إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب اليمين في الدعاوىللشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تشرع اليمين في الدعاوى، وقد دل على مشروعيتها دليل الكتاب والسنة، وهي حجة من حجج القضاء، وتشرع في حال الإنكار، فمن أنكر عليه اليمين، ولا تشرع في العبادات والحدود؛ لأنها حقوق لله تعالى، وهناك أمور لا يجوز فيها الاستحلاف؛ كالنكاح والطلاق والرجعة والإيلاء وأصل الرق والولاء والاستيلاء والنسب والقود والقذف.

    1.   

    مشروعية اليمين في الدعاوى وحجيتها وأحكامها

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [ باب اليمين في الدعاوى ].

    اليمين في الدعاوى حجة من حجج القضاء؛ ولذلك دلت السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين، من حديث الأشعث رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس لك إلا يمينه) أي: ليس للمدعي إذا لم تكن له بينة إلا أن يحلف خصمه، فليس له إلا ذلك، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند الحاكم وغيره بسندٍ صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر)، وقوله: (اليمين على من أنكر) هذا أصل يستدلون به في مسألة خاصة، وهي مسألة: شهادة أهل الكتاب على وصية المسلم في السفر، وهي التي تقدمت معنا.

    وفي آية المائدة في قوله تعالى: فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [المائدة:106]، فقوله: (فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ) أقام الله عز وجل اليمين للتوثيق في القضاء والحكم، وكذلك أيضاً أقام أيمان اللعان وقد تقدمت معنا، ودلّ على اعتدادها؛ لأنها قامت مقام الشهود، وهذا يدل على أنها يمين لها تأثير في القضاء وأنه يحكم بها.

    وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة حويصة ومحيصة ابني مسعود، مع عبد الله بن سهل وعبد الرحمن بن سهل ابني عمهما: ذلك أن عبد الله بن سهل انطلق مع محيصة بن مسعود إلى خيبر، فافترقا في بعض أماكنها، فرجع محيصة إلى المكان الذي تواعدا فيه مع عبد الله بن سهل، فوجد عبد الله بن سهل رضي الله عنه يتشحط في دمه، والشاهد من هذا: أنه دفنه ثم رجع إلى المدينة، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لما رفعوا القضية إليه: (تحلفون خمسين يميناً على رجل منهم فتستحقون دم صاحبكم)، وقد تقدم هذا معنا في القسامة، وهذا يدل على أن اليمين حجة في القضاء.

    وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا حينما قال للأشعث : (شاهداك أو يمينه، قال: يا رسول الله! الرجل فاجر يحلف ولا يبالي، فقال صلى الله عليه وسلم: ليس لك إلا يمينه). فدل على أنها تقبل من البر والفاجر.

    عدم جواز الاستحلاف في العبادات والحدود

    قال رحمه الله: [لا يستحلف في العبادات ولا في حد من حدود الله].

    أي: لا تكون اليمين في حقوق الله عز وجل، فمثلاً: لو قال شخص: فلان ما صلى، فقال: بل صليت، فاختصما للقاضي، فالقاضي يقول للمدعي: ائت ببينة أنه ما صلى، فإذا قال: ما عندي بينة، فحينئذٍ لا نقول للشخص الذي ادعي عليه أنه ما صلى: احلف اليمين، فلا نقول بحلف اليمين في هذا الحالة؛ لأن الحق لله، ولذلك بعض العلماء يعلل بعلة وهي: أن حقوق الله له، وحينئذ تعذَّر أن يحلفه صاحب الحق، وسقط التحليف في حقوق الله الخالصة، وكذلك أيضاً لو قال: ما أدى الزكاة، وقال الآخر: بل أديتها، فترافعا إلى القاضي، فلا يقال له: احلف على أنك أديتها، فلا يحلّف ولا يستقيم تحليفه قضاءً.

    ومن هنا: لا يمين في حقوق الله ولا في الحدود؛ لأنه إذا أقر بالحد ملك الرجوع عنه، وقد تقدم هذا معنا في الحدود، فإذا ادعي عليه الزنا، فلا يحلَّف بالله إذا أنكر، وإنما يقال للمدعي: إما أن تقيم البينة وإلا نقيم عليك الحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث ابن عباس لما قذف هلال بن أمية امرأته بـشريك بن سحماء ، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حدٌ في ظهرك)، فهذا يدل على أنه إما أن يقيم البينة أو يقام عليه حد القذف، وكأنه من حقه لو اعترف بالزنا أن يرجع، فإن المقر لو أقر بالزنا من حقه أن يرجع، كما سنبينه إن شاء الله.

    مشروعية استحلاف المنكر في حقوق الآدميين

    قال رحمه الله: [ويستحلف المنكر في كل حق لآدمي].

    كأن يقول له: لقد بعتني سيارتك، فيقول: ما بعتك سيارتي، فارتفعا إلى القاضي، فقيل للذي يدعي البيع: ألك بينة؟ فإذا قال: ما لي بينة، فيقال: إذاً يحلف. وهناك شروط لجواز الحلف:

    أولاً: أن تكون الدعوى في غير حق الله، كما ذكر المصنف رحمه الله في الحدود.

    ثانياً: أن ينكر الخصم.

    ثالثاً: عدم وجود البينة؛ لأنه إذا وجدت البينة فلا يمين.

    رابعاً: أن يطلب الخصم تحليف خصمه، أي: لابد أن يطلب الخصم بتحليف خصمه، ومما ذكر عن بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة : أن أحدهم عُين في القضاء، فسمع رفقاء له بذلك، فاختصم إليه اثنان من المبرزين عند الإمام في الفقه والعلم، فقال أحدهما: لي على فلان حق، وذكر حقه، فقال للمدعى عليه: هل له عليك شيء؟ قال: لا، فقال للمدعي: ألك بينة؟ قال: ليس لي بينة، فقال للمدعى عليه: إذاً احلف. وهنا وجه تخطئته.

    فقال المدعي: ومن قال للقاضي أن يطلب من الخصم أن يحلف وأنا ما طلبت منك أن تحلِّف خصمي؟ ثم قالا له: إنما أردنا أن نعلمك أن هناك علماً وفقهاً لعلم القضاء؛ لأنه ليس كل واحد تعلم يستطيع أنه يقضي، وليس كل إنسان تعلم يستطيع أن يعلم غيره، فهنا ثَقُلَ العلمُ، فالشاهد من هذا: أنه لابد أن يطلب الخصم تحليف خصمه؛ لأنه حق له.

    أمور لا يشرع فيها الاستحلاف

    قال رحمه الله: [ إلا النكاح والطلاق والرجعة والإيلاء وأصل الرق والولاء والاستيلاد والنسب والقود والقذف].

    قوله: (إلا النكاح) أي: أنه لا يحلِّف فيه، فلو قال: نكحتها، وقالت: إنه ليس بزوجي، أو قال: تزوجتك، وقالت: ما تزوجتك، فإنه لا تطالب المرأة باليمين؛ لأن الأصل عدم النكاح.

    قوله: (والطلاق).

    أي: لو قالت: طلقتني، وقال: ما طلقتك، وحلف على نفي الطلاق، أو ادعى أنه طلقها في أول السنة، فليس لها النفقة، فقالت: بل طلقتني في جمادى فلي نفقة الستة الأشهر، فحينئذ إثبات الطلاق ونفيه من حيث أصل وجود النكاح، وقالوا: إنه لا يحلف على تطليقه لها عند نفي التأخير، وإنما تطالب المرأة بالبينة على الأصل؛ لأنه إذا قال: طلقت في محرم، فإن له ذلك، والأصل أن الزوج مطلق؛ لأنه الذي يملك العصمة، فقالوا في هذه الحالة: لا يطالب باليمين على النفي والإنكار.

    وعلى هذا: فإن أي أصل اعتضد بأصل آخر فإنه يكتفى به وتسقط اليمين، هذا على مذهب الحنابلة، ومن أهل العلم من قال بالعموم في الحقوق كلها، وأنه يطالب الخصم النافي بالبينة، وهذا يشهد له عموم النص.

    وقوله: (والرجعة).

    أي: لو أنه طلقها ثم ادعى أنه راجعها، فقالت: ما راجعتني، فقال: بل راجعتك وأنت زوجة لي الآن، فقالت: ما راجعتني، فنقول للزوج: هل عندك بينة على أنك راجعت المرأة قبل خروجها من عدتها؟ فإن قال: ما عندي شهود، فحينئذٍ لا نقول للمرأة: احلفي أنه ما راجعك، أي: احلفي على نفي الرجعة؛ لأنه من المعلوم أن نفي الرجعة نفي للنكاح، إذاً نفي الطلاق هذا يطالب فيه بالبينة؛ لأن الأصل معها، والأصل أنها أجنبية ما دام أنه فرط في الإشهاد على الرجعة؛ لأن الله أمره أن يشهد، قال: وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2].

    وقوله: (والإيـلاء).

    كذلك لو قالت: أَحْلِف أن لي أربعةَ أشهر ما مسني، وقال الزوج: أنا ما آليت، فالذي نفى الإيلاء -وهو الزوج- لا يطالب باليمين، وإنما نقول للمرأة: ائتي بالبينة أنه آلى منك وأنه حلف يمين الإيلاء، وقد تقدم معنا الإيلاء.

    وقوله: (وأصل الرق) أي: إذا ادعى أن فلاناً رقيق له، فقال: بل أنا حر، فإننا نقول للذي ادعى الرق: هات بينتك على أن هذا رقيق أو مملوك لك، فإن قال: ليس عندي بينة، فحينئذٍ لا نقول: إن هذا الشخص رقيق؛ لأن الأصل أنه حر، والأصل أنه غير رقيق حتى يدل الدليل على رقه، ولا نطالبه باليمين على نفي الرق، هذا الذي انتزعه الحنابلة من معارضة الأصل.

    وقوله: (والولاء).

    لو قال: إن فلاناً مولى لي، فقال: لست بمولى لك، فإنه يأخذ نفس الحكم على الذي ذكرنا في الرقيق؛ لأن الأصل عدم هذه الأشياء.

    وقوله: (والاستيلاد)

    أي: الاستيلاد من الأَمَةِ، كأن يقول: لي منها ولد، فقالت: ليس لك مني ولد، والعكس، فإنه لا يطالب النافي باليمين؛ لأن الأصل يشهد بصحة قوله؛ إذ أن الأصل عدم وجود الولد، وعدم وجود النسل منها حتى يثبت.

    وقوله: (النسب) قالوا: النسب لا يحلَّف فيه، وهذا فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله، ومن أهل العلم من قال بالتحليف، فإذا قيل له: أنتسب لفلان؟ فقال: لست منه، ولست بولده، فإنه لا يطالب بالدليل؛ لأن الأصل أن يطالب المدعي بالبينة، والذي نفى فهو بنسبه المدعَى صحيح أنه فلان بن فلان، والناس مؤتمنون على أنسابهم، فإذا جاء أحد يدعي أنه ليس ابن فلان، إنما هو ابن فلان، فهذا خلاف الأصل، فهو يذكر أمثلة على ما قال في الأصل، إذا خالف قول المدعي الأصل فإنه في هذه الحالة لا يحلّف، بناءً على ما يقرره الحنابلة رحمهم الله في المسألة التي تقدمت معنا: أن المدعي من إذا سكت لم يترك، والمدعى عليه من إذا سكت ترك.

    وقوله: (والقود) كذلك أيضاً الأصل حرمة الدماء وعصمتها، فإنه لو قال: إن فلاناً هو الذي قطع يد فلان، فقال: ما قطعتها، أو قال: أنت الذي قطعت يد فلان، وأنت الذي قطعت رجله، وأنت الذي اعتديت على إصبع فلان عمداً عدواناً، فنقول له: ائت ببينة تثبت قولك، ولا يمين لك على خصمك؛ لأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته.

    وقوله: (والقذف) قالوا: إن مثل هذا لا يثبت فيه اليمين، والقذف فيه إشكال؛ لأن القذف من الحقوق المشتركة، لكن ارتفع الإشكال في القذف لأنه الأصل، فلو قذف شخصٌ شخصاً فقال له: أنت زان، فقال: ما زنيت، فترافعا إلى القاضي، فإن القاضي يقول للذي يدعي الزنا: إما أن تثبت الزنا وإما أن يقام عليك حد القذف، إذا طلبه صاحبه، فإذا قذف فإنه في هذه الحالة لا يطالب الخصم بيمين الإنكار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البينة أو حدٌ في ظهرك)، وما وجه اليمين على المدعَى عليه.

    بيان صفة اليمين المشروعة

    قال رحمه الله: [ واليمين المشروعة اليمين بالله تعالى ].

    بعد أن بين محل اليمين شرع في بيان صفة اليمين، فقال: (اليمين المشروعة اليمين بالله عز وجل) وهو أن يقول: والله ما فعلت، والله ما بعت السيارة، والله ليس له دين عندي، ونحو ذلك على النفي والإثبات.

    حكم تغليظ اليمين وأنواعه

    قال رحمه الله: [ ولا تغلظ إلا فيما له خطر ].

    أي: ولا تغلظ اليمين، وتغليظ اليمين بالله مثل أن يقول: والله الذي لا إله إلا هو، فهذا من تغليظ اليمين. وتغلظ بالمكان؛ كأن يحلف بين الركن والمقام، أو بين المقام والباب، كما اختار بعض العلماء، وتغلظ بالزمان: كأن تكون بعد صلاة العصر، كما في آية المائدة في الشهادة على الوصية في السفر.

    والصحيح: أن التغليظ فيه مذهبان مشهوران للعلماء: فمنهم من قال بشرعية التغليظ، وأن الأمر مرجوع إلى القاضي، فيغلظ متى شاء. ومنهم من قال: لا يغلظ إلا في الوارد، إذا ورد نفس التغليظ يغلظ وإلا فلا، وهذا هو الصحيح، وهو مذهب الظاهرية: أنه لا يغلظ إلا في الوارد، وأنه لا يضيق على الخصوم، بل نقول بالسنة التي وردت: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر)، فنحلفه اليمين وكفى باليمين تعظيماً، فإنه: (ما حلف أحدٌ يمين القضاء كاذباً فاجراً إلا لقي الله وهو عليه غضبان)، والعياذ بالله! فعلى هذا لا نقول بالتغليظ إلا بما ورد فيه النص.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756899393