف؟

    هناك فرق كبير ما بين الشيخ الألباني -كرجل محدث، اختلط الحديث بشحمه ولحمه على مدار ستين سنة- وبين كثير من الفقهاء الذين صنف بعضهم رسائل في مصطلح الحديث.

    أبو حاتم الرازي ألقي عليه مرة حديث رواه الأعمش عن أبي سفيان طلحة بن نافع عن جابر بن عبد الله الأنصاري، فقال: هذا لا يشبه أحاديث الأعمش ، هذا يشبه أحاديث عمرو بن الحصين .

    مع العلم أن عمرو بن الحصين كذاب، والأعمش كان مدلساً، فمن المحتمل أن يكون الأعمش دلسه.

    يقول أبو حاتم الرازي : إنه دخل بعد عدة سنوات بلداً من البلدان لطلب الحديث، فإذا به يجد هذا الحديث عن الأعمش عن عمرو بن الحصين عن أبي سفيان طلحة بن نافع عن جابر ، فصدقت فراسة أبي حاتم الرازي ، التي يسميها العلماء الملكة، وهذه الملكة لا تتأتى إلا بكثرة الممارسة، وهذه الملكة ليست مقصورة على علم الحديث فقط، بل كل الصناعات خاضعة للملكة..

    من ذلك: كنت أقف مع رجل ميكانيكي سيارات، وكان أمامنا طريق سريع، فمرت سيارة مسرعة ولها صوت مزعج، صاحبي الميكانيكي قال لي: هذه السيارة التي مرت ولها صوت مرتفع ليست مشحمة، والعجيب أن صاحب السيارة كان آت إلى هذا الميكانيكي، فأول ما رآه الميكانيكي قال له: السيارة تحتاج إلى شحم. فقال له: أنت تعلم الغيب! فقال له: أنا بمجرد سماعي للصوت أعرف العلة أين، فعندما فحص السيارة وجد فعلاً أنه ليس فيها شحم. فهذا الميكانيكي صبي له عشر سنين استطاع أن يعرف خلل السيارة سريعاً، وما ذلك إلا بسبب الممارسة المستمرة للعمل.

    فالمسألة ليست مقصورة على علم الحديث، أن يقال: إن علم الحديث هو الذي يحتاج إلى ملكة فقط، بل كل العلوم، والإنسان تزداد خبرته في هذا العلم مع طول الوقت وبالتالي يحصل هذه الملكة.

    لذلك هناك فرق بين المحدث والمتكلم في المصطلح، التكلم في المصطلح سهل جداً، أنا قد أقرأ قواعد اللغة العربية وأتكلم وأقول: هذا مرفوع وهذا منصوب وهذا مجرور، لكن متى يظهر علم العالم؟ يقول الشافعي رحمه الله: إنما العالم الذي يعرف الاختلاف، ليس العالم الذي يعرف الاتفاق أن يقال: أجمعوا على كذا، إنما العالم هو الذي يعلم الراجح من اختلافه، فيقال: أهل الكوفة قولهم كذا، وأهل البصرة قولهم كذا، والراجح كذا، فالعلم في الحقيقة هو علم الخلاف.

    ومن مسائل علم الحديث: التفريق بين الباطل والموضوع، حيث أنهما لا يحتج بهما، لكن علماء الحديث جعلوا جل حكمهم على الموضوع إذا كذبه أحد الرواة، فإذا كان هناك كذاب في السند فإنهم يقولون عليه: موضوع، وإذا كان في الحديث رجل صدوق، لكنه سيء الحفظ يقولون: باطل، وهذه مسألة اصطلاحية، ولا مانع أن تجد أحد العلماء يضع هذه التسمية مكان تلك.

    فمثلاً: حديث: (من صلى بالليل حسن وجهه بالنهار) كان شريك بن عبد الله النخعي رجلاً مداحاً، يجلس في المسجد يملي على الطلبة، فقال مرة: حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال، فدخل ثابت بن موسى الزاهد من الباب -وسمي الزاهد لزهده وعبادته وورعه- فعندما رآه شريك أحب أن يرحب به، فقال له: (من صلى بالليل حسن وجهه بالنهار) أراد أن يداعبه، فظن ثابت بغفلته أن هذا هو الحديث، فخرج ثابت بن موسى الزاهد من المسجد يقول: حدثني شريك قال: حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى بالليل حسن وجهه بالنهار) فهذا الحديث دخل على ثابت لغفلته، ما كذبه ولا افتراه، فنحن عندما نأتي نحكم على هذا الحديث نقول: هذا باطل، لا نقل: موضوع؛ لأنه ما كذبه، ومع ذلك هناك من العلماء من يقول: هذا الحديث موضوع، كـالعراقي في الألفية يقول:

    والواضعون بعضهم قد صنعا من عند نفسه وبعضٌ وضـعا

    كلام بعض الحكما في المسند ومنه نـوع وضـعه لم يقصد

    نحو حديث ثابت (من كثرت صـلاته) الحديث وهلة سرت

    يريد أن يبين أن هناك بعض الواضعين الذين وضعوا الأحاديث وتعمدوا الكذب، وهناك نوع آخر وضعه لم يحفظ وهو المغفل.

    وحديث ثابت قد خفي أمره على القضاعي ، فأورد هذا الحديث في مسند الشهاب وقواه بخمس طرق، لفق الكذابون له أسانيد من عندهم، فلم يفطن القضاعي لهذا، وقوى الحديث بهذه الطرق.

    دخل الكسائي على هارون الرشيد ، وكان هارون الرشيد متكئاً، فلما دخل الكسائي عليه؛ قال له هارون : اجلس. قال: بل أقعد يا أمير المؤمنين. أي: لا تقل لي: اجلس، ولكن قل لي: اقعد، فقال هارون : فما الفرق بينهما؟ قال له: القعود يكون من وقوف، والجلوس يكون من اتكاء، كما في الحديث: (وكان متكئاً فجلس) ومع ذلك فإن العرب تضع الجلوس للقيام، لكن ليس هذا هو الغالب.

    فالحقيقة: أن سلسلة الأحاديث الضعيفة قضيت معها نحو سنتين من عمري أتأمل وأقرأ وأعيد القراءة مرة واثنتين وثلاثاً؛ حتى أستطيع أن أصل إلى أحكام الشيخ الألباني المتنوعة كالمنكر والشاذ والضعيف، هل هي مجرد عبارات يختار الذي يعجبه ويضعها على أي حديث، أم أنه يعني هذا الحكم، فأكثر شيء فتح عيني على مذهب العلماء المتقدمين هو السلسلة الضعيفة.

    لذلك علم الحديث لا بد أن يبتدئ بكتب التخاريج، مثل: نصب الراية، والكتب الأخرى التي تعنى بذكر تخريج الأحاديث والطرق وما إلى ذلك.

    1.   

    مع الشيخ الألباني

    بعد نحو عشر سنوات تقريباً جاء الشيخ الألباني حفظه الله إلى مصر سنة (1976م) وحاضر في أنصار السنة في العابدية، لكنني ما استطعت أن ألتقي به، لكنني التقيت بالشيخ حفظه الله أول مرة (سنة 1407هـ) لما رحلت إلى الأردن، وكان بصدد إصدار بعض الكتب، وأذكر أنه كان يوجد هناك طالب غال في حب الشيخ ناصر ، والغلو لا يأتي بخير أبداً، وهو الآن عدو للشيخ الألباني، وهذا الطالب ذكره الشيخ ناصر في مقدمة كتابه (مختصر الشمائل) ذكر أنه لما نزل الأردن أخلى داره للشيخ الألباني وأهله، وذهب يستأجر لنفسه داراً أخرى لمدة ثلاثة أشهر، حتى بنى الشيخ الألباني داره التي يسكن فيها.

    فهذا الذي تطوع هو الذي أعطى الشيخ الألباني فكرة سابقة عني، وهو الذي سهل لي أن ألتقي به، وإلا كانت المسألة صعبة جداً.

    كان أعظم شيء اكتسبته في الرحلة إلى الشيخ الألباني الأدب، لا العلم، فمصاحبة العلماء مسألة في غاية الضرورة، وعندما رأيت الشيخ قلت في نفسي: إن هذا الرجل سقط سهواً من القرون الأولى، نظرة الحديث واضحة على وجهه، وتواضعه الشديد وهضمه لحجم نفسه. قلت له مرة: يا شيخ! أنت قلت بأنه يجوز تقبيل يد العالم. قال: العالم، وهل رأيت عالماً؟ قلت له: أنا أرى الآن عالماً. قال: لا، أنا طويلب علم. لا أنسى أبداً هذه الجملة، كم أثرت هذه الجملة في نفسي!

    هذه الرحلة بالرغم أنها كانت قصيرة قرابة شهر، إلا أنها كسرت هذا الأمر تماماً، وندمت أن الإنسان لم يبق في الأردن فترة طويلة يلازم الشيخ حتى يتعلم منه الأدب، لكن على أية حال هذا جاء مجمل الكلام على طلب الحديث خاصة.

    وقد كنا نحضر في الجامع الأزهر عند كثير من المشايخ، ندرس الفقه والقراءات والنحو، وليس في سيرتي شيء أكثر يستحق الذكر. والله أعلم.

    1.   

    الأسئلة

    السؤال: هل درست عند الشيخ سابق؟

    الجواب: كان الشيخ المطيعي شيخ سيد سابق ، تتلمذنا على يديه لفترة من الفترات، وأخذنا قراءة ورش -لكن ليس كلها- على خاله، أستاذ قراءات، كان يدرسنا كتاب (هداية المريد).

    السؤال: ...............

    الجواب: والله لا أدري، لكن الشيخ سيد سابق أنت تعلم كتاب فقه السنة للشيخ سيد سابق كتبه وكان عمره خمسة وعشرون سنة، وهذا موافق نيل الأوطار، فالشيخ سيد سابق لم يكن له فيه ترجيح، كان شاباً صغيراً، وأحسن تلخيص نيل الأوطار، كما أحسن عرض الفروع.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756470761