إسلام ويب

الشفاعةللشيخ : محمد حسان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يوم القيامة يوم عصيب وطويل، ولذلك يضطر الناس إلى طلب الشفاعة بفصل القضاء، فيتلمسونها عند جميع الأنبياء ولا يجدونها إلا عند محمد صلى الله عليه وسلم، فيطلب النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة من الله بفصل القضاء، فيستجيب الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو المقام المحمود الذي يحمده عليه جميع الناس، وإن أسعد الناس بشفاعته صلى الله عليه وسلم من قال: لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه.

    1.   

    الشفاعة العظمى

    الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدَّى الأمانةَ، وبَلَّغَ الرسالةَ، ونَصَحَ الأمةَ، فكشف الله به الغمة، جاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيَّاكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الكرام الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الكريم على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! في رحاب الدار الآخرة سلسلة علمية هامة، تجمع بين المنهجية والرقائق وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي، الهدف منها: تذكير الناس بالآخرة في عصر طغت فيه الماديات والشهوات، وانصرف كثير من الناس عن منهج رب الأرض والسماوات؛ ليعجلوا بالتوبة إلى الله سبحانه قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون. وهذا هو لقاؤنا الحادي عشر من لقاءات هذه السلسلة المباركة الكريمة، وكنا قد أنهينا الحديث في اللقاء الماضي مع الناس وهم في أرض المحشر، وقد اشتد بهم الهول والغم والكرب، فالزحام وحده يكاد أن يخنق الأنفاس، والشمس فوق الرءوس بمقدار ميل! والناس غرقى في عرقهم كل بحسب عمله وبحسب قربه من الملك الجليل، وفي هذا المشهد الرهيب العصيب يزداد الهم والغم والكرب بمجيء جهنم أعاذنا الله من حرها، قال تعالى: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ [الفجر:23-26]. وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم من حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بجهنم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها). فإذا ما رأت الخلائق زفرت وزمجرت غضباً منها لغضب الملك الجبار جل جلاله. وحينئذ تجثو جميع الأمم على الركب، قال تعالى: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:28] وهنا تطير قلوب المؤمنين شوقاً إلى الجنة -اللهم اجعلنا منهم بمنك وكرمك- وتطير قلوب المجرمين هرباً وخوفاً وفزعاً من النار، بل ويعض صنف كثير من الناس في أرض المحشر على يديه، يتأسف ويتحسر ويتندم على ما قدم في هذه الحياة الدنيا، ولكن يوم لا ينفع الندم، قال تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا * وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا [الفرقان:26-29]. في هذا الكرب ينطلق الناس، ويقول بعضهم لبعض: ألا ترون ما نحن فيه؟!! ألا ترون ما قد بلغنا؟!! ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم ليقضي بينكم؟!! وهنا يقول كل نبي: نفسي نفسي! ويقول المصطفى: أنا لها، فلا يتقدم للشفاعة إلا نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا هو موضوعنا اليوم مع حضراتكم أيها الأحبة الكرام! وكما تعودنا فسوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم اليوم في العناصر التالية: أولاً: الشفاعة العظمى. ثانياً: من أسعد الناس بشفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم. فأعرني قلبك وسمعك أيها الحبيب! والله أسأل أن يتقبل مني ومنكم جميعاً صالح الأعمال، وأن يستر علينا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، إنه على كل شيء قدير. أولاً: الشفاعة العظمى. روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنا سيد الناس يوم القيامة، هل تدرون مم ذاك؟! يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، وتدنو الشمس من الرءوس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما نحن فيه، ألا ترون ما قد بلغنا؟! ألا تنظرون من يشفع لنا إلى ربنا؟! فيقول بعضهم لبعض: أبوكم آدم، فيأتون آدم عليه السلام، فيقولون: يا آدم! أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة بالسجود لك، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول آدم عليه السلام: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ). اللهم إنا نسألك بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بنا غضبك، أو يحل علينا سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك يا أرحم الراحمين! أستحلفك بالله أن تعيش مع الحديث بقلبك.. بكيانك.. بوجدانك، فهذا نبي من أنبياء الله، بل هذا هو أبو البشرية جمعاء يقول: (إن ربي عز وجل قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد نهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي.. نفسي.. نفسي..) اللهم سلم سلم يا أرحم الراحمين!

    عزوف نوح عن الشفاعة العظمى

    ثم قال صلى الله عليه وسلم حاكياً عن آدم: (اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحاً عليه السلام، فيقولون: يا نوح! أنت أول رسل الله إلى الأرض، وقد سماك الله عبداً شكوراً، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى إلى ما بلغنا؟! )، نوح أول رسل الله إلى الأرض، ذلكم العملاق الذي ظل يدعو إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاماً! ذلكم النبي الكريم الذي دعا قومه في السر والعلانية، في الليل والنهار: إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا [نوح:5-9]. ما ترك هذا النبي الكريم سبيلاً إلا وسلكه، فلم ينم ولم يهدأ ولم يقر له قرار، ومع ذلك يقولون: (يا نوح! أنت أول رسل الله إلى الأرض، وسماك الله عبداً شكوراً، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! اشفع لنا إلى ربك، فيقول نوح: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه كانت لي دعوة فدعوت بها على قومي، نفسي.. نفسي.. نفسي.. اذهبوا إلى غيري)، إن لكل نبي دعوة مستجابة، وكل نبي قد تعجل بها في الدنيا إلا المصطفى، كما في صحيح مسلم: (لكل نبي دعوة مجابة، وكل نبي قد تعجل دعوته إلا أنا فقد اختبأت دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة، فإنها نائلة إن شاء الله تعالى من مات لا يشرك بالله شيئاً). اللهم ارزقنا التوحيد وتوفنا عليه يا أرحم الراحمين!

    عزوف إبراهيم عن الشفاعة العظمى

    وقد دعا نوح على قومه فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح:26-27]، ولذلك قال نوح: (إنه كانت لي دعوة فدعوت بها، نفسي.. نفسي.. نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم) إلى الخليل.. إلى الحليم الأواه.. إلى حبيب الله بلا نزاع.. إلى هذا النبي الكريم الذي حرم الله على النار أن تمس جسده: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]. قال: (فيأتون إبراهيم الخليل عليه السلام ويقولون: يا إبراهيم أنت نبي الله، وأنت خليل الله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول خليل الله إبراهيم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ويذكر إبراهيم كذباته، ثم يقول: نفسي.. نفسي.. نفسي، اذهبوا إلى غيري). كذباته؟! وهل كذب إبراهيم؟ والجواب من صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات، اثنتين منهن في ذات الله، أما الأولى: فقوله: إني سقيم)، متى قال إبراهيم هذه العبارة؟! يوم أن كان شاباً صغيراً وقد نشأ في قوم يعبدون الأصنام ودعاه والده ليخرج مع القوم في عيد عبادة الأصنام، فتعلل إبراهيم بالمرض وقال: إني سقيم؛ لأنه لا يريد أن يسجد لغير رب العالمين. قال: (وأما الثانية: فقوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ [الأنبياء:63])؛ وذلك لما حطم الأصنام، وعلق الفأس في رأس كبير هذه الآلهة المدعاة، فلما عادوا وقالوا: من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين، رد البعض بلغة التحقير، التي هي ديدن الظالمين في كل زمان وأوان: قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ [الأنبياء:60-61]، ثم وجهوا له هذا السؤال: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ [الأنبياء:62-63]، هذه هي الكذبة الثانية لإبراهيم. وأما الكذبة الثالثة: يوم أن خرج مهاجراً بزوجته سارة فنزل مصر، وكان في مصر في ذلك الزمان جبار من الجبابرة، أسأل الله أن يطهر مصر في كل زمان وأوان، فلما مر بـسارة عليها السلام نقل بعض الناس لهذا الجبار: أن رجلاً قد نزل بأرضنا معه امرأة من أجمل الناس، فأرسل هذا الجبار الخبيث بالشرطة فجاءت بإبراهيم، فقال له: من هذه؟ قال إبراهيم: إنها أختي، ولم يقل: إنها زوجتي، فلو قال: إنها زوجتي لقتله ليخلص إليها، فقال: إنها أختي، ثم عاد إبراهيم، فقال لها: يا سارة! لقد سألني هذا الرجل عنك، فقلت: إنها أختي، فإنه لا يوجد على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، فأنت أختي في دين الله جل وعلا، فإن سألك فاصدقيني ولا تكذبيني، ثم أرسل هذا الخبيث الجبار إلى سارة فأتي بها فلما دخلت عليه، ونظر إليها، قام إليها ليلمسها بيده، فشل الله يده، -والحديث في صحيح البخاري- فقال لها: ادعي الله عز وجل ولا أضرك بعدها، فدعت الله فأطلق الله يده، فقام إليها الخبيث مرة ثانية ليتناولها بيده فشل الله يده، فقال: ادعي الله ولا أضرك بعدها، فدعت الله فأطلقت يده، فنادى على بعض حجبته، وقال: إنكم لم تأتوني بإنسان، وإنما أتيتموني بشيطان اخرجوا بها وأخدموها هاجر ، فأعطاها هاجر عليها السلام؛ لتخدمها وهي التي تزوجها إبراهيم بعد ذلك، فعادت سارة بـهاجر فرأت إبراهيم يصلي لله جل وعلا، فلما انصرف من صلاته قال: مهيم؟ يعني: ماذا فعل الله بك؟ فقالت سارة : رد الله كيد الفاجر وأخدم هاجر ، أي: وأعطاني هاجر خادمة لي، وهكذا صان الله عز وجل عرض نبيه إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، هذه كذبات إبراهيم!

    عزوف موسى وعيسى عن الشفاعة العظمى

    أرجع إلى حديث الصحيحين: (يقول إبراهيم: نفسي.. نفسي.. نفسي -وذكر كذباته التي ذكرت الآن- اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى)، موسى الكليم.. إنه المصطفى بالرسالة.. إنه المجتبى بالكلام.. إنه المصنوع على عين الله: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39]، اصطفاه الله برسالاته وبكلامه على جميع الخلق. يقول المصطفى: (فيأتون موسى، فيقولون: يا موسى! أنت كليم الله، اصطفاك الله برسالاته وبكلامه على الناس، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! اشفع لنا إلى ربك، فيقول موسى عليه السلام: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي.. نفسي.. نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى عليه السلام، ويقولون: يا عيسى! أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وكلَّمت الناس في المهد، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! اشفع لنا إلى ربك، فيقول عيسى عليه السلام: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، اذهبوا إلى غيري، نفسي.. نفسي، نفسي.. اذهبوا إلى محمد بن عبد الله) صلى الله عليه وآله ومن والاه، من سار على دربه نجا في دنياه ونجا في أخراه، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.

    إقدام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على الشفاعة العظمى

    يقول عيسى عليه السلام: (اذهبوا إلى محمد بن عبد الله ولم يذكر عيسى صلى الله عليه وسلم ذنباً من الذنوب، يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: فيأتونني فيقولون: يا رسول الله! لقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! اشفع لنا إلى ربك، فيقوم المصطفى ويقول: نعم، أنا لها أنا لها)، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم. يقول: (فأقوم فأخر ساجداً لربي تحت العرش، فينادي عليه الملك جل جلاله، ويقول: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تُشفّع، فيقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: يا رب! أمتي، يا رب! أمتي، يا رب! أمتي). هو الحليم الأواه صاحب القلب الكبير.. هو الحليم الأواه صاحب القلب الرحيم.. الذي قال الله في حقه: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، وقد (قرأ يوماً قول الله في إبراهيم: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم:36]، وقرأ قول الله في عيسى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118] فبكى وقال: يا رب! أمتي، أمتي، فأنزل الله إليه جبريل عليه السلام، وقال: يا جبريل! سل محمداً ما الذي يبكيه -وهو أعلم- فنزل جبريل فقال: ما يبكيك يا رسول الله؟! قال: أمتي.. أمتي يا جبريل! فصعد جبريل إلى الملك الجليل، وقال: يبكي على أمته -والله أعلم- فقال الله لجبريل: انزل إلى محمد وقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك)، فيقول هنا: يا رب! أمتي، يا رب! أمتي، يا رب! أمتي. وفي حديث الصور الطويل، الذي رواه الطبري والطبراني والبيهقي وأبو يعلى الموصلي ، والسيوطي واستشهد به ابن أبي العز الحنفي -وللأمانة العلمية التي عاهدنا الله عليها فإن الحديث بطوله ضعيف، ففيه إسماعيل بن رافع وهو ضعيف كما قال أهل الجرح والتعديل، وفيه محمد بن زياد وهو مجهول- ولكن فيه ما يتفق مع سياق حديث أبي هريرة الذي ذكرت آنفاً، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (فأخر ساجداً تحت العرش، فيقال لي: ما شأنك؟ -وهو أعلم- فيقول المصطفى: يا رب! وعدتني الشفاعة فشفعني في خلقك فاقض بينهم، فيقول الله جل وعلا: قد شفعتك، أنا آتيكم لأقضي بينكم، يقول المصطفى: فأرجع لأقف مع الناس في أرض المحشر، وتنتظر البشرية كلها مجيء الملك جل جلاله). مجيئاً يليق بكماله وجلاله، فكل ما دار ببالك فالله بخلاف ذلك: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] فصفة النزول، وصفة المجيء، وصفة الإتيان، وصفة الغضب، وجميع صفات الله جل وعلا، نثبتها كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، قال تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] قال علماؤنا: استوى كما أخبر، وعلى الوجه الذي أراد، والمعنى الذي قال، استواء منزهاً عن الحلول والانتقال، فلا العرش وحملته ولا الكرسي يسنده، بل العرش وحمتله والكرسي وعظمته، الكل محمول بلطف قدرته مقهور بجلال قبضته، فالاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، سأل رجل إسحاق بن راهويه ، وقال: يا إسحاق ! كيف تؤمنون بإله يتنزل كل ليلة من عرشه إلى السماء الدنيا؟ فقال له إسحاق : يا هذا! إن كنت لا تؤمن به، فإننا نؤمن بإله يتنزل كل ليلة من عرشه إلى السماء الدنيا ولا يخلو منه عرشه، لا تعطل ولا تكيف ولا تمثل ولا تشبه جل جلال الله، جل ربنا عن الشبيه وعن المثيل وعن النظير: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)، من كان منا يتصور أن النمل يتكلم! وما عرف ذلك وفهمه إلا يوم أن قرأ في القرآن: حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ ... [النمل:18]. من منا كان يتصور أن هناك شيئاً لا يمشي على رجليه وإنما يمشي على بطنه! حتى رأينا الحية وما شاكلها، وهكذا فمن شبه الله جل وعلا فهو واهم؛ لأن الله سبحانه يقول: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110] جل جلال الله، لا ند له ولا كفء له ولا شبيه له ولا نظير له ولا مثيل له: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1].

    1.   

    عظم مكانة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه

    ولن يشفع للبشرية كلها لفصل القضاء إلا المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولم يرد الملك جل جلاله إلا على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، أيها الموحدون! والله لا يعرف قدر رسول الله إلا الله، إن قدر رسول الله عند الله لعظيم، وإن كرامة النبي عند الله لكبيرة، فهو المصطفى والمجتبى، فلقد اصطفى الله من البشر الأنبياء، واصطفى من الأنبياء الرسل، واصطفى من الرسل أولي العزم الخمسة، واصطفى من أولي العزم الخمسة الخليلين إبراهيم ومحمداً، واصطفى محمداً ففضله على جميع خلقه، شرح له صدره ورفع له ذكره ووضع عنه وزره، وزكاه في كل شيء: زكاه في عقله، فقال سبحانه: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:2]. وزكاه في صدقه فقال سبحانه: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم:3]. وزكاه في صدره فقال سبحانه: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح:1]. وزكاه في فؤاده فقال سبحانه: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11]. وزكاه في ذكره فقال سبحانه: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:4]. وزكاه في طهره فقال سبحانه: وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ [الشرح:2]. وزكاه في علمه فقال سبحانه: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:5]. وزكاه في صدقه فقال سبحانه: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم:3]. وزكاه في حلمه فقال سبحانه: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]. وزكاه كله فقال سبحانه: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.

    الشفاعة العظمى هي المقام المحمود

    هو رجل الساعة، ونبي الملحمة، وصاحب المقام المحمود، فهذا هو المقام المحمود الذي يغبطه عليه كل نبي في أرض المحشر، الذي وعد الله به نبينا في قوله: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]. فهذا هو المقام المحمود كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأنا أول من ينشق عنه القبر، وأنا أول شافع وأول مشفع). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنياناً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة في زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويتعجبون له ويقولون: هلا وُضِعَتْ هذه اللبنة؟ أي: ليكتمل البنيان بجماله وجلاله؟! هلا وضعت هذه اللبنة؟! يقول المصطفى: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وفي لفظ البخاري مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وختم بي النبيون، وأرسلت إلى الناس كافة). هذه مكانة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، بل لقد أنزل الله قرآناً ليربي وليعلم الصحابة كيف يعظمون رسول الله؟ وكيف يوقرون رسول الله؟ وكيف يتأدبون حتى في مناداة رسول الله، ولكن الأمة الآن -إلا من رحم ربك- لم تعرف قدر نبيها ولم تعظم رسولها، بل وقد أساءت الأمة الأدب مع رسول الله، فهجرت الأمة شريعته، وَنَحَّت الأمة سنته، ولم تعد الأمة تجيد إلا أن تتغنى برسول الله في ليلة الهجرة.. في ليلة المولد.. في ليلة النصف من شعبان!! فالأمة الآن لا تجيد إلا الرقص والغناء؛ لأنها عشقت الهزل وتركت الجد والرجولة، أمة تدعي الحب لرسول الله وتتغنى برسولها في المناسبات والأعياد الوطنية، في الوقت الذي نحت فيه شريعته، وهجرت فيه سنته، بل وخرج من أبناء هذه الأمة من يقول في حق القرآن الذي أنزله الله على قلب رسوله، الذي جعل الله فيه الهدى في الدنيا والآخرة، قال هذا المجرم المرتد: إن القرآن منتج ثقافي وليس من عند الله! وقال خبيث آخر: لقد عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين حتى الالتهاب الذي في رئتهم والنجاسات التي في أمعائهم. وقال خبيث ثالث: إن مصيبة الشرق في التمسك بما يسمى بالأديان! الأمة هجرت شريعة رسول الله، ونحت سنة رسول الله، أين الشريعة؟ غيرت .. بدلت .. ضيعت! فهذا ورب الكعبة هو أعظم منكر على وجه الأرض، وهذا هو الذي يجب أن تجيش له كل الطاقات وكل الإمكانيات حتى تظلل شريعة المصطفى سماء هذه الأمة. اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً برحمتك يا أرحم الراحمين! اسمع وانتبه! فإن كل مغرور ومخدوع من هذه الأمة يقول: إن لم أدخل الجنة أنا فمن يدخلها؟! بطرس ، شلودر ؟! أنا الذي سأدخل الجنة!

    التبديل والتغيير سبب للطرد عن الحوض

    إن كل من غير وبدل وابتدع وانحرف عن هدي رسول الله سيحال بينه وبين حوض رسول الله في أرض المحشر، فالناس في حاجة شديدة إليه، الزحام يخنق الأنفاس، والشمس فوق الرءوس، والبشرية كلها في أرض واحدة من لدن آدم في هذا الظرف الرهيب، والمصطفى صلى الله عليه وسلم واقف على حوضه، والحوض ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، وأطيب ريحاً من المسك، عدد كيزانه بعدد نجوم السماء، من شرب منه بيد الحبيب لا يظمأ بعدها أبداً، حتى يتمتع بالنظر إلى وجه الملك في الجنة. اللهم اسقنا بيده الشريفة شربة هنيئة مريئة لا نرد ولا نظمأ بعدها أبداً، برحمتك يا أرحم الرحمين! يقول المصطفى والحديث رواه البخاري من حديث سهل بن سعد الساعدي: (أنا فرطكم على الحوض -أي: سأسبقكم يوم القيامة؛ لأقف على الحوض- فمن مر عليَّ شرب، ومن شرب لا يظمأ أبداً، وليردن على الحوض قوم أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم) وفي لفظ في الصحيح: (ثم يختلجون) أي: يمنعون ويفضون، فيقول المصطفى: (إنهم من أمتي، إنهم من أمتي، فيقال للحبيب: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيقول المصطفى: سحقاً سحقاً -أي: بعداً بعداً- لكل من غير بعدي). الاتباع وامتثال الأمر والنهي للحبيب محمد صلى الله عليه وسلم هو سبيل الفوز والنجاة.

    خشية الله عند السلف

    وهذه نماذج من أحوال السلف وخشيتهم لله تعالى، فهذا معاذ بن جبل ينام على فراش الموت ويدخل عليه الليل فيشتد به الألم والوجع فينظر إلى أصحابه ويقول: هل أصبح النهار؟! هل أصبح النهار؟! فيقولون: لا لم يصبح بعد، فيبكي معاذ بن جبل حبيب رسول الله الذي قال: (والله يا معاذ إني لأحبك) يبكي ويقول: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار. يخشى معاذ بن جبل أن يكون من أهل النار!! وهذا هو فاروق الأمة عمر بن الخطاب الذي أجرى الله الحق على لسانه وقلبه، ينام على فراش الموت فيدخل عليه ابن عباس ليذكره وليثني عليه الخير كله، فيقول عمر : والله إن المغرور من غررتموه، والله لو أن لي ملء الأرض ذهباً لافتديت به اليوم من عذاب الله قبل أن أراه. ثم قال عمر : وددت أن أخرج من الدنيا كفافاً لا لي ولا علي. وهذه هي عائشة تُسأل عن قول الله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر:32] فتقول عائشة : يا بني! أما السابق بالخيرات فهؤلاء الذين ماتوا مع رسول الله وشهد لهم رسول الله بالجنة، وأما المقتصد فهؤلاء الذين اتبعوا أثر النبي حتى ماتوا على ذلك، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلك. فجعلت عائشة نفسها معنا، جعلت عائشة نفسها من الظالمين لأنفسهم!!! وهذا هو سفيان الثوري إمام الدنيا في الحديث، ينام على فراش الموت فيدخل عليه حماد بن سلمة فيقول له حماد : أبشر يا أبا عبد الله! إنك مقبل على من كنت ترجوه وهو أرحم الراحمين. فبكى سفيان وقال: أسألك بالله يا حماد أتظن أن مثلي ينجو من النار؟!! ونحن جميعاً نقول: من منا لن يدخل الجنة؟! من منا لن يشفع له رسول الله؟! ها هو الحديث في البخاري يبين لنا فيه الحبيب النبي أنه سيحال بينه وبين أقوام من هؤلاء الذين حرَّفوا وبدَّلوا وانحرفوا عن سنته صلى الله عليه وسلم. وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

    1.   

    أسعد الناس بشفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! من أسعد الناس بشفاعة المصطفى يوم القيامة؟ هذا هو عنصرنا الثاني من عناصر هذا اللقاء لتكتمل الفائدة في باب الشفاعة، فإنه من أنفس أبواب العلم. من أسعد الناس بشفاعة الحبيب؟! ليحاسب اليوم كل واحد منا نفسه أين هو من الحبيب؟! من يدعي حب النبي ولم يفد من هديه فسفاهة وهراء فالحب أول شرطه وفروضه إن كان صدقاً طاعة ووفاء قال سبحانه: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، هل امتثلت أمره؟! هل اجتنبت نهيه؟! هل وقفت عند الحدود التي حدها لك المصطفى؟! أسئلة يجب أن يسأل كل مسلم صادق عنها نفسه؛ ليحدد موقعه من منهج وطريق رسول الله صلى الله عليه وآله ومن والاه، من أسعد الناس بالشفاعة يوم القيامة؟ والجواب في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فهو صاحب هذا السؤال الجليل، قال أبو هريرة : (من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة يا رسول الله؟ فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: لقد ظننت أنه لا يسألني عن هذا السؤال أحد قبلك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث يا أبا هريرة! أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه). وفي رواية ابن حبان : (أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه، يصدق قلبه لسانه، ويصدق لسانه قلبه). وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لكل نبي دعوة مستجابة، وإني اختبأت دعوتي شفاعةً لأمتي، فهي نائلة إن شاء الله تعالى من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً). هذا هو الشرط، وهذا هو أسعد الناس بشفاعة الحبيب: (من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) حقق التوحيد لله، فمن الناس الآن من يردد بلسانه: لا إله إلا الله، ولم يصدق قلبه هذه الكلمة، ولم يخلص العبادة لله جل وعلا، بل تراه يصرف العبادة لغير الله، فهو لا يعرف لكلمة التوحيد معنى، ولا يقف لها على مضمون، ولا يعرف لها مقتضى، ومن الناس من يردد بلسانه: لا إله إلا الله، وقد انطلق حراً طليقاً ليختار لنفسه من المناهج الأرضية، والقوانين الوضعية الفاجرة، ما وضعه المهازيل من خلق الله! ومن الناس من ردد بلسانه: لا إله إلا الله، وهو لم يحقق لله الولاء ولا البراء، ومن الناس من ردد بلسانه كلمة: لا إله إلا الله، وقد ترك الصلاة! وضيع الزكاة! وضيع الحج مع قدرته واستطاعته، وأكل الربا وشرب الخمر وعاقر الزنا وأكل أموال اليتامى! يسمع الأمر فيهز كتفيه في سخرية وكأن الأمر لا يعنيه! يسمع المواعظ فيهزأ وكأن الأمر لا يعنيه، فلابد من إخلاص التوحيد، فكلمة التوحيد ليست مجرد كلمة يرددها الإنسان بلسانه، بل إن الإيمان: قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالجوارح والأركان، ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، فمن قال خيراً وعمل خيراً قبل منه، ومن قال خيراً وعمل شراً لم يقبل منه. وفي الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل). وفي رواية عتبان بن مالك : (فإن الله حَرَّمَ على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله). إنه إخلاص التوحيد، فيا من رددت بلسانك: لا إله إلا الله، هل صدقك قلبك؟! هل امتثلت جوارحك مقتضيات هذه الشهادة؟! فإن التوحيد أمره عظيم، وإن شأن التوحيد ثقيل، إنها الأمانة العظيمة، ووالله ما ضاعت الأمة وزلت إلا يوم أن فرغت: (لا إله إلا الله) من مضمونها، فإن الجذر الحقيقي لهذه الأمة هو التوحيد، ويوم أن فرغ الجذر وأصبح قشرة هشة تؤرجحها الرياح من هنا ومن هنالك ذلت الأمة لمن كتب الله عليهم الذلة من إخوان القردة من أبناء يهود، فإن مصدر سعادة الأمة هو التوحيد، فما أعز الله الأمة إلا بالتوحيد، وإن لبنة الأساس في صرح الإسلام هي التوحيد، وإن أول خطوة على طريق العز والكرامة هي التوحيد، ولا عزة للأمة إلا إذا حققت وأخلصت وجردت التوحيد لله، فمن أبناء الأمة الآن من يذبح لغير الله، ومن يقدم النذر لغير الله! ومن أبناء الأمة الآن من يتهم شريعة الله المطهرة بالجمود والرجعية والتخلف والتأخر! وعدم قدرة هذه الشريعة على مسايرة مدنية القرن العشرين أو القرن الحادي والعشرين! فلا كرامة للأمة إلا إذا أخلصت التوحيد، فأسعد الناس بشفاعة محرر العبيد، من أخلص التوحيد للعزيز الحميد جل وعلا، ومات لا يشرك بالله شيئاً، فوحد الله أيها الحبيب! وأخلص التوحيد لله، وأخلص الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وفي الحديث الذي رواه مسلم والترمذي واللفظ للترمذي من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى في الحديث القدسي: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة). إنه التوحيد! إنه فضل الإيمان بالله جل وعلا! فأسعد الناس بشفاعة المصطفى من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه، فكلمة التوحيد -أيها الأخيار- قد قيدت بشروط ثقال: بالعلم، واليقين، والإخلاص، والقبول، والمحبة.. إلى آخر شروطها. فلابد أن تحققوا التوحيد، وأن تخلصوا التوحيد، وأن تجردوا التوحيد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشفع يوم القيامة إلا إن أذن الله عز وجل له، وإلا في كل من وحد الله وأخلص له كلمة: لا إله إلا الله. أسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم من أهل التوحيد، وأن يختم لي ولكم بالتوحيد، وأن يرزقنا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم بمنه وكرمه، إنه على كل شيء قدير. اللهم استرنا فوق الأرض واسترنا تحت الأرض واسترنا يوم العرض، اللهم ارزقنا شفاعة حبيبك المصطفى، اللهم وكما آمنا به ولم نره فلا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله، اللهم أوردنا حوضه الأصفى، اللهم أوردنا حوضه الأصفى، واسقنا بيده الشريفة شربة هنيئة مريئة لا نرد ولا نظمأ بعدها أبداً، اللهم اسقنا بيد المصطفى شربة مريئة هنيئة لا نرد ولا نظمأ بعدها أبداً، اللهم لا تحرمنا شفاعة الحبيب، اللهم لا تحرمنا شفاعة الحبيب، اللهم لا تحرمنا شفاعة الحبيب، اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض يا أرحم الراحمين! اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض يا أرحم الراحمين! اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع المبارك ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها، يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا معنا شقياً ولا محروماً. اللهم إنا نسألك لإخواننا وأبنائنا الطلاب التوفيق والسداد، اللهم يسر لهم الأسباب، اللهم ذلل لهم الصعاب، اللهم افتح لهم الأبواب، اللهم ذكرهم في الامتحانات ما نسوا، وعلمهم في الامتحانات ما جهلوا، اللهم يسر لهم بمنك وكرمك يا رب العالمين! اللهم اجعل أبناءنا قرة عين لنا في الدنيا والآخرة، برحمتك يا أرحم الراحمين! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756502121