إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب القطع في السرقة [4]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من الشروط في إقامة الحد على السارق: أن تنتفي الشبهة في المال المسروق، وهناك أصناف من الناس لا تقطع أيديهم وإن أخذوا مال غيرهم، وثبتت السرقة بشهادة عدلين، أو بإقرار السارق نفسه.

    1.   

    ما يمنع من قطع يد السارق

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ وأن تنتفي الشبهة ].

    يشترط لوجوب حد القطع أن تنتفي الشبهة في السارق، وقد تقدم معنا تعريف الشبهة في حد الزنا، وبينّا أن السنة وآثار الصحابة رضوان الله عليهم وردت بإسقاط الحد عند وجود الشبهة، وهذا من رحمة الله عز وجل بعباده، وهو منهج الأئمة الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وأرضاهم، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أوسع الناس في باب الشبهة، وكان يسقط الحد عند وجود الريبة والشبهة، ولذلك استقر مذهبه على ذلك، وثبتت عنه الآثار الصحيحة لإعمال الشبهة في إسقاط حد السرقة، كما في قصة غلام الحضرمي ، وهي من القصص التي اعتبرها العلماء دليلاً على إثبات أن الشبهة موجبة لسقوط حد السرقة.

    فيقول: (وأن تنتفي الشبهة) النفي ضد الإثبات، وإذا قلت: تنتفي الشبهة، بمعنى: ألا توجد شبهة، وهذا شرط راجع إلى الملكية.

    ومن هنا نجد من العلماء -رحمهم الله- من عبر في شروط السرقة بالملك التام القوي، أي: يكون المسروق منه قد ملك المال ملكاً تاماً قوياً بحيث لا تحصل منازعة بينه وبين السارق، فإذا وجدت الشبهة فإن هذا يؤثر في الملكية التامة كما في الشريك مع شريكه، وكما في الابن مع أبيه، والأب مع ابنه، ونحو ذلك من صور الشبهة، وهذه الشبهة اعتبرها أئمة الإسلام رحمهم الله -ومنهم الأئمة الأربعة- أنها موجبة لسقوط الحد، لكنها تختلف في صور، فتارة تكون الشبهة شبهة البعضية، وتارة تكون الشبهة شبهة الملك، ومن هنا فرق العلماء رحمهم الله فأعملوا صوراً من الشبهة، وأسقطوا صوراً أخرى، وقالوا: إن الشبهة لا تعتبر موجبة لسقوط الحد، والأصل الشرعي يقتضي أنه إذا توافرت شروط السرقة فإننا نقطع يد السارق، وعلى هذا لا نسقط الحد إلا إذا وجدت شبهة قوية.

    السارق من مال أبيه والعكس

    قال رحمه الله: [ فلا يقطع بالسرقة من مال أبيه وإن علا ].

    يعني: لو سرق الابن من مال أبيه فإنه لا تقطع يد الابن، ولو سرق الابن من مال جده وإن علا لم تقطع يده، والعكس: لو سرق الأب من مال ابنه، أو سرقت الأم من مال بنتها، أو سرقت الأم من مال حفيدتها، أو الأب من مال حفيده، فإنه لا يثبت القطع، وهذه الشبهة هي شبهة البعضية، والمراد بالبعضية: أن السارق يكون بعضاً من المسروق منه، أو يكون المسروق منه بعضاً من السارق، ومعنى ذلك: أن الولد قطعة من والده، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما فاطمة بضعة مني)، وهذا في صحيح البخاري، فقال: (بضعة مني)، فكأنها قطعة منه عليه الصلاة والسلام، وإذا كانت منه عليه الصلاة والسلام صارت هي وهو كالشيء الواحد، فإذا سرق الولد من والده كأنه أخذ من ماله.

    وجاءت السنة تؤكد هذا فيما رواه ابن ماجة وغيره -وصححه غير واحد من العلماء- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم)، فجعل الوالد له يد على مال ولده، وإذا كانت له يدٌ على مال ولده فإنه حينئذٍ لا يقطع؛ لأنه لم يسرق، فكأنه أخذ من ماله؛ ولهذا جماهير الأئمة -حتى حُكي الإجماع في هذه المسألة- على أنه لا يقطع والد من مال ولده، ولا مولود من مال والده.

    هذا الحكم عند العلماء والأئمة رحمهم الله عام وشامل للأصل مع فرعه وللفرع مع أصله، وعلى هذا نحكم بسقوط الحد إذا سرق الابن من مال أبيه وجده وإن علا، وإذا سرق من مال أبيه الذي تمحض بالذكور كجده من جهة أبيه أو جده من جهة أمه كأبي أمه، فلو سرق من مال جده لأمه لم يثبت الحد، وكذلك أيضاً لو ثبت أن السرقة من الوالد لولده فإنه يستوي في ذلك الأب مع الأم، فيستوي الذكور والإناث من الولد والوالد.

    قال رحمه الله: [ ولا من مال ولده وإن سفل ].

    هذا هو العكس، فهو أثبت أن الوالد لا يقطع بولده، وأيضاً الولد لا يقطع من مال ولده، والأصل في هذا السنة كما بينا، وهذه يسميها العلماء شبهة البعضية، ويستوي الذكر والأنثى في الآباء والأمهات، ويستوي الذكر والأنثى في الأولاد، ويستوي القريب والبعيد، فالأب المباشر والأب بواسطة، والابن المباشر والابن بواسطة وهو الذي يسمى بالحفيد.

    قال رحمه الله: [ والأب والأم في هذا سواء، ويُقطع الأخ ].

    ويقطع الأخ إذا سرق من مال أخيه؛ لأنه لا شبهة بين الأخ وأخيه، ولذلك تصح الزكاة على الأخ، ويجوز أن يدفع زكاته لأخيه؛ لأنه ليست هناك شبهة بعضية، ومن هنا قسّم العلماء القرابة في السرقة أو شبهة السرقة إلى قسمين:

    القسم الأول: قرابة مؤثرة، مثل: قرابة البعضية في الوالد والولد.

    القسم الثاني: قرابة غير مؤثرة، وهي قرابة الأخ مع أخيه، مثل سرقة الأخت من مال أخيها، والأخ من مال أخته.

    قال رحمه الله: [ وكل قريب بسرقة من مال قريبه ].

    وكل قريب يُقطع إذا سرق من مال قريبه، والدليل على ذلك: عموم قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38]، فأمرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة أن نقطع يد كل سارق سواءً كان قريباً أو غريباً، فلما جاءت السنة تستثني الوالد مع ولده والولد مع والده، أبقينا الحكم على العموم، واستثنينا ما استثنته السنة.

    السارق من مال زوجته والعكس

    قال رحمه الله: [ ولا يُقطع أحد من الزوجين بسرقته من مال الآخر ].

    إذا سرق الزوج من زوجته، أو سرقت الزوجة من مال زوجها، فهذا يأتي على صورتين:

    الصورة الأولى: أن يكون الأخذ من حرز.

    الصورة الثانية: أن يكون من غير حرز.

    فلو أن زوجة أخذت مالها ووضعته في صندوق وقفلت عليه، فجاء الزوج خفية وكسر الصندوق وأخذ المال الموجود فيه، فهذه سرقة؛ لأنها أخذ من الحرز، وتنطبق عليها شروط السرقة.

    الصورة الثانية: أن يكون الأخذ من غير حرز كما لو أن الزوج دخل بيته، ووضع المال على الطاولة فجاءت الزوجة وأخذت منه خمسمائة ريال خلسة دون علم منه على صورة السرقة، ولكنه من غير حرز، والعكس لو أن الزوج فعل ذلك بزوجته.

    في الصورة الأولى إذا كان من حرز اختلف العلماء رحمهم الله: بعض العلماء يرى أن الزوج يُقطع إذا سرق من مال زوجته، والزوجة تقطع إذا سرقت من مال زوجها، وبعض العلماء يرى أن الزوجة لا تقطع والزوج يقطع، وبعضهم يرى أنه لا يُقطع واحد منهما بسرقته من مال الآخر.

    فالذين قالوا بأنه لا تُقطع يد الزوجين إذا سرق أحدهما من مال الآخر احتجوا بما ثبت عن عمر رضي الله عنه في قصة عبد الله بن عمرو الحضرمي كان له غلام، ثم إن هذا الغلام سرق من مال زوجته -غلام أي: عبد مملوك- فجاء بهذا العبد المملوك إلى عمر رضي الله عنه وقال له: يا أمير المؤمنين! إن هذا سرق فاقطع يده. قال: ماذا سرق؟ قال: سرق مرآة زوجتي وهي بستين درهماً، وهذا يعادل النصاب وزيادة، فقال عمر رضي الله عنه: (خادمكم أخذ متاعكم، لا قطع عليه)، وفي بعض الروايات: (مالك سرق مالك) أي: العبد من مالك وسرق مالك، قالوا: إن هذا يدل على أن الزوج لا يقطع إذا أخذ من مال زوجته؛ لأن العبد مع سيده كالشيء الواحد، وإذا كان العبد مع سيده كالشيء الواحد ولم تقطع يد عبده فمن باب أولى ألا تقطع يد السيد نفسه، وهذا دليلهم على إسقاط الحد عن الزوج.

    وقالوا: هذا قضاء من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهذا القضاء سنة، ولم ينكر عليه، وهذا أمر تدعو الضرورة إلى انتشاره؛ لأنه كان في خلافة عمر رضي الله عنه، ومع هذا لم ينكره أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

    وقالوا: إن المرأة لا تقطع إذا سرقت من زوجها لوجود الشبهة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سلط يدها على مال زوجها، وذلك عند وجود الحق لحديث هند في الصحيح أنها قالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح مسيك أفآخذ من ماله؟ قال: خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فهذا يدل على أن المرأة فيها شبهة في تسلطها على مال زوجها.

    فقالوا: إن كلاً منهما -أي: الزوج والزوجة- يتبسط في مال الآخر ويرتفق به، والغالب أنه لا يفعل هذا على سبيل الاعتداء وعلى سبيل السرقة، وإنما يفعل هذا غالباً لوجود نوع من الانبساط، وقالوا: هذا القضاء يدل على أنه لا قطع على أحد الزوجين إذا سرق مال الآخر.

    والذين قالوا: لا تقطع الزوجة ويقطع الزوج، احتجوا بحديث هند ، قالوا: إنها هي التي تتوسع في مال زوجها، وليس الزوج الذي يتوسع في مالها، فبقي الزوج على الأصل.

    والحقيقة أن ظاهر قضاء عمر بن الخطاب -خاصة وأننا أمرنا بالعمل بسنة الخلفاء الراشدين- يقوى به الاستثناء.

    وأما بالنسبة لمسألة الأخذ من غير حرز فلا إشكال في سقوط الحد فيه، وبه يقول جمهور العلماء رحمهم الله، فالمصنف رحمه الله أخذ بهذا القول الذي عمل به الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وله أصل من السنة، وخاصة في حديث هند رضي الله عنها وأرضاها.

    قال رحمه الله: [ ولو كان محرزاً عنه ].

    قوله: (عنه): أي: عن السارق سواءً كان الزوج أو الزوجة، ولو كان المال في حرز وقوله: [ لو ]: إشارة إلى خلاف مذهبي؛ لأن من العلماء من فرق بين كون المال المسروق من غير حرز، وبين كونه مسروقاً من حرز، ففرق بين المسألتين.

    السارق من مال سيده والعكس

    قال رحمه الله: [ وإذا سرق عبد من مال سيده].

    العبد إذا سرق من مال سيده له صورتان:

    - الصورة الأولى: أن يحوجه السيد ويلجئه إلى السرقة، فمثلاً: يمنع عنه طعامه ويمنع عنه شرابه، فيعتدي العبد على مال السيد ويسرق منه، فهذا سبب يعتبره العلماء موجباً لسقوط الحد، وأُثر عن عمر بن الخطاب رضي الله: أن غلماناً -أي: عبيداً- كانوا لـحاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة ونحروها ثم أكلوها، فرفعهم حاطب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأراد منه أن يقطع أيديهم بالسرقة، ثم سأل عمر رضي الله عنه فوجد أن حاطباً رضي الله عنه كان مقصراً معهم في الإطعام، فقال: (أراك قد أحوجتهم بالسرقة) وأسقط القطع عنهم.

    ومن هنا منع القطع في زمان المجاعة؛ لأنه إذا حصل الجوع والضيق بالناس، واضطر السارق للسرقة أو أن امرأة -مثلاً- ترملت وما عندها أحد يعول عليها ثم التجأت للسرقة وهي مضطرة إلى ذلك، فهذه الأحوال تستثنى، وهكذا مسألة العبد مع سيده: إذا كان السيد ظالماً للعبد لا ينفق عليه ولا يطعمه، وحبسه ومنعه حقه، فسرق العبد من مال سيده، فلا إشكال في سقوط الحد عنه.

    - الصورة الثانية: أن يكون أخذه على غير وجه ضرورة، فالأصل في هذه المسألة يدل على أن العبد من مال السيد، ولذلك جاء في أثر ابن مسعود رضي الله عنه لما رفع إليه سرقة العبد من مال سيده قال: (مالكم سرق بعضه بعضاً)، فالمملوك إذا سرق من مال سيده يحكم بكونه من المال ويسقط الحد، وهذا فيه قضاء الصحابة رضوان الله عليهم، وقضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقضاء عبد الله بن مسعود ، ولا يعرف لهم مخالف، ولهذا اعتد بسقوط الحد إذا سرق العبد من مال سيده، خاصة وأن العبد له حق في هذا المال.

    وأما سرقة السيد من مال عبده، فمن المعلوم أن السيد يملك العبد وما ملك، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع) فهذا يدل على أن العبد ليس له يد على ماله، وأن للسيد ماله، ومن هنا سقط الحد لوجود الشبهة.

    وهذه الصور التي ذكرها رحمه الله تسمى صور الشبهة في الملك، فالأولى -وهي صورة الوالدين- شبهة البعضية، والعبد في مال سيده شبهة الملك، وسيذكر لها صوراً أيضاً في صورة السيد مع عبده، والعبد مع سيده شبهة الملك، والشريك مع شريكه، والفقير من بيت مال المسلمين، فكل هذه من صور شبهة الملك.

    قال رحمه الله: [ أو سيد من مال مكاتبه ]:

    هذا على القول بأن المكاتب عبد حتى يؤدي أنجم الكتابة، وهذا هو الأصل أنه إذا عجز عن أنجم الكتابة رجع عليه الرق.

    السارق المسلم الحر من بيت مال المسلمين أو من غنيمة لم تخمس

    قال رحمه الله: [ أو مسلم حر من بيت المال ].

    أو سرق مسلم حر من بيت مال المسلمين، هذه المسألة ضابطها: أن يكون هناك شبهة للسارق في المال الذي سرق منه، بمعنى أن له حقاً فيه، ولكنه حق مبهم غير معين، فالمسلم له حق في بيت مال المسلمين كما قال عمر رضي الله عنه وغيره: (إنه ما من أحد إلا وله حق في بيت مال المسلمين)، وهذا أصل، لكن هذا الحق ليس معناه التسلط على أموال بيت المال وسرقتها أو أخذها، وهذا لا يمنع تعزيره، ولا يمنع عقوبته، لكن الحدود تدرأ بالشبهات، فإذا سرق من بيت مال المسلمين سقط عنه الحد؛ لأن له حقاً في بيت مال المسلمين.

    وقوله: (أو مسلم) اشترط أن يكون مسلماً؛ لأن الكافر ليس له حق في بيت مال المسلمين، وقوله: (حر) لأن العبد مملوك لسيده.

    قال رحمه الله: [ أو من غنيمة لم تخمس ].

    أو سرق من غنيمة لم تخمس، تقدم معنا أحكام الغنائم وتخميسها، وما هو المراد بذلك، فإذا غنمت الغنيمة فقبل قسمتها يختلط حق الغزاة مع حق بيت مال المسلمين، فالغنيمة يكون فيها حق للغزاة الذين هم الأصل في حصول الغنيمة، وبيت مال المسلمين له حق، ولذلك ذكرنا كيفية تقسيم الغنيمة، وبينّا الأدلة الشرعية في ثبوت حق لبيت مال المسلمين في خمس الغنيمة.

    فالخمس يخرج من الغنيمة، والأربعة الأخماس تقسم بين الغانمين: للفارس سهمان، وللراجل سهم، على الأصل الذي بيناه، فإذا كانت الغنيمة لم تخمس، فإنه في هذه الحالة إذا سرق غير الغزاة منها فله حق باستحقاق بيت مال المسلمين إذا كان مسلماً حراً.

    لكن لو أنها خمست، وأخرج منها خمس بيت المال، فهذه الأربعة الأخماس إذا سرق السارق منها نظرنا فيه: فإن كان من الغزاة، فهذا غلول -نسأل الله السلامة والعافية-، وفيه الوعيد الشديد، ولكن له شبهة؛ لأنه من الغزاة، وله حظ في الأربعة الأخماس، وأما إذا كان من غير الغزاة فتقطع يده؛ لأنها إذا خمست وفصل حق الغزاة عن حق بيت المال وسرق من حق الغزاة؛ فقد سرق من غير ملكه، وحينئذٍ يثبت الحد، ولا شبهة له؛ لأنه ليس من الغزاة، وليس له حق في هذا المال، فيعتبر أشبه بالسرقة من سائر الأموال.

    لكن لو أنه كان من الغزاة وسرق من الأربعة الأخماس فلا تقطع يده لمكان الشبهة. فلو كان من الغزاة وسرق من الخمس فإن له أصلاً بكونه في بيت مال المسلمين، وله الأصل العام في كون له حق كسائر حقوق المسلمين عموماً في بيت المال.

    السارق الفقير من غلة وقف على الفقراء

    قال رحمه الله: [ أو فقير من غلة موقوفة على الفقراء ].

    سرق فقير من غلة وقف على الفقراء، لو أن غلة وقف تصرف على الأيتام والأرامل والفقراء. فالفقراء -مثلاً- لهم الثلث من الغلة بحكم شرط الواقف، فجاء فقير وسرق منه، فإذا سرق من غلة الفقراء لم تقطع يده؛ لأنه سرق من مال له فيه شبهة؛ لأن له حقاً في هذا المال كالحق العام، وإذا سرق شخص من مال موقوف على طلاب العلم قُطعت يده؛ لأنه سرق من مال لا حق له فيه.

    هذه الصور كلها مندرجة تحت شبهة الملك.

    السارق من مال له في شركة

    قال رحمه الله: [ أو شخص من مال فيه شركة له ].

    أو سرق شخص من مال فيه شِركة -وشَركة وشُركة-، إذا سرق أحد الشريكين أو الشركاء من مال الشركة، فإنه في هذه الحالة توجد شبهة الملك؛ لأنه ما من جزء من هذا المال إلا وله فيه سهم ونصيب بحسب حصته من الشركة العامة، وحينئذٍ لا تقطع يده، ولكن لو ميزت حصص الشركاء، فمثلاً ربحوا مليوناً، وقسم هذا المليون بينهم أرباعاً كل واحد له ربع، وميز نصيب كل واحد، وقبضه وحازه، ثم تسلط أحدهم على نصيب شريكه قطع. إذاً: الشرط أن يكون المال لم يقسم، وأن يكون المال على صورة الشركة، وسواءً وقعت السرقة في أصل المال أو وقعت في الربح؛ لأنه يملك في أصل المال ويملك في ربحه.

    قال رحمه الله: [ أو لأحد ممن لا يقطع بالسرقة منه ].

    صورة المسألة: أن يكون ولده شريكاً، فسرق الأب من شركة ولده، فمثلاً: ابنه شريك لثلاثة أجانب ليسوا بقرابة، فجاء الأب وسرق من شركة ابنه، فإن الأب مع ابنه كالشيء الواحد، فكما أننا فلا نقطع يد الابن لا نقطع يد الأب، والعكس، فلو كان الأب هو الشريك وجاء الابن وسرق من مالٍ لأبيه فيه شركة؛ لم تقطع يده؛ لأننا أثبتنا في السنة أن الابن مع أبيه والبنت مع أبيها وأمها والابن مع أبيه وأمه كالشيء الواحد.

    قال رحمه الله: [ لم يقطع ].

    أي: لم يقطع في جميع هذه الصور لوجود الشبهة.

    1.   

    ما تثبت به السرقة

    شهادة عدلين

    قال رحمه الله: [ ولا يقطع إلا بشهادة عدلين ].

    هذا الشرط معتبر لثبوت حد السرقة، فالسرقة جريمة من الجرائم لا يثبت فيها القطع إلا ببينة ودليل، والدليل ينقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: شهادة الإنسان على نفسه، وهو حجة الإقرار، فيقر ويعترف أنه سرق، ولذلك جاء السارق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقر واعترف، فقطع النبي صلى الله عليه وسلم يده.

    القسم الثاني: أن يشهد الشهود على أنه سرق، فإذا ثبتت هذه الشهادة بالصفة المعتبرة في القضاء الإسلامي حكمنا بقطع اليد.

    إذاً: هناك دليلان:

    الأول: البينة، وهي: الشهود.

    الثاني: الإقرار، وهو: شهادة الإنسان على نفسه بالجرم.

    ويشترط في الشهود أن يكونوا عدولاً ذكوراً بالغين عاقلين، سالمين من التهمة، ولا تقبل شهادة الصبيان، ولا تقبل شهادة المجانين، ولا تقبل شهادة خفيف الضبط وكثير النسيان وكثير الوهم؛ لأن الله يقول: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282]، ومثل هذا لا ترضى شهادته.

    ولا تقبل الشهادة من ذي خصومة، فلو أن عدواً شهد على عدوه أنه سرق لا نقطع يده، فمثلاً: وقعت خصومة بين أشخاص، ثم فوجئنا بهؤلاء الأشخاص الذين هم طرف في الخصومة والعداوة جاءوا شهوداً على أعدائهم أو على شخص من أعدائهم أنه سرق؛ فلا تقطع يده لأنهم متهمون في هذه الشهادة.

    ومن هنا ثبت الحديث عند الحاكم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين)، والظنين: هو المتهم. قال تعالى: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [التكوير:24] في قراءة: ظنين أي: بمتهم، فإذا كان الذي شهد على خصمه عدماً لم نقبل شهادته.

    كذلك يشترط في الشهود: أن يبينوا شهادتهم على وجه تنتفي به الريبة، فيبينوا المال المسروق، ويبينوا أن السرقة وقعت من حرز، ويبينوا الشخص المسروق، ويقولون: هذا. ويشيرون إليه في مجلس القضاء أو يذكرونه باسمه ويرفعون نسبه على وجه يتميز به عن غيره، واشترط بعض العلمـاء أن يبينوا أنهم رءوه يسرق من مال فلان، فيحددونه ويبينونه.

    كذلك أيضاً يشترط في الشهود: توافق شهادتهم، فلا يكون هناك اختلاف في الشهادة، فلو شهد شخص أنه سرق بالليل، والآخر شهد أنه سرق بالنهار؛ لم تقطع يده حتى تكمل شهادة الليل أو شهادة النهار؛ لأن سرقة الليل غير سرقة النهار. أو شهد أحدهما أنه سرق ذهباً والآخر شهد أنه سرق فضة؛ لم تقطع يده؛ لأن سرقة الذهب غير سرقة الفضة، ما لم يكن المسروق ذهباً وفضة، أو شهد أحدهم أنه سرق إبلاً والثاني قال: سرق غنماً، هذه شهادة وهذه شهادة، هذه سرقة وهذه سرقة، فلابد من اتحاد مضمون الشهادتين وألا تتناقض الشهادتان، حتى يكون بينهما اتفاق على وجه تستطيع أن تعتبرهما بينة واحدة.

    ولذلك قالوا: لو قال أحدهما: سرق ثوباً من نوع كذا. وقال الآخر: بل سرقه من نوع كذا. أي: نوع غير النـوع الأول، لم تقبل شهـادتهما، وهذا مذهب الجمهور خلافاً للإمام أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه قال: ربما يخطئ الشاهد في هذا ويغتفر.

    ويشترط في الشهود: العدد، فتقبل شهادة الاثنين، وأقل من الاثنين لا تقبل في السرقة، فإذا شهد واحد وحلف المدعي للحق أن فلاناً سرق منه؛ ثبت المال ولم يثبت القطع، بمعنى: لو قال الشاهد: فلان سرق من فلان عشرة آلاف ريال، وليس هناك شاهد آخر، فالقاضي يقول للمدعي: احلف يميناً، فإذا حلف اليمين ثبت المال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الشاهد مع اليمين في الأموال، فنوجب على الشخص المشهود عليه أن يضمن العشرة آلاف، لكن لا نقطع يده؛ لأنه لم تكمل بينة القطع.

    كذلك يشترط في الشهود: الذكورة، فلا تقبل شهادة النساء، فالشريعة لم تقبل شهادة النساء في الجنايات لما في النساء من ضعف في خلقتهن، ولذلك المرأة لو وقفت أمام جريمة لا تتحمل، ولذلك تجدها تصرخ وتغمض عينيها وتنفعل، وهذا الانفعال يخرجها عن التركيز، والإنسان لا يستطيع أن يغير في خلقة الله عز وجل، ولا أن يحمل المخلوق الضعيف مالا يتحمل، فهذه خلقة الله عز وجل، ومن هنا فشهادتهن قاصرة في الحدود كالسرقة والقتل وفي الجنايات على الأطراف والأعضاء، وهذه الأمور تحتاج إلى قوة من الشاهد حتى يستطيع أن يستبين، ويحتاج إلى نفس صابرة أثناء الجناية، فتستطيع أن تصبر حتى تستوعب الجريمة كاملة، وتستطيع أن تدلي بشهادة بينة واضحة، ومن هنا اشترط فيهم الذكورة والعدد والعدالة، فلا تقبل شهادة الفساق؛ لأن الله عز وجل قال في كتابه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6]، فأمرنا بالتبين من خبر الفاسق؛ فدل على أن الفاسق لا يقبل مباشرة، وهذا يدل على سقوط شهادة الفاسق، والعدل هو: الذي يجتنب الكبائر، ويتقي في أغلب أحواله الصغائر، قال الناظم:

    العدل من يجتنب الكبائر ويتقي في الأغلب الصغائر

    وذو أنوثة وعدل والحجا وذو قرابة خلاف الشهداء

    هذه كلها من شروط الشهادة، فيجب توافر هذه الصفات حتى نحكم باعتبار الشهادة على السرقة، ولذلك لا تقبل شهادة الشهود مجملة، فلو قال الشاهد: هذا سرق مالاً. لا نقبل شهادته ما لم يبين، ولا تقبل متناقضة، بل لابد فيها من الاتفاق بين الشاهدين، وإذا اختلف المضمون في بعض الصفات -مثل: اللون- فقال أحدها: سرق ثوباً أبيض، وقال الآخر: سرق ثوباً أصفر؛ فبعض العلماء يتسامح فيه إذا تقاربت الألوان.

    إقرار السارق بالسرقة

    قال رحمه الله: [ أو بإقرار].

    الإقرار حجة، والإجماع منعقد على أنه ليس هناك حجة أقوى من الإقرار؛ لأن الإقرار شهادة الإنسان على نفسه، وليس هناك عاقل يشهد على نفسه بالضرر، بل إنه لا يشهد على نفسه إلا وهو صادق في شهادته، ولذلك يعتبر الإقرار عند بعض العلماء -كما يعبرون- سيد الأدلة؛ لأنه ليس هناك حجة مثل الإقرار، ولذلك اختاره الله عز وجل في أعظم الأمور، وهو الشهادة على وحدانيته، وأخذ العبادة بشهادة الإقرار، فقال سبحانه: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا [آل عمران:81]، فالشاهد من هذا: أن الإقرار هو أقوى الحجج، ولكن لابد وأن يكون المقر عاقلاً؛ فلا يقبل إقرار المجنون ولا السكران على التفصيل في مسألة السكر، وسبقت معنا هذه المسألة، وسنبينها -إن شاء الله- في باب الإقرار، والأصل في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح من حديث بريدة بن الحصين رضي الله عنه وأرضاه- لما أقر عنده ماعز بن مالك بالزنا قال عليه الصلاة والسلام: (أبك جنون؟ فأخبر عليه الصلاة والسلام أنه ليس بمجنون، فقال بعد ذلك عليه الصلاة والسلام: أشربت خمراً؟ فقام رجل فاستنكهه) يعني: شم رائحة فمه، فالصحـابي أقر واعترف بالجريمة، فسـأله النبي صلى الله عليه وسلم: (أبك جنون؟) وهذا يدل على أن المجنون لا يقبل إقراره، ثم قال له: (أشربت خمراً؟) وهذا يدل على أن السكران لا يقبل إقراره، فإذا أقر فلابد وأن تتوافر فيه الأهلية للإقرار، ولذلك لا بد من البلوغ والعقل وسلامته من الآفات، وألا يكون متهماً في إقراره، والجمهور على أنه لو أقر بالسرقة لا يقبل إقراره مجملاً، ولذلك يزاد شرط التفصيل في الإقرار، فلابد أن يبيّن المال الذي سرقه، وقدره، حتى نستطيع أن نعرف: هل بلغ النصاب أو لم يبلغ؟ وكذا نوعه حتى نستطيع أن نعرف: هل هذا يوجب القطع أو لا يوجبه؟ فلابد من توافر هذه الشروط حتى يعتد بإقراره، وسيأتي -إن شاء الله- تفصيل شروط الإقرار العامة.

    1.   

    اختلاف العلماء في تكرار الإقرار

    قال رحمه الله: [ مرتين].

    اختلف العلماء في السارق إذا أقر: هل يشترط تكراره؟ وقبل هذا؛ اعلم أن الإقرار لا يعتبر حجة إذا كان بإكراه، فلو أكره شخص على الإقرار فإقراره ساقط؛ لأنه لا إقرار مع الإكراه، قال عبد الله بن مسعود ويروى عن غيره من الصحابة: (إن الرجل ليس بأمين على نفسه ولا على ماله أن يقول ما لم يقل إذا ضرب أو أوذي)، فقال: ليس بأمين، والإقرار حجة إذا كان الشخص أميناً.

    وبالنسبة للإقرار هل يشترط فيه التكرار؟

    ذهب بعض العلماء رحمهم الله إلى أن الإقرار لا يكون حجة في السرقة إلا إذا كرره مرتين، فقال: إنه سرق. ويعود مرة ثانية يقول: إنه سرق. ويبيّن ما الذي سرقه ويحدده، لاحتمال أن يظن أن الشيء الذي سرقه يوجب القطع، والواقع أنه لا يوجب القطع؛ لأن الناس تختلف ظنونهم، فلربما سرق مالاً تافهاً وظن أن هذا يوجب القطع، ولربما أخذ مالاً من غير الحرز فظن أنه سارقاً وهو ليس بسارق، فلابد أن يقر، وأن يكون إقراره مرتين بما يثبت به الحد، فإذا كرر الإقرار مرتين ثبت عليه الحد، وهذا مذهب الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه، واحتجوا بحديث الحاكم والدارقطني والبيهقي : (أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بسارق فقيل: يا رسول الله! إن هذا سرق. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما أخالك سرقت. فقال: بلى يا رسول الله! فأمر به فقطعت يده)، لما قال له: (ما أخالك سرقت) كأنه يلقنه أن يمتنع من الإقرار.

    وهذا يسمى عند العلماء -وتكلم عليه الأئمة-: تلقين الخصم، فإذا اتهم بالجريمة يلقن في السرقة ما يدرأ عنه الحد، وفعله بعض الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم من الخلفاء الراشدين كـعلي رضي الله عنه وغيره وعمر أيضاً رضي الله عن الجميع، فقالوا: إن هذا يدل على تكرار الإقرار؛ لأنه لما أقر المرة الأولى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أخالك سرقت) فرد الإقرار الأول، فرجع الرجل وقال (بلى) يعني: قد سرق، والسؤال معاد في الجواب، فلما قال له: (ما أخالك سرقت) يعني: ما أظنك سرقت، كأنه يلقنه أن يدفع عن نفسه التهمة فقال: (بلى)، فرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأثبت عليه الصلاة والسلام عليه الحد.

    والجمهور يرون أنه لا يشترط تكرار الإقرار، وأن المرة الواحدة تكفي في ثبوت الحد عليه، واحتجوا بحديث صفوان رضي الله عنه وأرضاه، فإن السارق لما سرق رداءه أقر، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم بإقراره ولم يأمره بتكرار الإقرار، فدل على أن الإقرار مرة واحدة يوجب ثبوت الحد، والصحيح إن شاء الله أنه لا يشترط التكرار، ويجاب عن حديث التكرار بأنه في التلقين وليس في الإقرار؛ لأنهم قالوا: يا رسول الله! هذا سرق. ولم يقر الرجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة: (ما أخالك سرقت)، فليس هناك ما يدل على أنه صرح بالسرقة.

    فالحديث من هذا الوجه يجاب عنه متناً، والسند فيه ضعف، وفيه مجاهيل، والمتن ليس فيه تكرار؛ لأنهم قالوا: (يا رسول الله! إن هذا سرق فقال عليه الصلاة والسلام: ما أخالك سرقت)، فهي دعوى وردها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يقر الرجل، وكان ينتظر منه الجواب فقال: بلى. فصار هذا تلقيناً للخصم، وليس بتكرار للإقرار، وعلى هذا لا يقوى دليل من قال بالتكرار، والصحيح الذي يترجح -والعلم عند الله- أن المرة الواحدة كافية وإن صح الحديث فإنه يحمل على التلقين.

    قال رحمه الله: [ ولا ينزع عن إقرار حتى يُقطع ].

    يشترط في الإقرار أن يبقى عليه حتى يقطع، وهناك شيء يسميه العلماء إثبات الجريمة، ثم بعدها الحكم، ثم بعدها التنفيذ، ثلاث مراحل:

    - الإثبات، والحكم، والتنفيذ.

    وعبء الإثبات يبقى على المدعي، فلابد في السرقة من وجود مدعٍ وهو صاحب المال، وإذا ثبتت السرقة بإقرار الشخص أو بالبينة فحينئذٍ يحكم القاضي بثبوت الجريمة، والقاضي سلطته سلطة تشريعية يثبت بها الجريمة، فيبقى التنفيذ، فإذا جاء التنفيذ الذي هو القطع والعمل بما أمر الله عز وجل به، فالأصل يقتضي المبادرة، فنص الأئمة رحمهم الله على أنه لا يجوز التأخير، وأنه يجب المبادرة بقطعه إحياءً لحق الله عز وجل، وإتماماً لأمره سبحانه وتعالى، والأمر يقتضي الفور؛ لأن الله أمرنا إذا ثبتت السرقة أن نقطع، والأمر يقتضي الفور في هذا.

    فإذا ثبت هذا؛ فإنه إذا ادعيت عليه السرقة فأقر ثبتت، فوجب على القاضي أن يحكم، فإذا حكم القاضي، فيشترط أن يبقى الرجل على هذا الإقرار إلى التنفيذ، فلو أنه قبل القطع ولو بلحظة رجع عن إقراره، فقال البعيد: كذبت، فأخبر عن نفسه أنه كذب في إقراره، أو قال: ما سرقت. أو كنت أمزح أو نحو ذلك، وقف الحد ومنع من تنفيذه. إذاً: يشترط في إتمام العمل بهذه البينة أو بهذه الحجة أن يبقى على إقراره حتى ينفذ، هذا قول الجمهور رحمهم الله. وهناك من قال: إن الرجوع لا يؤثر، وأنه لو رجع لم يسقط الحد؛ لأنه تعلق به حق الآدميين، والصحيح: أنه يسقط حد القطع، ولا يسقط الحق المالي، وخذها قاعدة في الإقرارات: إن الرجوع إن كان لحق الله أثر، وإن كان لحق المخلوق لم يؤثر. فلو أن شخصاً أقر أن عليه لفلان عشرة آلاف ريال، ثم قال: لا ليس له عشرة آلاف ريال، لم يقبل رجوعه؛ لأنه حق لمخلوق، وبإقراره ثبت في ذمته العشرة آلاف ريال التي أقر بها، لكن لو أنه قال: إنه زنى، ثم قبل التنفيذ رجع؛ عند ذلك يسقط الحد عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قصة ماعز : (هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه)؛ لأنه لما فر عندما أدركته الحجارة كما في الصحيح.

    وقد تقدم معنا أن من أقر بالزنا وأراد أن يرجع عن إقراره فإن الشرع يرغبه في ذلك، وأنه إذا رجع يحكم باعتبار رجوعه، لكن الحق هنا لله عز وجل.

    أما في السرقة فقد اجتمع الحقان: حق الله وحق المخلوق، فحق المخلوق أنه يقول: سرق مالي؛ لأن من سرق يجب أمران إذا ثبتت سرقته: نطالب القاضي بإقامة الحد والحكم عليه بالقطع، ونطالب السارق برد وضمان المال المسروق، فهو إذا أقر أنه سرق مالاً فقد أقر أن في ذمته للشخص مالاً، وحينئذٍ نلزمه برد هذا المال الذي أقر به، فإذا رجع عن إقراره فقد رجع عن حق ثابت للمخلوق فلا ينفع الرجوع منه، فيجب عليه ضمان المال المسروق الذي أقر أنه سرقه، ولكن لا ينفذ الحد؛ لأن رجوعه شبهة.

    1.   

    اشتراط أن يطالب المسروق منه بماله

    قال رحمه الله: [ وأن يطالب المسروق منه بماله ].

    يشترط أن يطالب المسروق منه بماله؛ لأن السرقة فيها حق للمخلوق، ولذلك ما سأل النبي صلى الله عليه وسلم إلا بدعوى من صاحب الحق، وفي رداء صفوان أثبت النبي صلى الله عليه وسلم الحد بدعوى صفوان ، وعلى هذا العمل أنه يشترط أن يطالب المسروق منه بماله، فإذا طالب المسروق منه بماله، وثبت أن السارق سرق أو ادعى أنه سرقه وأقر المدعى عليه فقد ثبتت الجناية، ولكن لو أنه طالب ثم رجع عن المطالبة قبل إتمام القضية فإنه يسقط الحد، فإذا رجع قبل الإثبات، وأما إذا ثبت وأقر الرجل فرجع الشخص عن المطالبة ثبت الحد ولو رجع.

    ولذلك صفوان رضي الله عنه وأرضاه لما سرق السارق رداءه وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يده، وصفوان رضي الله عنه ما كان يظن أن يد الرجل ستقطع، فقال: (يا رسول الله! هو له. -أي الرداء- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلا كان ذلك قبل أن تأتيني به)، فهذا يدل على أنه لو أسقط دعواه بعد الحكم أو قبل التنفيذ لم ينفع، وقبل الإثبات وقبل الحكم ينفع.

    1.   

    قطع يد السارق من مفصل الكف

    قال رحمه الله: [ وإذا وجب القطع قطعت يده اليمنى من مفصل الكف وحسمت ].

    (وجب) بمعنى: ثبت، فإذا وجب القطع وثبت فإننا نحكم بحد الله عز وجل وينفذ هذا الحد ولا يؤخر كما ذكرنا.

    وقوله: (قطعت يده اليمنى)، الدليل على ذلك قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]، وفي قراءة ابن مسعود أيمانهما ، ودرج الصحابة رضوان الله عليهم وأئمة السلف والجماهير على قطع اليد اليمين؛ لأنها في الغالب التي يتعاطى بها السرقة، وهي التي فيها القوة، وهي التي فيها الأذية والضرر، فقطعها أبلغ، فتقطع يده اليمنى.

    وقد بين رحمه الله أنها تقطع من مفصل الكف مع الساعد، فمن طرف تشد اليد كما ذكر العلماء والأئمة رحمهم الله حتى إذا قطعت، وذلك أبلغ في انفصالها وبيانها، فتقطع من مفصل الكف مع الساعد، وهناك قول ضعيف وشاذ: إنها تقطع من المنكب.

    والصحيح: أنها تقطع من مفصل الكف، وعليه درج أئمة الصحابة رضوان الله عليهم في أقضيتهم، فإنهم قطعوا من مفصل الكف، وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه قدم اليمين وأن القطع يكون لليمين، وظاهر هذا أنها تقطع اليد سواءً كانت صحيحة كاملة أو كانت معيبة أو ناقصة، فلو أنه في يمينه مقطوع الأصابع أو بعضها قطعت يده ولو كانت معيبة على الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله، ومن أهل العلم من فرق بين أن تكون أكثر الأصابع مقطوعة أو أقلها، ومن أهل العلم من قال: إنها تقطع من عند الأصابع، وهذا كله ضعيف.

    والصحيح أنه إذا كانت اليد موجودة قطعت.

    واختلف في اليد المشلولة هل تقطع أو لا تقطع؟

    فمن أهل العلم من منع من القطع، وعلل ذلك بأنه ربما نزف وحصل الضرر وقد يموت؛ لأن اليد المشلولة لا يتحكم في دمها، ومن أهل العلم من توسط كما اختاره الإمام النووي وغيره أنه يرجع إلى قول أهل الخبرة، فإذا كان الأطباء يستطيعون حسمها فإنها تقطع.

    والأصل: أنها تقطع بالألم، فلا يكون القطع بالتخدير، فلا تخدر يده، والمقصود إيلامه حتى يشعر بجريمته وجنايته.

    والحسم المراد به: وضعها في الزيت أو الدهن المغلي؛ لأن اليد إذا قُطعت نزف الدم، وإذا نزف الدم هلك الإنسان، فلابد أن الدم يمنع ويحبس، وجاء في الحديث الذي رواه الحاكم والبيهقي والدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه الأمر بحسم اليد إذا قطعت، منعاً من النزيف، والحديث فيه كلام، ولكن العمل عليه عند جمهور العلماء؛ لأنه يعضده مراسيل وموقوفات على الصحابة رضوان الله عليهم، لكن في زماننا -والحمد لله- يوجد طرق لإيقاف الدم وإيقاف النزيف.

    وهنا مسألة معاصرة، وهي: أنه بإمكان الأطباء أن يعيدوا اليد بعد قطعها، فبعد تطور الطب وسهولة الجراحات الدقيقة بإمكانهم أن يعيدوا اليد بعد قطعها، والعجيب أن بعض المتأخرين أفتى بجواز ذلك! وهذا من أغرب ما يكون، فيقول: وضع التخدير إذا قطعت، ثم إذا قطعت ترد! إذاً: ماذا جرى؟ تقطع يد السارق اليوم وغداً تعود إليه! فأين العبرة؟ وأين الاتعاظ؟ والحدود شرعها الله زواجر وجوابر.

    (جوابر): للنقص الذي في المكلف حينما عصى الله عز وجل فيجبر الله كسره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فأقمنا عليه حد الله فهو كفارة له)، فأثبت أن الحدود كفارات، فهي جوابر لنقص العبد.

    (وزواجر): لأن من رأى هذه اليد المقطوعة اتعظ واعتبر وارتدع ولم تسول له نفسه ذلك، فإذا قطعت يده ورجعت لم تعد زاجرة ولا جابرة، فهو في نفسه لم يتألم، فلم يحصل له الألم الذي يعظه ويذكره؛ وأيضاً غيرة لم يره بهذه الحالة التي تزجره وتمنعه عن الوقوع في السرقة، ثم إنها إذا خدرت ولم يشعر بشيء لم يتعظ الناس، ولم يجدوا نوعاً من العبرة التي تردعهم عن حدود الله عز وجل ومحارمه، فالأصل يقتضي أن يقام حد الله عز وجل على الصفة الواردة.

    قال رحمه الله: [ ومن سرق شيئاً من غير حرز ثمراً كان أو كثراً أو غيرهما أضعفت عليه القيمة ولا قطع ].

    هذه مسألة التعزير بالمال، من سرق ما هو أقل من النصاب، أو من غير حرز، يعني: أخذ، وهو قال هنا: (سرق) تجوزاً؛ لأن السرقة لا تثبت إلا إذا كانت من حرز، فقوله: (من سرق) بمعنى: من أخذ، فمن أخذ مالاً دون النصاب، أو أخذ مالاً يبلغ النصاب ولكنه من غير حرز، بمعنى: أنه ما توافرت فيه شروط السرقة، فعند ذلك يعزر، وهذا ثبتت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تضعف عليه القيمة، ويغرم قيمة الذي سرقه مرتين، ويعزر بما يليق به ويمنعه من العودة للجريمة، قال صلى الله عليه وسلم: (أضعفت عليه الغرامة وعليه العقوبة), فأمر بأمرين في تعزيره:

    الأمر الأول: مضاعفة قيمة المال المسروق.

    الأمر الثاني: عقوبة السارق بالتعزير، فيعاقب بما يناسبه، إما بسجنه أو جلده أو توبيخه، على الأصل الذي ذكرناه في باب التعزير، فمن الناس من يعاقب بالقول ويكفيه، ومنهم من يعاقب بالضرب الذي يردعه، ومنهم من يعاقب بالسجن الذي يردعه، فكل على حسب حاله.

    1.   

    الأسئلة

    حكم الخادم أو الخادمة إذا سرقا

    السؤال: إذا سرق خادم أو سرقت خادمة من أصحابها، فهل حكمه كحكم العبد أو الأمة؟ أثابكم الله.

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    فالخادم والخادمة ليسا بمملوكين، ولذلك لا ينطبق عليهما ما ذكره العلماء في المملوك، وهذا يسمى عند العلماء بسرقة الأجير من مال مستأجره، فإذا تحققت شروط السرقة فتقطع يد الخادم، وتقطع يد الخادمة، على الأصل الشرعي؛ لأنهما داخلان في عموم النص الآمر بقطع يد السارق، والله تعالى أعلم.

    حكم من سرق للمرة الثانية

    السؤال: إذا سرق السارق مرة أخرى بعد قطع يده فما الحكم؟

    الجواب: اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، والوارد في قضاء الصحابة أن تقطع رجله اليسرى، فتقطع يده اليمنى أولاً في السرقة الأولى، ثم تقطع رجله اليسرى؛ لأنه حد شرعي، ولذلك في الحرابة أمر الله عز وجل بقطع اليد والرجل من خلاف؛ لأنه إذا قطعت اليدان تعطلت المصالح، وهذا من حكمة الشريعة، وإذا قطعت يد ورجل بقيت له مصالح؛ ولأنه يحتاج أن يرتفق ويمشي.

    وكان علي رضي الله عنه يقول: (كيف يغتسل؟ كيف يتوضأ؟ كيف يقضي حاجته؟ كيف يصلي؟) فلما كرر السارق السرقة احتار في أمره رضي الله عنه وأرضاه.

    ومن أهل العلم من قال: تقطع يده الثانية، والأقوى أنها تقطع رجله، وهو قضاء الصحابة رضوان الله عليهم، فتقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، وإن تعذر قطع اليمين وقطعت اليسار في الأولى قطعت رجله اليمنى في الثانية، والله تعالى أعلم.

    دفن اليد أو الرجل المقطوعة

    السؤال: يقول السائل: اليد التي قطعت في حد من حدود الله ماذا يفعل بها؟ هل تغسل وتكفن أم تدفن مباشرة؟

    الجواب: الجزء لا يأخذ حكم الكل، وهناك مسائل يأخذ الجزء فيها حكم الكل، مثل أن يقول لزوجته: يدك طالق، رجلك طالق، يدك مني عليّ كظهر أمي، ونحو ذلك، فهذا الجزء يأخذ حكم الكل.

    وهناك مسائل الجزء لا يأخذ فيها حكم الكل، ومنها هذه المسألة، فإنه إذا قطعت يده أو صار عليها حادث فبترت فإنها تدفن.

    واستدل العلماء على مشروعية الدفن بدليلين:

    الدليل الأول: دفن الأظافر، وهذا فيه إشكال؛ لأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بدفن الأظافر هو خوف السحر، وفيه حديث حسنه بعض العلماء رحمهم الله، فالأظافر ربما -والعياذ بالله- تستعمل لأذية الإنسان بالسحر، ولذلك شرع دفنها بعد القص.

    الدليل الثاني وهو القوي على أنها تدفن قوله تعالى: ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ [عبس:21] فقوله تعالى: فَأَقْبَرَهُ [عبس:21] يدل على قبر الإنسان بعد موته، والتعبير للكل والمراد به أيضاً الجزء، فلو قطعت يده أو رجله، أو أصاب يده مثلاً تآكل فقطعت يده فإنها تدفن، والله تعالى أعلم.

    الفدية بالإطعام لمن لم يستطع صوم رمضان

    السؤال: والدي رجل كبير ومريض ولا يستطيع الصيام، فهل لي أن أطعم عنه في أول شهر رمضان، وهل أدفعها في مشروع تفطير الصائم أم لابد من الإطعام؟

    الجواب: إذا كان الشخص مريضاً أو كبيراً في السن فهو بالخيار بين أمرين:

    - إما أن يخرج عن كل يوم بيومه.

    - أو يخرج في آخر رمضان.

    أما الإخراج عن كل يوم بيومه فينتظر إلى أن تغيب الشمس في قول بعض العلماء، وبعض العلماء يقول: من بداية اليوم؛ فبمجرد فطره في الصباح يطعم؛ لأنه حينئذٍ ثبت وجوب الحق عليه، وأما من بداية الشهر فإنه لم يثبت عليه استحقاق؛ لأنه ربما مات، وربما لم يكتمل الشهر، ولذلك لا يجب عليه الإطعام إلا بعد ثبوت الحق، وإذا أطعم قبل تمام المدة أو أطعم في بداية رمضان لم يجزه إلا عن اليوم الذي أطعم فيه، وذلك كما لو أخرج الزكاة قبل بلوغ النصاب، فزكى ولم يملك النصاب، فسبب الوجوب غير موجود، وعلى هذا لابد أن يكون في اليوم نفسه إذا أراد أن يطعم، أو ينتظر إلى نهاية الشهر ويجمع الأيام كلها، وكان أنس بن مالك رضي الله عنه في آخر الشهر يجمع ثلاثين مسكيناً ويطعمهم.

    وعلى هذا؛ فإنه إن شاء أطعم عن كل يوم بيومه، وهذا هو الأفضل والأحسن والأكمل، فإن هذا يمكنه من الفقراء، ويعينه على الإطعام على الوجه المعتبر.

    ثم إنه إذا أطعم المسكين في يومه، يدعوه هذا إلى أن يتحرى في المحتاج، بخلاف ما إذا جمع المساكين الثلاثين، فإنه ربما يتساهل في بعضهم، فالأولى أنه يطعم في كل يوم بحسبه.

    حكم العمرة في رمضان لأهل مكة

    السؤال: ما حكم العمرة في رمضان لأهل مكة؟

    الجواب: العمرة في رمضان لأهل مكة وغيرهم سواء، والأصل في ذلك عموم النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ترغيباً في العمرة، وما ورد عن السلف من التشديد في العمرة إنما هو في العمر المطلقة؛ لأن المقصود من العمرة: الطواف بالبيت، وأهل مكة بمكة، فكان عطاء وغيره من السلف الصالح رحمهم الله يستحبون لأهل مكة بدل أن يخرجوا للتنعيم ويكثروا من العمر أن يطوفوا بالبيت؛ لأن المقصود من العمرة: زيارة البيت، فهم في البيت ومن أهل البيت، ومن هنا ضيق عليهم في إنشاء العمر.

    أما العمر المقصودة الوارد بها النص التي لم يرد فيها استثناء؛ فهي باقية على الأصل، والترغيب فيها وارد، ومن اعتمر في شهر رمضان من أهل مكة وغيرهم كانت عمرة كحجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لامرأة: (ما منعك أن تحجي معي؟ -حينما قفل عليه الصلاة والسلام من حجة الوداع_ قالت: يا رسول الله! ليس لنا إلا ناضح وقد أخذه أبو فلان، فقال صلى الله عليه وسلم -مطيباً لخاطرها وللأمة جمعاء- إذا كان رمضان فاعتمري، فعمرة في رمضان كحجة معي)، فلم يقل: إلا أهل مكة، بل قال: عمرة، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولذلك لو قيل بالتخصيص لخصص النساء دون الرجال، ولو قيل بالتخصيص لخصص المعذور دون غير المعذور، ولو قيل بالتخصيص لخصصت المرأة فقط لوحدها، لكن القاعدة: العبرة بعموم اللفظ (عمرة في رمضان كحجة معي)، وما قال لها: اعتمري في رمضان القادم فإن لكي بها حجة عوضاً -مثلاً- عن الحجة، إنما خاطب بخطاب العموم، وهذا العموم ليس فيه تخصيص ولا استثناء، فيبقى على الأصل وهو الأظهر، وهذا مذهب جمهور العلماء: أن العمرة مشروعة لأهل مكة وغيرهم على حد سواء، والله تعالى أعلم.

    حكم السعي إلى الصلاة

    السؤال: أيهما يقدم المسلم حين القدوم إلى الصلاة إذا أراد أن يدرك تكبيرة الإحرام أو الركعة، هل يسرع إسراعاً لا يخل بمقصود الصلاة من الخشوع -كأن يكون سريع المشي عادة- أم أنه يمشي بسكينة ويفوته خير بسكينته؟

    الجواب: الأصل يقتضي عدم الإسراع عند سماع الإقامة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)، إلا أن بعض السلف رحمهم الله خففوا في الإسراع اليسير واحتجوا بحديث قباء (لما خرج عليه الصلاة والسلام إلى قباء ثم سمع الإقامة وهو بالبقيع فأسرع في مشيه)، وهذا الإسراع ربما يكون هو مقصود السائل؛ لأنه يوجد إسراع بسعي، ويوجد إسراع جد في السير، وكان صلى الله عليه وسلم من هديه الخلقي أنه إذا مشى مشى مشية الرجل ولم يمش مشية المتماوت.

    ولذلك قال الراوي: (كأنه يتحدر من صبب)، أي: كأنه نازل من جبل أو نازل من مكان عالٍ، من قوته ورجولته بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فالاشتداد بالمشي الذي لا يذهب السكينة ولا يذهب الوقار معفو عنه، وورد عن طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورخص فيه الأئمة.

    ولكن الإسراع الذي هو الهرولة والجري فهذا منهي عنه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لـأبي بكرة : (زادك الله حرصاً ولا تعد) أي: لا تعد إلى هذا الإسراع؛ لأنه سمع منه جلبة، وعلى هذا إذا كان الإسراع من الضرب الذي يوءذن به فلا بأس، وإن كان على خلافه فإنه ممنوع منه، والله تعالى أعلم.

    تقديم بر الوالدين

    السؤال: أبي رجل كبير في السن فهل الأفضل الاعتكاف أم بر الوالدين، مع العلم أن هناك أخوة لي يبرونه؟

    الجواب: الله المستعان! ليس هناك شيء -يعدل بعد توحيد الله عز وجل وإقامة فرائض الله- بر الوالدين، ليس هناك أجمل ولا أكمل ولا أفضل من ساعة تلزم فيها رجل الأم أو رجل الأب تقضي حوائجهما وتنفس كرباتهما بعد توحيد الله عز وجل، وتفرحهما وتحسن إليهما، استجابة لأمر الله عز وجل الذي لم يقله المرة ولا المرتين، وإنما كرره وقرنه بأعظم الحقوق وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء:36] ، وقال: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23].

    من هذا الذي يستطيع أن يعدل اعتكافه ببر الوالدين؟ برك لأبيك وأمك أعظم، وإدخالك السرور على الوالدين أفضل وأجل، ولو كان ذلك لقضاء حوائجهم الدنيوية، ولو قال لك أبوك: اجلس في الدكان، فتجلس في الدكان وتبره، ويشهد الله بقرارة قلبك أنه لولا الله ثم بر الوالدين للزمت المساجد، وتحفظ دينك وتحافظ على القيام على الوالدين والإحسان إليهما، حتى إن الله تعالى يقول له: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، وعبر بالمصدر ثم اختار أعظم كلمة في العبادة وهي الإحسان، فأحب شيء لله عز وجل أن تعبد الله كأنك تراه، وهذه العبادة وصفها الله بصفة الإحسان (قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه)، وقال الله: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2]، ما خلق الله الخلق إلا ليبلوهم أيهم أحسـن عملاً، فاختار الله هذه الكلمة العظيمة التي اختارها لنفسه في عبادته، واختارها أيضاً للوالدين فقال: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23].

    تأمل كيف يأمر ربك سبحانه وتعالى ببرك لوالديك وجلوسك معهما وقضاء حوائجها، فلا يمكن أن يعدل بركوع وسجود في اعتكاف؛ لأن بر الوالدين حق واجب، والاعتكاف نافلة؛ ولأن بر الوالدين مفضل بعد الصلاة المفروضة، يقول عبد الله بن مسعود : (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاة على وقتها. قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) قال عبد الله رضي الله عنه: (حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني).

    احرص بارك الله فيك! على البر بوالديك، وخاصة في هذه المواسم الطيبة المباركة؛ مواسم النفحات والرحمات والخيرات، فيبحث الإنسان عن أقرب السبل وأقصرها مما يفضي به إلى جنة الله ورضوانه، ألا وإن من تلك السبل المحببة إلى الله: بر الوالدين.

    واعلم أنها ساعة سعيدة حينما تفوز برضا الوالدين، وأي ساعة تلك الساعة إذا خرجت ووراءك أب صالح يرفع كفه إلى الله لك بصالح الدعوات! وأي ساعة تلك الساعة حينما تخرج ووراء ظهرك أم جبرت كسرها وأدخلت السرور عليها، وبددت حزنها، وعالجت سقمها ومرضها وداءها، وبردت كبدها وحرها وضمأها، وقمت على حوائجها، فخرجت من عندها وهي راضية عنك، فرضي الله عنك برضاها!

    أي ساعة تلك الساعة حينما تحس أن والديك راضيان عنك! ولو لم يكن في بر الوالدين شرفاً وفضلاً إلا أن الله قرنه بتوحيده، وأمر به أنبياءه وصفوته من خلقه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين لكفى بذلك فضلاً وشرفا، ولكن من هو الموفق؟! ومن هو السعيد؟!

    يا هذا! لو تعلم ما لك في برك لأبيك خاصة حينما رق عظمه وشاب شعره وخارت قواه، لو علمت ما لك في برك لأمك الحنون التي حملتك وأرضعتك وكابدت من أجلك وعانت ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، لو علمت ماذا تساوي الدقيقة من الأجور والحسنات ورفعة الدرجات، وماذا تساوي من حسن الخاتمة عند الممات، لما تركت طاعتها لحظة.

    فما رأينا باراً بوالديه إلا فتحت أبواب الخير في وجهه، ولا رأينا باراً بوالديه إلا سعيداً قرير العين، ولا رأينا باراً بوالديه ضاقت عليه الدنيا إلا نفس الله عنه ضيقها، ولا تكالبت عليه الأحزان والأشجان إلا بدد الله عز وجل همها وغمها، ما رأينا البر يعود إلا بالخير والفضل والبركة والإحسان.

    كل إنسان رزقه الله أباً وأماً فليحس أن هناك أمانة، وأن الله ائتمنه عليهما عند المشيب والكبر، فماذا يغني لك الأحباب والأصحاب والسهر معهم والأنس بهم ووالداك بحاجة إليك؟

    أي محروم هذا المحروم الذي يخلف أمه وراء ظهره مريضة سقيمة محتاجة إليه تئن وتحن، ثم يذهب ويحتال حتى يأخذ منها الرضا الملفق المزور، ويعلم الله من قرارة قلبه أنه خان والديه، وأنه قد غشهما، لكي يذهب ويدعي أنه يركع ويسجد وأنه يتقرب إلى الله عز وجل؟! من هذا المحروم الذي يترك والديه وراء ظهره، وهما أحوج ما يكونان إلى علاج أو دواء أو مال أو أي حاجة من الحوائج وهو قادر عليها؟!

    فاتق الله في والديك، والزمهما واحرص كل الحرص على إدخال السرور عليهما، فهما طريق الجنة، وفي الحديث: قال: (يا رسول الله! أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد وتركت أبواي يبكيان. قال: أتريد الجنة؟ قال: نعم. قال: ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما)، ما المراد بأن يضحكهما؟ هل بكلمة أو كلمتين؟ (أضحكهما) يعني: كن في حالة وهيئة وشأن وفي جميع أمورك تضحك بها الوالدين، حتى إن العبد الصالح قد تتكالب عليه هموم الدنيا وغمومها ويؤذى في عمله ووظيفته، ويأتي من عمله ووظيفته مكروباً محزوناً فيدخل على والديه ويكتم حزنه فيضحك معهما، والله يعلم كم في قرارة قلبه من الأشجان والأحزان، وكم من مكروب منكوب إذا دخل على والديه ضحك كأنه في جنة وفي سعادة، وهذا والله! لن يخرج إلا قرير العين برحمة ربه.

    فليبحث الإنسان عن رضا الوالدين، وليبحث عن كلمة تبدد أحزانهما، وليبحث عن سرور يدخله على الوالدين حتى ولو كان بالحكاية والرواية، فإن المحسن بمجرد أن يجلس عند أمه يبحث عن كلمة أو قصة أو حكاية تدخل السرور عليها التماساً لمرضاة الله وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:22].

    وقف العبد الصالح على والدين عند مشيبهما وكبرهما وكتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم نصب عينيه لا يفتر ولا يتعب ولا ينصب، يجتهد ويجد في رضا الوالدين، هذه هي السعادة، وهذا هو طريقك إلى الجنة. فعليك أن تبدأ بحق الله أولاً من الفرائض التي فرضها عليك، كإقام الصلوات وإيتاء الزكاة والصوم والحج، ثم بعد ذلك تثني ببرك لوالديك، فالتمس رضاهما، وجد واجتهد وشمر عن ساعد الجد في ذلك.

    وبعض الأحيان الشيطان يدخل على الإنسان مدخلاً غريباً، يكون الوالد تاجراً، فيقول لولده: ابني! أريدك أن تجلس في الدكان. صحيح أن هناك فتناً، ولكن الفتن من تعرض لها فتن، ولكن الإنسان إذا اتقى الله ربط الله على قلبه، فيأتيه الشيطان ويقوله له: الناس في عبادة، يركعون ويسجدون وأنت جالس تبيع وتشتري! أو تأتيه والدته وتقول له: أريد أن أذهب إلى المستشفى. أو تريد أن تدخل السرور على أولادها، أو تريد أن تشتري شيئاً من السوق، فتجد الواحد يدقق ويبحث عن مآخذ، فيقول في نفسه: لا السوق فيه فتن، فيه كذا وكذا، نقول: نعم في السوق فتن، ولكن ابحث عن طريقة تستطيع أن تبر بها والديك، ولا تضيق الأمور، وتجده إذا أراد حاجة لنفسه ذهب إلى السوق في أعز أوقات الفتن، ولم يبالِ! والنفوس مجبولة على أن الشيء الذي للغير تنتقد فيه وتضيق فيه، والشيطان حريص على حرمان الإنسان من الخير.

    اجعل بر والديك نصب عينيك، واتق الله عز وجل في الطريق التي تبر بها والديك، وسيسهل الله عز وجل لك ذلك؛ لأن الله يقول: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل:5-7] .

    فإذا كنت في نيتك وقرارة قلبك حريصاً على برك لوالديك، فتح الله لك أبواب الرحمة، وأدخل السرور على الوالدين بك، إن من عباد الله الأخيار الصلحاء من فاز في رمضان وغير رمضان ببره لوالديه، فلا يعلم أحد مقدار ما فاز به من الدرجات والباقيات الصالحات إلا الله وحده.

    فبر الوالدين هو الطريق إلى الجنة والرحمة والبركة والتوفيق، وهو الطريق إلى كل خير ورشد.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل لنا ولكم من ذلك أوفر حظ ونصيب.

    وقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن أمشي في حاجة مكروب أو منكوب أو مسلم -يعني: في قضاء حاجة- أحب إلي أن أعتكف في هذا المسجد)، ويروى عن بعض التابعين، ويروى عن بعض السلف رحمهم الله.

    وهذا من باب تقديم النفع المتعدي على النفع القاصر، ونقول أولاً: بر الوالدين فرض والاعتكاف سنة، وثانياً: إنك إذا بريت الوالدين ونويت الاعتكاف كتب لك الأجران، وثالثاً: إن بر الوالدين نفعه متعدٍ، والصلاة والعبادة نفعها قاصر، والنفع المتعدي مقدم على النفع القاصر، والأمر الرابع: أن الأصل يقتضي في باب المفاضلات أن ينظر إلى حصول الضرر فـ( درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة )، فبعض الإخوان إذا غاب عن والديه تشوشا، وهنا ننصح الأساتذة الفضلاء الذين يحرصون -جزاهم الله خيراً- على أخذ بعض الشباب الصغار إلى المساجد، وبالأخص الحرمين، أن ينتبهوا لهذا، وأنا من وجهة نظري أن بعض الصغار دخولهم الحرمين يضيق على من هو أكبر وأولى بالاعتكاف، وإذا نظر إلى شدة الزحام ودخول هؤلاء الصغار الذي بعضهم قد يعبث، وبعضهم قد لا يشعر بمعنى الاعتكاف، ولا يتأثر به التأثر المحمود، فلو اقتصروا على من يتأثر وعلى من ينتفع لكان أفضل؛ لأن الناس كثرت الآن وليس كما كان في السابق، وتعليم الشباب وتعويدهم على الخير يكون في أزمنة أخرى غير رمضان، ونحن لا نشك أن هذا من باب الخير ومن باب التعاون، لكن الذي نلحظه ونجده، وقد اشتكى لنا كثير من الناس، أنهم قد يأتون بعدد كبير من صغار السن ويدخلونهم إلى الاعتكاف، وهذا يؤثر ويضر في مزاحمة من هو أكثر خشوعاً وأولى بالعبادة ممن هو قاصر.

    وخروج هؤلاء الصغار قد يكون فيه ضرر على الوالدين، فبعض الأمهات بمجرد فراق ابنها عنها تتشوش وتقلق وتخاف على ابنها، ومن حق الوالد إذا خاف على ابنه بسبب النوافل أن يمنعه، فلو أن الأم قالت له: لا تعتكف. يجب عليه أن يطيع الأم، ولا يجوز له أن يعصيها، ولو قال الوالد: لا أريدك أن تذهب، فأنا أخاف عليك. فمن حقه أن يمنعه، إلا إذا كان في صلاة مفروضة، ونص على هذا الأئمة والسلف، وذكر هذه المسألة الإمام البخاري في صحيحه: أنه لو منعته أمه من الصلاة المفروضة فلا يطعها؛ لأنه حق واجب، لكن الصلوات النوافل والاعتكاف هذه كلها من النوافل.

    فالشاهد: أن من المرجحات أنه إذا غاب عن والديه تشوش الوالدان وقلقا عليه، وقد وردت قصتان في القرآن هما عبرة للناس ولكن القليل من يعتبر بهما:

    الأولى: لنبي من أنبياء الله يفقد بصره ويعلم أن ابنه يوسف سيعود إليه، يقول الله تعالى: وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [يوسف:84-86]، يقول بعض العلماء في قوله تعالى: إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي [يوسف:86] يعني: هذا نبي من الأنبياء ويعلم أن ابنه سيعود إليه، ومع ذلك يعبر عن مكنون صدره أن فيه من البث والحزن مالا يمكن شكواه إلا إلى الله وحده، وهو يعلم أن ابنه سيعود إليه، وهذا الأمر لم يذكره الله عبثاً، بل يقول: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف:111] أي: لأولي العقول، وكأن الله عز وجل يقول: إذا كان هذا نبي لا يطيق فراق ابنه، فكيف بالناس العاديين؟! هذه واحدة في الأب.

    الثانية: حينما تأتي مريم لتضع ولدها عيسى عليه السلام، فهذا النبي الذي هو كلمة الله عز وجل، وقد بشرت بأنه نبي من أنبياء الله عز وجل، وقيل لها: لا تخافي ولا تحزني، وحصلت لها الطمأنينة والأمن ومع ذلك لما أرادت وضعه قالت: (يَا لَيْتَنِي مِتُّ)، كما قال الله (فَأَجَاءَهَا) يعني: ألجأها، الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا [مريم:23-24] .

    إذا كانت هذه تلد نبياً من أنبياء الله وتقول: يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا [مريم:23]، فكأن الله ينادي كل عبد مؤمن أن يتذكر أن أمه مرت عليها مثل هذه الساعة، فإذا كانت هكذا وهي تلد نبياً فكيف بسائر الأمهات؟!

    المثل الأول للآباء، والمثل الثاني للأمهات، لكن من الذي يعقل؟ جعلنا الله وإياكم من الذين يعقلون، تذكروا وتدبروا، فما قص الله عز وجل هذه القصص إلا لكي يعرف الأبناء حرارة الآباء وما يجدون من اللوعة والحزن والشجى، فاتق الله في والديك وبرهما واحتسب الأجر في برهما، وأسأل الله أن يكتب لك الأجر في بر الوالدين وفي الاعتكاف.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756475859