إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الحضانة [1]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد اعتنى الإسلام بالقاصرين من الصغار والمعتوهين والمجانين ونحوهم، فجعل لهم حق الحضانة على الأقربين، وقد بينت الشريعة أحكام الحضانة، وحقوق المحضون، وشروط الحاضن، وترتيب الأقرباء في ولايتها؛ بياناً قائماً على تحقيق مصلحة المحضون.

    1.   

    مشروعية الحضانة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [باب الحضانة] الحضانة مصدر مأخوذ من قولهم: حضن الشيء يحضنه حضانة إذا ضمه إليه، والحضن الصدر مما دون الإبط إلى الكشح.

    وسميت الحضانة بهذا الاسم لاشتمالها على ضم المحضون، وهو الشخص الذي يعجز عن القيام بأمور نفسه؛ لصغر أو جنون أو عتهٍ أو غير ذلك.

    وباب الحضانة يتعلق بالقيام على حقوق الضعفاء من الصبيان والصغار والمجنون والمعتوه.

    ومناسبة باب الحضانة لما قبله: أن المصنف رحمه الله بيّن حقوق النفقات، فناسب بعد ذلك أن يبين حقاً خاصاً للصغير والمجنون، وهو حق الحضانة.

    وتقديم باب النفقات على باب الحضانة مبني على أن النفقات لا تختص بنوع معين من كل وجه، ولكنها أشمل وأعمّ من الحضانة، ولكن الحضانة يراها بعض العلماء خاصة بالصغير فلا تشمل الكبير كما عند المالكية، وإن كان جمهور العلماء رحمهم الله على أن الحضانة تشمل الصغير، وتشمل الشيخ الكبير والزمن ومن في حكمهم.

    ونظراً لأن الحضانة تختص بنوع خاص، فالأنسب أن يبدأ بالحق العام قبل الحق الخاص، من باب التدرج من الأعلى إلى ما هو دونه.

    والحضانة: هي القيام بأمور من لا يستقلّ بنفسه، وتربيته ودفع الضرر عنه أو ما يهلكه.

    ولذلك تشتمل الحضانة على القيام بمصالح الصغار، ورعاية هذه المصالح بما يكون فيه الخير إذا كان المحضون صغيراً أو مجنوناً، أو للشيخ الكبير الزمن إذا تحمّل وليّه مصالحه وقام على رعايته.

    والحضانة القيام بتحصيل المصالح من رعاية المحضون في نومه ويقظته، وبمتابعة أحواله، والإنفاق على تعليمه، وتأديبه وتقويمه، ودلالته على ما يصلح دينه ودنياه وآخرته، فالصبي والصغير سواء كان ذكراً أو أنثى يحتاج إلى من يرعى شئونه ويقوم بأموره، فيرعى شئونه مادياً ومعنوياً.

    والحضانة تتكفل بذلك كله، والإسلام جعل هذه الحضانة إلى شخص مخصوص بشروط مخصوصة لابد من توفرها فيه، وجعل لهذه الحضانة أموراً ينبغي على الحاضن أن يقوم بها على وجهها، وجعل لها أمداً وغاية تنتهي عند بلوغها إليه، وكل هذا يبينه العلماء رحمهم الله في باب الحضانة.

    يقول المصنف رحمه الله: (باب الحضانة) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بحضانة الصغير ومن في حكمه، ويشمل هذا ثلاثة جوانب:

    الجانب الأول: بيان من هو الشخص الحاضن؟ ومن هو الأولى والأحق بالحضانة؟

    الجانب الثاني: بيان من الذي يحضن؟ وهو الشخص المحضون.

    الجانب الثالث: بيان صفة الحضانة والمسائل والأحكام المتعلقة بها.

    أدلة مشروعية حضانة الصغير

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [تجب لحفظ صغير ومعتوه ومجنون].

    (تجب) بمعنى تثبت، فالحضانة ثابتة إما بسبب الصغر أو الجنون أو العته، وبناءً على ذلك لا حضانة لكبير بالغٍ إذا كان عاقلاً، إلا إذا كان شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يقوم بأموره ومصالحه، فأفتى طائفة من أهل العلم بأنه في حكم الشخص المحضون، لكن هذا فيه تفصيل: إذا غاب عنه عقله، فيلحق بالمجنون ولا إشكال، وكذلك إذا كان فيه خرف أو سفه.

    فبين المصنف رحمه الله أنها تثبت إذا كان المحضون صغيراً، سواء كان ذكراً أو أنثى، والسبب في هذا: أن الصغير ضعيف العقل لا يحسن رعاية مصالحه والقيام على نفسه، وبناءً على ذلك لابد من شخص يقوم عليه، ولهذا قال الله عز وجل: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:37] فجعلها في كفالة من هو أكبر، وهذا يدل على أن الصغير يحتاج إلى من يكفله ويقوم على رعايته.

    قال بعض العلماء: الحضانة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع.

    فأما دليل الكتاب فقوله تعالى: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:37]، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يأت شرعنا بخلافه.

    وأما دليل السنة فأحاديث، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن امرأة أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتِ أحق به ما لم تنكحي).

    فقوله عليه الصلاة والسلام: (أنتِ أحق به) إثبات للحضانة، وهذا الحديث حسن الإسناد، من رواية الوليد بن مسلم عن عمرو بن شعيب ، والرواية في السنن بالعنعنة، والوليد مدلس، ولكن هناك رواية في البيهقي صرح فيها بالتحديث، وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يحسنه طائفة من العلماء رحمهم الله، ويختارون أنه من قبيل الحسن.

    وأما الحديث الثاني فهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقد صححه غير واحد من العلماء والأئمة، وفيه: (أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد نفعني وسقاني من بئر أبي عنبة، فجاء زوجها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا غلام! هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت، فأخذ بيد أمه) وهذا الحديث الثاني يستدل به العلماء على انقطاع الولاية بعد الحضانة في مسألة التخيير بعد سبع سنين وسيأتي الكلام عليها.

    وأجمع العلماء رحمهم الله على أن الصغير ذكراً كان أو أنثى تثبت الحضانة في حقه، وذلك على التفصيل الذي سنذكره في قرابة المحضون أو من هو أولى بحضانته.

    ثم إن دليل العقل يؤكد ما تقدم، فإن الصغير قاصر في نظره.. قاصر في رعاية مصالحه، وبذلك أمرنا الله بالحجر عليه، قال تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء:5]، وأمر بالحجر على اليتامى، فهذا يدل على أن الصغير يحتاج إلى من يرعاه، وإذا كان الصغير غير قادر على رعاية مصالحه، فإنه ينبغي أن تسند الرعاية إلى من هو أهل، وأحق من يقوم بذلك قرابته.

    حضانة المعتوه والمجنون

    قوله: [ومعتوه ومجنون].

    العته ضرب من الجنون، والجنون ينقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: الجنون المستديم.

    القسم الثاني: الجنون المتقطع.

    فإذا كان الشخص به جنون فإنه يولى عليه من يقوم على شأنه ورعاية مصالحه، وهذا قول الجمهور رحمهم الله، وهو أن الحضانة تثبت للكبير إذا كان بالغاً مجنوناً.

    وأما العته فيقولون: إنه ضرب من الخرف، بأن يكون ناقص العقل، ليس مجنوناً ولا عاقلاً من كل وجه، أو أنه يميز الأمور بعض الأحيان ويخلط بعض الأحيان، وهذا نوع من العته، وقد يكون العتة بسبب الحوادث، كأن يضرب على رأسه، فيصبح عنده نوع من الخلط وعدم تمييز الأمور، نسأل الله السلامة والعافية.

    فالمقصود أنه إذا كان قاصراً في مصالحه لنفسه، سواء كان سبب القصور صغر السن، أو عدم وجود العقل، أو ضعف العقل والإدراك، فإنه يولى عليه من يقوم عليه.

    1.   

    أحق الناس بالحضانة

    وقوله: [والأحق بها أم].

    هذا ترتيب للأشخاص الذين لهم حق الحضانة، فالحضانة تثبت للأم، ثم أمها وإن علت بمحض الإناث، ثم الأب وأمه وإن علت كأمه وأم أمه، وهي جدة المحضون، وبعد ذلك للجد ثم أمه وإن علت بمحض الإناث، ثم للأخت الشقيقة، ثم للأخت لأم، ثم للأخت لأب، ثم بعد ذلك الخالة الشقيقة، ثم الخالة لأم، ثم الخالة لأب، ثم العمة الشقيقة، ثم العمة لأم، ثم العمة لأب، ثم بعد ذلك تثبت الحضانة لخالة الأم الشقيقة، ثم لخالة الأم لأم، ثم لخالة الأم لأب، ثم عمة الأب الشقيقة، ثم عمة الأب لأم، ثم عمة الأب لأب، ثم بعد ذلك بنت الأخ الشقيق، ثم بنت الأخ لأم، ثم بنت الأخ لأب، ثم بنت الخالة الشقيقة، ثم بعد ذلك لبنات أعمام الأب الأشقاء، ثم بنات العمات الشقيقات على الترتيب الذي تقدم.

    فعمات الأب الشقيقات، ثم بعد ذلك بنات العمات الشقيقات، ثم بنات العمات لأم، ثم بنات العمات لأب، ثم بعد ذلك لأقرب عاصب من أولياء المحضون.

    هذا بالنسبة للأصل في الترتيب، وروعي فيه تقديم جهة تقديم الأم؛ لأن الحضانة بالإناث ألصق منها بالذكور، ولذلك قدم النبي صلى الله عليه وسلم حضانة الأم على حضانة الأب، وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث المرأة: (أنتِ أحق به ما لم تنكحي)، فالذي اختصم هنا عندنا الأب وهو الزوج، والأم وهي الزوجة، فبين عليه الصلاة والسلام بقوله: (أنتِ) خطاباً للزوجة وهي أم المحضون (أحق به ما لم تكنحي) أي: ما لم تتزوجي.

    فهذا أصل عند العلماء رحمهم الله في أن جهة الأمومة مقدمة، ويراعى في الحضانة جهة الأمومة، وهذا لا شك أنه عين الحكمة والصواب، فإن الطفل والصغير يحتاج إلى الرعاية والحنان من الأم، والحنان من الإناث أكثر من الحنان من الذكور والرجال.

    والرعاية لمصالح الصغار من الإناث أبلغ من رعاية الذكور، فإن في الرجال من الخشونة والعنف والقوة ما لا يخفى، وفي الإناث من اللين والصبر وتحمل أذية الأطفال والصغار ما لا يخفى، فأعطى الله عز وجل كل ذي حق حقه.

    ومن هنا قدمت جهات الأمهات، فمثلاً: إذا وُجدت أخت لأب وأخت لأم قدمت الأخت لأم على الأخت لأب، وإذا وجدت عمة لأم وعمة لأب قدمت العمة لأم على العمة لأب... وهكذا.

    فهذا كله راعى العلماء رحمهم الله فيه الأصل الشرعي من تقديم الإناث على الذكور.

    إذاً: الأولى والأحق الأم، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أنتِ أحق به ما لم تنكحي) فقوله عليه الصلاة والسلام: (أنتِ أحق) فيه دليل على أن الأم مقدمة في الحضانة، وهذا بإجماع العلماء من حيث الأصل على أن الأم أولى وأحق بالحضانة، ولذلك هي التي تقوم على تربية ولدها ورعاية شئونه، فأولى من حضن الصبي وقام به الأم.

    وقوله: [ثم أمهاتها القربى فالقربى] لأن أم الأم كالأم، وهي أم؛ ولذلك تنزل منزلة الأم عند فقد الأم، وهي بعد الأم في الترتيب، ثم أم أم الأم، وهي جدة أم المحضون.

    وقوله: [ثم أب] من أهل العلم من قدم الأب على أم الأم، ومنهم من جعل جهة الأم مقدمة على الأصل في رعاية الشرع لها، فقالوا: إن الأب يكون بعد فقد أم الأم، أو وجود مانع في أم الأم، والأب له حق، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام للمرأة: (أنت أحق به) و(أحق) صيغة أفعل في لغة العرب تدل على اشتراك شيئين فأكثر، وأن أحدهما أعظم مزية من الآخر، فإذا قيل: محمد أعلم من علي، فهم أن محمداً وعلياً كل منهما عالم، ولكن منزلة محمد أعلى من منزلة علي في العلم.

    فصيغة أفعل، تقتضي التشريك والمزية بالتفضيل، لكن لما قال عليه الصلاة والسلام: (أنتِ أحق به ما لم تنكحي) أثبت عليه الصلاة والسلام للأب حقاً، ولكنه بين أن الأم أولى، وإلا لأبطل دعوى الأب من أصلها، وقال: لا حق له في ذلك، ولكنه لما قال: (أنت أحق) دل على أن للأب حقاً في حضانة ولده.

    ولأن في الأب من الشفقة والحنان والرعاية والقيام بالمصالح ما لا يخفى، وفيه من القدرة على رعاية مصالح الصغير ما ليس في الأم، خاصة عند وجود الحاجة لحقوق الصغير عند الناس أو نحو ذلك، أو يحتاج الصغير إلى تعليم أو تأديب أو دلالة على صنعة أو حرفة، فالأب هو الذي يتولى إخراجه لذلك والقيام عليه ومتابعته وأمره بذلك وحثه عليه.

    وقوله: [ثم أمهاته].

    أي: أمهات الأب، أمه وأم أمه وإن علت بمحض الإناث.

    وقوله: [ثم جد] لأن الجد منزل منزلة الأب، والجد أب من وجه، ولذلك قال الله تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [الحج:78] فالجد بمنزلة الأب، وعلى ذلك أصول الشريعة، فإذا لم يوجد الأب، أو كان في الأب مانع، انتقلت الحضانة إلى الجد.

    وقوله: [ثم أمهاته كذلك].

    أي: ثم أمهات الجد لهن الحق في الحضانة؛ لأنهن منزلات بمنزلة الأب.

    فإذاً: أصبح عندنا في الأصول الجهات التالية: الأم، ثم تليها أمها وإن علت، ثم الأب، وتليه أمه وإن علت، ثم الجد، وتليه أمه وإن علت، فهذه ستة أنواع كلها مرتبة من جهة الأصول: إما من جهة الأب أو من جهة الأم.

    وقوله: [ثم أخت لأبوين]. أي: أخت شقيقة.

    فإذا لم يوجد أحد من الأصول الستة انتقلت الحضانة إلى فرع الأصل، والأصل عندنا من جهة الأب والأم، وأصل الأصلين من جهة الإناث، ومن جهة الذكر بالنسبة للأب، وبعد ذلك انتقل إلى فرع الأصل وهي الأخت، وقد بينا أن الأخت هي التي شاركتك في أحد أصليك أو فيهما معاً.

    فهنا الأخت الشقيقة لها حق الحضانة، وفيها من الشفقة والحنان والعطف لأنها صنو المحضون، ولا شك أنها ترعى مصالح أخيها؛ لأنها أدلت من جهتين.

    ثم تليها الأخت لأم؛ إعمالاً لأصل الشريعة بتقديم جهات الأمهات على جهات الآباء، ثم الأخت لأب.

    وقوله: [ثم لأم، ثم لأب] كل هؤلاء النسوة الثلاث من جهة الأخوة، فتقدم الشقيقة، ثم بعدها الأخت لأم ثم بعدها الأخت لأب، فإذا لم يوجد شيء من الأصول أو وجد وفيه مانع كأب كافر أو أم كافرة والعياذ بالله، وليس هناك من قرب بعد الأصول إلا الأخت الشقيقة، فانتقلت الحضانة إليها، فإن لم توجد الأخت الشقيقة أو بها مانع انتقلت إلى الأخت لأم، فإن لم توجد أو فيها مانع انتقلت الحضانة إلى الأخت لأب.

    وقوله: [ثم خالة لأبوين].

    أي: تستحق الحضانة الخالة الشقيقة، وهي كل أنثى شاركت الأم في أصليها، وأما الخالة لأب أو لأم فإنها شاركت في أحد الأصلين، فالخالة تنزل منزلة الأم في الحضانة، والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه لما فتح مكة جاءت بنت حمزة تقول: يا عم يا عم يا عم! فقال علي رضي الله عنه لـفاطمة : دونك بنت عمك خذيها واحتمليها، فحملتها فاطمة ، فاختصم فيها جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعلي بن أبي طالب ).

    فهذه بنت حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي بنت أخيه من الرضاعة، فالنبي صلى الله عليه وسلم عمها، وبعض مشايخنا رحمة الله عليهم يأخذون ملحظاً بسيطاً وهو أن هذه بنت صغيرة يتيمة عقلت عمها من الرضاع ونادته: يا عم يا عم! وهو عم من الرضاع، فكيف ببنات اليوم تجهل عمها من النسب!

    انظر كيف يراعى تربية البنات وكيف كانت الأم تربي، لأن أباها حمزة رضي الله عنه استشهد في أحد، وهذا في فتح مكة، والمسافة بعيدة، ومع هذا عقلت عمها من الرضاع، فما بالك بعمها من النسب، وكذا قرابتها من النسب؟!

    لأن البنت كانت تربى في حجر أمها، وكانت الأم لا تفرط في فلذة كبدها، أما اليوم إذا دخل عليها عمها أو خالها أو قريبها من النسب، فربما جهلته والعياذ بالله، كل هذا بسبب قطيعة الرحم أو بسبب إسناد التربية إلى المربيات والعاملات، وترك الأمهات لواجبهن من الرعاية.

    الشاهد أن هذه الصغيرة عقلت وصاحت، فاختصم فيها هؤلاء الثلاثة: علي بن أبي طالب يقول: إنها بنت عمي، وكذلك يقول جعفر رضي الله عنه وأرضاه، لكنه قال: وخالتها تحتي، وقال زيد بن حارثة : إنها ابنة أخي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين زيد بن حارثة وحمزة رضي الله عنهما.

    فقال عليه الصلاة والسلام: (الخالة بمنزلة الأم) وهذا من أقضيته عليه الصلاة والسلام، قضى في هذه الخصومة وفصل بالحق الذي فصل به ربه سبحانه وتعالى وهو خير الفاصلين.

    وهذا في الحقيقة ينبغي أن يلحظ في أن علياً رضي الله عنه وجعفراً كل منهما أدلى بالسبب الذي هو من جهة العصبة، فكل منهما يعتبر ابن عم من جهة العصبة، فالقرابة موجودة، لكنَّ جعفراً رضي الله عنه وأرضاه فضل من جهة وجود الزوجة التي هي خالة، ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام: (الخالة بمنزلة الأم) وفضلت من هذا الوجه.

    ومحل الشاهد في قوله عليه الصلاة والسلام: (الخالة بمنزلة الأم) حيث دل هذا الوصف على أن الخالة تنزل منزلة الأم.

    ومن هنا أجمع العلماء رحمهم الله أن الخالة لها حق في الحضانة.

    وقوله: [ثم عمات كذلك] تقدم الشقيقة منهن لأنها أدلت من جهتين، ثم تقدم العمة لأم، ثم العمة لأب.

    وقوله: [ثم خالات أمه] انتقل إلى خالات الأم، والخئولة جاءت من جهة الأم، ويقدم فيها خالة الأم الشقيقة، وهي التي شاركت أم الأم في أصليها، ثم تقدم الخالة لأم على الخالة لأب.

    وقوله: [ثم خالات أبيه] أي: أن الخئولة من جهة الأم مقدمة على الخئولة من جهة الأب، يقدم فيها الخالة الشقيقة، ثم الخالة لأم، ثم الخالة لأب، على التفصيل الذي تقدم.

    وقوله: [ثم عمات أبيه] عمات الأب يراعى فيهن نفس الترتيب: فالعمة الشقيقة، ثم العمة لأم، ثم العمة لأب، هذا من جهة عمات الأب، ولا حق لعمات الأم، وذلك لأنهن يدلين بأب الأم، وهو من ذوي الأرحام وليس من العصبة.

    ومن هنا فلا حق لعمات الأم من جهة الترتيب الذي ذكرناه في الحضانة.

    وقوله: [ثم بنات إخوته وأخواته] بنت الأخ الشقيق، ثم بنت الأخ لأم، ثم بنت الأخ لأب، وبعد ذلك بنت الأخت الشقيقة، ثم بنت الأخت لأم، ثم بنت الأخت لأب، هذا بالنسبة للترتيب الذي اختاره المصنف رحمه الله.

    ومن أهل العلم رحمهم الله من يقدم جهة الإخوة الأشقاء على جهة عمات وخالات الأصول، وذلك لمكان القرب ومشاركة المحضون في الأصل، كما في مسائل الفرائض، وسيأتينا إن شاء الله تعالى.

    وقوله: [ثم بنات أعمامه وعماته] بنات الأعمام الأشقاء، ثم بنات الأعمام لأم، ثم بنات الأعمام لأب، ثم بنات العمات الشقيقات، ثم بنات العمات لأم، ثم بنات العمات لأب، على نفس الترتيب الذي ذكرناه؛ لأن السبب واحد وهو تقديم جهة الأم على جهة الأب.

    وقوله: [ثم بنات أعمام أبيه وبنات عمات أبيه] أي فإذا لم يوجد فرع أعمامه وعماته فينظر في فروع أصولهم: فيقدم بنات أعمام أبيه الأشقاء، ثم بنات أعمامه لأم، ثم بنات أعمامه لأب، بنات عمات أبيه الشقيقات، ثم بنات عماته لأم، ثم بنات عماته لأب.

    والسبب في هذا أنها تقدم الذكورة في الإخوة، فتقدم بنات الإخوة الأشقاء على البنات الشقيقات؛ لأن العصبة من جهة الأشقاء أقوى منها في الإناث الشقيقات، وكذلك بالنسبة للعمات والأعمام، تقدم فرع الأعمام الذكور على فرع العمات الإناث من جهة العصوبة.

    وأما بالنسبة لجهة الأنوثة فالأصل الذي ذكرناه باقٍ كما هو، لأنهن كلهن إناث، لكن يبقى إخوة التعصيب، ومن هنا تقدم بنات الأعمام الشقيقات، ثم يليهن بنات الأعمام لأم، ثم بنات الأعمام لأب، ثم بنات العمات الشقيقات، ثم بنات العمات لأم، ثم بنات العمات لأب.

    وقوله: [ثم لباقي العصبة الأقرب فالأقرب] هذا أصل عند العلماء رحمهم الله، وسيأتي إن شاء الله تقريره أكثر في الفرائض، وأن الأصل تقديم الجهة ثم القرب ثم القوة:

    فبالجهة التقديم ثم بقربه وبعدهما التقديم بالقوة اجعلا

    فلو وجد مثلاً: بنت عم وبنت ابن عم، فإن بنت العم مقدمة على بنت ابن العم بالنسبة لمنزع العصبات بعد انتهاء الأصول، فيقدم الأقرب، ثم الأقوى مثل ما ذكرنا في الشقيق مع الأخ لأب أو لأم، فإنك تقدم جهة الشقيق وهذا في الإخوة والعمومة والخئولة، فيقدم الشقيق على الأخ لأم والأخ لأب؛ لأن الشقيق أدلى من جهة الأب ومن جهة الأم، ولكن الذي لأم أو لأب أدلى بواسطة واحدة، إما من جهة الأم أو من جهة الأب، ولذلك يراعى في تقديم العصبات هذا الأصل.

    وقوله: [فإن كان أنثى فمن محارمها] فمثلاً: لو كان لها ابنا عم، أحدهما: بينه وبينها رضاعة، فهو أخوها من الرضاع، فيكون مقدماً على ابن عم ليس بذي محرم، ولذلك يكون القريب محرماً وارثاً، ويكون وارثاً غير محرم، ويكون محرماً غير وارث.

    فالمحرمية تراعى في الأنثى، فمثلاً: لو فرضنا أن قرابتها كلهم كفار، انقطعت الحضانة لوجود مانع الكفر، لكن لو كان لها قريب كابن عم، وأراد أن يقوم بحضانتها، وقال: هذه قريبتي وأنا أولى بحضانتها، فننظر إذا كان ليس بذي محرم منها وليس هناك محرمية بينه وبينها فمذهب طائفة من العلماء رحمهم الله أنه لا حضانة له عليها، وتنتقل الحضانة إلى الحاكم.

    وقال بعض العلماء: لا تنتقل إلى الحاكم، ولكن يقال له: اختر شخصاً بينه وبينها رضاعة يكون من ذوي الأرحام، فيكون اختياره لهذا الذي من ذوي الأرحام موجباً لتقديمه على بقية القرابة.

    فابن العم لو ماتت فإنه يرثها، إذا لم يكن لها وارث من أصحاب الفروض، أو من العصبة الأقربين.

    فهو وارث ولكنه ليس بذي محرم، ففي هذه الحالة إذا وجدت علاقة كابني عم أحدهما بينه وبينها رضاعة، أو ابن عم وهو عم من الرضاعة أو خال من الرضاعة قدم ذو الرضاع على الذي لا محرمية بينه وبين المحضون.

    والسبب في هذا: أن هذه المرأة إذا حضنها من ليس بمحرم لها لم يؤمن أن تقع في فتنة، وقد تتعرض للحرام، فبناءً على ذلك لا يتولى الذكر الحضانة عن الأنثى إذا لم تكن هناك محرمية.

    وقوله: [ثم لذوي أرحامه] أي: مثل الخال بالنسبة للمرأة؛ لأن ذوي الأرحام لهم حق، قال تعالى: وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [الأنفال:75].

    وعلى التفصيل الذي سنبينه إن شاء الله في مراتب ذوي الأرحام في الفرائض يكون ترتيبهم، مثل أب الأم، فإنه محرم وليس له حق الحضانة في الأصل، لأنه يعتبر من ذوي الأرحام، وهو من محارم البنت، لأنه جدها من جهة الأم، فلا يكون له حق حضانة مع وجود هؤلاء الذين تقدموا؛ لأنهم أحق وأولى، ولكن له ذلك إذا لم يوجد منهم أحد.

    وقد بينا أن القرابة فيهم من هو محرم وارث، وفيهم من هو وارث غير محرم، وفيهم من هو وارث غير محرم.

    وبناءً على ذلك: ينظر في ذوي الأرحام كالخال وابن الأخ لأم، فينظر في ترتيبهم على الأصل الذي ذكرناه، فمثلاً: يقدم أبو الأم على ابن الأخ لأم؛ لتعلق ذلك بالأصل، وجهة الإخوة تبع لجهة الجدودة.

    وقوله: [ثم للحاكم] إذاً: عندنا الترتيب الذي ذكرناه أولاً، ثم العصبات، ثم ذوو الأرحام، ثم بعد ذلك الحاكم.

    والحاكم الأصل في ولايته على الصغير وقيامه بأمر حضانته قوله عليه الصلاة والسلام: (السلطان ولي من لا ولي له) فإذا انقطعت ولاية الحضانة وما وجد له أقرباء ولا عصبة ولا ذوو أرحام، انتقلت ولايته إلى الحاكم، فهو ولي من لا ولي له.

    إذا امتنع من له الحضانة أو كان غير أهل انتقلت

    وقوله: [وإن امتنع من له الحضانة].

    هل الحضانة حق واجب لا اختيار فيها للحاضن؟ أم أنها حق تخييري بأن يقال له: هذا حقك، إن شئت أن تلي حضانة الصغير فلك ذلك، وإن شئت أن تترك فلك ذلك، فينتقل الحق إلى من بعده؟

    فيه وجهان للعلماء رحمهم الله:

    فبعض العلماء يقول: الحضانة حق واجب، وأصحاب هذا القول منهم من يفصل ومنهم من يطلق.

    فمن يفصل يقول: إذا كان الشخص المحضون لا يقبل غير الأم، أو لا يقبل غير الأب، وثبتت ولايته دون وجود من هو أحق قبله، فإنه يجب على الأب أو الأم الحضانة، وليس لأحدهما حق الترك والتولي، فإذا تركه أحدهما أجبره القاضي أو الإمام الوالي على القيام بحق الحضانة، هذا على القول بوجوبها.

    والذين قالوا بعدم الوجوب يقولون: إذا تخلى وقال: لا أستطيع أو لا أريد أن أحضنه، فإنها تنتقل الحضانة إلى من بعده.

    فمثلاً: إذا كانت هناك أخت شقيقة وأخت لأم وأخت لأب، وبينا أن الأخت لأم لا تكون حاضنة للصغير مع وجود الشقيقة، فلو أن الشقيقة قالت: لا أريد الحضانة، وقلنا: من حقها ذلك، انتقل حق الحضانة إلى الأخت لأم، وقس على هذا.

    فتبين أنه إذا امتنع الأقرب وكان من حقه أن يمتنع، انتقلت الحضانة إلى من بعده.

    وقوله: [أو كان غير أهل] الحضانة لها شروط لابد من توفرها للحكم بأهلية الحاضن للحضانة: من إسلام وبلوغ وعقل وحرية وحسن ولاية، وعدم وجود مرضٍ معدٍ... ونحو ذلك من الشروط، فإذا توفرت هذه الشروط حكم بالحق لصاحبه لاستحقاقه للحضانة.

    فإذا وجد فيه مانع كأن يكون كافراً، أو ارتد -والعياذ بالله- فكفر، سقط حقه في الحضانة، فتنتقل الحضانة إلى من بعد هذا الشخص الذي فيه المانع.

    وقوله: [انتقلت إلى من بعده] أي: بالترتيب الذي ذكره رحمه الله، فمثلاً: لو كان عنده عمة شقيقة وعمة لأم وعمة لأب، وكانت العمة الشقيقة كافرة أو مرتدة، فحينئذٍ تنتقل الحضانة إلى العمة لأم، وهكذا لو وجد مانع في العمة لأم كأن تكون مجنونة فإنها تنتقل الحضانة إلى العمة لأب، وهكذا تنتقل الحضانة لمن هو أقرب.

    1.   

    موانع الحضانة

    مانع الرق

    وقوله: [ولا حضانة لمن فيه رق] شرع المصنف رحمه الله في هذه الجملة في بيان الشروط التي ينبغي توفرها في الحاضن، فيشترط فيه: أن يكون حراً، والرقيق ليس أهلاً للحضانة من حيث الجملة، والسبب في ذلك: أن الشرع نزع الولاية عن العبد فهو لا يلي أمر نفسه، حتى إن ماله لا يملكه، إنما هو ملك لسيده إلا ما ملّكه، قال صلى الله عليه وسلم: (من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع) فأخلى يده عن أن يتصرف في ماله، فكيف يتصرف في غيره؟

    فهو لا يملك النظر في نفسه فأولى ألا يتولى أمر غيره، والإسلام في مسألة الرق لا يخصها بجنس ولا بلون ولا بطائفة ولا بزمان ولا بمكان، وإنما جعل ذلك راجعاً إلى وجود الكفر بنعمة الله عز وجل والمحاربة لدين الله، فإذا كان الشخص بهذه المثابة سقطت عنه الأهلية حتى صار كالبهيمة، كما قال تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الفرقان:44] ، وحينئذٍ يباع ويشترى ويملك.

    وعلى كل حال فالرقيق ليس له حق في الحضانة؛ لأنه لا يملك أمر نفسه، فمن باب أولى ألا يلي أمر غيره، ولأنه مشغول بخدمة سيده، فكيف يتفرغ للقيام برعاية هذا الصبي أو هذه الصبية؟!

    ولذلك لو قيل: إن لهم الولاية لضاعت حقوق الشخص المحضون؛ لأنه إما أن يضيع حق سيده، وإما أن يضيع حق الشخص المحضون، فقالوا: نبقيه على الأصل من أنه مطالب بحق سيده.

    والبعض يستغرب من الفقهاء أن يقولوا هذا، وهذه أصول شرعية، فالشرع أثبت الملكية، قال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [المؤمنون:5-6] ، فجعلهم ملك يمين، فجعل الأمة ملك يمين لسيدها، وجعل المملوك مشغولاً بخدمة سيده.

    وبناءً على ذلك: لا يستطيع العبد القيام برعاية الشخص المحضون، ومن هنا أسقط جمهور العلماء رحمهم الله الحق في الولاية للرقيق على المحضون.

    مانع الفسق

    وقوله: [ولا لفاسق].

    الفسق: أصله من فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها، فأصله الخروج، وسمي الفاسق فاسقاً؛ لأنه خرج عن طاعة الله، والفسق فسقان: فسق مخرج من الملة وهو فسق الكفر، وفسق لا يخرج من الملة وهو فعل كبيرة من الكبائر، أو الإصرار على صغيرة من الصغائر.

    والفاسق له أحوال: فتارة يكون فسقه مؤثراً في الحضانة، وتارة لا يؤثر في الحضانة.

    والمسألة هي: هل الفاسق يتولى الحضانة، أو لا يتولاها؟

    الجواب: من أعدل الأقوال أننا ننظر في فسقه: فإن كان فسقه متعدياً مؤثراً في الحضانة لم يكن له حق في الحضانة؛ لأن المقصود من الحضانة يفوت بولايته، ومقصود الشرع من ولايته أن يقوم بحقوق الحضانة، ومثل هذا لا يؤمن منه.

    وأما إذا كان فسقه لا يؤثر في الحضانة، فإنك قد تجد الشخص مثلاً مقصّراً ويقع في بعض المحرمات، ولكنه من أغير الناس على عرضه، ومن أحفظ الناس لحقوق القرابة، وقد تجد عنده أخطاء وزلات ولكنه من أصدق الناس قولاً، ومن أحسنهم معاملة، فليس كل فسق يؤثر في الحضانة.

    ولذلك فإن من أعدل الأقوال في المسألة قول من قال أن ننظر في فسقه: فإن كان فسقه يضيع الحضانة ويؤثر فيها فلا يتولاها، مثلاً: شخص معروف والعياذ بالله ببعض المعاصي من شرب خمر أو فعل محرم من الكبائر، أو مستهتر بالحقوق والواجبات، فمثل هذا لا يعطى حق الحضانة، لكن لو كان يشرب الخمر، ولكن يؤمن شره وضرره على المحضون، أو كانت امرأة قذفت فحكم بفسقها، لكنها من أحرص الناس على أولادها، ومن أحفظهم لحق الولد أو لحق بنات أخيها أو بنات أختها، فإن الحضانة تنتقل إليها ولا يؤثر فسقها بالقذف في الحضانة؛ لأن القذف مما يوجب الفسق.

    فالشاهد من هذا: أن الفسق إذا أثر في الحضانة نزع الصبي والصغير ولم يكن للشخص حق في الحضانة، وأما إذا لم يؤثر فإن الحق ثابت في ذلك مع وجود الفسق.

    مانع الكفر

    وقوله: [ولا لكافر].

    الكافر ليس له حق في الحضانة، على مذهب جمهور من علماء رحمهم الله، قال تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141] وإذا جعلنا لهم حق الحضانة كان نوع ولاية، والإسلام يعلو ولا يعلى عليه، ولأن الكافر يؤثر على الصغير، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو يمجسانه، أو ينصرانه) فبين أن الصغير يتأثر بمن يليه، قال: (فأبواه) ولأن الغالب في الحضانة أن تكون للأبوين.

    ومن هنا قطع جمهور العلماء رحمهم الله ولاية الكافر في الحضانة، وهذا هو الصحيح؛ لأن أصول الشريعة تقوي هذا القول وتشهد بصحته.

    مانع زواج المرأة بأجنبي

    وقوله: [ولا لمزوجة بأجنبي] الأم لها حق الحضانة ما لم تتزوج، فلو طلقها زوجها فإنها أحق بولدها وبحضانته، فإذا تزوجت نظرنا في هذا الزوج: إن كان أجنبياً عن الصبية التي هي بنتها فإن الحضانة تنتقل من الأم، لقوله عليه الصلاة والسلام: (أنتِ أحق به ما لم تنكحي)، فلما قال: (ما لم تنكحي) أخلى يدها عن الولاية بوجود النكاح.

    وأما إذا كان الشخص الذي تزوجها بينه وبين المحضون محرمية، ففي هذه الحالة لا تنتقل ولا تسقط الحضانة عن الأم، واستدلوا على ذلك بقصة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه قال: إنها بنت عمي وخالتها تحتي، فهو ليس أجنبياً عنها، قالوا: هناك قرابة بين جعفر وبين حمزة رضي الله عنهما، وهنا يقولون: بسبب الرضاع الذي بين جعفر وحمزة استحق أن يليها؛ لأنه ليس بأجنبي عن هذه البنت.

    ومن أهل العلم من قال: إذا كان قريباً ولو بالنسب التي هي قرابة العصبة غير المحرمية فإن له حقاً، وحينئذٍ تعتضد الزوجة بهذا القريب ولو لم يكن محرماً في ولايتها على بنتها.

    وعلى هذا فالخلاصة: إن كان قريباً له محرمية فلا إشكال في إبقاء الحضانة عند الزوجة، وإن كانت قرابته لا توجب المحرمية، فاختيار طائفة من أهل العلم رحمهم الله وخاصة في مذهب الحنابلة أنه يكون للمرأة حق الحضانة وذلك لوجود القرابة بين زوجها وبين هذه البنت المحضونة.

    وقوله: [من محضون] أي: الشخص المحضون أجنبي.

    وقوله: (من حين عقد) إذا قلنا: إن المرأة إذا تزوجت تسقط حضانتها يرد السؤال: هل تسقط بمجرد العقد أم لابد أن يدخل هذا الزوج الأجنبي بها؟

    وجهان للعلماء:

    فمن أهل العلم من قال: لا تسقط حضانة الزوجة إلا بدخول الزوج، وهو مذهب المالكية ومن وافقهم رحمهم الله.

    ومنهم من قال: مجرد العقد يوجب سقوط الحضانة، وهو مذهب الشافعية والحنابلة رحمهم الله.

    وقد استدل الذين قالوا: إن مجرد العقد يوجب سقوط الحضانة؛ بقوله عليه الصلاة والسلام: (أنتِ أحق به ما لم تنكحي)، والمرأة توصف بكونها منكوحة بمجرد العقد، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الأحزاب:49] فدل على أن المرأة تكون منكوحة بمجرد العقد.

    إذا ثبت هذا فيقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنتِ أحق به ما لم تنكحي) وقد نكحت وتزوجت، سواء دخل بها أو لم يدخل.

    ومذهب الحنابلة والشافعية على أن العبرة بالعقد أقوى أثراً، ومذهب المالكية ومن وافقهم أقوى نظراً، مع أن الأثر يحتمل؛ لأن العلماء اختلفوا: هل النكاح حقيقة في العقد أو حقيقة في الوطء؟ خلاف مشهور.

    بعض العلماء يقول: حقيقة في العقد، وبعضهم يقول: حقيقة في الوطء، ومنهم من يقول: حقيقة فيهما.

    والسبب في ذلك: أن القرآن ورد فيه النكاح بمعنى الدخول، وورد فيه النكاح بمعنى العقد، وأكثر ما ورد بمعنى العقد.

    وقالوا: إن النكاح بمعنى الدخول دليله قوله تعالى: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230] فجاءت السنة وبينت أن النكاح هنا المراد به الدخول، وليس مجرد العقد، فصار قوله: حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ المراد به الدخول.

    ومن هنا يقولون: إن النكاح حقيقة في العقد وحقيقة في الوطء، فإذا كان حقيقة فيهما يكون قوله عليه الصلاة والسلام: (أنتِ أحق به ما لم تنكحي) يحتمل الوجهين: ما لم تنكحي، أي: تعقدي، ويحتمل: ما لم تنكحي، أي: يدخل زوجك بك.

    فالمالكية يقولون: لما احتمل الأمرين اعتضد بالأصل، وهو أن الخطر على الشخص المحضون لا يتأتى إلا بعد الدخول، ويكون تقصير الزوجة لانشغالها بالزوج بعد الدخول لا قبل الدخول، فهو أقوى من جهة النظر؛ لأن الأثر من ناحية إطلاق النكاح حقيقة على الدخول أيضاً فيه إشكال.

    لأن بعض العلماء يرى أن آية البقرة في الطلاق ثلاثاً هي في النكاح، لكن جاءت السنة بزيادة شرط الدخول.

    وعلى كل حال فالمسألة محتملة، أما من حيث النظر والقوة في المعنى فلا شك أن الدخول هو المعتبر.

    وقوله: [فإن زال المانع رجع إلى حقه].

    أي: فإن زال المانع عن الشخص المحضون رجع إلى حقه، فإذا أسلم الكافر وأفاق المجنون رجع إلى ولايته للحضانة.

    1.   

    الأسئلة

    الحضانة رعاية معنوية لا نفقة فيها

    السؤال: فضيلة الشيخ! إن كان الذي له الحق في الحضانة فقيراً، وكان الذي يليه موسراً، هل يقدم الموسر على الفقير نظراً لمصلحة المحضون، أثابكم الله؟

    بعض العلماء يرى أن الحاضن له أجرة، فإذا كان فقيراً صار من باب أولى وأحرى، والسائل يظن أن الحاضن هو الذي ينفق ويقوم على المحضون بالنفقة.

    فليعلم أن باب الحضانة يشمل أخذ الصغير لتعليمه وتأديبه وتربيته ورعايته، وليس في المسألة إنفاق؛ بل الحضانة رعاية معنوية للشخص وتصريف أموره المادية، لكن لا يدفع الحاضن من ماله، فلينتبه لهذا!

    فإذا كان الأقرب فقيراً والأبعد غنياً، فنقول: الحاضن له أجرة في الحضانة، فإذا كان له أجرة صار الفقير أولى من جهتها، أي: صارت المسألة بالعكس، أولى لفقره وأولى لقربه، وبناءً على ذلك صار السؤال معكوساً من هذا الوجه.

    وعلى كل حال فالحاضن لا يدفع من جيبه شيئاً، فالأصل أن ينفق من مال الشخص المحضون، وإذا كان صغيراً فمن مال والده، على التفصيل الذي ذكرناه في النفقات، فالنفقات لها باب مستقل، ويتولى الإنفاق عليه من ذكرنا من قرابته بالضوابط التي بيناها في باب النفقات، لكن هنا مسألة الرعاية والقيام على المصالح، والله تعالى أعلم.

    إجراء الأحكام التكليفية على المعتوه

    السؤال: هل المعتوه تجري عليه الأحكام؟ وهل هو مكلف؟

    الجواب: الأصل أن العته نوع من الضعف في العقل، فإذا فقد الإنسان الإدراك للأمور وتمييزها سقط عنه التكليف، فهو إنسان غير مكلف؛ لأنه في حكم المجنون.

    أما العته الذي فيه خرف ونوع من التمييز وله عقل، فطائفة من العلماء رحمهم الله يقولون: إن الشخص يكون في بعض الأحيان من أذكى خلق الله، ولكن فيه قصور، لأن الذكاء شيء والعقل شيء آخر.

    ومن هنا فالعته لا يؤثر في العقل من كل وجه، ويؤثر في شخصية الإنسان من ناحية تمييز الأمور وإدراكه لها، لكن لا يصل به إلى حد الجنون، فإذا وصل به إلى حد الجنون لم يكن معتوهاً بل يكون مجنوناً.

    انتقال الحضانة من الأم إلى أم الأم

    السؤال: الأم إذا نكحت هل تنتقل الحضانة إلى أم الأم، أم إلى الأب مباشرة؟

    الجواب: ذكرنا أن الحضانة للأم، ثم لأم الأم وإن علت بمحض الإناث، وهي أولى من الأب، لأن شفقة الأم أقوى من شفقة الأب، وأم الأم بمنزلة الأم، وأصول الشريعة دالة على هذا، وأقوى الأقوال عند أهل العلم رحمهم الله: أن أم الأم مقدمة على الأب، والله تعالى أعلم.

    معنى المأثم المغرم

    السؤال: في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم) فما هو المأثم والمغرم أثابكم الله؟

    الجواب: فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذا بأن الإنسان إذا غرم وأصابه الدين وتحمل وقع في الإثم، ولذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يعد فلا يفي) أي: يقول سأعطيك غداً، ثم لا يتيسر له السداد، فيصبح مخلفاً لوعده كاذباً في قوله، فاستعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الحال، كما ثبت في حديث دعاء التشهد وهو حديث صحيح: قالت عائشة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ من هذا وقال: (إذا غرم الشخص حدث فكذب، ووعد فأخلف) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من غلبة الدين، لأن الدين إذا غلب الإنسان كذب في قوله، وأخلف في وعده، وهذه من الفتن العظيمة.

    ولذلك لا تظهر قوة الإنسان في دينه وصدقه في إيمانه بمثل ما إذا ابتلي بالدنيا فصدق مع الله عز وجل، فالدنيا بلاؤها عظيم، ومن هنا قال عمر رضي الله عنه: (لا تغرنكم دندنة الرجل في صلاته، انظروا إليه في ديناره ودرهمه).

    فالشخص إذا ابتلي في الدنيا وأصبح غارماً مديوناً اضطر إلى أن يكذب ويخلف الوعد، ويقع في المزالق التي لا تحمد عقباها:

    إن السلامة من سلمى وجارتها ألا تمر بوادٍ حول واديها

    فعلى الإنسان أن يبتعد عن أمور الدنيا خاصة تحمل الديون في التجارات أو في أمور غير واضحة، فهذه لا تحمد عقباها، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم وهو يبين حال الاستدانة وعدم سداد الناس حتى يقع الإنسان في غلبة الدين، ويقع في خلف الوعد والكذب إذا حدث، قال صلى الله عليه وسلم: (ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله) وهذا يدل على أن الإنسان إذا أخذ الديون ينبغي عند أخذه أن ينظر إلى أمرين:

    أولاً: حسن النية في السداد.

    ثانياً: وجود غلبة الظن على أنه سيسدد.

    ولا يجوز أن يخاطر بأموال الناس، خوفاً من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عليه: (ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله) ، فالتساهل في هذه الأمور لا ينبغي.

    وكم من إنسان تراه مستقيماً على دين الله عز وجل وطاعته ومحبته ومرضاته، فإذا علم الشيطان ضعفه في الدنيا استدرجه حتى يقع فيها، ويمنيه ويعده بالوعود الكاذبة حتى يقع في غلبة الدين، وعندها لا يهنأ له عيش، ولربما تصيبه دعوات السوء والعياذ بالله؛ لأنه قد يضر الناس -والعياذ بالله- في حقوقهم.

    المقصود أن غلبة الدين لا خير فيها، فقد تهلك الإنسان وتفتنه في دينه ودنياه، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يقضي عنا وعنكم الدين، ونعوذ بوجهه الكريم وسلطانه القديم من فتنة الدين والدنيا والآخرة، والله تعالى أعلم.

    الصلاة على فراش في طرفه نجاسة

    السؤال: إذا صليت على فراش كبير وفي طرفه نجاسة هل تصح الصلاة، أثابكم الله؟

    الجواب: إذا كانت النجاسة في مكان المصلي أثرت في صلاته، وحينئذٍ لا يصح أن يكون الموضع الذي يليه نجساً أو عليه نجاسة، فإذا صلى على موضع نجس بطلت صلاته.

    والأصل في ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه صلّى بنعلين، ثم خلع النعلين أثناء الصلاة، فخلع الصحابة النعال، فلما سلّم عليه الصلاة والسلام قال: ما شأنكم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، قال: أما إنه قد أتاني جبريل فأخبرني أنهما ليستا بطاهرتين) فدل على أنه لا يجوز أن يصلي على الموضع النجس والمكان النجس، والله تعالى أعلم.

    كيفية قضاء السنة الراتبة

    السؤال: إذا فاتت السنة الراتبة قبل الصلاة فهل تقضى بعد الصلاة أثابكم الله؟

    الجواب: يشرع قضاء الرواتب بعد الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى راتبة الظهر، وذلك بعد صلاة العصر وقالت له أم سلمة رضي الله عنها: (رأيتك تصلي ركعتين لم أرك تصليهما من قبل؟ قال: هما سنة الظهر، أتاني وفد عبد قيس فشغلوني عنهما آنفاً).

    وفي هذا الحديث من الفقه والفوائد شيء كثير، منها: سؤال العالم عما خالف من حاله وهيئته، خاصة فيما يختص بأمور الشرع، فإن الغالب فيها أن يكون لها سبب وموجب.

    ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك فعل الراتبة في وقتها لانشغاله بالدعوة، ومن هنا استدل به على جواز تأخير الرواتب إذا اشتغل طالب العلم بالدرس، أو بمحاضرة، وأراد أن يؤخر الراتبة، فهذا الحديث أصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الراتبة لدعوة وفد عبد قيس، فلما ترك الراتبة لوفد عبد قيس دل على تقديم العلم والنفع المتعدي على النفع القاصر؛ لأن فضل العلم والدعوة أعظم من فضل العبادة.

    الراتبة فضيلتها قاصرة، والعلم فضيلته متعدية، ولذلك تجد بعض الجهال يستعجلون في انتقاد الغير ويعتبون على طلاب العلم حينما لا يرونهم يصلون راتبة المغرب ويزدحمون للعلم، وهذا من جهلهم بالسنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم صح عنه تأخير الراتبة، فلا ينكر على طلاب العلم حيث إن لهم وجهاً من السنة.

    وسبب هذا أن فضل العلم والدعوة متعدٍ، خلافاً للرواتب والعبادة القاصرة، فأخذ من هذا أن الفضل المتعدي مقدم على الفضل القاصر، ومنه أخذت القاعدة أيضاً: أن ما يمكن تداركه، إذا ازدحم مع الذي لا يمكن تداركه، قدم الذي لا يمكن تداركه على الذي يمكن تداركه.

    ومن هنا قال بعض العلماء: إذا أراد أن يصلي راتبة الظهر وحضرت صلاة جنازة قدمت الجنازة على راتبة الظهر؛ لأن راتبة الظهر يمكن تداركها والجنازة لا يمكن تداركها، حتى قال بعض العلماء: له أن يقطع راتبه الظهر، ولكن هذا محل نظر؛ لأن الأصل يقتضي عدم إبطال النوافل؛ لأن الله يقول: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33] فهو ينوي في قرارة قلبه أنه لولا اشتغاله بالنافلة لصلى على الجنازة حتى يكتب له الأجر، لكن إذا لم يجد أحداً يصلي عليها فحينئذٍ يكون من باب ترك الأقل المستحب لما هو أوجب وآكد، وهذا إذا ضاق الوقت.

    أما بالنسبة للأصل الذي ذكرناه في مسألة الرواتب، فإنه يشرع قضاء الرواتب القبلية، وكان بعض العلماء رحمهم الله يشدد ويقول: حديث أم سلمة رضي الله عنها في قضاء البعدية وليس في قضاء القبلية، ويقول: إذا فاتت القبلية فلا يقضيها، وهذا محل نظر.

    وقال: إن السبب في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فاتته راتبة الظهر وصلى بعد العصر ركعتين، وهاتان الركعتان قد صليتا بعد الظهر فصدق عليهما أنهما بعدية، لكن إذا كانتا قبلية وفاتت، فإنها تفوت بفوات القبل، وهذا من جهة النظر والعقل، لكن هذا القول مردود بالسنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضاء راتبة الفجر، فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قضاها بعد وقتها.

    وأجيب عن هذا الجواب بأنه قضاها مرتبة، أنه عليه الصلاة والسلام فعلها بعد للفرض، لكن رد هذا بما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الأحاديث من قوله: (لا صلاة بعد الصبح إلا ركعتي الفجر) وفي أحد الأوجه في تفسير هذا الحديث أن المراد به قضاء راتبة الفجر عند من يقول بجواز قضائها بعد تسليم الإمام، ويستثنيها من النهي عن الصلاة بعد الصبح.

    وأياً ما كان فإن حديث أم سلمة رضي الله عنها لو نوزع فيه وقيل: إنه فعلها بعدية، فإنه يقال: العبرة بفوات المكان، لأن البعدية بين الظهر والعصر، وقد فعلها عليه الصلاة والسلام بعد العصر.

    ومن هنا يوجد عند العلماء شيء يسمونه الأصل، أي: تتقيد فيه بالوارد، فإذا تيسر الوارد كان لك أجر المتابعة كاملة، وإن تركت الوارد وفعلت غير الوارد وكان الأصل دالاً على غير الوارد كان لك أصل الأجر.

    مثال ذلك: النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه دعا في السجود، وقال: (اللهم يا مصرف القلوب صرّف قلبي لطاعتك، اللهم يا مثبت القلوب ثبت قلبي على طاعتك) فأنت إذا دعوت بهذا الدعاء أجرت في الأصل بالدعاء في السجود، وأجرت بالمتابعة في نوعية الدعاء.

    لكن لو أنك دعوت في سجودك بغير هذا الدعاء الوارد كان لك الأصل، فنحن نقول: الأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل الراتبة في غير وقتها، فكون هذه الراتبة جاءت في صفتها بعدية ليس هو المراد، إنما المراد هو مشروعية القضاء.

    وحينئذٍ يصلح أن يكون الحديث دليلاً على قضاء القبلية وقضاء البعدية على حد سواء، والله تعالى أعلم.

    تزاحم العبادات

    السؤال: أحياناً تزدحم على طالب العالم بعض الأمور المختلفة، كزيارة الرحم وطاعة الوالدين وما لديه من دروس، فكيف يتعامل مع هذه المهام بالطريقة المثلى أثابكم الله؟

    الجواب: هذا سؤال يحتاج إلى نظر، أولاً: من حيث الأصل يقدم الواجب على غير الواجب، فبر الوالدين فرض، وهذا الفرض مقدم على غيره من حقوق الآخرين، فإذا سألك والداك، أو احتاج الوالد منك أن تأتي عنده في القرية، أو في المزرعة أو التجارة، فعليك أن تقدم هذا الواجب، وتتقرب إلى الله عز وجل بذلك.

    إذاً: الواجبات تقدم على غير الواجبات، مثل شخص أو جماعة دعوك في سفر لعمرة أو للصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك، تقول: الدعوة مستحبة وبر الوالدين واجب، والواجب مقدم على المستحب.

    إذا ازدحمت الواجبات قُدِّم الآكد على غير الآكد، فمثلاً: إذا نظرنا إلى حق القريب نجده من حيث الأصل حق واجب على المسلم أن يصله، هذا القريب قد يكون مريضاً يحتاج أن تكون معه، أو جاءته ضائقه أو ظرف يريدك أن تكون معه، وهناك مثلاً صديق عنده ظرف ويحتاج أن تكون معه، فإذا نظرت وتأكد عليك أن هذا الصديق ليس له غيرك والقريب ليس له غيرك بعد الله عز وجل، فحينئذٍ يقدم الحق الآكد وهو حق القريب، فتقدم حق القريب ثم الأقرب فالأقرب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم أدناك أدناك) فجعل الحقوق مرتبة، والله عز وجل جعل لكل شيء قدراً.

    فالمسلم ينظر دائماً للحقوق المؤكدة، فالفضائل والمستحبات والمندوبات يقدم فيها المتعدي على القاصر، وهذه قاعدة في التفضيل، وكما ذكرنا في قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع وفد عبد قيس، فإنه يقدم الشيء الذي لا يمكن تداركه، مثلاً: لو كان عندك أثناء الإجازة أشياء لو أخرتها لم يمكن تداركها، وأشياء من المستحبات لو أخرتها عن الإجازة أمكن تحقيقها في غير الإجازة ولو بعض الشيء، فتقدم الذي لا يمكن تحقيقه بعد الإجازة مطلقاً على الشيء الذي يمكن تحقيقه بعد الإجازة بعض الشيء.

    هذه كلها أمور لها قواعد وضوابط إذا ازدحمت؛ كأن تكون كلها علوماً، وهذه العلوم لا تدري هل تذهب لهذه الحلقة أو إلى هذه الحلقة أو هذه الحلقة، فإذا كانت الحلقة في علم يحتاج إليه كأن تكثر أخطاء الناس فيه، أو كان عالمه يضبطه أكثر أو يتقنه أكثر، أو كان لا يتيسر لك في غير الإجازة، فتقدم بهذه الوجوه، وتراعي التفضيل من هذه الوجوه، وهذا ليس خاصاً بالإجازة، فهذه أصول عامة، وعند العلماء مبحث في التفضيل تكلموا عليه في كتب القواعد الفقهية في قواعد التفضيل.

    فعلى كل حال، تقدم الأشياء الواجبة على الأشياء المندوبة والمستحبة، وتقدم الواجبات المؤكدة على الواجبات غير المؤكدة، ويراعي في هذا كله النية الصالحة، أعني: أن تنوي في قرارة قلبك أنه لولا انشغالك بهذا الشيء لفعلت ذلك الشيء، حتى تؤجر بعملك ونيتك، وجمع الخير كله تقوى الله عز وجل وسؤال العلماء.

    فينبغي لكل إنسان أن يرجع إلى أهل العلم: (وما خاب من استخار ولا ندم من استشار) فالذي يسأل أهل العلم ويرجع إليهم في الأمور الشرعية لا شك أنه سيكون على بصيرة من أمره، ويوفق ويسدد.

    ومن العجيب -وليس هذا من الله ببعيد- أنك عندما تستشير أحداً من أهل العلم، فيشير عليك بمشورة، أن الله يجعل البركة فيما أشار به، إن عاجلاً أو آجلاً أو هما معاً، ومن أراد فليجرب.

    فهذه نعمة من الله سبحانه وتعالى خاصة إذا رزق من يستشيره العقل، فإذا ازدحمت عندك الأمور فإن كانت شرعية فارجع إلى أهل العلم، وإذا كانت أموراً دنيوية فارجع إلى أهل العقل والأمانة، فإنهما شرطان لابد من توفرها فيمن تستشير.

    فالذي عنده عقل أبعد منك نظراً، وأعرف منك في الحظوظ والمفاسد والمصالح، وكذلك وأما الأمانة فلأنه قد يكون عاقلاً فاهماً لكن لا أمانة عنده، وليس عنده نصيحة.

    فإذا رزقك الله عز وجل استنارة العلم والعقل، فإنك موفق، ومن هنا كان يقول بعض العلماء رحمهم الله: من الناس من رزق العلم أكثر من العقل، فعنده علم كثير لكن عقله صغير، ومنهم من رزق عقلاً أكثر من العلم، فعقله أكبر من علمه، وهذا موجود في الناس، وبعض الناس طالب علم علمه قليل، إلا أن عنده من رجاحة العقل وبعد النظر الشيء الكثير، وهذه هبة من الله عز وجل، ومن الناس من جمع الله له بين الحسنيين: العلم والعقل، فهذا خير المنازل وأفضل ما يكون.

    فإذا أراد الإنسان أن يستشير فإن كان لأمرٍ ديني فلا إشكال أنه يرجع إلى أهل العلم، وإن كان في أمر دنيوي فإنه يرجع إلى من هو أعقل:

    شاور أخاك إذا نابتك نائبة يوماً وإن كنت من أهل المشورات

    فالعين تبصر ما دنى ونأى ولا ترى ما بها إلا بمرآة

    فتستشير العاقل الحكيم الذي تأمنه على دينك وعرضك وأهلك.

    وهنا ننبه على مسألة مهمة جداً، وهي أن بعض طلاب العلم تنزل مسائل شرعية، فيأتي شخص ويقول: والله ما أدري أفعل كذا أو كذا.. والدي يأمرني! والدتي تأمرني! أو كذا، أمر يتعلق بالدين، فتجد هذا يعطيه رأياً، والآخر يعطيه رأياً.

    والمنبغي على طالب العلم ألا يفتي في المسائل الشرعية إلا إذا كان أهلاً، فالعجب أنك تسمع بعض طلاب العلم يجيبه ويعطيه قاعدة وأصلاً، يفتي ويُنظِّر ويقعد ويستدل وهو ليس بأهل لذلك، فلا يتقحم المسلم النار على بصيرة، هذه نار الله الموقدة، القول على الله بدون علم، حتى في الرأي يجب ألا تستهين بهذه الأمور، فلا تأتِ لأخيك بأمر شرعي ولو في طلب العلم، فتقول: افعل كذا واترك كذا.. يا إخوان! تحسبوه هيناً وهو عند الله عظيم.

    الأمور الشرعية تناط بأهل العلم، ويرجع فيها إلى أهل العلم الذين هم أعلم وأحكم، فنحن نقول هذا لأنه يأتينا بعض الأخيار ويقولون: قال لي بعض طلاب العلم: لا تفعل كذا..! وافعل كذا..! وبعضهم يقول: إن فعلت كذا أثمت..! فهذا لا يجوز، فإن تحليل الحرام كتحريم الحلال.

    والمنبغي الرجوع إلى من أمر الله بالرجوع إليه من أهل العلم وتقوى الله عز وجل.

    وعلى كل شخص يستشيره أخوه أو يشاوره أن ينصح له، وخاصة إذا أراد الإنسان أن ينصح فيستنصح الأخيار والأتقياء.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهيئ لنا من أمورنا رشداً، وأن يسلك بنا أفضل السبل، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755807354