إسلام ويب

شرح زاد المستقنع مقدمة كتاب الجنايات [2]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ينقسم القتل إلى ثلاثة أقسام: قتل عمد، وقتل خطأ، وقتل شبه عمد، ولكل قسم شروطه وضوابطه، فيشترط في قتل العمد أن يكون القاتل قاصداً قتل آدمي معصوم الدم، وأن يقتل بما يغلب على الظن موته به، فإذا توفرت هذه الشروط وجب القصاص إلا أن يعفو ولي الدم.

    1.   

    أقسام القتل

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ وهي عمد يختص القود به بشرط القصد ].

    تقدم معنا تعريف الجناية، وأن مراد العلماء رحمهم الله بها: الاعتداء على النفس والبدن، سواء كان ذلك بالإزهاق، أو بإتلاف الأعضاء وجرح البدن.

    القتل العمد

    يقول رحمه الله: (وهي عمد يختص القود بشرط القصد).

    الضمير عائد إلى الجنايات، وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: إما أن تكون الجناية عمداً، وإما أن تكون الجناية خطأً، وإما أن تكون شبه عمد.

    وقد بينا أن هذا التقسيم الذي ذكره العلماء رحمهم الله هو أصح مذاهب العلماء في المسألة، وهو مذهب جمهور أهل العلم رحمهم الله، وهو قضاء عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب ، وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين، وأئمة التابعين، وهو مذهب الجمهور من الأئمة الأربعة.

    قال رحمه الله: (وهي عمد).

    يقال: عمد إلى الشيء إذا قصده، ولا يكون العمد عمداً إلا إذا وجد فيه القصد، وهذا النوع من الجناية هو أعظم أنواع الجناية وأشدها.

    وقد أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم قتل النفس المحرمة؛ لدليل الكتاب والسنة.

    أما دليل الكتاب: فقول الله سبحانه وتعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً [النساء:92]، فبين أن المؤمن لا يقتل أخاه المؤمن عمداً وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، فهذه أربع عقوبات، كل واحدة منها من الوعيد الشديد من الله سبحانه وتعالى.. (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً )، فالأصل أن المؤمن لا يتعمد قتل أخيه المؤمن، ولكن إذا تعمد وقتله عمداً وعدواناً فإنه قد غضب الله عليه ولعنه، وجعل جهنم جزاءه وساءت مصيراً، وأعد له العذاب العظيم فيها، وهذا من أشد ما يكون؛ فإن الله عز وجل إذا رتب العقوبة مكررة على الشيء دل على عظمه.

    وقال سبحانه وتعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]، قال بعض العلماء: (أنفسكم) أي: إخوانكم؛ لأن المؤمن مع المؤمن كالنفس الواحدة، ولذلك قال: فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ [النور:61]، قيل: على إخوانكم، فجعل المؤمن مع المؤمن كالشيء الواحد؛ ولأنه إذا قتل أخاه المسلم فقد قتل النفس المؤمنة، فلا يتورع عن قتل أي نفس مؤمنة أخرى.

    وقال تعالى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا [الإسراء:33]، فحرم الله قتل النفس المحرمة ونهى عن ذلك، والنهي يقتضي التحريم كما هو معلوم.

    وكذلك جاءت نصوص السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين حرمة قتل المسلم بدون حق، حتى قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح. عن أبي هريرة رضي الله عنه: (اجتنبوا السبع الموبقات.. ) والموبقات هي التي تهلك أصحابها -والعياذ بالله- وهي جمع موبقة، ترهنه حتى تأتي عليه وتهلكه والعياذ بالله، وذكر منها: (الشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق)، فقتل النفس التي حرم الله بغير حق من الموبقات المهلكات، ولذلك قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (لا يزال الرجل في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً). أي: لا يزال في فسحة ورحمة ما لم يقع في الدم المحرم -والعياذ بالله- لأنه موبق ومهلك لصاحبه.

    وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، وكذلك جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه اقتص من القاتل، كما في حديث اليهودي الذي قتل الأنصارية.

    والإجماع منعقد على تحريم القتل، وأنه من عظيم الذنب وشديد الذنب بعد الشرك بالله عز وجل، ولذلك جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي رواه بعض أصحاب السنن: (لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل المؤمن)، أي: بدون حق، وجاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه وقف على الكعبة فقال: (إنك عند الله بمكان -أي: محرمة معظمة- وإن دم المسلم أعظم عند الله منك)، أي: أن دم المسلم المحرم أعظم عند الله عز وجل من زوال الدنيا ومن الكعبة ومن هنا أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم القتل بدون حق، وأنه من الإفساد في الأرض، وما من أمة ينتشر بينها القتل إلا أصابها البلاء العظيم. ولذلك إذا أراد الله بقوم شر وبلاء وفتنة جعل بأسهم بينهم -والعياذ بالله- فقتل بعضهم بعضاً وتسلط بعضهم على دماء بعض.

    فالقتل العمد مجمع على تحريمه، إلا إذا وجد السبب الموجب للقتل، وأذن الله في القتل وأحل دم المقتول بالدلائل الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    وجوب القصاص في القتل العمد

    وقوله: (يختص القود به) أي: القصاص، يقال: قاد فلان من فلان إذا اقتص منه، والأصل أن قتل العمد هو النوع الوحيد الذي يوجب لأولياء المقتول المطالبة بدم القاتل.

    فإذا توفرت شروط القتل بكونه قتل عمد وعدوان، فإنه يمكن أولياء المقتول من القود من القاتل. كما قال تعالى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [الإسراء:33]، وهذا السلطان هو سلطان الحق الذي بينه كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فيقال لولي المقتول: أما أن تأخذ بحقك فنقتل من قتل وليك، أو تعفو وتكون لك الدية، أو تعفو عن القصاص والدية.

    وهذا الأمر متفق عليه بين العلماء رحمهم الله، وهو أن قتل العمد هو وحده الذي يوجب القصاص، وأن ما عداه -وهو قتل الخطأ وقتل شبه العمد- لا يوجب قصاصاً ويوجب الدية، ويخير الولي بين الدية وبين العفو، إن شاء أخذ الدية وإن شاء عفا. ولذلك قال تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179]،

    وقال سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ [البقرة:178].

    وقد كان في شرع من قبلنا أن القاتل يقتل، كما في شريعة اليهود، ولا عفو ولا دية، فخفف هذا الحكم ووضع هذا الإصر الذي كان على اليهود في شريعة عيسى عليه السلام، فقيل لأولياء المقتول: إما أن تقتلوا قصاصاً، وإما أن تأخذوا الدية، وجاءت شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بالتخفيف والرحمة، فخير بين هذه الثلاثة الأشياء: القتل الذي هو القصاص، أو أخذ الدية، أو العفو بدون قتل ولا قصاص.

    فالشاهد: أن العمد يختص به القود، وقد دل على هذا القود دليل الكتاب كما ذكرنا من الآيات: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:179]، وكذلك دل عليه قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178]، وقوله: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45]، والقاعدة: أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا خلافه.

    وقد دل على ذلك دليل السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح : (فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يقاد وإما يودى).

    فقول: (إما أن يقاد) أي: يمكن من القود والقصاص، (وإما أن يودى) أي: يعطى الدية؛ فهو بخير النظرين، إن شاء هذا، وإن شاء هذا. أما لو أسقط حقه وعفا فله ذلك.

    إذاً: قوله: (يختص القود به) محل إجماع، أنه لا قود ولا قصاص في قتل الخطأ، فلو أن شخصاً خرج إلى البر للصيد فرمى حيواناً، فسقط رجل بينه وبين الحيوان فقتله، فبالإجماع أنه لا يقتل به؛ لأن الخطأ لا يوجب القود، وكذلك أيضاً شبه العمد لا يوجب القود؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتص في شبه العمد، فقد جاء في الصحيحين: (أنه اقتتلت امرأتان من هذيل) أي: اختصمتا وحصل بينهما شجار وقتال (اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وجنينها، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها غرة عبدٌ أو وليدة، وقضى بدية المرأة على العاقلة)، أي: على عاقلة المرأة، مع أنها وقعت في حالة الخصومة والشجار؛ لكنه ليس هو بقتل عمد، وإنما هو قتل شبه العمد. وهذا يدل على أنه لا يوجب القصاص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به.

    فلا قتل الخطأ ولا قتل شبه العمد يوجب قصاصاً، ومن هنا قال المصنف رحمه الله: (وهي عمد ويختص القود به) أي فلا قصاص إلا في قتل العمد والعدوان.

    وقوله: (بشرط القصد) أي: بشرط وجود قصد القتل، فلابد أن يقصد القاتل وأن تكون عنده نية للقتل، وأن يقصد قتل المقتول ولا يقصد قتل غيره، فإذا قصد القتل، والمقتول الذي قصده معصوم الدم، وتوفرت فيه الشروط المعتبرة؛ فإنه يجب القصاص. إذاً: لا يمكن أن يحكم بكون الإنسان قاتل عمد ويوجب القصاص عليه إلا إذا وجدت عنده نية للقتل -الذي يسمونه القصد- والأمر الثاني: أن يقتل بشيء يزهق، كما سيأتي -إن شاء الله- في شروطه وأن يكون قاصداً قتل المقتول نفسه، فيقول: أردت قتل فلان، والعياذ بالله!

    القتل شبه العمد

    قال رحمه الله: [وشبه عمد].

    شبه الشيء مثيله ونظيره، والمشابهة: المشاكلة والمقاربة في الأوصاف والصفات، وشبه العمد: هو النوع الثاني من القتل، وله ثلاثة أسماء : شبه العمد، وعمد الخطأ، وخطأ العمد. فهذه كلها من أسماء شبه العمد.

    وهذا النوع الثاني قد أثبته جمهور العلماء كما سنبينه إن شاء الله، وهو قضاء عمر وعثمان وعلي وجمهور الصحابة رضي الله عنهم، وهذا النوع بين الخطأ وبين العمد، فإن فيه مشابهة للخطأ من وجه، وفيه مشابهة للعمد من وجه، ولذلك يقال له: عمد الخطأ، ويقال له: خطأ العمد.

    ودليله: ما رواه النسائي وابن ماجة وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن في قتيل شبه العمد -قتيل السوط والعصا والحجر- مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها)، وهذا الحديث فيه فوائد:

    أولاً: ثبوت القسم الثالث من أقسام القتل، والتي هي: العمد والخطأ وشبه العمد، الذي هو الوسيط بين العمد والخطأ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن في قتيل شبه العمد)، فأثبت قسماً ثالثاً وسيطاً بين العمد والخطأ، وهذا محل الشاهد.

    ثانياً : أنه يوجب الدية ولا يوجب القصاص؛ لأنه قال: (ألا إن في قتيل شبه العمد)، وفي بعض الروايات: (قتيل خطأ العمد -قتيل السوط والعصا- مائة من الإبل)، فبين أن فيه الدية وليس فيه قصاص، وهذا يدل على أنه لا يقتص ممن قتل بهذا النوع. وستأتينا ضوابط شبه العمد.

    ثالثاً : أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب مثالاً لقتيل شبه العمد، فقال: (قتيل السوط والعصا والحجر)، فكل آلة في الغالب غير قاتلة إذا كانت مستخدمة في القتل فهو من شبه العمد، أما إذا كانت الآلة في الغالب قاتلة فهذا عمد وله ضوابطه التي سنذكرها.

    إذاً: بين النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا محل الشاهد- أن هناك قسماً ثالثاً، وهو شبه العمد.

    ويكون في حال الشجار والخصومة مثل النزاع في حال اللجج والخصومة، فيأخذ العصا ويضربه فيكون فيها حتفه، وتكون العصا التي ضرب بها غير كبيرة، أما لو كانت كبيرة الحجم جداً بحيث أنها تقتل غالباً فلا إشكال.

    وكذلك أيضاً أن يكون الضرب في غير مقتل، فلو أخذ عصا صغيرة ولكنه ضرب في مقتل فهو عمد.

    فيشترط أن تكون الآلة لا تقتل غالباً، وأن يكون الضرب في غير مقتل، وأن يكون المضروب مثله يتحمل مثل هذا الضرب. فلو كانت العصا لا تقتل، ولكنه كرر الضرب على وجه يقتل غالباً، فهذا قتل عمد، ولو أنه ضرب بها في مقتل، والغالب أن الضرب في هذا المكان يقتل، فهو عمد، مثل جهة الخصية والأنف، وكالضرب على جهة القلب، والضرب على المقاتل المعروفة، فهذه إذا حصل الضرب لها، ولو كانت الآلة لا تقتل غالباً، لكن الموضع يقتل غالباً، فهو من العمد.

    وكذلك أيضاً كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: قتيل الحجر، كأن يرميه بحجر والحجر لا يقتل غالباً، بحيث لا يكون كبير الحجم، فهذا من شبه العمد أيضاً.

    فإذا كان الحجر يقتل غالباً، فإنه حينئذ قتل عمد. لكنه إذا كان حجراً لا يقتل مثله غالباً والموضع الذي ضربه فيه لا يقتل، فإننا نغلب القدر وأنه ليس بالآلة ولا بالقصد، فالقصد أنه لا يريد القتل؛ لأن الذي قتل لا يريد القتل، فحينئذ يقال: هذا شبه عمد، فيرتفع عن الخطأ وينزل عن العمد.. يرتفع عن الخطأ فديته مغلظة يشدد فيها؛ لأنه يوجب الدية، وحينئذ يقال: تغلظ الدية، كما سيأتينا إن شاء الله، وينزل عن العمد فلا يوجب قصاصاً، وسيأتي إن شاء الله بيان ضابطه.

    قتل الخطأ

    قال رحمه الله: [وخطأ].

    هذا هو القسم الثالث من أقسام القتل، والخطأ: ضد الصواب، وأخطأ في الشيء إذا لم يصبه، والمراد هنا: أنه لا يقصد القتل ولا يريده، وهو يقع على صور منها: أن يرمي شيئاً يظنه صيداً فيصيب آدمياً ويقتله، وهو معصوم الدم، أو -مثلاً- يأتي بقصد الإحسان، كالطبيب يريد أن يعالج، فيهمل في بعض الأشياء بدون قصد للقتل، فيحصل به إزهاق النفس وموت المريض ونحو ذلك، وسيأتي -إن شاء الله- الكلام عليه.

    فهذه الثلاثة الأقسام: العمد، وشبه العمد، والخطأ. أجمع العلماء رحمهم الله على أن القتل يكون عمداً ويكون خطأً، والخلاف فقط في شبه العمد هل هو قسم أو لا؟ وهناك نوع رابع يسميه بعض العلماء: (جاري مجرى الخطأ)، وقد نتعرض له إن شاء الله في أقسام الخطأ.

    1.   

    ضوابط وشروط قتل العمد

    قال رحمه الله: [فالعمد أن يقصد من يعلمه آدمياً معصوماً فيقتله بما يغلب على الظن موته به].

    بعد أن بين المصنف أن القتل ينقسم إلى ثلاثة أقسام، سيضع ضابطاً لكل قسم منها، ثم بعد ذلك سيتحدث عن الصور التي يحكم فيها بقتل العمد، والصور التي يحكم فيها بقتل شبه العمد، والأمثلة أيضاً والصور على قتل الخطأ، حتى يستطيع الفقيه وطالب العلم أن يميز بين هذه الثلاثة الأقسام. فشرع رحمه الله في ضابط قتل العمد.

    القصد

    قال رحمه الله: (أن يقصد) هذا هو الشرط الأول، وهو أن يكون قاصداً للقتل -والعياذ بالله- بمعنى: أن يقتل ويزهق النفس المحرمة بنية، وإذا تخلفت النية فليس بعمد، ولذلك قال تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [الأحزاب:5]، فجعل قصد القلب للشيء عمداً، ومن هنا قالوا: لا يمكن أن يحكم بقتل العمد إلا إذا وجد قصد ونية للقتل.

    إذاً: الشرط الأول أن تكون عنده نية، فلو أنه رمى ولم يقصد القتل، كأن يرمي صيداً وهو لا يقصد القتل، ومثل المعلم يعذب طالباً ثم يموت الطالب، فهذا علم يقصد القتل وإنما قصد التأديب، فإذا أردنا أن نحكم بالعمد فلا بد من وجود نية للقتل.

    أن يعلم كونه آدمياً معصوم الدم

    ثانياً: أن يعلم كونه آدمياً، فلو أنه رأى شيئاً فظن أنه حيوان أو ظبي أو وعل -كأن يكون في البر- فرماه فوجد أنه آدمي، أو رأى شخصاً نائماً فظنه حيواناً -صيداً- فقتله، أو ظنه سبعاً مفترساً فقتله، فإنه لم يقصد آدمياً معصوم الدم، ولم يرد قتل الآدمي، وإنما أراد قتل السبع ليدافع عن نفسه، أو أراد قتل حيوان صيداً.

    إذاً يشترط وجود القصد، وأن يكون المقصود آدمياً، فخرج قتل الحيوان، فإذا قتل حيواناً فلا يوجب القصاص.

    وخرج بقوله: (معصوماً) غير معصوم الدم، كأن يكون حربياً، ففي الجهاد إذا قتل المسلم الكافر فإنه قتل غير معصوم، فلا يوجب هذا القتل قصاصاً عليه.

    إذاً: الشرط الأول: القصد للقتل. والشرط الثاني: أن يكون المقصود والمقتول معصوم الدم، فخرج غير معصوم الدم. ومن هنا فلو صال على الإنسان شخص يريد أن ينتهك عرضه، أو يريد أن يقتله، فجاء ودفعه وعلم أو غلب على ظنه أنه إذا لم يقتله فسوف يقتله أو يؤذي عرضه، ولا مناص من الخروج من هذا البلاء إلا بقتله فقتله -كما سيأتينا في دفع الصائل- فإنه لا يعتبر قتل عمد وعدوان؛ لأن هذا الصائل أسقط حرمته بالاعتداء على أعراض الناس؛ لأنه أصبح غير معصوم بهذا الاعتداء، فإذا أراد شخص أن يقتل شخصاً فجاءه وشهر السلاح عليه, فهذا الذي شُهر عليه السلاح مظلوم، فأراد أن يدفع عن نفسه فرفع السلاح وعلم أنه إذا لم يقتله فسوف يقتله، فإنه قد قتل غير المعصوم، فخرج الحربي وخرج الصائل لعدم عصمة دمهما.

    إزهاق الروح

    الشرط الثالث: أن يقع القتل وأن يحصل، فلو أنه نوى وقصد المعصوم ولم يحصل القتل؛ فلا يجب القصاص.

    مثلاً: لو جاء رجل وهجم على شخص يريد أن يقتله عمداً وعدواناً، وكان يعلم أن هذا الشخص معصوم الدم وأنه محرم النفس، فرماه بسلاحه فكسر رجله، فهو يقصد القتل والمعصوم، ولكن لم يقع القتل، فلا قصاص بالقتل، وإنما يقتص منه بمثل ما آذاه، والجروح قصاص، وينظر في الجرح هل مثله يمكن القصاص به أو لا؟ وسيأتينا في قصاص الجرح.

    إذاً: يشترط وجود القصد، وأن يكون المقصود آدمياً معصوم الدم، وأن يقع القتل.

    أن يكون القتل بما يغلب على الظن موته به

    الشرط الرابع: أن يكون هذا القتل بواسطة، وهي الآلة أو الوسيلة أو السببية المفضية للهلاك، كما سيأتي -إن شاء الله- في ضوابط قتل العمد، فقتل العمد ينقسم إلى قسمين -سنبينهما إن شاء الله-: المباشرة والسببية.

    فإذا قصد، وكان المقصود آدمياً معصوم الدم، وحصل القتل، فإنه ينبغي أن يكون القتل، فإنه بآلة يغلب على ظننا أنه يقتل مثلها، فتكون الآلة جارحة، مثل السكاكين والسيوف كما سيأتينا إن شاء الله، وسنذكر ضوابط الآلات المؤثرة.

    إذاً: هذه الأمور لا بد من توفرها للحكم بكون القتل قتل عمدٍ، فلو كانت الآلة التي استخدمها لا تقتل غالباً، مثل العصا الصغيرة ضربه بها في غير مقتل ومات الشخص، فهو هنا قد قصد القتل، والشخص المقصود معصوم الدم، وحصل القتل والآلة لا تقتل غالباً، فيقولون: الأشبه أنه وافق القدر فمات؛ لأن الغالب أنه لم يمت بسبب الآلة.

    وبناء على ذلك لا بد أن تكون الآلة قاتلة، أي: يغلب على الظن أن تكون الآلة قاتلة كما سنذكر إن شاء الله.

    هذا بالنسبة لقتل العمد، فلا يحكم بقتل العمد إلا عند وجود هذه الشروط وهذه الصفات المعتبرة للحكم بوصف القتل أنه قتل عمد.

    القتل بالمباشرة والسببية

    قال رحمه الله: [مثل أن يجرحه بما له مور في البدن].

    الآن سندخل في تفصيلات تحتاج إلى شيء من التركيز، وقبل أن ندخل فيها سنقدم بمقدمة نرجو من الله أن ييسر على طالب العلم فهم هذه الأمور، فنقول:

    إن قتل العمد إذا حصل فإما أن يكون بالمباشرة وإما أن يكون بالسببية.

    والقتل المباشر: هو أن يباشر القاتل إزهاق النفس والروح، فيأتي تلف النفس من مباشرته لا بواسطته؛ كما لو أخذ السكين وطعن بها في مقتل، فقد باشر القتل، والقتل مسند إليه؛ لأن الفعل والآلة تحت تحكمه وفعله، فحينئذ هو القاتل، ويقال: قتل مباشرة. وفي زماننا كما لو أخذ المسدس وأطلق العيار الناري على الشخص فأصابه وأرداه قتيلاً، فحينئذ باشر القتل؛ لأن الفعل بإطلاق المسدس جاء من فعله هو، والإزهاق للروح والتلف حصل بفعله لا بواسطة أخرى؛ لأن الآلة لا يمكن أن تقتل إلا إذا حركت، والسلاح لا يمكن أن يزهق إلا إذا حُرك، ومن هنا يقال: إنه مباشر.

    فائدة لطيفة: حينما يقال في التصوير الفوتغرافي: إن الآلة هي التي باشرت، هذا غير صحيح، وهو من القوادح التي تقدح فيها؛ لأن ضوابط العلماء كما قالوا: إن الآلة نفسها إذا كانت لا تتحرك إلا بفعل فاعل لم يسند إليها الحكم، ومن هنا حكم العلماء بأنه لا يمكن للسلاح نفسه -المسدس- أن يعمل إلا إذا حركه الشخص، فإذا حرك الآلة وكان القتل ناشئاً عما نتج عن التحريك الذي حصل بسبب القاتل، فهذا قتل مباشرة.

    النوع الثاني: قتل السببية: وهو ألا يكون هو القاتل المباشر، ولكن يتسبب في القتل فيكون القتل بشيء آخر، كأن يباشر القاتل إلى شيء يكون سبباً في القتل، مثال ذلك: أن يأخذ حية فيمسكها ثم يلقيها على إنسان فتكون سبباً لوفاته، فالقتل لم يحصل بفعل القاتل نفسه، وإنما الحركة والنهش والسم وقع من الحية -أعاذنا الله وإياكم منها- إذاً القتل مباشرة من الحية، والسببية بحمل الحية وإنهاشها وتقريبها من الشخص القاتل. وكذلك أيضاً أن يأخذه ويدفعه إلى قفص فيه أسد، أو إلى موضع لا مفر فيه، كغرفة محكمة مغلقة، فيفتح بابها ويدخله داخلها مع أسد أو نمر أو سبع مفترس، أو في فرامة لحم، لكنه ألجأه للدخول حتى فرمته وقضت عليه، فافتراس السبع هو الذي قتل، والموت نشأ من افتراس السبع وهجوم السبع على المقتول، فالحيوان والسبع هو الذي باشر القتل، والشخص الذي أدخل المقتول لم يقتل، إنما تسبب في قتله، وهذا يسمى: قتل السببية.

    وكذلك أيضاً لو أنه ربطه ثم رماه في بركة عميقة، أو علم أنه لا يحسن السباحة فرماه في بركة عميقة، فسقط فمات فيها، فإن الموت حصل بالغرق، وزهوق النفس -خروج الروح والهلاك- حصل بقدرة الله عز وجل، فالذي قتله هو الماء، ولكن من الذي ألقاه في الماء؟ ومن الذي أوقعه فيه؟ ذلك القاتل. فهذا يسمى: قتل السببية، فإن المباشرة ليست من القاتل ولكنها من طرف ثانٍ.

    اجتماع السببية والمباشرة في القتل

    إذاً: هاتان صورتان: سببية ومباشرة، قد تنفرد السببية، وقد تنفرد المباشرة، وقد تجتمع السببية والمباشرة، ومثال اجتماعهما: كأن يكون القتل من شخصين أحدهما متسبب والثاني مباشر، وتوجب الوصف بالعمد. وهذا على أصح أقوال العلماء في مسألة مشهورة تعرف بمسألة الإكراه، مثل أن يأتي بالسلاح ويقول: يا فلان! اقتل فلاناً وإلا قتلتك فذهب هذا المهدد المكره وقتل الشخص الذي طلب منه قتله، فحينئذ اجتمعت السببية والمباشرة.. المباشرة بالنسبة للمكرَه الذي هُدد، والسببية بالنسبة للمكرِه الذي دفع وأمر. فعندنا آمر ومأمور، فالآمر سبب والمأمور مباشر، فيقال: هذا اجتماع سببية ومباشرة، وقد يجب القصاص على الاثنين وقد يجب القصاص على أحدهما دون الآخر.

    فيجب القصاص على الاثنين إذا كان كل منهما عاقلاً مدركاً، فجاء الآمر وقال له: إذا لم تقتل فلاناً فسأقتلك، فذهب وقتله؛ لأنه لا يجوز للمسلم إذا هدد بقتله أن يقتل أخاه؛ لأن شرط الإكراه: أن يهدد بشيء أعظم مما طلب منه، والنفس التي سيقتلها مثل نفسه، وحينئذ فلا يكون مكرهاً؛ لأنه فدى نفسه بقتل أخيه، وحينئذ لا يستباح بالإكراه أن يقتل أخاه المسلم؛ لأنه ليس بمكره. والإكراه شرطه -كما ذكرنا- أن يكون ما هدد به أعظم مما طلب منه من حيث الأصل، فقالوا: في هذه الحالة يعتبر القصاص على المكرِه والمكرَه، على الصحيح من أقوال العلماء، كما هو مذهب المالكية والحنابلة وسنذكر هذه المسألة إن شاء الله تعالى.

    الصورة الثانية لاجتماع السببية والمباشرة والتي توجب القصاص على الآمر دون المأمور: كأن يأتي إلى شخص مجنون أو إلى صبي غير عاقل وأغراه أو هدده حتى قتل آخر، فالذي باشر القتل لا يقتل؛ لأنه غير مكلف، والذي أمر بالقتل يقتل؛ لأنه ألجأه ودفعه إلى القتل، وكذلك العكس؛ فإذا كان الذي أمر وهدد مجنوناً، فجاء المأمور وقتل، فإنه يقتص من المباشر دون الآمر.

    إذاً: هذا بالنسبة للأصول العامة، فهناك سببية وهناك مباشرة. والأصل أن القاتل لا يوصف بكونه قاتلاً إلا إذا باشر. ومعناه: أنه سيفعل بآلة أو بوسيلة.

    القتل بالمحدد

    قال العلماء: والآلة التي باشر القتل بها إما أن تكون محددة وإما أن تكون غير محددة، والمحددة مثل السكاكين والسيوف والزجاج، وسيأتي -إن شاء الله- الكلام على الحديد المسنن والخشب المسنن، وهو الذي ضبطه المصنف رحمة الله بقوله: (أن يجرحه بما له مور) أي: نفاذ، والنفاذ يكون بقطع الجلد والجرح، ولابد من هاتين الصفتين: قطع الجلد والجرج، فإن قطع الجلد ولم يجرح فلا تكون هذه الآلة مما له مور.

    وقوله: (أن يجرحه بما له مور في البدن)، هذا الذي يجرح يستوي أن يكون من الحديد وغير الحديد. والحديد -كما ذكرنا- مثل السيوف والسكاكين والخناجر والحديد المزجج والمسنن، ومثل رءوس الرماح والأسنة، وكذلك أيضاً في زماننا المفكات التي يطعن بها أحياناً، فهي نافذة تدخل إلى جوف البدن وتجرح وتنفذ.

    فهذا الجارح إما أن يكون من الحديد أو أن يكون من غير الحديد؛ كالخشب المحدد المسنن الذي يفعل كفعل الحديد الذي ينفذ في البدن، ومثل الزجاج الذي يجرح وينفذ في البدن، ومثل النحاس والرصاص والنيكل وغيرها، إذا سنن فإنه يجرح وينفذ إلى داخل البدن.

    وقوله: (أن يجرحه بما له مور في البدن) هذا الذي يجرح له صورتان:

    الصورة الأولى: أن يجرح وينفذ في البدن ولا يخترق البدن حتى يخرج من الجهة الأخرى.

    الصورةالثانية: أن ينفذ في البدن ويخرج، أي: يجرح من جهة ثم ينطلق ويخرج من الجهة الثانية.

    مثال الصورة الأولى: أن يطعنه بسكين في بطنه ولا تخرج من ظهره، فهذا جارح لم ينفذ، أي: لم يخرج إلى خارج البدن.

    ومثال الصورة الثانية: أن يطعنه بسيف ويخرج من ظهره، فهذا جرح دخل في البدن ونفذ.

    فيستوي في الجارح هذا أن يكون نافذاً -أي: يخرج- أو أن يكون غير نافذ، وغير النافذ سواءً استقر كالرصاصة التي تدخل وتستقر في البدن، أو لم يستقر مثل أن يطعنه بسكينة ونحوها ثم يخرجها.

    فهذا الذي له مور ونفاذ في البدن القتل به عمداً موجب للقصاص.

    فلو طعنه بسكين أو بسيف، وفي زماننا كالطلق الناري، فإن الطلق الناري بالرصاص يدخل في البدن وينفذ، وقد يدخل في البدن ولا ينفذ، ولكنه يجرح وله مور في البدن، فسواء استقر في البدن أو خرج فهذا جارح وقاتل.

    قال رحمه الله: (أن يجرحه بما له مور). هذا الجارح الذي له مور في البدن ينقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: يوجب القصاص والقود وهو قتل عمد.

    القسم الثاني: لا يوجب القصاص والقود وهو الذي ليس بقتل عمد، وفيه تفصيل.

    والقسم الذي يوجب القصاص والقود شرطه أن تكون الآلة قوية تجرح مثلها وتنفذ، وذلك -كما ذكرنا- مثل: السكاكين والسيوف والرماح والرصاص، والقسم الثاني: أن يكون صغيراً مثل الإبرة، فلو أنها غرزت في الإنسان فإنها تجرح، ولها مور في البدن، لكن هل كل طعن بإبرة يوجب القصاص؟

    الجواب: هذا الجارح الصغير -كالإبرة والمسلة ونحوها- يفصل فيه، فإن كان على صورة تقتل غالباً فعمدٌ، وإن كان على صورة لا تقتل غالباً فليس بعمد. مثال الصورة التي تقتل غالباً: أن يطعنه بالإبرة في مقتل، فيغرز الإبرة في مقتل، كجهة قلبه أو جهة جوفه، فنفذت ومات من ساعته، فإن هذا عمد يوجب القود والقصاص.

    ومثال الصورة الثانية: أن يغرزها في غير مقتل ومن أمثلة الصورة الأولى -وهي أن يغرزها في مقتل-: كأن يضرب بها شيخاً كبيراً لا يتحمل، فهي وإن كان مثلها صغيراً، ولكن المضروب بها مثله لا يتحمل هذا، وكذلك المريض الساقط بمرضه -الذي بمجرد أن يضرب يموت- قالوا: إن الغالب موته بهذا الضرب، وحينئذ الآلة صغيرة، لكن وجد في الشخص وصف يقتضي صيرورة القتل عمداً؛ لأنه يعلم أن مثل هذا لا يتحمل، والشيخ الكبير لا يحتاج أن يوضع له علامة، فهو واضح الأمر أن مثله بأقل شيء يموت، فغرز مثل ذلك في شاب قوي جلد، ليس كغرزها في شيخ كبير أو مريض، أو غرزها في إنسان قوي لكن في مقتل.

    إذاً: فصل العلماء رحمهم الله والأئمة في المحدد بين أن يكون جارحاً يزهق غالباً مثل السكاكين ونحوها، وبين أن يكون جارحاً لا يزهق غالباً. ففرقوا فيه بين الشخص الذي يتحمل، والشخص الذي لا يتحمل، والمطعن غير القاتل والمطعن القاتل.

    القتل بالمثقل

    قال رحمه الله: [أو يضربه بحجر كبير ونحوه].

    هذا هو النوع الثاني: وهو أن يكون القتل بغير المحدد، وهذه مسألة خلافية عند العلماء رحمهم الله، وهي التي يسمونها: القتل بالمثقل.

    والقتل بالمثقل له صور، منها: أن يأخذ حجراً كبيراً ويضرب به رأس المقتول، ومثل أن يأخذ رأس المقتول بين حجرين ويرضه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أثبت أن الحجر، تارة يوجب القصاص وتارة لا يوجب القصاص، فلما وجدنا الشريعة تفرق بين الحجر، عرفنا أن الحجر مختلف، فتارة يكون مثله قاتلاً غالباً، وتارة لا يكون مثله يقتل غالباً. ففرقنا بتفريق النقل والعقل.

    والدليل على أن الحجر يقتل: حديث أنس في الصحيحين (أن جارية من الأنصار وجدت مقتولة وقد رض رأسها بين حجرين، وأدركوها في آخر رمق من حياتها، فقيل لها: من فعل بك هذا؟ فلان فلان، حتى ذكروا يهودياً كان يتوعدها، فأشارت برأسها أن نعم، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم باليهودي فأتي به فأقر واعترف أنه قتلها، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين)، كما فعل بالجارية.

    ومن هنا أخذ العلماء أن قتل المثقل يوجب القصاص؛ لأن اليهودي وله ذمة ودمه محرم في الأصل؛ لأنه ذمي، له أمان الله ورسوله، ومعاهد، له عهد الله ورسوله، فلا يستباح دمه إلا بحق، ولذلك لو كان القتل من باب آخر لما فعل به نفس الفعل عليه الصلاة والسلام، فلما فعل به نفس الفعل، علمنا أن قتل المثقل يوجب القصاص، وأن قتل العمد لا يختص بالمحدد، خلافاً للحنفية وغيرهم، والصحيح من مذهب الجمهور أن المثقل -غير المحدد- يقتل كما يقتل المحدد، ويوجب القصاص والحكم بكون القتل قتل عمد كما يوجبه المحدد.

    فهنا قضى عليه الصلاة والسلام في الحجر أنه يقتل، وأنه يوجب القصاص والقود، وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -الذي تقدمت الإشارة إليه (ألا إن في قتيل شبه العمد -قتيل السوط والعصا والحجر-، مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها)، فهنا أسقط القصاص، وأوجب الدية، ونظرنا فوجدنا الحجر يختلف، وهنا قاعدة: إذا وجدت الكتاب والسنة يحكم على شيء ويخالف في الحكم، ووجدت الشيء المحكوم عليه مختلف الصفات، فاعلم أن الاختلاف سببه اختلاف الصفات، فإن الله قد جعل لكل شيء قدراً.

    ومن هنا اختلف العلماء إذا كان القتل بغير المحدد، فبعض العلماء يقول: لا يقيل القاتل بغير محدد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن في قتيل شبه العمد، قتيل السوط والعصا والحجر)، فجعله شبه عمد ولم يجعله قصاصاً وعمداً.

    ولكن الصحيح هو التفصيل؛ لثبوت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بكون غير المحدد يوجب القصاص، وإذا ثبت أن غير المحدد يوجب القصاص، فهذا ما يسمى بالمثقل.

    والمثقل إما أن يكون مثله يتحكم فيه بالرمي، مثل الحجر، فإذا كان مما يرمى مثل الحجر، فيشترط أن يكون كبيراً، وأما إذا كان صغيراً فإن فيه التفصيل الذي تقدم، وهو إن كان صغيراً وضربه في مقتل قُتِل به وصار قوداً، على الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله، كما ذكرنا في المحدد، فمثلاً: النبال الموجود الآن، لو أنه حدد في ضربه مكان مقتل ورمى النبال بقوة، فالغالب أنه يقتل، أو كان المضروب لا يتحمل الضرب فغالباً أنه يهلكه، فحينئذ هذا المثقل والحجر إن كان كبيراً فلا إشكال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل به اليهودي، وإن كان صغيراً في مقتل قتل به، أو كان المقتول الذي ضرب ضعيفاً لا يتحمل، أو كرر الضرب بالمثقل الصغير، فإنه يصير في قوة الكبير.

    ونرجع في ذلك إلى العرف وأهل الخبرة ومن الأطباء ونحوهم، فإن قالوا: الغالب أن هذا الشيء لو كرر مرة أو مرتين أو ثلاثاً فإنه يقتل، وجاء الشهود وشهدوا أنه كرر الضرب عليه ثلاث مرات أو أربع مرات فمات، فحينئذ يكون قتل عمد.

    والخلاصة: أن المثقل أو غير المحدد إن كان كبيراً يقتل غالباً مثله قتل به، مثل الحجر الكبير، وإن كان دون ذلك فصل فيه، فإن كان في غير مقتل فهو خطأ لا يوجب قصاصاً، وإن كان في مقتل فإنه يوجب القصاص. وهذا المثقل -غير المحدد- له صورتان: الأولى: أن يكون متحكماً فيه مثل الحجر. والصورة الثانية: أن يكون مثقلاً يدفع مثل الجدار، كأن يكون الشخص جالساً تحته فيسقط الجدار عليه فيقتله، فالجدار مثله يقتل غالباً، لكنه يحتاج إلى تفصيل: هل كان المقتول يعلم أو لا يعلم؟ وهل يستطيع الفرار أو لا يستطيع الفرار؟ فهو يحتاج إلى تفصيل ونظر؛ فإن كان قد قيل للمقتول: سيسقط عليك فلان الجدار، فجلس، فإنه قد قصر في حفظ نفسه، وأهمل في دفع الضرر عنها، لكن إذا كان التنبيه في وقت لم يمكنه معه الفرار، أو كان على حالة لا يمكنه معها الفرار، فحينئذ يكون القتل قتل عمد، فإذا أزهقت روحه بإسقاط الجدار عليه، فإنه يعتبر قتل عمد يوجب القصاص.

    صور القتل بالسببية

    قال رحمه الله: [أو يلقي عليه حائطاً].

    وذلك كما ذكرنا، وانظر إلى دقة العلماء رحمهم الله! فقد بدأ المصنف بالمحدد ثم غير المحدد، وغير المحدد قسمه إلى قسمين، فلم يأت بالحائط قبل الحجر، مع أن الحائط أكبر من الحجر، ولكن الحجر في المباشرة والتحكم أسبق من الحائط، ولذلك القتل به أقوى من القتل بالحائط، وأغلب وقوعاً بين الناس من الحائط، وهذا من دقة العلماء رحمهم الله وترتيبهم للأفكار، ومراعاتهم للتسلسل المنطقي فيها.

    قال رحمه الله: [أو يلقيه من شاهق].

    هنا بدأ المصنف بالقتل بالسببية، وصورته: كأن يلقيه من شاهق، فإن هذا يسمى: الإلقاء في المهلكة، وهو أن يلقيه من شاهق؛ كجبل أو عمارة كبيرة -كما في زماننا- أو طيارة في الجو وغيرها، أو يلقيه على سبع، أو يلقيه على زريبة، أو يلقيه في بحر لجي، أو يلقيه في بركة، أو يلقيه في مكان به أسد قاتل. فهذه كلها من القتل بالسببية، ويحتاج إلى ضوابط إن شاء الله سنتعرض لها ونبينها في المجلس القادم.

    1.   

    الأسئلة

    إثبات قتل شبه العمد بدليل السنة

    السؤال: العلماء الذين لا يقولون بقتل شبه العمد، بماذا يجيبون عن حديث السنن وكذا الحديث الصحيح. عن المرأة التي ضربت ضرتها بعمود فسطاط فقتلتها؟

    الجواب: من أسباب اختلاف العلماء في المسائل: الاختلاف في ثبوت النص. فمثلاً: الظاهرية لما لم يقولوا بشبه العمد، قالوا: إن الله عز وجل ذكر العمد والخطأ في القرآن، والحديث لا نصححه، وبناء على ذلك بقوا على الأصل، فقالوا: عندنا عمد وخطأ، ولا يثبتون قسيماً ثالثاً، وهكذا من يوافقهم من المالكية وغيرهم رحمة الله على الجميع، يرون أن الأصل في الكتاب العمد والخطأ، وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا [النساء:93]، قالوا: هذا هو القسم الأول، وقال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً [النساء:92] هذا هو القسم الثاني، قالوا: ولم يذكر الله قسماً ثالثاً.

    الجمهور فقالوا: إن السنة قد صحت بثبوت هذا القسم الثالث، والسنة تأتي بزيادة على القرآن، وبناء على ذلك نثبت ما أثبته النبي صلى الله عليه وسلم، وصحت به السنة عنه عليه الصلاة والسلام، كما في حديث المرأة التي رمت الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها -قصة المرأتين اللتين اقتتلتا- فإن هذا ليس قتل عمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل بحجر ولم يقتل بحجر، فجزمنا بأن الحجر الذي في قصة المرأتين المسلمتين ليس كالحجر الذي قتل به اليهودي الجارية، وإلا لكان هناك تناقض في الشريعة، والشريعة منزهة عن التناقض. وهذا هو الواقع؛ فإن المرأة لما رمت بالحجر تسبب في سقوط الجنين وسقوط الجنين تسبب في موت المرأة، فالموت لم يأتِ بالحجر نفسه، ولابد أن ينتبه لهذا الاستلحاق، فإن الحجر أسقط الجنين، فأوجب الرسول صلى الله عليه وسلم فيه الوليدة الذي هو ضمان الجنين.

    ولما كان هذا الإسقاط بالحجر ومثله لا يقتل غالباً، والإسقاط ليس بقتل، وهي لما رمتها بالحجر لم تقصد إسقاط جنينها ولم تقصد قتلها، فالقصد غير موجود حتى نقول: إنه عمد، وأيضاً الإسقاط غير مقصود حتى نقول: إنه أيضاً عمد، فمن هنا أوجب النبي صلى الله عليه وسلم فيها الدية، وقضى بالدية على العاقلة.

    والدليل على أن هذا قتل ليس بعمد: أولاً: عدم وجود القصاص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم فيه بالقصاص، وثانياً: كما صرح الراوي وهو عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بدية المرأة على عاقلتها)، والعاقلة -كما سيأتينا إن شاء الله في باب الديات- لا تحمل دية العمد، فلو أن شخصاً قتل شخصاً عمداً -والعياذ بالله- وقال أولياء المقتول: نريد الدية، فلا نقول لجماعته وقبيلته أن يساعدوه؛ لأنهم لو ساعدوه لأعانوه على المنكر، وأعين على سفك الدماء بالباطل؛ لأن الأصل في القاتل العامد ألا تعينه العاقلة في الدية، والعاقلة والقبيلة والجماعة لا تحمل دية العمد، بمعنى: أن القاضي لا يلزمها بدفع الدية في العمد، وإنما يلزمها في الخطأ، وبناء على أن قتل المرأة -التي مرت معنا- خطأ، قضى النبي صلى الله عليه وسلم بديتها على العاقلة، فلما قضى عليه الصلاة والسلام بالدية على العاقلة أدركنا أن القتل خطأ وليس بعمد. والله تعالى أعلم.

    حكم دعوى القاتل أنه لم يقصد القتل

    السؤال: إذا كان القتل قتل عمد ولكن القاتل ادعى خلاف ذلك، وقال : لم أقصد قتله، وذكر أمراً خلاف القصد، فما الحكم؟

    الجواب: قتل العمد فيه إقرار من القاتل وفيه دلالة ظاهر. فمثلاً: شخص أخذ المسدس وجاء ووضعه في رأس المقتول وضربه وقال: أنا لم أقصد أن أقتله، فهل يصدق في هذا؟ وهذا يسمى دلالة الظاهر، ويحتاج طالب العلم دائماً أن يفقه في المسائل الشرعية دلالة الظاهر، ومنها: مسألة التبديع عند بعض العلماء، فعندما يداوم الشخص على شيء ويقول: أنا ما قصدت أغير شرع الله، فيقال له: مداومتك، الذي هو دلالة الظاهر، هذه المداومة كما تدل على أنك تقصد وتعتقد في هذا الشيء، لكن هذه الدلالة لا يحكم بها كل أحد، وإنما يحكم بها العلماء الراسخون الذين يستطيعون أن يعرفوا متى يحكم بالظاهر ويلغى القصد؟ ومتى يلغى الظاهر ويلتفت إلى القصد؟ ومتى يلزم الأمران اجتماع الظاهر والباطن؟ وهذه من أدق المسائل ومن أعوصها عند أهل العلم رحمة الله عليهم.

    وهنا في هذه المسألة: إذا كان الظاهر ودلائل أخرى دلت على أنه يريد قتل العمد والعدوان، كأن يكون سبق منه التهديد بالكلام، كشخص جاء وقال له: أنا سوف أقتلك، وجاء وضربه بشيء غالباً يقتل، أو جاء ووضع الحبل على رقبته وخنقه، ثم قال: أنا ما قصدت قتله، فنقول: هذا الشيء مثله يقتل غالباً، وكونك تقول: ما قصدت قتله، هذا لا نقبله منك؛ لأن دلالة الظاهر واضحة على أنك تريد قتله وإزهاق روحه. وكأن يصب أحدهم الوقود على آخر ويشعل فيه النار، ثم يقول: أنا ما قصدت قتله، بل قصدت فقط تعذيبه، فلا يقبل هذا، ولو فتح هذا الباب لذهبت دماء الناس بحجة عدم قصد القتل، فالشريعة لا تلتفت إلى مثل هذه المواقف، وهذا هو الذي جعلهم يقولون: أن يجرحه بما له مور.

    فدلالة الظاهر ودلالة الأحوال معتبرة، وقتل العمد لا بد فيه من النظر في هذه الأمور، وليس هناك شرع أدق من شريعة الله عز وجل وحكم الشريعة الإسلامية في ضبط الأمور، ولن تجد أحكم ولا أسلم من هذه الضوابط المستنبطة من أصول الشريعة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك وقفت القوانين الوضعية وما يسمونها بالتشريعات والنظم المعاصرة والسابقة عاجزة أمام هذه العظمة التي جعلها الله عز وجل كمالاً وجمالاً وجلالاً لشرعه، الذي أخبر في محكم تنزيله أنه تمت كلماته فيه صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم، والله تعالى أعلم.

    الفرق بين الذمي والمعاهد والمستأمن والحربي

    السؤال: أشكل علي التفريق بين الذمي والمعاهد والمستأمن والحربي؟

    الجواب: أهل الذمة: هم أهل الكتاب، وتختص الذمة بهم، وهم الذين لهم أصل من دين سماوي، فلا تكون الذمة للمشركين، ولا تكون للوثنيين، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، وهذا النوع من الكفار نظراً لأن لهم أصلاً من دين سماوي، إذا فتح المسلمون بلادهم خيروهم بين الإسلام أو دفع الجزية، ويقرون على ما هم عليه، ويبقون في ديارهم تحت حكم المسلمين وأمانهم، فإذا اختاروا الإسلام فلا إشكال، وصارت الدار دار إسلام، وإذا اختاروا دفع الجزية وأن يكونوا تحت حكم المسلمين وأمانهم فهم أهل ذمة، لهم ذمة الله ورسوله؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم)، كما في الصحيح من حديث علي رضي الله عنه، فهذه الذمة لا تنقض عهداً لأحد، وقد تقدمت معنا في مسائل أحكام أهل الذمة، وبينا أحكام الشرع ونصوص الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح في معاملة أهل الذمة.

    وأما النوع الثاني: وهم المستأمنون، فالمستأمن هو الحربي الكافر الذي جاء وعنده رسالة ويريد أن يدخل بلاد المسلمين لغرض معين بإذن من ولي أمر المسلمين، أو أراد أثناء الحرب أن يدخل موضعاً بإذن من المسلمين، وأذنوا له بالدخول، فإن هذا مستأمن، وذلك مثل الرسل التي كانت تأتي أيام قتال الصحابة رضوان الله عليهم للروم والفرس، فقد كانت تأتي رسل الفرس فيؤمنون حتى يصلوا إلى المسلمين ويروا ماذا عندهم، فهؤلاء مستأمنون، والأمان يكون في حدود ضيقة ولأشخاص محدودين، وقد يكون الشخص مستأمناً وتقام عليه الحجة فيسمع كلام الله، فإذا سمع كلام الله فنبلغه مأمنه، فيرد إلى الموضع الذي يكون فيه آمناً ثم ينتهي أمان المسلمين.

    والذمي لا تخفر -تنقض- ذمته إلا إذا نقض العهد، كما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم مع بني النظير وبني قينقاع، وكذلك أيضاً بنو قريظة لما أخلفوا وغدروا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فبنو قريظة في يوم الخندق، وبنو النظير في حادثة الحضرمي.

    الشاهد: أن المستأمن والذمي لها أمان الله ورسوله، فلا يجوز الاعتداء عليهما؛ لأن لهما حقاً وحرمة، والأصل يقتضي أنهم يعاملون معاملة شرعية مخصوصة ومحددة، فمثلاً: المستأمن تقام عليه الحجة فيسمع كلام الله عز وجل، قال تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ [التوبة:6]، فجعل له أمان الله وأمان رسوله عليه الصلاة والسلام، وهذه كلها ضوابط وأحوال مختلفة تختلف بحسب الظروف، فتارةً تكون لطائفة وجماعة وأمة، كأن تدخل مدينة كاملة في أمان امرأة من المسلمين فيجب تأمينها، فقد جاءت أم هانئ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم واشتكت إليه علياً رضي الله عنه أنه يريد أن يقتل ابن عم لها -في يوم الفتح- والنبي صلى الله عليه وسلم يغتسل، (فقال: من؟ قالت : أم هانئ ، فقال: مرحباً بـأم هانئ ، فقالت: يا رسول الله! إن ابن عمي قد أمنته وزعم ابن عمك -تعني علياً رضي الله عنه- أنه قاتله، فقال عليه الصلاة والسلام: قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ )، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث علي في الصحيح: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، وهم حرب على من سواهم)، والمقصود أنه قد تؤمن المدينة بكاملها برجل واحد من المسلمين يدخلون في أمانه، وهذا كان معروفاً في أزمنة المسلمين الماضية، فهذا يسمى المستأمن، سواء كان شخصاً واحداً أو طائفة أو مجموعة حتى تقام عليها الحجة.

    وأما المعاهد: فالعهود تقع بين المسلمين والكفار خاصة في أحوال الحرب، فتارة تكون بالهدنة لمدة معينة، كما وقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش في أشهر محدودة، فهذه لا يجوز فيها القتال ما دام أن هناك بين المسلمين وبين الكفار عهداً، فيجب الإمساك عنهم وعدم التعرض لهم حتى تنتهي المدة، إلا إذا خشي منهم النقض وخشي منهم الخيانة فينبذ إليهم، قال تعالى: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ [الأنفال:58]، فلا ينقض العهد الذي بين المسلم وبين الكافر إلا بشروط وضوابط، ولذلك جاء حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما -كما تقدم معنا- يوم بدر فأخذه المشركون قبل أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذوا عليه عهداً ألا يقاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم، فلما جاء وذكر للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك، قال أصحابه : قاتل معنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بل نفي لهم ونستعين الله عليهم).

    فحافظ على عهده حتى مع الكافر، ولذلك فإن العهد أمره عظيم حتى مع الكافر، فكيف إذا عاهدت مسلماً، أو كان بينك وبين مسلم عهداً فالعهد أشد وأعظم، فالعهد لا ينقض، وهذه العهود التي تقع بين المسلمين والكفار تحترم، إذا كانت عن طريق ولي الأمر الذي له النظر في مصلحة المسلمين وهو مؤتمن عليها، ولا يجوز لأحد أن يتخطى هذا الحد أو يحاول أن يخفر -ينقض- ذمة المسلمين وذمة ولاتهم، فإن هذا يتحمل فيه المسئولية العظيمة، ولذلك فقتل المعاهد أمره عظيم؛ لأن هذا يسيء إلى الإسلام إساءة عظيمة -نسأل الله السلامة والعافية- ويتحمل الإنسان بذلك وزره، ولذلك حرم الله على نبيه أن ينقض العهد مع الكفار، وهو خير الخلق صلى الله عليه وسلم ويخاطبه بذلك، ما لم يكن الكافر المعاهد على بينة من أمره، قال تعالى: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ [الأنفال:58]، فليس في الإسلام خفاء، بل هو واضح أوضح من النهار وأموره مكشوفة؛ لأن الله عز وجل ينصر الحق وأهله.

    وجوب المضمضة والاستنشاق في الغسل دون الوضوء

    السؤال: ما هو الدليل على وجوب المضمضة والاستنشاق في الغسل وعدم وجوبهما في الوضوء؟

    الجواب: المضمضة تتعلق بالفم، والاستنشاق يتعلق بالأنف، وهناك طهارتان: طهارة صغرى، وهي الوضوء، وطهارة كبرى، وهي الغسل، وقد فرض الله عز وجل في الوضوء -الطهارة الصغرى- أربعة فرائض، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، ولما جاء الأعرابي يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يتوضأ؟ قال له : (توضأ كما أمرك الله)، فعلمنا أن المضمضة والاستنشاق ليست من فرائض الوضوء ؛ لأنه قال له: (توضأ كما أمرك الله)، وعلمنا أنها من النوافل والفضل، وليست من الواجبات والفرض.

    وأما في الغسل فوجدنا أن الشرع أمر بغسل ظاهر البدن، فكل شيء من ظاهر البدن يجب تعميمه بالماء، قال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6]، أي: طهروا أبدانكم، وفصل ذلك عليه الصلاة والسلام في حديثه في الصحيحين عندما قال: (إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين الماء على جسدك)، وهذا يدل على أن ظاهر الجسد لا بد من غسله، فهل الأنف والفم من ظاهر الجسد أم لا؟

    إن كانا من ظاهر الجسد فهما كاليد التي يجب غسلها وتعميمها بالماء؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ثم تفيضين الماء على جسدك)، فوجدنا الشريعة جعلت الفم والأنف من ظاهر الجسد لا من باطنه، والدليل على ذلك: أن الصائم لو وضع الطعام في فمه لم يفطر، فدل على أنه من ظاهر البدن وليس من باطنه. وبناء على ذلك لما وجدنا الشرع حكم بأن الفم والأنف من ظاهر البدن وليس من باطنه، قلنا: تجب المضمضة والاستنشاق في الغسل، ولا يجب واحد منهما في الوضوء، وهذا بتفريق الشرع.

    وبناء على ذلك يلتفت في الغسل إلى الظاهر، والفم والأنف من الظاهر، ويلتفت في الوضوء إلى ما سمى الله عز وجل من الأعضاء، ولذلك لو أن شخصاً وجد ماء لا يكفي إلا للأربعة الأعضاء في الوضوء لم يصل إلى التيمم؛ لأنه يستطيع أن يغسل ويمسح الفرائض التي أمره الله بغسلها ومسحها. والله تعالى أعلم.

    حكم النداء بعد دفن الميت لمن كان له حق على الميت من دين ونحوه

    السؤال: بعد دفن الميت وعند القبر يقف بعض أقاربه وينادي في الناس: أنه إذا كان لأحد في ذمة الميت شيء من الديون فإني أتحملها عنه، فهل لهذا الفعل أصل شرعي بهذه الصفة أثابكم الله؟

    الجواب: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا أتي بالصحابي عليه دين سأل: هل ترك وفاء أم لا؟ فإن ترك وفاء -كأن كان عنده بيت أو عنده دواب يمكن بيعها وسداد دينه- صلى عليه عليه الصلاة والسلام، وإن لم يترك وفاء، قال: (صلوا على صاحبكم)، فقد جاء في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام (أنه أتي برجل، فقال: هل عليه دين؟ فقالوا: نعم. فقال: هل ترك وفاء؟ قالوا: لا. قال: صلوا على صاحبكم)، وهذا من باب الترهيب والزجر للناس عن التساهل في الحقوق، فلما قال: (صلوا على صاحبكم. قال أبو قتادة : هما علي يا رسول الله!)، فانظروا كيف كان الصحابة رضوان الله عليهم يتراحمون! وكيف كانت محبتهم لبعضهم! وكيف كانت أخوة الإسلام تبقى حتى بعد الموت؛ فلم تكن أخوة مجاملة ولا أخوة مصالح ولا أخوة محدودة مؤقتة، ولذلك كان قول المؤمنين: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10]، وتجد المؤمن يترحم على أخيه المؤمن ويصل ذريته.

    فالشاهد: أنه قال: (هما علي يا رسول الله)، فلما قال ذلك صلى عليه عليه الصلاة والسلام، فدل هذا على مشروعية تحمل الدين عن الميت، وإذا كان هذا من أبي قتادة وهو غريب، فلأن يكون من القريب من باب أولى وأحرى.

    أما بالنسبة للنداء بعد الدفن فإذا كان الشخص لا يتيسر له الاتصال بغرماء الميت وأصحاب الحقوق، وسهل اجتماعهم عند الدفن، فقال هذه الكلمة لأجل أن يعلم الناس، فهذا لا بأس به، وهذا مثل ما يقع في بعض القرى حيث يصعب فيها الاتصال، فيعلم الناس، حتى يعلم بعضهم بعضاً؛ لأنه يصعب جمعهم وإخبارهم، والمفروض أن يبادر بذلك من بعد وفاته، فإذا توفي بادر بالاتصال بأصحاب الحقوق ومعرفة ما الذي له؛ لأنه لا يجوز التصرف بالمال إلا بعد قضاء الدين عليه، ولا تعطى حقوقهم إلا بعد سداد الدين.

    فالمقصود: أنه لا داعي لذلك عند القبر، وهناك أمر مهم جداً ينبغي أن نعلمه، وهو أن السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد دفن الميت عدم شغل الناس عما هو أهم، فبعد دفن الميت هناك أمران هامان:

    الأمر الأول: اتعاظك بهذا الميت الذي سبقك، وأنك ستصير إلى ما صار إليه، وتنقلب إلى ما انقلب إليه، فتتعظ وتعتبر وأنت ترى هذا بأم عينك؛ فإنه ليس هناك وقت أبلغ في الاتعاظ والاعتبار من ساعة إنزال الميت في لحده وقبره ودفنه والفراغ من ذلك، فإن هذه من أعظم الساعات اتعاظاً وعبرة؛ حيث ترى أقرب الناس من الميت وهو ولده ينزله إلى القبر ويسلمه إلى اللحد، ويغلق عليه القبر، ويهيل عليه التراب، فإذا رأى الإنسان ذلك انكسر قلبه وخشع فؤاده؛ لأنه سيعلم أن أقرب الناس منه سيتولى أمور فراقه لهذه الدار، وهذا من أقرب ما يكون عظة.

    ولذلك لم يعظ النبي صلى الله عليه وسلم على القبر، ففي حديث البراء أنه جلس ينتظر الأنصاري يحفر له قبره، ولم يعظ، والصحابة كانوا واقفين على القبر -بمعنى أنهم ينظرون إليه- والذي ورد عنه صلى الله عليه وسلم كلمتان: (أي إخواني!لمثل هذا فأعدوا)، فربط الموعظة بنفس الحال؛ لأن الحال يكفي موعظة.

    فالشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من هديه هذا.

    الأمر الثاني: وهو خاص بالميت، قال عليه الصلاة والسلام: (استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل).

    هذا هو ما يأتي بعد الدفن مباشرة؛ فينصح الخطباء بتنبيه الناس على هذه السنة، حتى تحيا السنة وتموت الأمور المخالفة لها، وهو أن الميت بعد الدفن مباشرة أحوج ما يكون إلى الاستغفار وإلى الترحم، ثم إن هذا الاستغفار يرتبط كل شخص بنفسه، فلا يأتي أحد فيقول: اللهم اغفر لأخينا، فيقول الناس: آمين.. وهكذا.. لا؛ فإنه إذا ارتبط الاستغفار بالجماعة لم يكن كاستغفار الشخص لوحده؛ لأن هذا أبلغ ما يكون وأصدق ما يكون، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استغفروا لأخيكم)، وكان بالإمكان أن يقول: اللهم اغفر لفلان، ويقول الصحابة: آمين، لكنه قال: (استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل)، وهذا يدل على أن الأمر مرتبط بالشخص بنفسه.

    فإذا ترك الإنسان لوحده هو الذي ينظر وهو الذي يدعو، خرج من المقبرة بموعظة تامة كاملة، لكن إذا شغل بغيره هو الذي يدعو له وهو الذي يختار كلمات، ولربما لا يفهمها السامع بنفسه، إذاً: فيقال له: السنة أن تستغفر لأخيك وتسأل له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل، فإذا وقف ولو كان جاهلاً ولو كان لأول مرة يدخل القبر فسمع من يذكره بالسنة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من دفن الميت يقول: (استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل) اتعظ واعتبر، وكان ذلك أبلغ ما يكون، فما أطيبها من سنة عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم الذي ما ترك باب خير إلا دلنا عليه، ولا سبيل رشد إلا هدانا بفضل الله إليه.

    فنسأل الله العظيم أن يجزيه عنا خير ما جزى نبياً عن نبوته، وصاحب رسالة عن رسالته، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه إلى يوم الدين.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756330317