إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس [3] للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إذا جنى الجاني جناية على غيره فقد تسري هذه الجناية فتصيب العضو كله كاليد ونحوها، وقد تؤدي إلى إزهاق النفس وهلاكها، فإذا حصل شيء من ذلك فإن الجاني يضمن هذه السراية كلها، وإذا مات المجني عليه اقتص منه جزاء وفاقاً، وأما السراية بسبب القصاص فلا ضمان فيها، وكذلك إذا كانت السراية بعد القصاص والقود من الجاني فلا ضمان فيها أيضاً.

    1.   

    أحكام سراية الجناية

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    سراية الجناية مضمونة فيما انتهت إليه

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وسراية الجناية مضمونة في النفس فما دونها]:

    السراية: مأخوذة من (سرى) إذا مشى ليلاً، وسرى الشيء إذا مشى، وكأنهم صوروا سريان الضرر من العضو إلى البدن، أو سريان الضرر من جزء العضو إلى العضو كاملاً، ووصفوه بهذه الصفة؛ لأنه يسري ويدب ويمشي داخل العضو.

    وهناك نوعان من السرايات: سراية قود، وسراية جناية، فسراية الجناية: كأن يجني الجاني على طرف الأصبع، فتسري الجناية من هذا الطرف فيسقط الأصبع -والعياذ بالله- أو يُشل ويتلف، وقد تسري إلى الكف كاملة، وقد تسري إلى الساعد، وقد تسري إلى الكتف، وقد تسري إلى البدن كله فتقتله، فهذه أحوال وصور لسراية الجناية، ومثلها سراية القود.

    وقد تقع السراية بالأسلحة والآلات المسمومة، كما لو ضربه بسكين مسمومة، أو ضربه بسكين كالة وحصل تلوث بسببها، وقد سبق الكلام على القصاص فيما إذا حصلت الجناية على موضع بقطعه.

    والأصل في الشريعة أنه لا يقتص من الجاني حتى يبرأ الجرح، خوفاً من السرايات، ولذلك امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من القصاص، وأمر المجني عليه أن يصبر حتى يبرأ.

    فالأصل أننا لا نقتص حتى يبرأ الجرح، فإذا برئ الجرح وعرفنا نهاية الضرر، فإننا نقتص من الجاني بمثل جنايته، أما إذا لم يبرأ الجرح وسرى، فإما أن يسري إلى العضو كاملاً، أو يكون أكثر من ذلك، ولربما أتى على النفس فقتل المجني عليه.

    فإذا سرت الجناية من طرف الأصبع إلى الأصبع كاملاً، فإننا نحكم بثبوت القصاص في الأصبع كاملاً، ولا نحكم به في الموضع الذي قطع منه؛ لأن هذا مستتبع، وهو تبع للجناية، والقاعدة أن التابع تابع، فهذا الضرر جاء تبعاً للجناية، ومن هنا يقتص منه قصاصاً كاملاً، فإذا أسقط العضو، أو شل اليد-والعياذ بالله-، أو شل الرجل اقتص من العضو كاملاً، او اعتدى على رأسه، ثم سرت الجناية حتى أخذت العين كاملة، فإننا نقتص من عينه كاملة، أو قطع منه طرف الأذن، فسرت الجناية حتى أتلفت الأذن كاملة، قطعت أذنه كاملة، وهكذا في بقية الأعضاء.

    فإذا تعدى الضرر من الموضع المجني عليه إلى موضع آخر، فإنه يجب القود كاملاً تاماً، أما إذا سرى الضرر إلى نفس المجني عليه فمات، وقال الأطباء: إن سبب الموت هو هذا الجرح، أو هذه الجناية، كما لو ضرب شيخاً كبيراً وعاجزاً، فطعنه طعنة جائفة، فسرت الجائفة حتى أتت عليه فأهلكته، فإننا نوجب القصاص من الجاني، فيكون القصاص في نفسه بقتله؛ لأن سراية الجناية أتت على النفس، وكتاب الله القصاص في النفس كاملة، ولا نقول: إنه يتقيد بفعله الذي فعله؛ لأن هذا مستتبع بالجناية، فيُفعل به مثل ما فعل بمن جنى عليه.

    وعلى هذا فإن سراية الجناية معتبرة، وبهذا قضى الأئمة والسلف الصالح رحمهم الله، وعليه اتفاق الأئمة رحمهم الله من حيث الجملة.

    سراية القود وحكمها

    قال رحمه الله تعالى: [وسراية القود مهجورة].

    أي: إذا حصلت السراية في القصاص، كما لو قطعت يده كما قطع يد المجني عليه، وشاء الله تعالى أن لا تبرأ يد الجاني، فنزف منها الدم حتى مات، فإنه لا يجب الضمان، وهذا هو قضاء أبي بكر ، وعمر ، وعلي رضي الله عنهم، وكلهم قضوا بأن سراية القود والقصاص والحدود لا ضمان فيها، وأُثر عن علي رضي الله عنه حينما أقام الحد على رجل فمات، فقال رضي الله عنه: (الحق قتله)، أي: لسنا الذين قتلناه، وإنما قتله الحق؛ لأن الله أمرنا أن نقتص، فإذا مات بالقصاص، فهذا حكم الله عز وجل وليس بحكمنا، وهذا هو القول الصحيح، وهو مذهب الجمهور رحمة الله عليهم، فسراية القود غير مضمونة.

    وقال بعض العلماء كما هو مذهب الحنفية وطائفة رحمة الله على الجميع: إنها مضمونة، والصحيح أنها غير مضمونة.

    ومن هنا فلو أن امرأة زنت-والعياذ بالله- وهي بكر، فجلدناها مائة جلدة، وبعد الجلد ماتت، وكان موتها بفعل حر الجلد وألمه، فإنه لا يقتص من الجلاد، ولا نوجب عليه الضمان في ماله، ولا في بيت مال المسلمين؛ لأن الله عز وجل أوجب علينا أن نفعل هذا الفعل، وهذا حكم الله تعالى في خلقه، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا ضمان في قصاص أو حد)، فلو أننا اقتصصنا منه فمات بفعل هذا القصاص، فإنه قد قتله الحق، ولم نقتله نحن، وحينئذ لا ضمان على المقتص، سواءٌ أكان أمره السلطان، أم القاضي، فلا ضمان عليه في ماله، ولا في مال بيت المسلمين، خلافاًً لمن قال: إنه يضمن، ثم اختلفوا: هل يضمن من بيت مال المسلمين إذا كان أمره القاضي؟ أو يضمن من ماله على عاقلته؟ على وجهين مشهورين عندهم، والصحيح أنه لا ضمان في هذا كله.

    الاستعجال في القصاص أو الدية وحكم السراية بعدها

    قال رحمه الله تعالى: [ولا يُقتص من عضو وجرح قبل برئه، كما لا تطلب له دية]:

    أي: لو أن رجلاً قطع يد رجل، فقال المجني عليه: أريد أن أقتص، فيقال له: انتظر حتى تبرأ مخافة سراية الجناية، وحينئذٍ فننتظر إلى أن يبرأ، ونعرف حدود الجناية، فلا يقتص من عضو ولا طرف، ولا من جرح إلا بعد برئه، فإذا برأ قلنا له: اقتص منه، وهذا كما حديث جابر رضي الله عنه عند الدارقطني رحمه الله، وكذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم، والعمل على هذا عند أهل العلم رحمهم الله، فالجمهور على أنه لا يُقتص حتى يبرأ الجرح، فنعرف حدود الجناية، وهذا صحيح ولا إشكال فيه.

    لكن إن اعتدي عليه فقطعت يده، فقال للقاضي: أريد أن أقطع يد الجاني، فقال له القاضي: انتظر حتى تبرأ، فأصر على حقه ليقتص فوراً، فبعض أهل العلم يقول: يُمكن من حقه، فإذا مُكن من حقه، ثم سرت الجناية بعد اقتصاصه، كما لو قُطع أصبعه، فقال: أريد القصاص وأريد أن آخذ بحقي، فمكنه القاضي، فقطع أصبع الجاني، ثم بعد القطع سرت الجناية حتى سقطت كفه، فسريان الجناية هدر، وفي هذا قصة مشهورة: (أن رجلاً ضرب رجلاً بقرن في ركبته، فقال: يا رسول الله! أقدني، فأمره صلى الله عليه وسلم أن ينتظر، فأصر الرجل على القصاص، فقال: أقدني يا رسول الله! فأمره أن ينتظر، حتى ألح عليه فأمره أن يقتص، فلما اقتص سرت الجناية حتى أخذت رجله فعرج، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب حقه، فقال صلى الله عليه وسلم له: بطل جرحك)، أي: ليس لك حق، مادام أنك طلبت القصاص فوراً؛ إذ لو اقتص من الجاني بعدها لكنا قد أوقعنا به الضرر مرتين، وفعلنا به فعلين، وكانت جنايتين في مقابل جناية واحدة، والقصاص يقتضي التماثل، ومن هنا إذا استعجل في مطالبة حقه فقد أسقط حقه بعد ذلك، وقال بعض العلماء: له القصاص، والصحيح ما ذكرناه.

    وقوله رحمه الله تعالى: (كما لا تُطلب له دية):

    لاحتمال أن تقطع أصبعه فتتلف يده كاملة، فيكون له نصف الدية، ومن هنا قالوا: إنه لا يعطى عشر الدية في أصبعه، وإنما ينتظر إلى برئه، فربما سرت الجناية، فكان حقه نصف الدية، فبدل أن يعطى عشر الدية يعطى حقه كاملاً.

    1.   

    الأسئلة

    ضمان التفريط في سراية الجناية

    السؤال: إذا كانت سراية الجناية بسبب تفريط المجني عليه، فما الحكم؟

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:

    فهذا السؤال له جانبان:

    الجانب الأول: أن تكون السراية بسبب إهمال الطبيب، أو خطأ الطبيب، كشخص قطع أصبع أخيه، فجاء الطبيب ليعالجه، فلم يعالج أصبعه بالطريقة المعتبرة عند الأطباء، وأهمل مداواة الجرح حتى تلوث الجرح وتسمم، وسقطت يده، أو مات، فحينئذٍ إذا كان الموت بسبب هذه السراية وهذا الضرر فالضامن هو الطبيب، وليس الجاني؛ لأن الموت ما جاء من الجناية، وإنما جاء من العلاج، فإذا كان بالدواء الذي وضعه الطبيب، أو أهمل فيه، حتى حصل الضرر، فإن الطبيب يتحمل المسئولية؛ لأن الإهمال والتقصير من أسباب ضمان الأطباء، والطبيب يضمن إذا تعدى، ويضمن إذا أهمل وقصر في تتبع الأمور المتبعة عند الأطباء.

    الجانب الثاني: أن يكون الإهمال من نفس المريض، كما لو كان المفروض عليه أن يذهب إلى الطبيب ليعالجه، فامتنع حتى تسمم الجرح وتلف، فإنه ضامن لنفسه، ولا يتحمل الضمان الطبيب ولا الجاني، فالجرح تعتبر سرايته إن كانت بسبب الجناية، فالطبيب بذل ما في وسعه، ولكن المرض استفحل والداء استشرى، فحينئذ يضمن الجاني، أما إذا كان بإهمال الطبيب، أو بإهمال المريض، فكلٌ يتحمل مسئوليته: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، فالجاني تقدر جنايته ويضمن، والطبيب يقدر إهماله وإخلاله فيضمن، وإذا كان التقصير من المجني عليه فلا إشكال؛ لأنه يتحمل مسئولية نفسه. والله تعالى أعلم.

    كيفية القصاص في الجناية الجماعية

    السؤال: إذا لم تعرف جناية كل جان لوحدها، كالجناية الجماعية، فكيف يُقتص؟

    الجواب: إذا لم تعرف الجناية، ففي هذه الحالة إما أن يموت المجني عليه، وإما أن يكون حياً يقبل قوله، فإذا مات فالأمر إلى ورثته، ولهم أن يَدَّعوا فيقولون: فلان فعل كذا، وفلان فعل كذا، وفلان فعل كذا، فإذا ادعوا على كل واحد جناية جرى في ذلك سنن القضاء وصارت دعوى، فيُحضر كل واحد من هؤلاء الجناة، ويسأل عن دعوى الجناية، فإذا أقرَّ أُخذ بإقراره، وإذا لم يقرَّ فحينئذ يُطالب الورثة بالبينة والدليل، وعليه يمين إذا أنكر، ولو أن واحداً منهم قال: أنا أمسكته، والثاني هو الذي ذبح، وهو الذي بقر بطنه وأشعل النار فيه، فحينئذ في هذه الحالة يؤتى بالثاني، فإن أقر أنه هو الذي قتل، وأنه هو الذي فعل؛ فإن الأول ممسك والثاني قاتل، فالممسك يحبس إلى الموت؛ لأنه أمسك شخصاً لشخص يعلم أنه سيقتله، وكان بإمكان الشخص أن يفر لولا هذا الإمساك، فيحبس كما حبس هذه النفس المحرمة حتى يموت، ولا نستطيع أن نقتص منه؛ لأنه لم يكن الزهوق بفعله، ويقتص من الذي باشر، فالإمساك سببٌ، والبقر والبطن وإشعال النار مباشرةٌ، فحينئذ تجتمع السببية مع المباشرة، وقد تقدم معنا التفصيل في هذا.

    ثم الأعضاء على نفس التفصيل، فإذا ادعوا على أن كل واحد فعل فعلاً، فقالوا: هذا قطع يده، والثاني قطع رجله، فنأتي بهؤلاء الذين ادعي عليهم، فإن أقروا فحينئذ يقتص من كل واحد بمثل جنايته، وأما إذا وجدوا مجتمعين، فظاهر الحال أنهم اشتركوا، وحينئذ كل منهم يحتمل أنه جانٍ، مادام أنهم كلهم في مكان الجريمة، وأُخذوا على ذلك، وأقروا، ولا تستطاع استبانة الفعل، والفعل مشترك بينهم، فحينئذ يُقتص منهم جميعاً، فلو أنهم كلهم قطعوا رجله، فأحدهم وضع السكين وحز بها، وقطعوا العضو، فالقطع حاصل بفعل من؟ فتقطع رجل كل واحد منهم.

    وكذلك لو أرادوا أن يلقوا صخرة على شخص، فاحتاجوا الى تشغيل جهاز، فاتفقوا على تهيئته ووضعه، وكلهم جاء وشغله، فنزلت الصخرة على يده فقطعتها، أو كانوا يريدون قتله، فشرد الرجل فسقط على يده فقطعها، فحينئذ نقطع أيديهم كلهم. فالجماعة إذا فعلوا فعلاً بحيث لو انفرد كل واحد منهم لحصل الزهوق بفعله، ولحصل القطع أيضاً للعضو بفعله، فإنه يُقتص منهم.

    أما لو فُصل فعل كل واحد منهم فإننا نفعل بكل واحد مثل ما فعل، فلو أن أحدهم قطع يده، والثاني قطع رجله، والثالث قطع أذنه، قطعنا رجل من قطع الرجل، ويد من قطع اليد، وأذن من قطع الأذن؛ لأن كتاب الله القصاص، ولا يُجنى على الجميع بجناية إلا بمثل، ولا يؤخذ من الجميع شيء إلا مثل ما فعل بالمجني عليه، فهذا بالنسبة لاشتراك الجماعة في فعلهم بالمجني عليه، والله تعالى أعلم.

    نوع القتل بسراية الجناية

    السؤال: سراية الجناية على النفس أليست من قبيل قتل الخطأ؛ لأنه لم يرد قتله، ولكن سرى الجرح فقتله؟

    الجواب: لا، فليت القضية هنا قضية قتل خطأ، فهذا رجل جاء بالسكين وقطع أصبع المجني عليه، أو قطع يده، أو قطع رجله، فهو جان متعمد قاصد للضرر، وهذا الضرر استفحل حتى أتى على النفس، فيتحمل هذا الضرر كاملاً؛ لأن الموت حصل بهذه الجناية، وحصل بهذا الفعل، والدليل على ذلك: أن جرح أي موضع من البدن لا يؤمن معه أن يفضي إلى البدن كله، وعلى هذا فإنما ينظر إلى وجود العمد العدوان، فالنفس محرمة، والاعتداء على عضو منها لا يؤمن معه سريانه إلى جميع البدن، فيُحمل المعتدي المسئولية عن البدن كاملة، وإلا لضاعت الحقوق؛ إذ ما على الشخص إلا أن يأتي بسكين مسمومة، ويقطع بها أصبعاً، ويتركها حتى يموت المجني عليه.

    فإيجاب ضمان السراية هذا ضبطٌ لحقوق الناس، وزجر عن الفتنة، وحسم لمادة الشر، ولو أن شخصاً وخز شخصاً بسكين في موضع وربطه، أليس من المحتمل أن ينزف جرحه حتى يموت؟ ففي بعض الأحيان الضرر البسيط على البدن قد يأتي على البدن كله، فمادام أنه قد أضر به ضرراً يأتي على النفس، فيتحمل مسئولية هذا الضرر، وعلى هذا فإننا لو حكمنا بالقصاص فما ظلمنا الجاني؛ بل فعلنا به مثل ما فعل بأخيه، فاستوى أن يكون ذلك بالطرف، أو يكون فيما هو مقتل، والله تعالى أعلم.

    طهارة المصاب بالباسور أو الناسور عند إرادة الصلاة

    السؤال: إذا كان الإنسان مصاباً بالباسور، ويخرج منه شيءٌ بسيط، فهل عليه وضوء لكل صلاة مثل المستحاضة؟

    الجواب: البواسير والنواسير فيها تفصيل؛ إذ البواسير من الخارج، وغالباً تكون على حلقة الدبر، أما النواسير فتكون من داخل الدبر.

    فالجروح السيالة التي في داخل الدبر من النواسير إذا استمر النزيف فلها حكمان، والبواسير لها حكم واحد.

    أما البواسير فإذا كانت من خارج، أو على الحلقة-حلقة الدبر فتحة الشرج- فإنها لا تنقض الوضوء؛ لأنها من خارج، ومادتها نجسة، وأما النواسير الداخلية فتنقض الوضوء، ومادتها نجسة، فللبواسير حكم واحد، وهو النجاسة، وللنواسير حكمان: وهما النجاسة، ووجوب إعادة الطهارة.

    ومن هنا فإذا كان عنده نواسير، وخرجت الدماء مسترسلة، أو كان عنده سلس في خروجها، فإنه إذا استمر خروج الدماء من النواسير، واستغرق وقت الصلاة كاملاً، فحينئذ نقول له: توضأ عند دخول الوقت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة، فقال عليه الصلاة والسلام: (وتوضئي لكل صلاة)، وعلى هذا فإذا دخل الظهر فيتوضأ، ثم يصلي الظهر والسنن الراتبة القبلية والبعدية، ولو خرج معه دم النواسير؛ لأنه معذور، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فيعذر في هذا، وهذا بالنسبة لظاهر الحديث، أما إذا كانت النواسير تستمر معه وقتاً يسيراً كعشر دقائق، أو ربع ساعة، بحيث يأتيه نزيف بعد البراز مدة ربع ساعة، أو عشر دقائق، وحضر وقت الصلاة، فيقال له: لا تصل، وانتظر حتى تطهر، فتنقي الموضع وتطهره وتغسله، ثم تصلي صلاة بطهارة تامة كاملة.

    وإذا كانت النواسير سيالة، وأمكنه أن يضع قطنة يسد بها موضع خروج الدم فليفعل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المستحاضة أن تتلجم، وقال عليه الصلاة والسلام: (أنعت لك الكرسف، قالت: يا رسول الله! هو أشد من ذلك)، ومعنى (أنعت): أصف، والكرسف: القطن، وذلك لأنه كان يخرج منها الدم من الفرج، والدم دم الاستحاضة، فهو مثل النواسير؛ لأن هذا من القبل وهذا من الدبر، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في دم الاستحاضة (إنما ذلك عرق)، فوصفه بكونه نزيفاً من عرق، وهذا العرق ورد تسميته في السننن وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله بأنه: العاذر، والعاند، والعاذل. فإذا كان المعنى في النواسير هو نفس المعنى في الاستحاضة فالحكم واحد، فيقال لمن به ناسور: ضع قطنة تمنع خروج الدم وصلِّ، حتى إذا خرج الوقت أعدت الطهارة للصلاة الثانية.

    ولكن إذا حصلت مشقة على الإنسان، كأن يكون في زمن شديد البرد، ويصعب عليه أن يتوضأ لكل صلاة، فإن له أن يؤخر صلاة الظهر إلى آخر وقتها، حتى لا يبقى من الوقت إلا بقدر ما يتطهر، ثم يتطهر فيصلي الظهر، فإذا أذن العصر صلى بعده العصر، ثم يؤخر المغرب إلى ما قبل آخر وقتها، ثم يتطهر فيصلي المغرب، ثم يؤذن العشاء فيقيم ويصلي العشاء، وهذا يسمى بالجمع الصوري، وهذا إذا كان قد استفحل عليه الأمر، أو كان الماء عنده قليلاً، ولا يمكنه أن يتوضأ لكل صلاة، فحينئذ نقول له: اجمع جمعاً صورياً، وهو معذور في ترك الجماعة من هذ الوجه، والله تعالى أعلم.

    حكم الأخذ من مال اليتيم ديناً دون علمه وإدراكه

    السؤال: عندي مال ليتيم، وقد أخذت منه مبلغاً، واعتبرته ديناً عليَّ، لأقوم بإرجاعه، وذلك دون علمه، حيث إنه صغير السن، فهل يجوز لي ذلك؟

    الجواب: الله المستعان! والله يعينك، فقد تحملت أمانة عظيمة، وأموال اليتامى بلاء عظيم، ومن تحملها فليجعل الجنة والنار نصب عينيه، فأمرها عظيم، وعليه أن يتقي الله عز وجل، والذي أراه في هذه المسألة -وهو أصح قولي العلماء- أن ولي اليتيم ليس له أن يخاطر بماله، فلا يستدن من مال اليتيم لنفسه، ولا يستدن لغيره؛ لأنه لا يأمن العجز عن السداد، وقد يكون بحال طيب، ثم يتلاعب به الشيطان، فأوصيك أخي ونفسي بتقوى الله الذي لا إله غيره، ولا رب سواه، وأن ترد لهذا اليتيم حقه، وأن تكون ممن أثنى الله عليهم من فوق سبع سماوات بقوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون:8]، فارع أمانة اليتيم، ورد ماله كاملاً تاماً، ولو استدنت من شخص آخر، فرد هذا المال، وابحث عمن يدينك، وأما مال اليتيم فهو أمانة في عنقك، فالله الله في هذه الأمانة، وأدِّها كما أخذتها، واتق الله عز وجل في مال اليتيم، فهذه وصيتي لك؛ لأن هذا أسلم لدينك، وأبر في طاعة ربك، فاتق الله عز وجل، ولا تخاطر وتعرض مال اليتيم للمخاطرة. والله تعالى أعلم.

    حكم قص المرأة لشعرها

    السؤال: هل يجوز للمرأة أن تقص شعرها؟ وهل ورد ذلك عن عائشة رضي الله عنها؟

    الجواب: قص الشعر له صور:

    الصورة الأولى -وهي ممنوعة محرمة-: أن يكون قصاً متفاحشاً؛ لأن هذا تشبه بالرجال، وهذا فعل المسترجلات، فتقص شعرها قريباً من شعر الرجل، حتى تبدو كأنها رجل، وهذا فعل المسترجلات من المتبرجات ونحوهن-أعاذنا الله وإياكم من أدران الأخلاق وسيئها-، ومثل هذا فيه اللعنة؛ لأن المرأة تفعله بقصد الاسترجال، والمرأة إذا استرجلت فهي ملعونة.

    الصورة الثانية: قص المشابهة المحرم، وهو أن تقص على نمط أو طريقة وافدة من أعداء الله عز وجل، وهذا أيضاً فيه الوعيد، وفيه تشبه لمن سمى الله عز وجل، ولا يجوز للمسلمة أن تفعله.

    الصورة الثالثة: القص النسبي، وهو التخفيف من الشعر، خاصة عند حدوث الأذية منه عند غسله ونحو ذلك، فتخفف منه، أو القص المسنون شرعاً كما في النسك؛ فلا بأس به ولا حرج، ولكن ما ذكرناه من القص الممنوع فإنه محظور.

    وعلى كل حال فعلى المرأة أن تحمد الله عز وجل على العافية، وأن تحمد الله عز وجل على نعمته وخلقته، فالعبد المؤمن والأمة المؤمنة عليهم الرضا بخلقة الله عز وجل وتصويره، ومن رضي عن الله أرضاه، ومن أرضاه ربه بارك له، فأوصي المرأة أن تحمد الله عز وجل وتشكره، فكم من امرأة تساقط شعرها حتى تمنت أن تجد شعراً ولم تجده، ولكن إذا حصل ضيق، وتضررت منه، فتقص منه في حدود معقولة، ولا بأس بذلك ولا حرج، وأما أن تقص كما شاءت، وتفعل ما شاءت فلا.

    وأما ما ورد عن أمهات المؤمنين فمحل نقاش كبير عند العلماء رحمهم الله تعالى، وفيه إشكالات في قصهن كالوفرة، وهل هذا فعلنه رضي الله عنهن وأرضاهن من باب التقشف والبعد عن الزينة؛ لأنهن من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرغبن في الزواج ففعلن ذلك؟ فهذا وجه، وقد جاء في حديثٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الله قال لهن: (الزمن الحُفُر)، وفيه إشكال عند العلماء معروف، ولكن الأصل في الشرع عدم تغيير الخلقة، والله تعالى خلق للمرأة هذا الشعر، وأحل لها الأخذ منه في النسك، وما عدا ذلك فإذا قصته خرجت به عن سنن فطرتها، وقد جعل الله عز وجل فيها الشعر جمالاً وشيئاً تتزين به، والأصل يقتضي عدم التصرف في هذه الأشياء، خاصة إذا استفحل القص، فإذا ترفعت في القص، وقصت قصاً متفاحشاً، فنقول: الأصل المنع منه، ولا يقال بجوازه إلا بدليل، خاصة وأنها إذا تفاحشت في القص شابهت الرجال، وعلى هذا يمنع منه، وأما إن كان قصاً نسبياً يقصد منه تخفيف الشعر، خاصة عند تضررها في الغسل من الجنابة والحيض ونحو ذلك، فلا بأس بذلك ولا حرج، والله تعالى أعلم.

    مدى مشروعية توجيه الذبيحة للقبلة

    السؤال: هل هناك دليل على توجيه الذبيحة للقبلة؟

    الجواب: هذا الأصل ينتزعونه من دليل المقارنة في قوله صلى الله عليه وسلم: (من استقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا..)، ويستأنسون بهذا، ولكن المحفوظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه أضجع الذبيحة على شقها الأيسر، ووضع قدمه عليه الصلاة والسلام على الذبيحة، ثم سمى الله وكبر)، كما في الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه.

    وهذا أصل يحبه العلماء، ويقولون: التوحيد لله عز وجل، والذبح لله سبحانه وتعالى يكون ظاهراً وباطناً، ومن هنا فإذا استقبل القبلة، وسمى الله وكبره ووحده سبحانه وتعالى، فقد جمع بين الظاهر والباطن، وعلى كل حال فهذا ليس فيه حظر، وليس فيه منع؛ لأنه حقق مقصود الشرع من التوحيد والإخلاص.

    كما انتزع العلماء من ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (قبلتكم أحياءً وأمواتاً)، وهو حديث حسنه غير واحد من الأئمة، مشروعية الاستقبال عموماً، فقالوا: فيستحب استقبال القبلة حال الحياة وحال الموت، ومن هنا يقولون: إنه يشرع بأصل عام، ولكن لا يلزم به الناس، ولا يكون إلزاماً واجباً محتماً على المكلف، والله تعالى أعلم.

    حكم وضع الصدقة عن الميت على قبره

    السؤال: هل يجوز وضع شيء على القبور كالحب مثلاً بنية الصدقة عن صاحب ذلك القبر؟

    الجواب: هذا لا يشرع؛ بل قد نهي عن الجلوس على القبر، ونهي عن وط القبر، وإذا وضع الحب على القبر فلربما جاءت البهيمة ووطأت القبر، وهذا مخالف للشرع تماماً، والذي يريد أن يتقرب إلى الله عز وجل فليتقرب بالمشروع، والقبور ليست مكاناً لتوزيع الحبوب، وهذا ليس بواردٍ وليس له أصل شرعاً، والذي يريد أن يوزع الحب، أو يريد أن يتصدق عن ميته، فالصدقة عن الميت مشروعة، والحديث فيها صحيح وهو: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إليه سعد بن عبادة رضي الله عنه، وقال: يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها، وما أُراها لو بقيت إلا أوفت، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم، فتصدق عنها بحائطه الخراف)، وهذا يدل على مشروعية الصدقة عن الميت، وأن الميت ينتفع بصدقة الحي، ولـشيخ الإسلام رحمه الله كلام نفيس في هذه المسألة في مجموع الفتاوى، ويشرع أن يفعل ذلك بالصدقات، فيذبح ويعطي الفقراء والمساكين، أو يطعم الدواب الحبوب، أو يطعمها شيئاً صدقة عن والده الميت، أو والدته، وهذا من البر والإحسان إلى الأموات بعد موتهم.

    وفي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين، وقال في أحدهما: اللهم هذا عن محمد وآل محمد -أي: آل محمد الأحياء والأموات- وقال في الثاني: عمن لم يضح من أمة محمد)، فشمل أحياءهم وأمواتهم، وقد أخذ منه الجمهور دليلاً على مشروعية الصدقة عن الميت، وأنه لا بأس بذلك ولا حرج، والله تعالى أعلم.

    حكم من نوى العمرة بعد مجاوزة الميقات

    السؤال: رجل جاء إلى جدة، وبعد أسبوعين نوى العمرة وهو في جدة، فهل يُحرم من جدة؟ أم يذهب إلى الميقات الذي جاء منه؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:

    فهذه المسألة فيها تفصيل: فإذا كان قد مر بميقاته ناوياً بعد الأسبوعين أن يعتمر، فيلزمه بعد الأسبوعين أن يرجع إلى الميقات، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المواقيت: (هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة)، فإذا مر بميقاته مريداً للنسك، فيلزمه أن يرجع إلى ذلك الميقات، وأما إذا مر بالميقات غير ناو للنسك، أو متردداً، لا يدري: هل يسع الوقت للعمرة أو لا، ونزل إلى جدة لعمل، أو حاجة، فجد وطرأ، أو تيسر له أن يعتمر؛ فحينئذ يحرم من جدة؛ لأنه أنشأ النية من جدة، وقد مرَّ بالميقات غير متمحض للنسك، ولا مريدٍ له، وحينئذٍ سقط عنه الميقات، وجاز له أن يحرم من جدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمن كان دون ذلك فإحرامه من حيث أنشأ)، فهذا يدل على أنه ينشئ عمرته من جدة، والله تعالى أعلم.

    آداب ونصائح لطلاب العلم مع إخوانهم

    السؤال: أنا من طلاب العلم، وأشتكي من بعض التصرفات من إخواني الطلاب، فما توجيهكم؟

    الجواب: الدنيا كلها كدر، ولا بد من الصبر، ولا يفلح مؤمن في هذه الدنيا إلا بالصبر، فبالصبر تقوى نفسه، وتثبت عزيمته، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: (وجدنا ألذ عيشنا بالصبر)، فهل وجدت أحداً مرتاحاً في هذه الدنيا؟ وهل وجدت أحداً مطمئناً دون أن يجد منغصاً أو كدراً في هذه الحياة؟ قال تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4]، واللام جواب للقسم و(قد) للتحقيق، فقوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ، أي: في تعب وعناء، ولا يزال المؤمن من هم إلى هم، ومن غم إلى غم، حتى تطأ قدمه الجنة فتتبدد عنه همومه وغمومه، ويقول إذا رأى نعيمها وسرورها ما قاله الله عز وجل حكاية عن أهلها: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:34].

    أخي في الله! أوصيك أن تحمد نعمة الله عز وجل عليك، وأن تحس أن الله عز وجل يوم اختارك طالباً للعلم أنه قد أعطاك أحسن ما يُعطى بعد الإيمان بالله تعالى، وهو أن تطلب العلم، فإن زكوت واستقمت وصلحت سريرتك، وطابت سيرتك، وزكت علانيتك؛ بوأك الله مبوأ صدق في الدنيا والآخرة، ولن ترى من ربك إلا كل خير، فوالله ثم والله، ونشهد لله في هذا العلم بكل خير ورحمة، فما من أحد يطلب هذا العلم صابراً فيه لوجه باريه إلا أحسن الله له العاقبة في الدنيا والآخرة، ولن تجد أحداً أسعد من أهل العلم وطلاب العلم لو شعروا بالسعادة.

    أخي في الله! إن وجدت أذية أو ضيقاً، فاعلم أن العلم لا ينال بالتشهي، ولا بالتمني، ولكن بالعناء والنصب، وهذا التعب والنصب هو الذي ينزل الله به عبده مبوأ صدق في الدنيا والآخرة.

    وقد قال الشاعر:

    لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يعدم والإقدام قتال

    فبهذه المشقات، وبهذه المنغصات، وبهذه المكدرات، تتبوأ الدرجات العلا في الجنات، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره).

    ثم الأمر الثاني مما يهون عليك، ومما يوصَى به الإنسان، خاصة إذا أراد أن يطلب العلم: أن يعظم بعد الله عز وجل، وكتابه وسنة نبيه عليه عليه الصلاة والسلام أمرين، ويحبهما في الله عز وجل، ويعتقد هذه المحبة خالصة لوجه الله عز وجل، أولهما: أهل العلم، فلن يفلح طالب علم في علمه ما لم يعظم أهل العلم، ولا يعظمهم تعظيم الغلو، وإنما يعظمهم في الحدود الشرعية، وأن يشعر أن الله عز وجل أعطاهم هذه الأنوار من كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فيحبهم ويجلهم ويقدرهم ويوقرهم ويصبر على كل أذية منهم.

    أخي في الله: قد يؤذيك طالب عالم، زميل لك-كما تشتكي أنت- تأتي تريد أن تسأل الشيخ -مثلاً- فيسبقك، وينافسك، ولكن هل تعلم من هو هذا الطالب؟ وهل تعلم من هو هذا المجد المثابر الذي تعلق قلبه بمحبة العلم فاستولى على مشاعره، فلم يلتفت إلى من عن يمينه أو يساره؟ ولو أن كل طالب شعر من هو طالب العلم الذي يرافقه، وشعر بحرمته في الإسلام، وشعر بحقه في طلب العلم؛ لهانت علينا كثير من التصرفات.

    ومن المجرب أن الإنسان حينما يدخل مسجداً، ويعتقد أنه أقل الناس، وأنه أحقر الناس، وأنه أضعف الناس، حتى يرفع الله درجته، تهون عليه تصرفات الناس كلها، وعندها يرضى عنه ربه، ويعظم أجره، فهذا الطالب-طالب العلم- قد يكون في ذلك اليوم ترك أعز الأشياء عليه من ماله وولده وأهله، وجاء من أجل طلب العلم، فلا تستغرب منه أن يأتي كالبعير الهائج على الشيخ؛ لأنه ضحى بشيء كبير، وقد يكون أتى من مسافات بعيدة، وقد يكون ضحى بأشياء عزيزة عليه، فحينما تحس من هم طلاب العلم، وتحس من هذا الذي ضحى بوقته، وجاء تاركاً لأشغاله وأعماله؛ تحس أنه شيءٌ عزيز، وأنه شيءٌ غالٍ، ولو كان مرقع الثياب فقير الحال، فقد يكون عند الله أعظم منزلة من غيره، وربما كان لا يملك إلا قوت يومه، ومع ذلك يضحي في ركوب السيارة من أجل الوصول إلى الدرس، فلو أن كل طالب علم يستشعر أن إخوانه من طلاب العلم ضحوا، وأنه لم يضح، وأنه لم يقدم شيئاً؛ لأدرك أن طلب العلم شيءٌ كبير، ولصبر على تصرفاتهم وعذرهم وأحبهم، فتأتلف القلوب بهذا.

    وكما أننا نوصي هذا الطالب بالصبر، فنوصي أيضاً طالب العلم أن لا يؤذي إخوانه؛ إذ لا يجوز للمسلم أن يؤذي إخوانه، وأذية المسلم للمسلم محرمة، ولكنها لطالب العلم أعظم حرمة عند الله عز وجل، فانتبه واحذر.

    إخواني! إن القرب من أهل العلم بلاء ومصيبة والله، وبعض طلبة العلم يظن أن القرب سهل، فربما يقترب طالب العلم من شيخ، ويبوء بسيئات لم تخطر له على بال؛ لأنه ربما تصرف تصرفاً ينفر أخاه من طلب العلم، وربما يتصرف تصرفاً مع الشيخ يكرهه في إفادة طلاب العلم، فهو سلاح ذو حدين، فإما إلى جنة، وإما إلى نار.

    والله عز وجل قد نبهنا إلى هذا، فهؤلاء الصحابة الذين تبوءوا المقامات العلا من الجنة نزلت عليهم قوارع التنزيل، تأمرهم بالأدب، فصحبة النبي صلى الله عليه وسلم عزيزة غالية، ولكن لو رفع صوته على رسول الله صلى الله عليه وسلم لحبط عمله-والعياذ بالله-، فتحبط صلاته وزكاته وحجه وعمرته، وهذا يدل على أن القرب من أهل الفضل والعلم خطر، فعلى الإنسان أن يتأدب في مسائله، ويتأدب في تصرفاته مع إخوانه، فلا يؤذِ أخاه ولا يضيق على إخوانه، كأن يستبد بالسؤال، فيريد أن يسأل وحده، ويريد أن يستشكل وحده؛ إذ قد يأتي إنسان عنده كربة في أمر زوجته؛ لأنها مطلقة، فلا يدري: أتحل له أو تحرم؟ وقد يأتي شخص مهموم مغموم يريد كلمة من الشيخ، فعلى القريب من الشيخ أن يعطي مجالاً لغيره، وأن يحذر من هذا القرب، وأن يعلم أنه خطر عليه، فكما أنه سبب في رحمة الله عز وجل فقد يكون سبباً في الخطأ والزلل والغرور، فعلى الإنسان إذا اقترب من أهل العلم، أو جلس في حلق الذكر أن ينتبه لمن حوله.

    وعلى الذي يؤذي إخوانه أن يعلم أن أبناء المسلمين ما جاءوا إلى بيوت الله ليهانوا، وما جاءوا ليُذلوا؛ لأن بعض طلبة العلم قد يدفع أخاه، أو يحس أنه أحق من أخيه، وقد يأتي متأخراً، أو يأتي من آخر الناس، ويتخطى الحلقة ليجلس وسطها، فالناس لهم حقوق، ولهم حرمات، والمسلم -ولو كان من كان- له حرمة ينبغي أن تُحفظ ولا تُضيع، ومن حق المسلم أن يكرم ولا يهان، ويُرفع ولا يوضع؛ لأن الله أمرنا بإكرام المسلم.

    فشيمة المسلم الموفق أن يستشعر هذا الشيء، وعلى كل طالب علم أن يحذر، ووالله من خاف سلم، ومن خاف في طلبه للعلم، وصحبته لطلاب العلم من أذية طلاب العلم، والإضرار بهم؛ فإنه يسلم بإذن الله عز وجل، فراقب نفسك في جميع تصرفاتك، ولا تزاحم، ولا تؤذِ، ولا تضر.

    وهناك أمر لابد من إيضاحه، وهو أن طلاب العلم حين يزدحمون على الشيخ، تجد بعض الناس يستنكر هذا، بينما يرون على أفران الخبز أعداداً من الناس واقفة ولا يستنكرون، فهذا واقع وزمان أصبح المعروف فيه منكراً، والمنكر معروفاً.

    فإذا جاء أناس يشترون رحمة الله عز وجل، وتركوا بيوتهم وأهليهم، وجاءوا حفاة الأقدام يلهثون وراء أهل العلم، ويلتمسون زاداً لهم لآخرتهم، فهل هذا شيء يستغرب؟! وإذا رأيت الناس في الدنيا يصيحون، ويهرجون، ويبهرجون، فهذا شيء لا يمكن أبداً أن ينكر؛ بل أصبح هذا من المسلمات والبدهيات؛ لأنه إذا ماتت القلوب فلا تسأل عن أحوالها.

    ولذلك ينبغي علينا أن نستشعر مسئولية طلاب العلم أمام الله، فقد ارتحل العلماء، وذهب الأئمة، وخلت الساحة، وأصبحت المسئولية عظيمةً، والكرب عظيماً، والشكوى إلى الله تعالى.

    فمثل هؤلاء ينبغي أن نهيئ لهم كل ما نستطيع، وكل ما نقدر عليه من أجل أن يطلبوا العلم، فنحبب العلم إليهم ولا نبغضه، ونرغبهم فيه ولا ننفرهم عنه، ونيسر عليهم ولا نعسر، وقد يحصل العسر بكلام؛ إذ قد يأتي طالب العلم فيسأل أسئلة لا داعي لها، وغيره أحوج إلى الأسئلة، فإذا رأيت طالباً أكثر منك ذكاءً، وأكثر ضبطاً، ويستفاد من أسئلته، فقدمه وآثره حتى تستفيد؛ ليكون هناك وعي عند القرب من أهل العلم، والجلوس في مجالس أهل العلم، والموفق من وفقه الله، فوالله ما زكت ولا صلحت سريرة عبد إلا أصلح الله علانيته ووفقه وسدده، وسيطلب العلم من يطلبه، فإما موفق سعيد يرزقه الله عز وجل المراقبة التامة لأقواله وأفعاله وتصرفاته وانضباطه، حتى يبوئه الله مبوء صدق بهذا، فيكون محل الرضا عند علمائه ومشايخه، ومحل الرضا عند إخوانه ، وإما غير ذلك.

    وستعاشر طلاب العلم -وهم الصفوة- فلتحتسب عند الله عز وجل أن يأخذوا عنك، فهؤلاء هم شهود الله في الأرض، فإذا شهد عليك طلاب العلم فهم أزكى الشهود، يقول الإمام الشافعي رحمه الله: إذا لم يكن أولياء الله أهل العلم وطلبتهم فلا أدري من هو ولي الله؟!

    فهؤلاء هم الصفوة، فإذا عاشرتهم، وكنت معهم على المحبة, والصفاء، والمودة، والنقاء، وعلى المراتب العلا في الإيثار، والإخاء؛ بارك الله لك، وبارك في علمك، وبارك في وقتك، وما وجدنا من ربنا إلا كل خير، فقد وجدنا طلاب علم تأدبوا مع مشايخهم، وتأدبوا مع إخوانهم، فزكاهم الله في الدنيا قبل الآخرة، ووجدنا من كان لا يبالي بطلاب العلم وكان فظاً غليظاً فعاقبهم الله تبارك وتعالى، وقد سألت عن بعض الزملاء طلابهم، فذكروا أنهم في الدعوة الى الله تعالى، وأنهم كذا، ثم سألتهم من بعيد عن أشياء، فإذا بهم يتذمرون، ويقولون: إن طلاب الشيخ يؤذونه، وإني -والله- أعرف أنه كان يؤذي المشايخ، وكذلك جزاءً وفاقاً، فما توفاني الله عز وجل حتى رأيت بعيني وسمعت بأذني سنناً لله لا تتبدل ولا تتحول، ولا يظن أحد أن الله غافل عن خلقه، فليحذر طالب العلم، فاليوم يزرع، وغداً يجني، فمن زرع الخير كان له.

    فنسأل الله بعزته وجلاله أن يرزقنا السداد في القول والعمل، إنه المرجو والأمل.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756020863