إسلام ويب

شرح زاد المستقنع كتاب النفقات [3]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • النفقة على الزوجة من حقوقها على زوجها، وللنفقة أحكام وتفصيلات تتعلق بها، من حيث القدر والصفة والوقت، والنشوز والمرض، وغير ذلك مما يجب على كل متزوج أن يعرفه، وذلك حتى يعرف ما يجب عليه فيلتزم به ولا يقصر، وما لا يجب فلا يقع في الحرج بإلزام نفسه به فيكلف نفسه فوق طاقتها.

    1.   

    نفقة المطلقة ونحوها

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ونفقة المطلقة الرجعية وكسوتها وسكناها كالزوجة]

    فبعد أن بيّن المصنف رحمه الله أن الزوجة يجب على زوجها أن ينفق عليها بالمعروف، وبيّنا الأدلة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم على هذه المسألة، وبيّنا ما هو الحد المعتبر في النفقة، شرع بعد ذلك في بيان حكم المرأة المطلقة، وهي إما أن تكون مطلقة طلاقاً رجعياً، وإما أن تكون مطلقة طلاقاً بائناً، وقد تقدم معنا بيان الفرق بين الطلاق الرجعي -وهو الذي يملك الزوج فيه ارتجاع زوجته ما دامت في العدة- والطلاق غير الرجعي سواء كان بائناً بينونة كبرى كما لو طلقها ثلاثاً، أو كانت البينونة صغرى كأن يكون طلقها قبل الدخول، أو يكون قد طلقها الطلقة التي يحكم بكونها آخذة حكم الفسخ وهو طلاق الخلع.

    المطلقة الرجعية تأخذ حكم الزوجة دون القسم

    فبعد أن بيّن حكم النفقة على الزوجة أراد أن يبين حكم النفقة على المطلقة، فالمرأة إذا طلقت طلاقاً رجعياً فهي في حكم الزوجة حتى تخرج من عدتها، وقد بيّنا مذاهب العلماء رحمهم الله في ذلك، وأن الصحيح أن الرجعية تأخذ حكم الزوجة من وجوه، وذكرنا الأدلة على ذلك، ومن ذلك أنها تستحق النفقة، فبيّن المصنف رحمه الله أن المرأة المطلقة طلاقاً رجعياً يجب على زوجها أن ينفق عليها حتى تخرج من عدتها، ومثال ذلك: لو طلقها الطلقة الأولى، فإنها كالزوجة يجب عليه أن ينفق عليها في طعامها وكسوتها حتى تخرج من عدتها، فقال رحمه الله:

    [ونفقة المطلقة الرجعية وكسوتها وسكناها كالزوجة].

    وقد تقدم بيان نفقة الزوجة وسكناها والأدلة الدالة على ذلك من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ونجد العلماء رحمهم الله يقولون: الرجعية كالزوجة، قال تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ [البقرة:228] يعني: في عدتهن إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا [البقرة:228] فجعلها في حكم الزوجة، ولو لم تكن في حكم الزوجة لوجب أن يعقد عليها عقداً جديداً إذا أراد ارتجاعها.

    قال رحمه الله: [ولا قسم لها].

    لو كان عنده زوجتان طلق إحداهما طلقة واحدة، بعد الدخول بها، وهي طلقة رجعية، فقلنا: إن المطلقة الرجعية لها حق النفقة، ولها حق السكنى بالمعروف والكسوة، فيرد السؤال: هل يقسم لها؟ بمعنى: هل يبقى حقها في القسم وهو المبيت، فيبيت عندها ليلة وعند الأخرى ليلة كما كان؟

    فقال رحمه الله: (ولا قسم لها) أي: يبيت عند زوجته الأخرى فقط، وإذا كان عنده ثلاث زوجات فطلق إحداهن قسم على ليلتين، ولم يحتسب للمطلقة الرجعية ليلة؛ لأنها لا حق لها في الفراش.

    حكم النفقة على المطلقة البائنة

    قال رحمه الله: [والبائن بفسخ أو طلاق لها ذلك إن كانت حاملاً]

    (والبائن) أي: والمطلقة طلاقاً بائناً (لها ذلك) أي: لها نفقتها وكسوتها؛ لكن بشرط أن تكون حاملاً.

    فإذا طلق امرأته طلاقاً بائناً كالطلقة الثالثة فحينئذ ننظر في هذه المطلقة، فنجدها على ضربين: إما أن تكون حاملاً فلها النفقة حتى تضع حملها، وإما أن تكون حائلاً، أي: ليست بذات حمل، فلا نفقة لها، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله.

    قال تعالى: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:6] فأمر الله جل وعلا بالإنفاق على المطلقات الحوامل (حتى يضعن حملهن)، وهذه النفقة يعطيها إياها يوماً يوماً، بخلاف من قال من الفقهاء: ينتظر حتى تضع الحمل حتى نتأكد أنه حمل حقيقي.

    والصحيح أنه ينفق عليها ما دام قد استبان فيها الحمل، أو قال الأطباء: إنها حامل، فإنه ينفق عليها حتى تضع الحمل، والنفقة للجنين لا لها، وسنبين وجه ذلك ومعناه.

    ودليلنا على أن النفقة كل يوم بيومه قوله تعالى : وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:6]فجعل الإنفاق إلى حين الوضع، وهذا يدل على أنه مستصحب منذ تبين حمل المرأة حتى تضع ذلك الحمل، وبناء عليه فإنه لا ينتظر إلى وضعها وإنما ينفق عليها قبل الوضع، فإذا كانت حاملاً فإنه ينفق عليها، وهذا بالإجماع وبنص القرآن على ذلك، ولها حقها بالمعروف.

    نفقة الحامل لحملها والخلاف في ذلك

    قال رحمه الله: [والنفقة للحمل لا لها من أجله]

    فائدة هذا: أن النفقة إذا كانت للزوجة ووجد فيها مانع من موانع النفقة، قطعت النفقة عنها ولو كانت حاملاً، وإن كانت النفقة من أجل الجنين ترتبت على وجوده، وزالت بوضعه حياً أو ميتاً.

    فبعض العلماء يقول: النفقة لها لا للجنين، وبعضهم يقول: النفقة للجنين لا لها، وهو الذي اختاره المصنف رحمه الله، وهو أحد القولين في مذهب الحنابلة رحمهم الله.

    والصحيح أنها للجنين لا لها؛ لأن الله قيد الإنفاق بوجود الحمل، وحكم بزواله بزوال الحمل، فقال: حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:6] فجعل الغاية وضع الحمل.

    الفائدة: أننا لو قلنا: النفقة من أجل الحمل، فإنها إذا كانت زوجة في عصمته، ونشزت وهي حامل، بقي حقها في النفقة ولو كانت ناشزة؛ لأن النفقة للجنين.

    أما إذا كانت النفقة لها، وكانت في عصمته فإن نشزت فالناشز يسقط حقها في النفقة كما تقدم، كذلك لو سافرت وهي حامل بدون إذن الزوج، أو بإذنه على التفصيل الذي سيأتي في سقوط النفقة، فإذا سافرت سقط حقها من النفقة، لأنها سافرت سفراً يوجب سقوط حق الزوجة من حين خرجت بدون إذنه، أو خرجت لحاجتها بإذنه؛ لأنه وجد فيها مانع يمنع من وجوب النفقة عليها.

    وهكذا بالنسبة للأمة وغيرها مثلاً: شخص عقد على امرأة يظنها امرأة ليس فيها مانع، وتبين أنها أخته من الرضاعة، أو عمته من الرضاعة أو خالته من الرضاعة، وحملت من وطئه، وهو لا يدري أنها أخته، لكن بعد أن تزوجها ودخل بها وحملت تبين أن هناك مانعاً يوجب فساد النكاح، حينئذ يفسد النكاح، فإن قلنا: النفقة من أجلها هي، بطل حقها ببطلان النكاح، وإن قلنا: النفقة للحامل من أجل جنينها وجب عليه أن ينفق عليها حتى تضع الحمل، هذه من فوائد الخلاف بين العلماء في مسألة: هل النفقة من أجل الجنين أو من أجل المرأة؟

    والصحيح أن النفقة من أجل الجنين، ومن أجل الحمل.

    وينبني على هذا: العكس، فلو ظن أنها حامل كما في القديم حيث لم تكن هناك وسائل تبين الحمل بدقة، فقد يكون بها انتفاخ، فيظن أنها حامل، ثم بعد مضي المدة وقد أنفق عليها يتبين أنها ليست بحامل، فيجب عليها رد النفقة؛ لأنها شرعت بسبب وتبطل بزوال السبب، إذ ما شرع لسبب يبطل بزواله.

    1.   

    حالات سقوط حق الزوجة في النفقة

    قال رحمه الله: [ومن حبست ولو ظلماً، أو نشزت، أو تطوعت بدون إذنه بصوم أو حج، أو أحرمت بنذر حج أو صوم، أو صامت عن كفارة أو قضاء رمضان مع سعة وقته، أو سافرت لحاجتها ولو بإذنه؛ سقطت]

    بعد أن بين المصنف نفقة الزوجة سواء كانت في العصمة أو كانت مطلقة، وسواء كانت حاملاً أو غير حامل، شرع في مسألة: متى يسقط حق المرأة في النفقة عليها؟

    حكم إسقاط النفقة على المحبوسة

    قال رحمه الله : [ومن حبست ولو ظلماً]:

    أي: إذا كانت الزوجة محبوسة عن زوجها، فلم يستطع أن يطأها لأنها في السجن أو محبوسة في دار، فبعض العلماء يقول: المحبوسة إذا منعت عن زوجها سقط حقها في النفقة مطلقاً، سواء كانت محبوسة بظلم أو كانت محبوسة بحق.

    فتحبس بحق مثل ما لو وقع منها أمر وعزرت من القاضي فأمر بسجنها، فهذا سجن بحق تعزيراً من القاضي، وهذا حكم شرعي، فسجنت -مثلاً- شهراً، في هذه الحالة لا يستطيع الزوج الوصول إليها، ولا تستطيع أن تقوم بحقه؛ لأنها محبوسة عنه، وهو ممنوع منها، فهل يسقط حقها؟

    للعلماء وجهان:

    من العلماء من يقول : كل امرأة منعت عن زوجها وحبست ولو ظلماً، سقط حقها في النفقة.

    ومنهم من يقول: إن كان الحبس ظلماً لم يسقط حقها؛ لأنه سبب خارج عن إرادتها.

    مثلا: والدها أخذها ومنعها من زوجها وحبسها أن ترجع إلى بيت الزوجية، فحبست ومنعت ظلماً وهي ترغب في زوجها وتريد زوجها، أو أصلح ذات بينهما فمنعها وليها أبوها أو أخوها أو قريبها، فحال بينها وبين بيت الزوجية، لكنها هي تريد بيت الزوجية، وترغب في بيت الزوجية، ففي هذه الحالة هي محبوسة ظلماً، وفي الحالة الأولى محبوسة بحق، فسواء حبست بظلم أو بحق يقولون: سقط حقها في النفقة، وهذا هو الذي درج عليه المصنف، ولذلك أشار رحمه الله بقوله: (ومن حبست ولو ظلماً).

    وقد قلنا: إذا قال المصنف: (ولو) فهو إشارة إلى خلاف مذهبي، أي: أن هناك قولاً يقول: إذا حبست الزوجة عن زوجها ظلماً لم يسقط حقها في النفقة، قالوا: لأنها مستعدة للقيام بالحقوق ولكن حيل بينها وبين هذا لعذر، كما لو كانت حائضاً فلم يستطع زوجها أن يجامعها فهذا عذر، وكما لو مرضت ولم تستطع أن تقوم بحقوق بيت الزوجية فهذا عذر، قالوا: كذلك لو منعت ظلماً فالعذر بالظلم كالعذر القاهر، فلا يسقط حقها في هذه الحالة.

    وفي الحقيقية هذا القول له قوة، أي الذي يقول : إنها لو حبست ظلماً وعندها الرغبة الحرص على أن تأتي زوجها فلها النفقة، لكن المصنف رحمه الله اختار القول الذي يقول: إنها إذا منعت الزوجة سقطت نفقتها، وهو أيضاً قوي من وجه آخر، وهو أن الزوج له الحق بغض النظر عن كون الذي لم يقم بحقه معذوراً أو غير معذور، فالنفقة لقاء القيام بحقوق الزوجية، قال تعالى : فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [النساء:24] فجعل الحق مقابل الحق، : وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228] فإذا لم تقم بحقه لم ننظر إلى كونها معذورة أو غير معذورة، هذا ليس لنا به علاقة لأنه من باب الأسباب، أعني أن الشريعة تنظر إلى وجوب القيام بالحق، فإذا لم تقم بحق زوجها سواء كانت معذورة أو غير معذورة؛ سقط حقها في النفقة، فيبن رحمه الله أنها إذا حبست سواء كانت مظلومة أو محبوسة بحق، فإنه يسقط حقها في النفقة.

    معنى النشوز وبطلان تسوية المرأة بالرجل

    قال رحمه الله: [أو نشزت]

    الناشز في لغة العرب: المرتفع من الأرض، والنشوز تقدم أن معناه أن المرأة تتعالى على زوجها، ومن حكمة الله عز وجل أنه فضل الرجل على المرأة وهو الحكيم العليم، وجعل المرأة تبعاً للرجل، وهذا بنص كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهدي السلف الصالح، يرضى من يرضى ويسخط من يسخط، فهذا دين الله وشرعه، لا يسع إلا الرضا والتسليم، كرم الله آدم وخلق الزوجة منه، ولم يجعلها خلقاً مستقلاً، فقد خلقها من ضلع، وبين أن خلق المرأة من أجل الرجل فقال: وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف:189] فالأصل في التكريم للرجل، وأنه هو الذي يقوم على المرأة، والمرأة تبع له.

    ولذلك فقضية أن المرأة مثل الرجل سواء بسواء من كل وجه، باطلة، لأن الله يقول: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عمران:36] وبين سبحانه وتعالى أن هناك فرقاً في الخلقة والفطرة : أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18] وجعل شهادة الرجل ضعف شهادة المرأة، وجعل من الحقوق للرجال ما لم يجعله للنساء، وهذا حكم الله عز وجل، كما لو خلق الإنسان على خلقة تامة وخلق غيره على خلقة ناقصة، ما يستطيع أحد أن يعترض على حكم الله عز وجل وفطرته التي فطر الناس عليها، وما من أحد يخرج عن هذه الفطرة إلا تنكد عيشه، وتنغصت حياته، ولذلك جعل الله المرأة تحت الرجل، ما جعلها ناشزاً وما جعلها مساوية للرجل تساويه من كل وجه.

    فالنصوص من الكتاب والسنة واضحة في هذا جلية، ولا يخلط الحق بالباطل، ولا يلبّس الحق بالباطل، ومن رجع إلى نصوص الكتاب والسنة، يجد هذا واضحاً منها، ومن هدي السلف الصالح رحمهم الله من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.

    ولذلك جعل الله الأمور العامة والولايات العامة للرجال؛ لأنهم في خلقتهم وفطرة الله عز وجل التي فطرهم عليها أقدر على ذلك، وتحميل المرأة ما لا تطيق خروج عن الفطرة.

    ولذلك الذي ينادي بحقوق المرأة ينبغي أن يرجع للإسلام الذي أعطى كل ذي حق حقه، وأن يرجع إلى حكم الخالق الذي هو أعلم بخلقه، وأحكم في صنعه سبحانه وتعالى، وليس للأهواء ولا النظر، بل إن المرأة المنصفة العاقلة إذا قرأت شرع الله عز وجل في كتابه وسنة رسوله وجدت أنها لن تستطيع أن تزيد خردلة على ما أعطاها ربها، ولن يزيدها أحد مثقال خردلة عما أعطاها ربها سبحانه وتعالى.

    فالله جل وعلا جعل المرأة تحت الرجل، تسمع له وتطيع، وجعل القوامة للرجل فقال: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34] هذه فطرة الله عز وجل، فإذا أصبحت المرأة تساوي الرجل، خرجت عن الفطرة، وإذا أصبحت تسترجل على الرجل، وتريد أن تنشز وتتعالى على الرجل، خرجت عن الفطرة، وعصت الله عز وجل واعتدت حدوده، وأي مجتمع تكون فيه المرأة وراء الرجل تعينه وتشد من أزره وتسمع لأمره وتطيع، تجدها فيه في أمن وأمان وسعادة ورخاء.

    وهذه الأمة قادت العالم من المحيط إلى المحيط، وكان النساء تبعاً للرجال، ومع ذلك ما جاء النساء يطالبن بشيء أكثر مما أعطاهن الله جل جلاله، واستقامت أمور الأمة واستقام حالها واستقام أمرها، هذه فطرة الله عز وجل، ولا يستطيع أحد أن يغير شرع الله عز وجل، ولذلك فأمور الإسلام واضحة، ولا يحتاج أحد إلى أن يلبس الحق بالباطل، ولذلك تجد من يغير هذا الحكم يتلقف أموراً ضائعة من هنا وهناك لكي يلفق له مذهبه أو قوله، ويترك النصوص الواضحة الجلية المسفرة البينة.

    عائشة رضي الله عنها لما جاءت إلى علي في وقعة الجمل، قال لها: (ما الذي أخرج هذه من بيتها، أفلم تسمع لربها: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33]؟) مع أنها جاءت للصلح بينه وبين إخوانه رضي الله عنهم جميعاً، واحتج عليها بكتاب الله عز وجل وهي أم المؤمنين الفقيهة العالمة، ويقول لها النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح : (أيتكن تنبحها كلاب الحوأب) خرجت رضي الله عنها، فلما كانت في الطريق نبحت الكلاب -وهذا في صحيح مسلم- في وادٍ، فسألت عنه فقالوا : (هذا وادي الحوأب) عتبى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا كله يدل على أن المرأة لا يمكن أن تساوي الرجل من كل وجه، والنصوص في هذا واضحة.

    فالنشوز أن تخرج المرأة عن هذه الفطرة، وتريد أن تكون مثل الرجل سواء بسواء، يأمر وهي تأمر، وينهى وهي تنهى، يكون الولد -مثلاً- قد أمره والده بشيء فتأتيه وتأمره بخلافه، هذا نشوز في حق الأولاد، ونشوز في التربية، إلا إذا كان الذي تأمره به طاعة الله عز وجل والزوج يأمر بمعصية الله، فهذا أمر آخر، وإنما نحن نتكلم عن الأصول، حتى ولو أمر الرجل والزوج بشيء يغلب على ظنه أن فيه المصلحة فعلى المرأة أن تسلم، وأن تنظر أن اعتراضها عليه ربما يحدث مفسدة أكثر من المصلحة التي تريدها من ذلك الاعتراض.

    ولذلك تجد بعض النساء العاقلات الحكيمات الفاضلات؛ تسلم لزوجها في كثير من الأمور مع أن بعضها قد يكون مرجوحاً، لكن يجعل الله من البركة والخير في هذا الذي اختاره زوجها، كل ذلك بتقوى الله سبحانه وتعالى، لأنها اتقت الله عز وجل، وكم من أمور تراها ربما تكون مفضولة، كلنا شاهد هذا وكلنا عاش مع كبار السن ورأى أموراً قد يكون في ظاهرها القسوة، لكنها كانت في عواقبها كأحسن ما يكون.

    واليوم أخرجت بنت الإسلام عن هذه الفطرة وعلمت كيف تتمرد على الوالد، وكيف تتمرد على الزوج، وكيف تتمرد على مجتمعها، كان الوالد يأمرها بالزواج من الرجل الكبير الذي ربما هي لا ترضاه، ولكن تسلم لأبيها وتذعن له، فيخرج الله من صلبه من الذرية الصالحة، ويجعل الله سعادتها مع ذلك الرجل الكريم من إكرامها والإحسان إليها وتجد ما لم يخطر لها على بال، بيد أنها ربما ترد قول أبيها وتتزوج الشاب الذي يدمر حياتها وينغص عيشها، وهذا كله أمر مضت عليه الفطرة ومضت عليه الأمة. ونحن أمة واضحة نصوصها ومعانيها لا تحتاج إلى أحد أن يدخل عليها شيئاً من الدخن في دينها، فإذا استرجلت المرأة ونشزت لم تستحق النفقة، وهي إما أن تنشز في القول، أو تنشز في الفعل، تنشز في القول وذلك إذا عارضت الرجل، ورفعت صوتها عليه، وصرخت في وجهه، وتنشز بالفعل مثل أن يأمرها بشيء، فتعطيه ظهرها، أو تلوي بوجهها، أو تحدث حركات غريبة تدل على عدم محبتها، وإعراضها عن الزوج، وكل هذا من النشوز.

    وذكرنا أمثلة حينما تكلمنا على النشوز وأحكامه، منها مثلاً: إذا دعاها إلى الفراش فامتنعت، أو خرجت من البيت بدون إذنه؛ لأنه لا يجوز للمرأة أن تخرج من البيت إلا بإذن زوجها، قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (إذا استأذنت امرأة أحدكم المسجد) الله أكبر! حتى إلى الصلاة لا تخرج إلا بإذن زوجها، : (إذا استأذنت امرأة أحدكم المسجد فليأذن لها) فجعل خروجها مرتبطاً بإذن الزوج فيما هو من أمور الدين، فما بالك بأمور الدنيا.

    سقوط النفقة على الناشز

    فإذا نشزت وأصبحت تخرج بدون إذنه، فحينئذ يسقط حقها في النفقة، لأن له عليها حتى السمع والطاعة بالمعروف، كما قال تعالى : الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34] وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن المرأة إذا نشزت سقط حقها في النفقة، إلا خلافاً شاذاً لبعض العلماء فقال: لها النفقة، وهو قول الحكم ، لكن الصحيح هو ما ذهب إليه جماهير السلف والخلف رحمهم الله من أن النشوز يوجب سقوط حق المرأة.

    سقوط النفقة على الزوجة إذا تنفلت بصوم أو حج بغير رضا الزوج

    قال رحمه الله: [أو تطوعت بلا إذنه بصوم أو حج]

    يلاحظ في النفقة أنها كل يوم بيومه، فيطعمها وينفق عليها، فلو أنها خرجت في ذلك اليوم بدون إذنه كان من حقه ألا يعطيها نفقة طعامها، كذلك أيضاً لو أنها تطوعت بالصوم في ذلك اليوم.

    والصوم إما فرض وإما نافلة: فإن كان نافلة فقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز للمرأة المؤمنة بالله واليوم الآخر أن تصوم تطوعاً وزوجها شاهد إلا بإذنه، وهذا يؤكد حق الزوج، فلا تصوم تطوعاً؛ لأن حق الزوج أعظم أجراً لها من صيامها نافلة، وما تقرب عبد ولا تقربت أمة إلى الله عز وجل بشيء أحب إليه مما افترض، فالفرائض مقدمة على النوافل، فلا يجوز لها أن تصوم النافلة وزوجها حاضر شاهد إلا إذا إذن لها كما في الصحيحين، فإذا صامت بدون إذنه نافلة أو خرجت بعمرة أو حج نافلة تطوعاً بدون إذنه، سقط حقها في النفقة.

    لكن لو أذن لها، قال جمع من العلماء رحمهم الله: لم يسقط حقها في النفقة لو أذن لها بالصوم.

    والسبب في هذا: أنها إذا صامت نافلة لم يستطيع أن يجامعها ولا أن يصل إلى حقه في الفراش، وهذا تضييق على الزوج، ومن هنا يسقط حقها في النفقة، وهكذا لو سافرت في الحج أو سافرت إلى العمرة مع أخيها أو قريبها، لكن لو كان الحج واجباً أو كانت العمرة واجبة وأرادت أن تؤدي فرض الله عليها، لم يسقط حقها في قول طائفة من العلماء، وقال بعض العلماء : خروجها للواجب حق لها، لكنه يسقط النفقة عن الزوج من باب الأسباب كما قدمنا، لكن من أهل العلم من قال: إنه عذر شرعي كحيضها ونفاسها.

    سقوط النفقة على الزوجة إذا أدت نذر حج أو صامت كفارة ونحوها مع سعة الوقت

    قال رحمه الله: [أو أحرمت بنذر حج أو صوم، أو صامت عن كفارة أو قضاء رمضان مع سعة وقته]

    أي: يشترط في هذه الأشياء أن يكون الوقت واسعاً، فقضاء رمضان ممكن أن تؤخره إلى شعبان، فلو صامت القضاء قبل وقته المضيق كانت في حكم المتنفلة؛ لأنها تنفلت بالتعجيل، وقالت عائشة رضي الله عنها كما في الصحيح: (كان يكون علي الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم) ومن هنا أخذ العلماء رحمهم الله دليلاً على أن قضاء رمضان موسّع، خاصة وأن الله عز وجل يقول: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:185]، فأوجب على من أفطر لعذر عدة من أيام أخر، ولم يلزم بأيام معينة، فنقول: إذا كان عليك صوم رمضان -كما تقدم معنا في كتاب الصوم- فلك أن تصوم ولك أن تؤخر، ما لم يدخل شعبان فيبقى من شعبان على قدر أيام صومك الواجبة ما عدا يوم الشك.

    فإن كان الذي عليك عشرة أيام تعين عليك الصوم من يوم التاسع عشر، وأصبح متعيناً عليك أن تقضي من التاسع عشر؛ لاحتمال أن يكون الشهر ناقصاً.

    قوله: [أو أحرمت بنذر حج أو صوم]

    نذر الحج إذا كان مضيقاً لم يسقط حقها على التفصيل الذي ذكرناه في الحج والعمرة إذا كانا واجبين، فبعض العلماء يقول: العبادة الواجبة إذا أحرمت بها لا تسقط حقها في النفقة، كما لو أحرمت بصلاة وزوجها يريدها لجماع والصلاة فريضة، فإنها في هذه الحالة مشغولة بحق لله عز وجل، فلا يسقط حقها.

    ومن أهل العلم من قال : خروجها للحج والعمرة إنما هو متعلق بنفسها ولا دخل للزوج في ذلك، فحينئذ يسقط حقها في النفقة، وبينا أن من قال بعدم سقوط الحق قال: إنها كالحائض والنفساء، فالحيض لا يسقط الحق، مع أنه لا يجامعها، والنفساء أيضاً لا يسقط حقها مع أنه لا يستطيع أن يستمتع بها.

    وعلى كل حال بين رحمه الله أن النذر إذا كان مضيقاً كأن تقول: لله علي أن أصوم غداً، فحينئذ لا إشكال.

    أما إذا كان موسعاً بأن قالت: لله علي أن أصوم ثلاثة أيام من شعبان، وهي في أول شعبان، في هذه الحالة يمكنها أن تؤخر إلى آخر شعبان، فتصوم هذه الثلاثة أيام.

    قوله: [أو صامت عن كفارة أو قضاء رمضان مع سعة وقته]

    ذكر صيام الكفارة لأن وقته موسع، وهذا فيه خلاف، فبعض العلماء يقول: إذا كان الصيام عن كفارة يمين أو كفارة نذر، أو كان عن فدية فالأمر فيه موسع.

    ومن أهل العلم من قال: إنه يجب عليها على الفور؛ لأن الأمر يقتضي الفورية، فإذا أخلت وجب عليها أن تكفر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : (فليكفر عن يمينه وليأتِ الذي هو خير).

    قوله: [أو سافرت لحاجتها ولو بإذنه]

    بأن احتاجت إلى أن تسافر لأبيها أو لأمها أو لعلاج مرض أو لأمر طارئ يخصها، فإذا سافرت ولم تستأذن وخرجت بدون إذنه فهي ناشز، وحينئذ يسقط حقها وجهاً واحداً عند جماهير السلف والخلف؛ خلافاً لمن شذ كما بينا، وإن خرجت للسفر بإذنه فللعلماء وجهان:

    قال بعضهم: ما دام أنها قد استأذنت فحقها في النفقة ثابت،

    وقال بعضهم : إن حقها في النفقة يسقط بمجرد الخروج؛ لمكان الفوات، حيث فوتت عليه حقه، وهذا من باب ربط الأسباب بمسبباتها.

    وقوله: [سقطت]

    الضمير عائد إلى النفقة، أي: سقطت النفقة، فلا يجب عليه أن ينفق عليها هذه الأيام التي سافرت، ولا يجب عليه أن ينفق عليها الأيام التي صامتها، أو الأيام التي ذهبت فيها لحجها وعمرتها النافلة.

    سقوط النفقة على المتوفى عنها

    قال رحمه الله: [ولا نفقة ولا سكنى لمتوفى عنها]:

    أي: ولا نفقة ولا سكنى لمرأة توفي عنها زوجها؛ لأن النفقة مبنية على الزوجية، وقد زالت عصمة الزوجية بالموت من حيث الأصل، أي: زال ما بينها وبين الرجل بالموت من بعض الوجوه، ومنها حقوق النفقة، فالمقابلة في الحقوق زائلة بمجرد الوفاة وهذا وجه عند بعض العلماء.

    وضعف بعض العلماء هذا الوجه، وهناك خلاف: هل العصمة تزول بالموت أو لا؟

    قدمنا هذه المسألة وذكرناها في بعض الدروس، وحاصلها: أن من أهل العلم من يقول: العصمة تزول بالموت، ولذلك لا يجيزون للرجل أن يغسل الزوجة إذا ماتت، ولا يجوز للزوجة أن تغسل زوجها إذا مات.

    وذهب الجمهور إلى أن العصمة لا تزول بالوفاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعائشة : (أرأيت لو متِّ فغسلتك وكفنتك) وكذلك فعل السلف، فإن أبا بكر رضي الله عنه غسلته زوجه أسماء بنت عميس رضي الله عنها، وعلي رضي الله عنه غسل فاطمة ، فدل على أن العصمة لا تزول بالموت، فلو زالت لما حل له أن يغسلها؛ لأنه لا يجوز له أن ينظر إليها ولا يجوز له أن يباشرها باللمس كما هو معلوم، لكن لما كانت عصمة الزوجية باقية لم ينكر السلف رحمهم الله هذا الفعل، فدل على أن عصمة الزوجية باقية.

    لكن يرد الإشكال هنا على قول الجمهور: كيف أسقط العلماء رحمهم الله حق المرأة في السكنى بالوفاة؟ فقالوا: لأن المال ينتقل إلى الورثة، ويصبح ملكاً للورثة وليس ملكاً للميت، وبناء على ذلك فلا حق لها في هذا المال، إلا إذا كانت حاملاً، فإن كانت حاملاً فقد اختلف فيها على وجهين:

    بعض العلماء قال: لها حق النفقة، وتصبح ديناً في ماله، ومنهم من قال: إنه ينفق على هذا الحمل من نصيبه من الإرث كما سيأتي -إن شاء الله- في كتاب الفرائض؛ والله تعالى أعلم.

    أي: بالنسبة لقضية وجوب النفقة عليهم من حقه فهو أقوى، لكن بالنسبة للترجيح في هذه المسألة فبعض العلماء يرى أنه إذا توفي الرجل وانتقل المال إلى ورثته، فلا حق للمولود فيه؛ لأن المال لأجنبي وهم إخوانه أو قرابته.

    1.   

    توقيت النفقة

    قال رحمه الله: [ولها أخذ نفقة كل يوم من أوله لا قيمتها]

    قوله: (ولها) أي للزوجة والمطلقة الرجعية، ومن ذكرنا ممن لها حق النفقة كالبائنة الحامل المتوفى عنها، فلها أخذ النفقة كل يوم، أن تأخذ طعامها وكسوتها بالمعروف.

    وقت أخذ الزوجة للنفقة

    [من أوله]

    أي: من أول اليوم.

    قال بعض العلماء : النفقة في آخر اليوم، وقال بعضهم : النفقة من أول اليوم، وهو الصحيح، وهو الذي اختاره المصنف رحمه الله، فتأخذه من بداية اليوم حتى تستطيع أن تتقوت وتستطيع أن تعيش، فيعطيها النفقة من أول اليوم، وهذا القول اختاره المصنف رحمه الله وهو الصحيح؛ لأنه لو قيل: إنه لا ينفق عليها إلا في آخر يومها، حصل في ذلك من الحرج والعنت ما لا يخفى.

    حكم أخذ القيمة في النفقة

    وقوله: [لا قيمتها]

    أي: لا قيمة النفقة، يعني: لو جاء بالطعام والشراب ووضعه في البيت ومكنها منه، وأخذت قدر ما تريد من طعامها وشرابها بالمعروف هي وأولادها فلا إشكال، فلو قالت: أنا أريد المال، وأنا أشتري بنفسي، وأفعل بنفسي، فليس لها ذلك، إنما لها حق أن تطعم وتكتسي من ماله بالمعروف، فإذا أصرت على أن تأخذ النقد، فمن حقه أن يمنعها ويقول: لك طعامك وشرابك بالمعروف.

    وهكذا لو كانت النفقة شهرية، فقالت: أريد النقد نفسه، فإن من حقه أن يقول: لك حق الطعام والشراب، وهذا لك وللأولاد بالمعروف، وليس لك حق عين المال، أي: لا تستحقين عين المال، إنما فقط تستحق أن تطعم وتكسى بالمعروف.

    قال رحمه الله: [ولا عليها أخذها]

    أي: لا يجب عليها إذا أعطاها قيمة النفقة نقداً أن تأخذه، إذ الأصل الإطعام والقيام بالحقوق المعتبرة في النفقة، وأما بالنسبة للقيمة والنقد فلا يجب عليه أن يعطيها إياه إذا طالبت، ولا يجب عليها أن تأخذه إذا فرضه عليها، فإذا قال: أعطيك النقود وعليك أن تشتري ما شئت، فلا يجب عليها هذا.

    لكن إذا تراضيا فيما بينهما بالمعروف، واتفق الزوج مع الزوجة على تحقيق الأمور الزوجية، كأن يتفق الزوج مع زوجته أن يعطيها ألف ريال كل شهر، أو يعطيها ألفين أو يعطيها ثلاثة أو أربعة على حسب ما يتفقا ويتراضيا مع بعضهما بالمعروف، فهذا كله لا إشكال فيه، إنما الإشكال في الحكم الشرعي من حيث الأصل، فالذي للمرأة أن تطعم وتكتسي بالمعروف، وللزوج أن يقوم بذلك، ويشتري لها ما يعد عرفاً نفقة لمثلها كما بينا، ويقدر بمثله غنى وفقراً كما تقدم معنا، فالنفقة تتقيد بحال الزوج، ثم ما بعد ذلك ليس بواجب عليه.

    حكم الاتفاق على تأخير النفقة أو تعجيلها

    قال رحمه الله: [فإن اتفقا عليه أو على تأخيرها أو تعجيلها مدة قريبة أو طويلة جاز]

    كأن اتفقا على أن تكون النفقة في آخر الشهر، أو على أنها تأخذ النفقة كل شهرين، أو على أنها تأخذ النفقة كل أسبوع، أو على أخذ النفقة كل ثلاثة أيام، فلا جناح عليهما فيما تراضيا بينهما بالمعروف، وهذا هو الأصل في بيوت المسلمين؛ أنها تقوم على المحبة والمودة والتفاهم والرضا والقناعة، وإنما يذكر العلماء هذا إذا وقعت مشاحة وأصرت المرأة على شيء أو أصر الرجل على شيء، فحينئذ يفصل بينهما بمقاطع الحق، أن الذي تستحقه المرأة على زوجها ينفقه عليها.

    وقت لزوم الكسوة للزوجة على زوجها

    قال رحمه الله: [ولها الكسوة كل عام مرة في أوله]

    أي: للزوجة، وللمطلقة الرجعية، وللمطلقة البائنة الحامل، والمتوفى عنها زوجها حاملاً: كسوتها مرة في العام.

    والكسوة في الحقيقة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، لكنّ الأوجه أن الكسوة تختلف بالصيف والشتاء، فيكسوها كسوة الصيف ويكسوها كسوة الشتاء، والزائد على ذلك لا يجب عليه، وكون المرأة كلما حدثت مناسبة فرضت على الزوج أن يكسوها؛ كل هذا من الإسراف والبذخ والمجاوزة للحدود الشرعية.

    نصيحة للنساء في عدم الإسراف في الملابس

    ولذلك محق الله بركة الأموال، وأصبح كثير من النساء يجدن الضيق والعنت بسبب أنهن ضيقن على أنفسهن، ولربما أدخلن أزواجهن في الديون وأرهقن كاهل الزوج فيما لا طائل تحته، فالمرأة تتقي الله عز وجل، وتعلم أن حقها عند زوجها كسوة صيفها وشتائها، وأنه إذا كساها على هذا الوجه بالمعروف فقد أدى ما أوجب الله عليه.

    وأما ما وراء ذلك من شراء الملبوسات والمبالغة فيها، حتى إن المرأة كلما جدت لها مناسبة اشترت ثوباً، حتى بلغ ببعضهن أن تقسم أنها لن تلبس فستاناً مرتين، وتقول: كيف أحضر زواج فلانة بما لبسته في زواج فلانة؟!! وكم من أمور يراها الناس أدق وأقل من الخردلة في أعينهم، وهي عند الله عظيمة كأمثال الجبال.

    وإن العبد ليصنع الأمر اليسير فيوجب مقت الله له وهو لا يدري، ولذلك أخبر الله عن شؤم عاقبة هذا الأمر وهو الإنفاق بالإسراف والبذخ، وتوعد الله سبحانه وتعالى أهله بوعيد شديد، حيث قال: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام:141] فمن أعظم البلاء وأعظم الشؤم على المرأة التي لا تتقي الله عز وجل -حتى ولو كان عندها راتب ولو كان عندها مال- كلما حضرت مناسبة اشترت ذهباً وفستاناً ولباساً، وأخذت تتباهى بما تلبسه في كل مناسبة وكل سبب، ولا تلبس لباسها مرتين بل تحاول أن تجدد لباسها، وهذا كله عواقبه وخيمة، وإذا كانت امرأة صالحة وقدوة للغير فالأمر فيه أشد وأعظم.

    وينبغي على الصالحات أن يكن قدوة لغيرهن، فإذا كان غيرهن يسرف فعليهن أن يتقين الله عز وجل، وكم من أمور في المجتمعات تصلح بصلاح الصالحات حينما تتمسك الصالحة بشرع الله عز وجل، وترى أن هذا المال بدل أن تنفقه فيذهب في كسوة ربما تأتي من أعداء الله ورسوله، ويذهب المال لهم بالملايين، ترى أنها لو أنفقته وكست به عارية، أو أطعمت به جائعة، واقتحمت العقبة، ونالت مرضاة الله عز وجل بإطعام ذي المسغبة، لفازت فوزاً عظيماً.

    وكم من امرأة لم تبال بهذه الأمور والترّهات جعل الله لها من المحبة والقبول والعزة والكرامة، فلم يتق عبد ولم تتق أمة ربها إلا جعل الله لها من أمرها يسراً وجعل العاقبة لها؛ لأن الله يقول: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]، خصوصاً إذا كانت ملتزمة، وخصوصاً إذا كانت طالبة علم، فإذا كانت تشهد كل درس وكل محاضرة وكل مناسبة بلباس جديد، وتبالغ في ملبسها وتبالغ في هيئتها، فلتعلم أنها تكون قدوة للغير، وكم من امرأة تجر بلاء على غيرها من حيث لا تشعر، فقد تكون جارة لامرأة ضعيفة أو زوجها فقير، فإذا أخذت تفعل هذه الأفعال ربما دعت الزوجة أن تتنكب على زوجها، وأن تحمله ما لا يطيق، أو تفسد عليه فراشه.

    ولذلك كان على النساء المؤمنات أن يتقين الله عز وجل، وأن يخفن الله سبحانه وتعالى، خاصة في أمور الكسوة والمبالغة فيها؛ لأن كثيراً من عائداتها تذهب إلى من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ولو أن المرأة علمت أن الدرهم بل الريال الواحد قد يكفّ الله به نار جهنم عن عبده، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) فشق تمرة يحجب العبد عن نار الله عز وجل؛ فما بالك إذا كان المال الغزير!

    هذا عثمان رضي الله عنه لما صب الذهب والفضة في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلّب عليه الصلاة والسلام ماله وقال: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم) ، فما بالك بالمرأة الصالحة الدينة، التي تشح بمالها ومال زوجها أن تنفقه فيما لا طائل له ولا نفع، والله إن الناس لا ينظرون إلى الجمال، ولو نظروا إليه فإنه متاع حائل وظل زائل، ولكن إذا سمت المرأة المؤمنة بأخلاقها وآدابها وسلوكها، واستقامت على طاعة ربها، وكان بينها وبين الله سريرة صالحة نقية تقية، زكاها الله عز وجل، وأبقى في النساء محبتها وإجلالها.

    وكم من امرأة تراها النساء ويجتمعن بها وهي تملأ قلوبهن محبة وإجلالاً لم ينظرن يوماً من الأيام ماذا لبست وماذا تركت؛ لأن المحبة في القلوب، والمحبة محبة المبادئ والأخلاق والقيم، وأنت ترى الرجل ربما تراه أشلّ، وربما تراه دميم الخلقة، ولربما تراه بحالة بائسة، ومع ذلك قد تحبه أكثر من أخيك، بسبب أخلاقه وتصرفاته وأدبه واحترامه للناس وإلفه في تواضعه وما يكون من شمائله وخلاله، فليس السمو والكرامة والعلو بهذه الملبوسات، ولتسأل المرأة نفسها: كم وقفت؟ وكم أخذت؟ وكم أعطت؟ وما زادها هذا اللباس؟! وكم من كاسٍ في الدنيا عار في الآخرة كما قال صلى الله عليه وسلم: (رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة).

    فعلى المرأة أن تتقي الله عز وجل، وأن تعلم أن هذا قد جرّ على الأمة بلاء عظيماً، حينما أصبحت المرأة تتبرج من سوق إلى سوق، ومن مكان إلى مكان، بحجة أنها محتاجة إلى الكسوة، وكلما طرأت مناسبة تذهب لكي تشتري لها كسوة، وخير للمرأة أن لا ترى الرجال ولا يراها الرجال، خير للرجال أن لا يروا المرأة، وأن لا يحتكوا بالمرأة، واليوم أصبحت المرأة خرّاجة ولّاجة كل يوم، وفي كل مناسبة تجدد ملابسها وتعدّ إلى أن تتعب من المناسبات واللقاءات، وكلما جاءت مناسبة أخذت تفكر ماذا تلبس لهذه المناسبة، ولكنها لو اتقت ربها وخافت من الله سبحانه وتعالى، خاصة إذا كانت طالبة علم، وخاصة إذا كانت قدوة داعية فعليها أن تتقي الله عز وجل، وأن تترسم المنهج السوي.

    وليس المراد أن تتبذل وتذهب جمال الإسلام وجلاله، ولكن المراد العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، فتتطيب وتتزين في الحدود الشرعية، وتتجمل لأخواتها، والإسلام لا يمنع من هذا، ولكن يمنع من الغلو والإسراف المبالغ فيه، وكم من أشياء تجدها في أوقاتها جميلة جليلة، ولكن بمجرد أن تزول يذهب وقتها تزول بزواله، ولذلك يذهب عقل المرأة وراء هذه الأشياء التي لا تجني منها خيراً، ولربما تجني منها سخط الله وغضبه، فتجدها اليوم تصيح على هذا اللباس أنه أفضل الموجودات، وأنها محتاجة إليه، حتى تقنع زوجها بشرائه.

    فإذا لبست وذهبت به في المناسبة، ومضى يوم أو يومان، فإذا بها في اليوم الثالث تأتي وتقول له: هذا لا يصلح. سبحان الله! بالأمس كان أفضل اللباس، وبالأمس كان أطيب اللباس، وبالأمس كان هو الذي لا يمكن أن يستغنى عنه، لكن بمجرد أن يمضي اليوم واليومان كأنه لا شيء!!

    وهذا ليس في اللباس فحسب، بل حتى في متاع البيت، إذا جاء العيد، أو جاءت المناسبة، أقامت الدنيا وأقعدتها من أجل أشياء معينة، ومظاهر معينة، وأنفقت الألوف، وذهبت أموال المسلمين ومحقت بركتها، لكن لو أن أمة الله عز وجل اتقت الله عز وجل زال كل هذا، فأكثر هذا البلاء جاء من المرأة، ونحن لا نتهجم على المرأة ولكن نقيم الأمر في نصابه، فالمرأة هي التي تحكم زوجها وتستطيع أن تقول: لا أريد، وهذا شيء طيب!

    وكم من امرأة صالحة منعت زوجها من الإسراف في البذخ، وكم من امرأة حفظت مالها فبارك الله لها ولزوجها ولأولادها، فهذه أمور ينبغي للمرأة أن تنتبه لها، وبالأخص طالبات العلم، وبالأخص النساء الصالحات؛ لأنهن قدوة لغيرهن، فعليها أن تحمد الله عز وجل على العافية، ولذلك يقول تعالى : يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31] خاطب الله عز وجل عباده قال: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31] ما حرم الطيبات ولا منع منها وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [الأعراف:31] فجمع جميع أصول النفقة: الكسوة والأكل والشرب، ثم قال بعد ذلك : وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31] ثم انظر التأكيد بـ(إنَّ) وقوله: (لا يُحِبُّ) نفي للمحبة، والعبد يصوم نهاره ويقوم ليله، وهذا كله من أجل أنه يبحث عن محبة الله عز وجل، في صلاته وزكاته، وإذا بهذه المحبة تزول عند الإسراف، نسأل الله السلامة والعافية.

    ولذلك ينبغي على المرأة أن تحاسب نفسها في هذا الأمر، وأن تتقي الله عز وجل في نفسها، فليس لها من نفقة الكسوة إلا كسوة الصيف وكسوة الشتاء، كما هو مقرر عند أئمة الإسلام رحمهم الله.

    إلزام الزوج بما أنفقته زوجته في حال غيابه

    قال رحمه الله: [وإذا غاب ولم ينفق لزمته نفقة ما مضى]

    أي: إذا غاب الزوج ولم ينفق بأن سافر عن المرأة سفراً مفاجئاً، فأنفقت المرأة بنية الرجوع أخذ بذلك، ولزمه أن يدفع لها تلك النفقة التي أنفقتها على نفسها وعلى ولدها.

    حكم ما تنفقه الزوجة من مال الزوج بعد موته

    قال رحمه الله: [وإن أنفقت في غيبته من ماله فبان ميتاً غرمها الوارث ما أنفقته بعد موته]

    كأن أعطاها النفقة، ثم سافر عنها وتوفي في السفر، ولم يتبين أنه ميت إلا بعد شهرين، وكان قد أعطاها نفقة ثلاثة أشهر، فشهر قبل وفاته وشهران بعد الوفاة، رجع عليها الوارث بالشهرين، لأنها لا تستحق هذا، إذ قد انتهى حقها في النفقة بموته.

    1.   

    الأسئلة

    حكم استئذان الزوجة من الزوج في أداء التطوع

    السؤال: إذا أرادت الزوجة أن تكثر من الطاعات غير الصوم، ككثرة الصلاة والعكوف على قراءة القرآن، فهل يجب أن تستأذن زوجها أيضاً؟

    الجواب: لا حرج على المرأة أن تستكثر من الخير، ولكن إذا طرأ شيء في البيت أو احتاجها زوجها أو احتاجها أولادها فلتعلم أن ذلك أفضل من الطاعات النوافل، من صلاتها وذكرها؛ لأنه أمر واجب فتقوم عليه وتقوم به على وجهه.

    فعلى كل حال تطيع الله عز وجل، ولا تحتاج إلى استئذان أثناء وجودها في البيت، لكن إذا طرأت حاجة تقوم بها وتسدها بها سواء للزوج أو للأولاد، والله تعالى أعلم.

    حكم أخذ المال بدل الطعام في النفقة كما في حديث هند

    السؤال: هل يكون إذن النبي صلى الله عليه وسلم لـهند زوجة أبي سفيان رضي الله عنهما، دليلاً على إعطاء المال في النفقة بدل الطعام والشراب والكسوة؟

    الجواب: هذه المسألة في البدل وليست في الأصل، لأن هند رضي الله عنها، قالت: (إن أبا سفيان رجل شحيح مسيك، أفآخذ من ماله؟) أي: هي لا تستطيع أن تأخذ طعاماً ولا شراباً ولا كسوة، وليس لها إلا البدل وهو النفقة، فأمرها أن تضمن بالبدل؛ لأن الأصل ليس بموجود، ولذلك تقدر وتأخذ بقدره، أي: تأخذ بقدر قيمة الطعام والنفقة، وهذا لا ينقض الأصل الذي ذكرناه، ولذلك أرسل زوج فاطمة بنت قيس رضي الله عنه لها بالشعير، وهو نفقتها من الطعام، وهذا يدل على أن المعروف عند الصحابة والسلف إنما هو الإطعام والقيام بالنفقة الأصلية، فإذا تعذر وجود الأصلية أعطاها البدل، كما لو أنفقت هي وقامت على البيت وهو غائب ثم رجع، فإنها تحتسب النفقة بالنقد، أي: يعطيها نقداً.

    على كل حال: الأصل هو الإطعام والكسوة والنفقة العينية، ثم بعد ذلك يكون عوضها بالتقدير، وهو القيمة، والله تعالى أعلم.

    حكم الاقتداء من خارج المسجد مع عدم رؤية من بالداخل

    السؤال: ما هو حكم صلاة المأمومين خارج المسجد إذا كانوا لا يرون الإمام ولا المأمومين؟

    الجواب: لا يصح الاقتداء خارج المسجد إلا برؤية الإمام أو رؤية من يأتم بالإمام، وأما بالنسبة للبلاغ فمذهب جمهور العلماء أنه لا يكفي، وجمهور الأئمة على أنه لا بد من رؤية الإمام، أو من يقتدي بالإمام، ولذلك لو تعطلت الكهرباء لم يعلموا ماذا يصنعون، ولو أن الإمام كان يصلي -مثلاً- الظهر وسها ولم يجلس التشهد الأول ووقف، فإن الذين هم خارج المسجد سيجلسون؛ لأنهم لا يرون الإمام ولا يرون من يقتدي بالإمام، فلا يرون سهو الإمام، فسيجلسون، فإذا كبر للركوع ستختل صلاتهم، وهذا قد وقع، فإذا كانوا لا يرون الإمام ولا من يقتدي بالإمام، ففي هذه الحالة كيف يصلون مع انقطاع الكهرباء؟

    ولذلك اشترط العلماء والأئمة رؤية الإمام، أو من يقتدي بالإمام، ولو كان شخصاً واحداً فقط، لأن هذا الشخص يرى غيره، ولو خرج شخص واحد من الباب ورئي من ورائه صح الاقتداء؛ لأن هذا الشخص مبلغ، فبمجرد أن يحدث سهو للإمام يرى، وبمجرد ما ينتقل الإمام من ركن إلى ركن يرى، وإذا تعذر السماع أمكنت الرؤية، ولذلك كان المقرر عند الجمهور رحمهم الله أنه لا بد من رؤية الإمام أو من يقتدي بالإمام على الصحيح.

    هناك من العلماء من أجاز الاقتداء بسماع الصوت، وقاس بعض المعاصرين عليه الأجهزة، واستدلوا لهم بحديث أسماء في الحجرات، حينما ائتم أقوام بصلاته عليه الصلاة والسلام، وكذلك في قبته في الاعتكاف، وهذا لا يخلو من نظر؛ لأنه قد يكون باب القبة مفتوحاً ويرون النبي صلى الله عليه وسلم أمامهم.

    أما اقتداء أسماء فكان في الحجرة وهي تسمع الصوت، وحجرات النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن بذلك البناء والشموخ، فهي تراه في بعض الأركان دون بعضها، فلا يصح الاستدلال به من كل وجه.

    ثم أيضاً أسماء تسمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم، وتسمع تكبيراته عليه الصلاة والسلام.

    ومن يعرف المسجد النبوي يعرف أن حجراته بجوار روضته عليه الصلاة والسلام، ما بين حجرة عائشة التي كانت تجلس فيها أسماء وبين الروضة إلا الجدار، وهذا شيء بسيط جداً بجواره، ولذلك كانت عائشة رضي الله عنها تسمع خطبه، وميمونة رضي الله عنها كانت تقول: (ما حفظت سورة ق إلا من فم النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة ما يرددها في الجمعة) وحجرة ميمونة كانت في آخر الحجرات فإذا كانت في آخر الحجرات تسمع الخطبة فما بالك بالتي في أول الحجرات.

    وهذا أمر مهم وهو أن النصوص لا بد من ضبطها ولا بد أن يكون طالب العلم عند الاستدلال بها يعرف الحال الذي كان عليه عليه الصلاة والسلام، حتى يستقيم الاستدلال بها على هذا الوجه.

    وبناء على ذلك: فالذي نراه أحوط للصلاة والعبادة ولشرع الله عز وجل، أن المأموم رجلاً كان أو امرأة لا بد أن يرى الإمام أو من يقتدي بالإمام، ولو شخصاً واحداً، حتى يحصل به البلاغ، ويكون الاقتداء على وجهه، لأنه يبني صلاته على صلاة الإمام، لقوله عليه الصلاة والسلام : (إنما جعل الإمام ليؤتم به) فكيف يتابعه إذا كان لا يراه، وإنما يسمعه بواسطة، وأسماء رضي الله عنها كانت تسمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يخشى انقطاع تيار كهربائي، ولا يخشى وجود فاصل ولا حائل، ولكن الآن في زماننا بوجود هذه الأجهزة لا يؤمن انقطاعها، ولا يؤمن أيضاً اختلال صلاة المأمومين فيها، والله تعالى أعلم.

    حكم زكاة الدين

    السؤال: يقول السائل: لي مبالغ مالية عند بعض الناس استدانوها مني وفيهم الموسر وفيهم المعسر، وفيهم من لا أعلم حاله، فما حكم زكاة بهذه الأموال؟

    الجواب: إذا كان لك دين على أحد، فإن كان غنياً ويمكنه السداد، أو كان عنده قدرة أن يسددك وجبت عليك الزكاة؛ لأنك إذا طالبته كأن المال في يدك، وفي بعض الأحيان يكون هذا الغني صديقاً لك، أو يكون أخاً لك، فتستحي أن تقول: أعطني المال، لكن في الحقيقة ما دام أن الأجل حل، وهو قادر أن يسدده، فكأن المال في يده إذا كان غنياً قادراً على السداد، فتجب زكاته، وأما إذا استدان منك فقير، أو استدان منك شخص، ولما جاء وقت السداد قال: أنا عاجز ولا أستطيع أن أسددك، فإنه لا زكاة عليك؛ لأن المال غير موجود.

    ومن هنا تنتظر حتى يسددك وتزكي لسنة واحدة، فلو مكث خمس سنوات أو عشر سنوات، وأعطاك المال بعد عشر سنوات، فلا تزكي إلا لسنة واحدة، والله تعالى أعلم.

    حكم إدخال العقيقة تحت الأضحية في النية

    السؤال: هل يصح إدراج العقيقة تحت الأضحية؟

    الجواب: لا يصح إدراج العقيقة تحت الأضحية؛ لأن الأصل عند العلماء في مسائل الإدراج أن يتحقق مقصود الشرع، فالعقيقة مقصود الشرع أن تكون في يوم السابع للولد والولد مرهون بها، قال صلى الله عليه وسلم في حديث الحسن عن سمرة : (كل غلام مرهون بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه) فهذا حق واجب مقصود لسبب.

    وأما الأضحية فإنه على القول بوجوبها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : (من ذبح قبل الصلاة فليذبح أخرى مكانها) تكون مقصودة، ولا يجزئ أن يعق بنية الأضحية، ولا أن يضحي بنية العقيقة، لا يجزئ أحد الأمرين عن الآخر، فواجب عليه أن يذبح لكل منهما ذبيحته المعتبرة، والله تعالى أعلم.

    حكم المماطلة في أداء الحقوق للناس

    السؤال: من استدان مالاً وماطل في السداد، وتساهل، هل يعتبر غاصباً وآكلاً للمال بغير حق؟

    الجواب: منع الناس حقوقهم والتساهل في رد الحقوق إلى أصحابها كبيرة من كبائر الذنوب، عواقبها وخيمة، ونهايتها موجعة أليمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف هذه الحالة بأنها ظلم، والمظلوم إذا دعا على من ظلمه فإن دعوته مستجابة ولو بعد حين، وقد حرم الله الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرماً، قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح : (مطل الغني ظلم يبيح لومه وعرضه).

    حتى لو أنه أخر راتبه أو منعه إياه مدة خمسة أشهر أو ستة أشهر فهذا ظلم، ويحاسب بين يدي الله ويسأل بين يدي الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم : (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (يقول الله تبارك وتعالى: ثلاثة أنا خصمهم ومن أكن خصمه فقد خصمته، رجل أستأجر أجيراً فلم يوفه حقه) قال العلماء: ممكن أن يعطيه راتبه ولكن بعد شهر، فلم يوفه؛ لأنه قال: (لم يوفه) وهذا يدل على أنه ينبغي الوفاء؛ فإذا قال: أعطيك في نهاية الشهر، فإنه يعطيه في نهاية الشهر.

    كذلك أيضاً إذا استدان وقال : أعطيك في نهاية الشهر، أو أعطيك بعد سنة، فإنه يجب عليه أن يفي إذا كان قادراً، أما إذا كان عاجزاً فإن الله تعالى يقول: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280] والتأخير والتوسعة على المديون من أحب الأعمال إلى الله عز وجل، وبها تفرج الكربات، وبها تكون النفحات والرحمات من الله عز وجل، فالشخص إذا أعطيته ديناً، ووجدت أموره معسرة، وأنه محتاج إلى هذا المال، وأنه يحتاج أن تأخره وأن تنظره، فهذا مكياله أوفى عند الله عز وجل، بل قال بعض العلماء: الصدقة على المستدين أعظم من الصدقة على المحتاج.

    فعندما ترى إنساناً مديوناً مكروباً في دينك، قد ضاقت عليه الأرض، وتأتيه في ظلمة الليل أو ضياء النهار وتقول: يا فلان مالي ومالك كالشيء الواحد، قد عفوت عنك، فهذا من أعظم الأعمال الصالحة عند الله عز وجل.

    كان رجل يدين الناس ويقول لغلمانه: إذا وجدتم معسراً فتجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عني، فلقي الله عز وجل، يقول صلى الله عليه وسلم : (فقال الله : يا ملائكتي نحن أحق أن نتجاوز عن عبدنا، قد غفرت لعبدي) فغفر الله له وتجاوز عنه لما تجاوز عن عباده وخلقه؛ لأن الله رحيم ويحب من عباده الرحماء، ويرحم من عباده الرحماء.

    والمشكلة اليوم دخول شياطين الإنس والجن، تأتي إلى شخص لك عليه دين، ويتأخر في السداد، فتجدهم يأتون ويقولون: لماذا لا تأخذ حقك؟ هذا يتلاعب بحقك، هذا كذا هذا كذا.. نزعت الرحمة من المسلمين إلا من رحم الله، لكن لو أنزل الإنسان نفسه منزلة هذا المديون ونظر في حاله وقدر ظروفه وقال : قد سامحتك، قد أسقطت عنك نصف الدين، قد أسقطت عنك بعض الدين؛ يرجو رحمة الله عز وجل، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا،ً : إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف:30] فهذا من الإحسان، والنفوس مجبولة على محبة الأموال.

    فالتوسعة على المديونين وعدم التضييق عليهم أمر مطلوب.

    أما أن يكون قادراً على السداد ويمنعك حقك ويماطل، فبعضهم يقول: إنها شطارة في التجارة، وبعضهم يقول: إنها شطارة في الأموال أن يتأخر عن حقوقك، وأن يماطلك في حقوقك حتى يستفيد من المال، ولا يريد أن يدفع المال مباشرة!

    فهذا من الظلم، ولو دعا صاحب المال على هذا الشخص فإنها تستجاب دعوته؛ لأن الله يقول: (وعزتي وجلالي لأنصرك ولو بعد حين) ودعوة المظلوم على الظالم مستجابة، ولذلك نجد بعض الناس الذين أعطاهم الله الأموال ويؤخرون الناس في السداد، تكون أمورهم منكدة منغصة، لا يأتون إلى باب إلا أقفله الله في وجوههم، ولا يسلكون طريقاً إلا عسر الله عليهم؛ لأن الله مكنهم من الخير فضيقوا على العباد مع قدرتهم أن يوسعوا على العباد.

    وتجد الشخص الآخر إذا استدان من الناس يوفي لهم ويعطيهم، حتى إنه في بعض الأحيان يذهب ويتسلف من أجل أن يفي بوعده، وهذا ما عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح : (رحم الله امرأً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى) والسمح إذا قضى: كما إذا قلت لك: أسددك في نهاية الشهر، فوجدت المال قبل نهاية الشهر، فآتي لأسددك وأقول لك: جزاك الله كل خير. ولا أنتظر إلى نهاية الشهر، مع أن الذي بيني وبينك نهاية الشهر، فآتي وأقدر أن بيني وبينك التزاماً، لكني مع ذلك أقدم السداد، هذه من السماحة.

    ومن السماحة أنه إذا استدان -مثلاً- ألفاً يزيد ويعطي عليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم أحسنكم قضاءً) فينبغي على المستدين أن يقدر المعروف، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان، فلا يماطل ولا يؤخر، وإذا ماطل وأخر وظن أن ذلك يكثر ماله، فإن الله ينقص ماله، ويذهب البركة من ذلك المال، ومن أراد أن يجرب ذلك فليفعل.

    فتأخير حقوق الناس مضرته عظيمة، يمنع خشوع الصلاة ويمنع رقة القلب، ويمنع بركة الرزق، ويوجب على الإنسان ويجلب عليه العواقب الوخيمة، وربما يكون المال الذي جمعه وأخره يريده لشيء فيمحق الله بركة ذلك الشيء، ولذلك ينبغي إنصاف الناس، وقد قال الله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1] والعقود : الالتزامات التي بين المسلمين، قال عمر رضي الله عنه: (مقاطع الحقوق عند الشروط) فإذا اشترط عليك الوفاء في نهاية الشهر فعليك أن توفّي له، خاصة الخدم والضعفاء والغرباء، فهؤلاء أمرهم أعظم، فإذا كان الإنسان يستغل ضعف صاحب الدين، أو ضعف الخادم، فيؤخر حقوقه، إذا قال له : في نهاية الشهر أعطيك المال، فإن نفسه مرهونة بالدين، هذا الراتب أو هذا الحق الذي للأجير أو الدائن إذا جاء الأجل ولم توفه، فإنه يصير ديناً عليك، وحتى ولو كان راتباً، فيصبح هذا الضعيف أو هذا الخادم أو هذه الخادمة أو هذا الأجير دائناً لك.

    والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : (نفس المؤمنة مرهونة بدينه) ولذلك تجد طالب علم بمجرد ما يدخل في الديون تتنكد حياته، وإذا كان أعبد الناس بمجرد ما يدخل في الديون يتنغص عيشه، الدين هم الليل ذل النهار، فيحرص الإنسان على أن لا يدخل في الدين، خاصة إذا كان قادراً، وخاصة إذا جاءه الأجير وقال: عندي ظروف فأريد راتبي وأريد حقي.

    والأعظم أن يجمع بين السيئتين، تأخير الحقوق، وإذا طلب منه أن يقضيها أقام الدنيا وأقعدها وظن أن هذا من سوء الأدب، ويقول: كيف يقول: أعطني مالي؟! وكيف يقول: أعطني حقي؟! فإن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم لما جذبه اليهودي بردائه حتى أثر في عنقه، وقال: (أعطني يا محمد فإني ما عهدتكم آل هاشم إلا مطلاً) أراد عمر أن يبطش به، فقال عليه الصلاة والسلام : (دعه، فإن لصاحب الحق مقالة) فكانت سبباً في إسلام اليهودي، فهذه أمور ينبغي للمسلم أن يلتزم بها: وفاء الناس، وأداء حقوقهم وسدادها.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسلمنا وأن يسلم منا، وأن يخلصنا من حقوق عباده، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

    نصائح في الإخلاص للدعاة

    السؤال: ترد على الداعية والمتقلد للإمامة والخطابة وغيرها من أمور الدعوة بعض الموارد من الرياء والعجب، فكيف يدفع هذه الأمور ويحصل الإخلاص في عمله؟

    الجواب: إن الله يبارك للداعية وللخطيب وللإمام ولكل متكلم بشرائع الإسلام متى ما أراد وجه الله جل جلاله، وابتغى ما عند الله، وتوجه بكليته إلى الله، ومن كان لله كان الله له، ومن عامل الله فتجارته رابحة، وأموره مستقيمة، وأحواله صالحة، ومن هذا الذي كان مع الله، فخذله ربه؟ ومن هذا الذي استقام لله، فضيعه ربه؟ وقد قال الله: إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ [المائدة:12].

    فالعبد إذا أقام لله أمره، وأخلص لله قلبا وقالباً، وأراد ما عند الله، وابتغى الدار الآخرة، وسعى لها سعيها وهو مؤمن، كان سعيه مشكورا،ً وإذا شكر الله السعي باركه، ووضع الخير فيه، فقليله كثير، ويسيره عظيم، وكم من عمل عظمته النية، فمن وطن نفسه على إرادة وجه الله جل جلاله، وابتغاء ما عند الله، فإنه سعيد بحق، سعيد في الدنيا وسعيد في الآخرة، ففي الدنيا جنة للمخلصين الذين يريدون وجه الله رب العالمين، لا يمكن لأحد أن يحقق شرطها وأصلها إلا نال سعادتها وخيرها وبرها.

    وإذا دخل هذه الجنة في الدنيا أدخله الله جنة الآخرة، يعيش فقيراً مرقع الثوب بالي الحال، ولكنه بالإخلاص عزيز كريم غني بالله سبحانه وتعالى، هذا هو الأساس الذي ينبغي أن يبني عليه العبد أموره كلها فضلا عن طالب العلم، فضلاً عن الداعية، فضلا عن غيره.

    وماذا يريد الإنسان بالناس، هل أحْيَوا ميتاً؟ هل شفوا مريضاً؟ هل أطعموا بدون إذن الله جائعاً أو كسوا عارياً؟ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [الأعراف:196] فالذي يكون لله، فالله هو الولي وحده، والذي يكون لغير الله فلن يجد من دون الله ولياً ولن يجد له من دون الله نصيراً، طاب عيش المخلصين بإرادة وجه رب العالمين.

    فماذا يريد الإنسان من الرياء؟ وَهَبْ أن أهل الأرض كلهم رضوا عنك ولم يرضَ عنك الله جل جلاله -لا قدر الله- فماذا يقدمون مما أخر الله منك؟ وماذا يؤخرون مما قدم الله لك؟

    العبد الصالح يتوجه إلى الله جل جلاله؛ لأنه يعلم أنه لا صلاح إلا بإرادة وجه الله، ولا يمكن لشيء في هذا العلم وهذا الدين أن يُنْظَر لصاحبه في جزائه وحسن عاقبته، إلا بعد أن ينظر في قلبه، وإرادة ربه.

    وينتبه الإنسان إلى من يعامل، فإنه يعامل ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، ويعامل من بيده خزائن السماوات والأرض، الذي بيده الخزائن التي لا تنفد، الرب الكريم الحليم العظيم جل جلاله وتقدست أسماؤه، ومن أراد أن يعرف المعاملة مع الله، فليعرف من هو الله، فيتعرف على الله بأسمائه وصفاته؛ لكي يرى عظيم الكرم والجود والإحسان والمنن والفضل والرعاية والعناية والكفاية، وكل ما تريد من خير الدين والدنيا والآخرة: قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ [المؤمنون:88] من الذي بيده ملكوت كل شيء؟ سبحانه لا إله إلا هو، فما الذي يريد الإنسان من الناس؟ هب أن الناس كلهم مجدوك، وهب أن الناس كلهم مدحوك، وهب أن الناس كلهم رفعوك، وهب أن الناس كلهم رفعوا وأخذوا وأعطوا، فماذا يغنون عنك من الله سبحانه وتعالى؟

    تأمل كم من كلمات قلتها وأنت تريد رؤية الناظرين، وسماع المستمعين، فماذا أغنوا عنك من رب العالمين؟ لمّا مرضت التفت يميناً وشمالاً فما وجدت إلا الله جل جلاله، الذي أحاطك برحمته وبلطفه وبمنه وكرمه في ظلمة الليل، ولو كان الإنسان أعز من في الأرض غنى وقوة ويساراً، فربما يأتيه المرض في ظلمة الليل، فلا يسمع صوته إلا الله وحده لا شريك له.

    فليعامل الإنسان الله سبحانه وتعالى ويذهب عنه الرياء، ويبعد عنه السمعة، فإذا قام خطيباً فليعلم أن مفاتيح قلوب الناس لا يمكن أن يعطيها الله إلا للمخلصين، وأن التأثير في قلوب العباد لا يمكن أن يكون بحلاوة الكلام، ولا بتنميق العبارات، ولا بتحسين الجمل، ولا بتكلف في الشكل ولا في الملبس، ولا بالهيئة، ولكنها أسرار بين العبد وبين الله المطلع على الضمائر، المطلع على السرائر، الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

    تستحي من الله حينما يرفعك على رءوس الناس لكي تخطب أو تعظ أو تحاضر، تستحي من الله أن ينظر في قلبك أن فيه غير الله جل جلاله، فمن الذي بوأك هذا المبوأ؟ ومن الذي أعطاك هذه النعمة؟ ومن الذي أحسن عليك بهذا الإحسان فصرت تتقدم تصلي بالناس؟ فتتذكر أن الله قدمك عليهم، وأن الله فضلك عليهم، وأن الله جعلهم يسمعون لقولك، وأن الله جعلهم يركعون بركوعك، ويسجدون بسجودك، فتستحي من الله جل جلاله.

    أخطر شيء في هذا الوجود الإخلاص، والمسألة العظيمة التي من أجلها قامت السماوات والأرض هي الإخلاص، حتى إن أهل الخير لا يمكن أن يتنافسوا أو ينالوا خيراً إلا بقضية الإخلاص، هي المحك الخطير في الدين والدنيا والآخرة، فلا تتكلم ولا تعمل ولا تقدم ولا تؤخر إلا وأنت تريد ما عند الله سبحانه وتعالى، وإذا كنت لله كان الله لك، ولا يخذل الله عبداً أخلص لوجهه وابتغى ما عنده، واعلم أن مدح الناس وثناء الناس وتعظيم الناس لا يغني عنك من الله شيئاً، ولا يغني عن الحقائق.

    وقف رجل على الحسن البصري رحمه الله، وقال له: (عجز الزمان أن يأتي بمثلك، فقال: ويحك، ويحك ماذا تقول؟ أو علمت ماذا أفعل حينما أغلق باب داري؟) يعني: تزكيني أني صالح وأنت لا تعرف سري وغيبي، هذا لا يعلمه إلا الله جل جلاله، فلا يعامل العبد إلا ربه، ولا يبتغي إلا ما عند الله سبحانه وتعالى، فإن مدح الناس وثناء الناس لا يغير في الحقائق.

    والعبد المخلص أكره ما عنده مدح الناس، فليكن أكره ما عندك أن يأتي واحد ويقول لك: والله خطبتك نافعة، خطبتك مؤثرة، خف من هذا، فإن هذا لا يغني عنك من الله شيئاً، وأشفق على نفسك وقل له : يا أخي اتق الله، إذا كنت وعظتك وذكرتك بالله، فلا تقع بيني وبين آخرتي، ولا تأتِ تمدحني وتقطع لي عنقي: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ [النجم:32] وحده لا إله غيره، ولا رب سواه هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32] بل يعرف العبد مقدار نفسه، ويشفق طلاب العلم على بعضهم.

    تزكية العلماء والخطباء والأئمة ومدحهم وتمجيدهم وتضخيم أمورهم لا تغني عن العبد من الله شيئاً، ولنشفق على أهل الخير وأهل الصلاح فلا نقطع رقابهم، وليستح العبد من ربه، أن يأتي ينمق الخطب وينمق المحاضرات والدروس والمواعظ وهو يريد مدح الناس وثناءهم، فعليه أن يستحي من الله جل جلاله، إذا كان يريد الدنيا فسوق الدنيا واضحة، وإذا كان يريد الآخرة فليجعل نصب عينيه الموت ولقاء الله سبحانه وتعالى، وليجعل بين عينيه قوله تعالى : هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ [المائدة:119] هذا اليوم يوم لقاء الله سبحانه وتعالى. والله ما استشعر عبد موقفه بين يدي الله إلا هانت عليه الدنيا وما فيها وأراد ما عند الله، وبالأخص الدعاة والهداة للناس، فتحضر الخطبة ولربما تقوم فتأتي تسأل الرجل بعد أن يخرج من المسجد: عن أي شيء كانت الخطبة؟ وإذا به لا يدري عن ماذا كانت، نسأل الله السلامة العافية.

    وقد يكون هذا بسبب من الخطيب، وقد يكون بسبب من الناس، وقد يكون بسبب منهما، فإن الشهوات والمنكرات والمعاصي إذا كثرت عم بلاؤها: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25] وقد يأتي الرجل كأخشع ما يكون ويحال بينه وبين التأثير بسبب ذنوب الناس.

    لكن ليس هناك شيء يؤثر مثل نية الخطيب ونية طالب العلم، ونية الإمام ونية الواعظ؛ فلا تغتر بالناس، وليكن أكره ما عندك أن يمدحك أحد، وربما مدحك عن حسن نية فتأتي بالتي هي أحسن وتقول له: يا أخي! والله إني مشفق على نفسي، إني كثير الذنوب وعندي خطايا، فخف الله جل جلاله فيّ، ولا تمدحني ولا تمجدني.

    ثم إن هذا المدح شهادة، فأي شخص تقول عنه: فلان أعلم الموجودين، فلان أفقه الموجودين، فلان أحسن الدعاة، فلان أحسن الخطباء، فلان أحسن القراء، تقف بين يدي الله عز وجل وتسأل: سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ [الزخرف:19] يخطها ملائكة حافظون لا يغشون ولا يزيدون ولا ينقصون لتراها أمام عينيك، ويقول لك ربك: هذا الذي قلته لم قلته؟ من الذي نصبنا حكاماً على الناس نزكي من نزكي، فعلى العبد أن يتقي الله في نفسه ويخاف من الله سبحانه وتعالى.

    وعلى أهل الخير والدعوة والصلاح والبر أن يعاملوا الله سبحانه وتعالى، وأن يعلموا أن تجارة الله لا تبور، وأن العبد إذا كان لله حفظه الله في نفسه، وحفظه الله في أهله وولده، وحفظه الله في طلابه، وحفظه الله في من يصلي معه، حتى إن بعض الأئمة إذا كان على صلاح وخير ترتاح للصلاة وراءه، وتجد من البركة التي يضعها الله في قراءته، ومن البركة التي يضعها الله في خطبه، ومن البركة التي يضعها الله عز وجل في مواعظه، وكل هذا بفضل الله، ثم بالسر الذي بين العبد وبين ربه.

    وينبغي إذا كان يوم الجمعة وجئت تخطب أن تشفق على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فلا تحرم الأمة خير كلماتك ومواعظك بسبب الرياء، أو بسبب محبة المدح والثناء، ولنكف عن تمجيد الناس، ولنكف عن الغلو، ولنتقِ الله في أنفسنا، وليدعُ بعضنا لبعض، ونطّرح بين يدي الله عز وجل، ونسأل الله لنا التوفيق والسداد، والرعاية والعناية.

    فإذا وجدت داعية أو خطيباً أو عالماً أو فقيها أو غيره ممن يشتغل بالدعوة، قلت: اللهم وفقه، اللهم سدده، اللهم خذ بيده لما يرضيك عنه، اللهم اجزه عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الجزاء، فتدعو له بالخير، وهكذا كان السلف وهكذا كان الأئمة.

    وتشفق عليه أيضاً، وتسأل له المعونة وتقول : اللهم وطنه للإخلاص، اللهم ثبته على الحق، فهذا هو الذي تواصى به الصالحون وتواصى به الأئمة واهتدى به المهتدون: إرادة وجه الله جل جلاله، ولذلك قال تعالى : أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:3].

    فمن استحى من الله وخاف من الله سيقف بين يدي الله على أحسن وأتم ما يكون موقف العبد بين يدي ربه، ويقول الله جلال جلاله له: ماذا أردت بهذا يا عبدي؟ تكلمت ونصحت ووعظت، فهل أردت وجهي أو أردت غيره؟

    فالعبد إذا استشعر أنه سيقف بين يدي الله وسيسأله عن كل كلمة وعن كل جملة وعن كل حرف، خاصة في هذا العلم والدين، فإنه يشفق على نفسه.

    لكن نسأل الله بعزته وجلاله أن يرحم ضعفنا، وأن يجبر كسرنا وأن يتولانا بما تولى به عباده الصالحين، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، وأن يلهمنا الإخلاص، وأن يجعل ما نتعلم ونعلم، وأن يجعل خطبنا ومواعظنا وتذكيرنا للناس مما يراد به وجهه وحده لا شريك له، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    وَآخِرُ دعوانا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755914864