إسلام ويب

شرح زاد المستقنع كتاب النفقات [1]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من الحقوق المترتبة على عقد الزوجية: إنفاق الزوج على زوجته، وهذه النفقة من النفقات الواجبة التي يراعى فيها ما تحتاجه المرأة من طعام وشراب ولباس وسكن، بحسب العرف السائد دون إفراط ولا تفريط، وكل هذا يكون راجعاً إلى قدرة الزوج واستطاعته.

    1.   

    وجوب النفقة وقدرها

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

    الأدلة على وجوب نفقة الزوج على زوجته

    فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن للزوجة على زوجها أن ينفق عليها، وأن يرزقها ويكسوها بالمعروف.

    وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيح أن هند جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجلٌ شحيح مسيك، أفآخذ من ماله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) ، فقوله: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) فيه فوائد:

    منها: وجوب النفقة على الزوج، ولذلك استحقت المرأة أن تأخذ من ماله قدر ما يجب عليه أن ينفق.

    ومنها: أنه استدل به بعض العلماء على أن العبرة في النفقة بالزوجة لا بالزوج؛ لأنه قال: (ما يكفيك وولدك)، فجعل الأمر راجعاً إلى الزوجة.

    وصورة المسألة: لو كانت الزوجة غنية والزوج فقيراً، فهل ينفق عليها نفقة الفقير، أو نفقة الغني؟

    إذا قلنا: العبرة بالزوجة فإنه ينفق نفقة الغني، وإن قلنا: العبرة بالزوج فإنه ينفق نفقة الفقير، وستأتي هذه المسألة إن شاء الله تعالى، وأن الصحيح أن الزوج ينفق نفقته هو، إن كان غنياً أنفق نفقة الغنى، وإن كان فقيراً أنفق نفقة الفقر؛ لكن هذا الحديث استدل به من يقول: إذا أمرنا الزوج أن ينفق فالواجب عليه أن ينفق على حسب حال زوجته، لا على حسب حاله هو؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فجعل الأمر راجعاً إلى كفايتها هي، وأن العبرة بها لا بالزوج.

    مسألة الظفر

    كذلك استدل به بعض العلماء على مسألةٍ لطيفة وهي: مسألة الظفر، ومسألة الظفر: أن يظلم شخصٌ شخصاً في حق، كأن يعمل عنده ولا يعطيه راتبه، أو ظلمه فاغتصب منه مائة ألف أو عشرة آلاف ريال، وشاء الله عز وجل أن هذا المظلوم ظفر بمالٍ للرجل الذي ظلمه، فهل له الحق أن يأخذه خفية دون علم الرجل؟ وهل له الحق أن يتسلط على ماله بحكم المظلمة؛ لأن هند رضي الله عنها تسلطت على مال أبي سفيان رضي الله عنه باستحقاق؟

    فأخذ منه بعض العلماء أنه إذا ثبت له استحقاق، جاز له أن يأخذ من المال بقدر ما ظُلِم به.

    والصحيح أنه لا يجوز له ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)، فلو أن عاملاً ظفر براتبه من مال من يعمل عنده فقد خان الأمانة؛ لأنه مؤتمن على رعاية هذا المال.

    وأما حديث هند هذا فلا يدل على مسألة الظفر بالعموم، بل نقول: الأصل أن تحفظ الأمانة، وجاء حديث هند في مسألة الأزواج والزوجات؛ لأن الزوجة إذا افتقرت ربما تعرضت للحرام، ولأن الزوجة إذا أخذت لا يتهمها زوجها، وتستطيع أن تقول له: نعم، قد ظلمتني في كذا وكذا، ولكن الرجل إذا كان أجنبياً عن مال الرجل فإنه يُتّهم، ويترتب على ذلك من الضرر ما لا يخفى.

    فالذي يظهر -والله أعلم- أن حديث هند لا علاقة له بالمسألة من كل وجه، وهم جعلوه من باب القياس، فقالوا: يقاس على الزوجة، وفي الحقيقة أن تخصيص الزوجة أقوى وأولى؛ ولذلك لا يقوى القول بالعموم.

    الشاهد: أن هذا الحديث يدل على أنه يجب على الزوج أن ينفق على زوجته، وقال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول)، والذي يعول إنما هم الأقربون من زوجته وأولاده، وهم أقرب الناس إليه ممن يتولى رعايتهم، فقوله: (كفى بالمرء إثماً) يدل على أن الأصل أن يقوم عليهم، وأن الأصل والواجب عليه أن يقوم برعايتهم وسد حاجتهم وخلتهم في أمورهم وشئونهم.

    بناءً على هذا نقول: دلّ دليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على أن النفقة واجبة، وفي هذا عدلٌ من الله سبحانه وتعالى بين الأزواج والزوجات، فالرجل أعطاه الله حقوقاً والمرأة أعطاها حقوقاً، فكما أن المرأة مطالبة بأن تؤدي حق الرجل في فراشه وعفته والقيام على بيته وولده وإحسان التبعل له؛ كذلك الزوج مطالب بحقوق واجبةٍ عليه، فعدل ربنا سبحانه وتعالى بين الاثنين، يقص الحق وهو خير الفاصلين، ويحكم بالعدل وهو خير الحاكمين، سبحانه وهو رب العالمين.

    يلزم الزوج نفقة زوجته قوتاً

    قال رحمه الله: [يلزم الزوج نفقة زوجته قوتاً].

    وإذا كان يلزمه أن ينفق على زوجته وأنه واجبٌ عليه، فيترتب على هذا أنه إذا لم ينفق طولب بالنفقة؛ لأنها واجبة، ومن قصر في الواجب فعليه أن يؤدي ما فرض الله عليه، ومن هنا يأمره القاضي ويوجب عليه ذلك، ومن حق المرأة أن تشتكي إذا لم تطق صبراً، أو خافت على نفسها وولدها، كما اشتكت هند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرها عليه الصلاة والسلام، فدّل على أنه حقٌ من حقوقها.

    قوله: (قوتاً)، النفقة تشمل الطعام والشراب، والكسوة، والسكن، فهذه ثلاثة جوانب في النفقات: الطعام والشراب وما يقتات به، والكسوة، والسكن الذي يؤوى إليه.

    ويتبع السكن فراش السكن وما يجلس عليه من مفارش بالمعروف، وكذلك اللحاف، فهذه هي أصول النفقات، وأجمع العلماء من حيث الجملة على أنها هي الأصول الواجبة في النفقات، وأن على الزوج أن يطعم زوجته، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأن تطعمها إذا طعمت)، وفي لفظٍ: (أن تطعمها مما تطعم، وأن تكسوها مما تكتسي).

    كيفية الإطعام وقدره الواجب

    نص المصنف رحمه الله على تقديم الطعام؛ لأنه قوام الأبدان، وهو صلاحها بإذن الله عز وجل، فإذا لم تأكل المرأة وجاعت فإنها تضطر إلى أمورٍ لا تحمد عقباها، وقد تهلك وتموت، ولعظم أمر الطعام وحاجة البدن إليه أحل الله للمضطر أن يأكل من الميتة، فهو حق عظيم، وواجب على الزوج أن يتفقد زوجته وأولاده في طعامهم، وهذا الطعام لا يكفي فيه أن ينظر إليه نظرة عابرة، وأن يجد من سكوت أولاده وزوجه ما يظن أن هذا يعذره أمام الله عز وجل، فليس كل طعام معتبراً، وليس كل طعام تبرأ به الذمة، وليس كل إِطعام يُعذر به العبد بين يدي الله عز وجل.

    فتراعى نوعية الطعام، وكون الطعام مما يرتفق به، وسلامته مما فيه ضرر أو مما يضيّع الزوج أو الولد بضعفه وعدم سده للحاجة من حيث الصفة ومن حيث القدر، فهذه أمور معتبرة، أعني صفة الطعام وقدره ونوعيته وجودته ورداءته، كل هذه يسأل عنها أمام الله عز وجل، فحق واجب على الزوج أن يطعم زوجته وأولاده وأن يحسن النظر في ذلك؛ لأنها أمانة ومسئولية، كما أنه يحب لنفسه أن يطعم من الطعام الذي فيه رفق بدنه وقوام ذلك الجسد وسلامته من الآفات، فواجب أن يتفقد ولده في الإطعام وزوجه من هذا الوجه.

    فقد يأتي الزوج بطعام رخيص ويكون في هذا الطعام عدم الكفاية من ناحية القدر، أو عدم سد الحاجة من ناحية الجودة والرداءة، وقد يأتي بطعام جيد فيه ضرر على الزوجة والولد، جيد في الظاهر فيما يتسامعه الناس ولكنه لا يصلح للزوجة ولا للولد، لكن يصلح له هو.

    إذاً لا بد أن ينظر إلى ما فيه صلاح هذا البدن المسئول أمام الله عز وجل عن إطعامه كما أنه مسئولٌ عن نفسه، والنبي صلى الله عليه وسلم أنزل الولد منزلة الجسد نفسه فقال: (إنما فاطمة بضعةٌ مني).

    فالواجب الشرعي في الرعاية للولد أن يتفقدهم بإطعامهم على الوجه الذي يرى فيه قوام أبدانهم وصلاحها وسلامتها من الضرر، وقد توجد بعض الأطعمة يطعمها الأولاد وهي مضرة لهم، وتطعمها الزوجة وهي مضرة للزوجة.

    وقد يختلف الطعام من شخصٍ إلى آخر، فلو قالت له الزوجة: إن هذا الطعام يضربها، قال لها: هذا الذي لك عليّ، إن شئت أن تأكلي أو لا تأكلي، فهذا الطعام إن ثبت أنه يضرها فوجوده وعدمه على حدٍ سواء، وقد ظلمها في طعامها، فليست القضية فقط أن يأتي بالطعام ثم يرميه في البيت ثم يقول: قد أتيتها بالطعام، بل عليه أن يتفقد وأن ينظر أحسن الطعام؛ ليعذر أمام الله عز وجل، ويكون قد أدى الواجب الذي فرض الله عز وجل عليه بما تبرأ به ذمته أمام الله سبحانه وتعالى.

    وقد يُطعم أولاده الطعام الضعيف الذي لا يقيم البدن، مثلاً: هناك بعض الأرزاق والأقوات فيها غذاء نافع للبدن، ويكون الأبناء في بعض الظروف بحاجة إلى طعام يغذيهم ويعطيهم القوة والجلد على ظروف معينة، فأطعمة الشتاء ليست كأطعمة الصيف، والأطعمة في حال الإجهاد والتعب والنصب -خاصة إذا كان يطلب ذلك منهم- ليست كالأطعمة في حال الرفق والراحة.

    هذه كلها أمور ينبغي على الزوج أن يتفقدها؛ لأنها أمانة ومسئولية، وليس من المعروف أن يأتي ويطعمهم طعاماً لا يرتفق به البدن؛ ولذلك قيد الله عز وجل هذه النفقة بالمعروف، وهذا يدل على أنه ينبغي أن ينظر إلى العرف والحالة، واختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال والظروف، فقد يكون الطعام قاتلاً مميتاً ويقتل بالتدريج، مثلاً: بعض الأطعمة يوجد فيها بعض الأمراض لكنها أرخص ثمناً وأقل كلفة، فيذهب ويقول: أنا عليّ أن أطعمك، وهذا الطعام إذا أردت أن تأكلي منه فكلي وإلا فلا، فهذا لا يعذرهُ أمام الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذا الطعام إذا ترتب عليه الضرر فإنه يتحمل المسئولية أمام الله عز وجل عليه، وهذا موجود.

    إذاً: لا يكفي أن يقوم بالإطعام حتى يتفقد وينظر ما الذي يحتاجه الولد، وينظر إلى البيئة وإلى راحة الابن دون غلو، فالمرأة قد تسرف، حتى أن بعض العلماء يقول عن هند لما أتت تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها نشأت في بيت عز، وبيت جاه؛ لأنها كانت من أرفع أسر قريش رضي الله عنها وأرضاها، وكان لها مكانة، وكأنها تريد النفقة التي ألفت حال كونها عند أبيها، فيقولون: فطن رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك وقال: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فرد الأمر إلى العرف ولم يجعله مطلقاً.

    فنحن لا نقول: إن الزوج يتكلف ما يكون فيه مبالغة وإسراف، وأيضاً لا يضيع هذا الحق الواجب بأن يكتفى بمجرد إطعامهم أي طعامٍ دون أن يسد حاجتهم ودون أن يكون به قوام الأبدان، والولد في صغره يحتاج إلى نوعية من الطعام تقوي بدنه وتساعده، وتكون هناك نوعية أردأ منها، لا تقوّم البدن ولا تساعده وإن كانت تسد الخلة، وهناك الوسط بينهما، فعلى الوالد أن ينظر إلى هذا كله، وأن يرفق بولده، وأن ينظر إلى الحاجة التي يحتاجها، والزوجة نفس الشيء إن كانت حاملاً فقد تحتاج إلى نوع من الطعام، لأنها في ظروف وأكثر عناء أكثر تعباً ونصبا، فهذه كلها ظروف ينبغي للزوج أن يقدرها بقدرها وأن يحسن القيام فيها بحقوقها.

    قدر الكسوة الواجبة للمرأة على زوجها

    قال رحمه الله: [وكسوة].

    الكساء هو الغطاء الذي على البدن مما يُلبس، سواء كان مفصلاً على الجسد كالقميص ونحوه من المفصلات كالبردة، وفي زماننا الثياب والسراويل والفنايل، وإما أن يكون غير مفصل مثل الإزار والرداء، الإزار لأسفل البدن، وهو مثل الإحرام أسفل البدن؛ وأعلاه يقال له: رداء.

    فالكسوة تكون بما هو مفصل وغير مفصل، وهذا يُرجع فيه إلى العرف، إن جرى العرف أن الأولاد يكسون بكسوة مفصلة فعليه أن يفصل لهم ثياباً، وينظر إلى ما يتناسب مع حاله هو، وكذلك أيضاً إذا جرى العرف بأنهم يكسون بثياب غير مفصلة فيكفي أن تكون كسوتهم من غير المفصل.

    [وسكناها].

    أي: سكن الزوجة.

    وكذلك الزوجة إذا كانت الزوجة تلبس اللباس المفصل مثل الفساتين في زماننا ونحوها فيعطيها ذلك، ويكسوها كسوة في الصيف وكسوة الشتاء هذا هو الأصل في الكسوة، أن لها كسوة الصيف وكسوة الشتاء كما سيأتينا.

    خطر الإسراف والتبذير في اللباس

    الأمور بين الإفراط والتفريط، وما أضر الضرر الذي نزل على المسلمين بهذا التهور الذي أغرق فيه النساء في الملبوسات، حتى أن الأموال لا ينتفع بها إلا أعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم، فأصبحت لهم قوة على دين الله وأولياء الله عز وجل، وكل هذا بسبب اللهث وراء الأشياء الزائفة التي ابتلي بها النساء، وأصبحت فتنة عظيمة على النساء وعلى الأمة جمعاء لوجود هذا البلاء، وهو الإغراق في الملبوسات، حتى إنه يبلغ من البطر وكفر النعمة أن المرأة تفصل ثوبها بعشرات الآلاف من الريالات ولا تلبسه إلا مرةً واحدة، فإذا ذهبت به إلى مناسبة لا يمكن أن تلبسه مرة ثانية حتى ولو في بيتها، ويقول بعضهن -كما نسمع من شكاوى الرجال الكثيرة: كيف ألبسه؟ وكيف يرى عليّ الثوب مرتين؟! أي: كيف تحضر مناسبتين بثوب واحد؟!

    وهذا والله كله من كُفر النعمة والإسراف والبذخ الذي بين الله تعالى في كتابه أنه يسلب صاحبه المحبة منه: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31]، وغضب الله عز وجل على من ابتلي بهذا البلاء حتى أنه قرنه بأعدائه: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [الإسراء:27]، وانظر تعبير القرآن بـ(إِنَّ)، وجاء بالاسم (الْمُبَذِّرِينَ)، (كَانُوا) التي تدل على صفة الدوام (إِخْوَانَ) فقرنهم بالشياطين نسأل الله السلامة والعافية.

    ولذلك تجد المرأة التي تبتلى بهذا التبذير في كسوتها كأن الشيطان مستحكمٌ على قلبها، وتجد ولية الله المؤمنة التي تخاف الله وتراقبه وتخشاه تحاسب نفسها على اللباس ولا تبالي بمن ينظر إليها، ومع ذلك تجد من الطمأنينة في القلب وانشراح الصدر، والبركة في النفس والحال ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، ولكن الأخرى تجدها مفتونة من مناسبة إلى مناسبة ومن بلاء إلى بلاء، وتنفق مالها حسرةً عليها يوم القيامة -نسأل الله السلامة والعافية- فهو وبال عليها في الدنيا ووبال عليها في الآخرة.

    وعلى كل امرأة أن تعلم أنها مهما لبست من جميل الثياب، أو بالغت في مطالبة الزوج وإرهاقه وظلمه بمطالبته بالأشياء التي هي زائدة عن حاجتها وزائدة عن حقها؛ فإن الله سبحانه وتعالى لا يبارك لها فيما لبست ولو كان من مالها؛ لأنه ليست القضية أن تضر بزوجها، فقد تقول قائلة: عندي راتبي أنفق منه، إذا كان عند المرأة راتبها فلتعلم أنها تفسد بنات المسلمين، ولتعلم أنها تفسد زوجات المسلمين؛ لأنها إذا لبست لباساً معيناً أغرت غيرها بهذا اللباس، ودعتهن إلى أن يشاكلنها، فتشاكلها أختها والتي قد تكون عند زوج ضعيف المال قليل المادة، وتشاكلها قريبتها أو بنت عمها أو بنت عمتها؛ لأنها في بيئة تتأثر برؤيتها، ثم قد تشاكلها المرأة الغريبة، فكل هذا مما جر على المسلمين من الضرر والبلاء ما لا يخفى.

    فأولاً كثر إنفاق الأموال في غير طائل، ونزعت البركة من الأموال، ولو أن المرأة المؤمنة العاقلة نظرت إلى الخمسمائة ريال، فضلاً عن الألف، فضلاً عن العشرة آلاف، وفكرت أنها لو سدت بها ثغرة من ثغرات المسلمين سيكون لها من الرحمة والخير والبركة الشيء الكثير، فكم من صدقةٍ حجبت صاحبتها عن النار!

    فلا شك أن من توفيق الله عز وجل أن يوفق العبد لاغتنام هذه الأموال في مرضاة الله عز وجل، فعلى المرأة أن تعلم علم اليقين أن حقها على الزوج كسوة الصيف وكسوة الشتاء وما زاد على ذلك فليس بواجب.

    وتبع هذا البلاء إنفاق الأموال، ثم تبعه الإغراق في مشاكلة أعداء المسلمين في لباسهم وهيئتهم حتى حصل بسبب ذلك البلاء من التبرج وخروج النساء ومخاطبتهن للرجال، حتى تخاطب المرأة الرجل بالساعات، وتأخذ معه وتعطي، وهي لو كانت من أتقى التقيات فلتعلم أن الرجل قد يكون به مرض وقد تكون به فتنة، وهذا كله فيه تعد لحدود الله عز وجل شعرت به المرأة أو لم تشعر، ولكن هي الدنيا بما فيها من فتنها وهواها، لا يستطيع الإنسان أن يعرف حقيقة ما فعل من معصية الله وانتهك من حدود الله إلا إذا ولج قبره: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22].

    فإذا علمت المرأة أنها ستسأل عن كل ريال تنفقه، وعن كل ريال ترهق به زوجها وترهق به والديها، وأن الله سائلها عن ذلك كله؛ حاسبت نفسها قبل أن يحاسبها الله عز وجل، فهذا بلاء عظيم، ولا يمكن علاج هذا البلاء إلا بالصالحات القانتات، أن يكن قدوة قبل غيرهن، وأن يكن قدوة يتأثر بهن الغير؛ لأنهن إما قدوة في الخير أو الشر، فإذا وجد في المجتمع من لا يبالي بالقيل والقال ولا يبالي بالمظاهر، فعندها سيتغير كثير من الأخطاء ويصلح كثير من الفساد، وعلى كل حال، نسأل الله بعزته وجلاله أن يهدينا وأن يعصمنا وأن يزيل هذا البلاء عنا وعن المسلمين أجمعين.

    فالذي للمرأة على زوجها كسوة الصيف وكسوة الشتاء، وما وراء ذلك ففضلٌ وليس بفرض، فيكسوها كسوة صيف وكسوة شتاء، ولكن لو أن المرأة ابتليت بهذا وهي صالحة ودينة، ونظر الزوج إلى أنه لو كان في كل مناسبة يلبسها فسيقع في الإسراف، وأنه لو ألبسها كسوة واحدة في الصيف أو كسوة في الشتاء أن هذا يحدث لها شيئاً من الضرر والحرج، وأحب أن يتسامح فالله يأجره، لكن يتسامح في حدود معقولة، ويكون هناك نوع من الالتزام حتى لا يكون فتنة للمرأة، فإن المرأة قد تفتن عن دينها، وقد تتضرر، وقد يتسلط عليها من لا خير فيهن.

    وكان بعض الأخيار يقول: إنه تزوج امرأة رزقها الله عز وجل التعقل في نفقتها فكانت لا تلبس إلا ما يسترها في حدود معقولة ولا تبالغ في الزينة فسلمت من المجالس، وسلمت من الحفلات وسلمت من المناسبات؛ لأنها التزمت بالأصل، فما أنفقت ولا أسرفت، ولكن تجد الأخرى التي ابتليت بالإنفاق تحب الغير أن يرى ما عليها، وإذا أحبت المرأة أن يُرى ما عليها فتنها الشيطان، ففي المرة الأولى تحب أن تراها امرأة غيرها، ثم مرة ثانية تحب أن يراها الرجل والعياذ بالله، فتفتن في دينها نسأل الله السلامة والعافية، وربما فتنت فتنةً يكون لها بها شقاء لا سعادة بعده أبداً.

    فعلى المرأة أن تتقي الله عز جل، وهذه ويلات يجر بعضها بعضاً، والله جل وعلا يقول: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:168]، فمسألة الإنفاق والكسوة والإغراق فيها على المرأة أن تفكر: أين يذهب هذا المال؟ ولمن يذهب؟ وكيف يفصل هذا الثوب؟ وتفصيل الثوب على أي نمط من أنماط الكفار تمجيدٌ للكافر شعرنا أو لم نشعر، وفيه إغراءٌ للغير أن يفعل هذا الفعل، وكل هذا له أضرار وتبعات، وعلى المسلمة أن تفكر في هذه العواقب، وأن تعلم أن الشر لا يقتصر على هذه التي لبست وإنما يتعدى إلى غيرها، فنسأل الله العظيم أن يصلح الأحوال، وأن يعيذنا ويعيذ المسلمين من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

    الخلاف في اعتبار النفقة بحال الرجل أو المرأة

    قال رحمه الله: [ بما يصلح لمثلها ].

    أي: تكون النفقة من القوت والكسوة بما يصلح لمثلها، فيكون الطعام صالحاً لمثلها، فلو كانت مريضة فلها طعام المريضة، ولو كانت صحيحة فلها طعام الصحيحة، لكن إذا كانت مريضة سيأتي أن الدواء لا يجب على الزوج؛ وسنبين -إن شاء الله- هذه المسألة.

    على كل حال: النفقة بالطعام والكسوة ينظر فيها إلى ما يصلح لمثل المرأة، واختلف العلماء رحمهم الله: هل العبرة -كما ذكرنا- بحال الرجل أو بحال المرأة أو بحالهما معاً؟ ثلاثة أقوال لأهل العلم رحمةُ الله عليهم:

    من أهل العلم من قال: العبرة بحال المرأة، سواءٌ كانت غنية أو فقيرة، فالزوج يجب عليه أن ينفق على زوجته بحسبها، إن كانت زوجته فقيرة، فحينئذٍ ينفق عليها نفقة الفقيرة ولو كان غنياً، ولو كانت زوجته غنية فإنه ينفق عليها نفقة الغنى ولو كان فقيراً، وهذا القول هو مذهب أبي حنيفة ومالك رحمةُ الله على الجميع، واستدلوا بحديث هند الذي تقدم معنا: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، وكذلك بقوله تعالى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:233].

    والقول الثاني يقول: العبرة بحال الرجل غنىً وفقراً؛ فإن كان فقيراً أنفق نفقة الفقراء وإن كان غنياً أنفق نفقة الأغنياء ولو كانت زوجته فقيرة، فالعبرة بحاله هوَ، ينفق على حسب حاله، وهذا القول هو مذهب الشافعية رحمة الله عليهم، واستدلوا بقوله تعالى: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7]. ووجه الدلالة: أن الله تعالى أمر الزوج أن ينفق على قدر حاله، فقال: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ، بمعنى: أنه ينفق على قدر ما وسع الله عليه إذا كان غنياً، ثم قال في ضده: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ وهو الفقير؛ لأن التقدير في لغة العرب: التضييق، ومنه قوله تعالى: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سبأ:11] يعني: ضيق حِلق الدروع حتى لا يؤثر السلاح، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام (فاقدرا له) فالقدر أصل التضييق، وهنا لما قال: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ أي: كان فقيراً، فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ [الطلاق:7]، فدلّ على أنه إذا كان ذا سعة وثراء فإنه ينفق من السعة، وإذا كان فقيراً فإنه ينفق على حسب فقره.

    فهذا نصٌ واضح في الدلالة على أن العبرة بالرجل وليس العبرة بالمرأة.

    أما القول الثالث فقالوا: ينفق بحالٍ مشترك بينه وبينها، فإن كانا غنيين فلا إشكال، وإن كانا فقيرين فلا إشكال، وإن كان غنياً وهي فقيرة أو العكس، نظر إلى الوسط بينهما، فإن كان غنياً نفقة مثله ثلاثة آلاف وهي فقيرة نفقة مثلها ألف، أعطى ألفين وهي وسطٌ بين الثلاثة وبين الألف، فيعطي النفقة الوسطى بين الغنى وبين الفقر إذا كان أحدهما غنياً والثاني فقيراً، وهو مذهب الحنابلة ودرج عليه أئمة المذهب رحمةُ الله عليهم؛ قالوا: نجمع بين الدليلين، نجمع بين حديث هند وبين الأدلة التي دلّت على أن العبرة بحال الرجل، كقوله عليه الصلاة والسلام: (أن تطعمها مما تطعم، وأن تكسوها إذا اكتسيت)، فهذا يدل على أن العبرة بالرجل.

    فقالوا: نجمع بين ما دلّ على أن العبرة بحال الرجل وبين الدليل الذي دلّ على أن العبرة بحال المرأة ونقول ينفق الوسط بينهما.

    والذي يترجح -والعلم عند الله- القول القائل: إن العبرة بحال الرجل، فالآية نصٌ واضح في أن العبرة بحال الرجل في الغنى والفقر، ولذا قال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7]، فالمكلف بالنفقة هو الرجل، وبينت الآية الكريمة أنه ينفق في حال الغنى وفي حال الفقر بحسبه دون التفات إلى المرأة.

    أما ما استدل به من حديث هند: فأولاً: حديث هند تقدم أن قوله عليه الصلاة والسلام: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فقدر هذا بالمعروف أي: بما تُعورف عليه من نفقة زوجك عليك.

    ثانياً: أن الحديث قالت فيه هند : (إن أبا سفيان رجل شحيحٌ مسيك ولا يعطيني نفقتي)، أي: لا يعطيني ما ينبغي أن يعطيه مثله، ولذا قالت: (شحيحٌ مسّيك) فرجعت إلى الرجل، فدل على أن المظلمة قائمة على أنه لم ينفق عليها النفقة التي ينبغي أن ينفقها مثله.

    ودليل القول بأن العبرة بحال المرأة محتمل والاحتمال فيه قوي، والقاعدة: أن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال، ويشترط في ردّ الدليل بالاحتمال أن يكون الاحتمال قوياً، وهنا سياق الحديث يدل على أنه قصر في نفقتها؛ ولذلك ما قال: خذي على حسب حالك، بل قال: بالمعروف، فردها إلى ما تعورف إليه من حال الرجل، وهي قالت في أصل السؤال: (إن أبا سفيان رجل شحيح مسيك) أي: إن أبا سفيان رجلٌ شحيح مسيك ولا يعطيني نفقتي أو لا يعطيني مما ماله: أي لا يعطيني عطية مثله، ولذلك قدمت قولها: شحيحٌ مسّيك، أي كان ينبغي أن ينظر إلى غناه فيعطيني نفقة مثله، من الأغنياء.

    على كل حال: الآية قوية الدلالة في كون الرجل ينفق على حسب حاله، ونص الله فيها بقوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7]، وهذا نصٌ قوي على أنه لا يمكن أن يكلف الرجل على حسب المرأة؛ لأننا لو قلنا: إن العبرة بحال المرأة، وكان الرجل فقيراً فقد كلفناه غير ما آتاه الله، وهذا واضح جداً في أن التعارض سيكون قوياً جداً ومصادماً للآية تماماً؛ ومصادمة الآية ليست كمصادمة الحديث؛ لأن دلالة الحديث محتملة. وكان بعض مشايخنا يقول: إن حديث هند لا يصلح للاستدلال من كل وجه؛ لأنه متردد محتمل من حيث الأصل، فهي اشتكت أن أبا سفيان شحيح مسيك، فرد النبي صلى الله عليه وسلم إلى العرف، ولم يحدث للحديث تمييز واضح، فليس كالآية التي ميزت ووضحت أن الغني ينفق بغناه، وأن الفقير ينفق بفقره، فليس هناك تعارض؛ لأن القاعدة: أنه لا يحكم بتعارض النصين إلا إذا استويا في قوة الدلالة. وأما مذهب الحنابلة الذي يقول: نجمع بين الدليلين، فالقاعدة: أنه لا يحكم بالجمع ولا يصار إلى مذهب الجمع إلا إذا ثبت التعارض، ونحن عندنا دليلان، أحدهما: قوي الدلالة كالشمس في أن العبرة بحال الرجل غنىً وفقراً، والآخر محتمل، فيقدم الصريح والقوي؛ لأن القاعدة: أنه إذا أمكن الترجيح يقدم على الجمع، ولا يصار إلى الجمع إلا إذا تعذر الترجيح، فإذا تعذر ترجيح أحدهما لقوة الآخر عليه دلالةً فلا يحكم بالتعارض الذي يبنى عليه الجمع، وبناءً على ذلك: القول الذي يقول: العبرة بحال الرجل، أقوى القولين دليلاً، ثم إننا لو نظرنا إلى الأصول الشرعية لوجدنا أن تكاليف الشريعة إذا كُلّف بها العبد نُظر إلى حاله، فهذا القول أقرب إلى الأصول، وهو أرجح إن شاء الله تعالى.

    اعتبار النفقة الواجبة في حال التنازع

    قال رحمه الله: [ ويعتبر الحاكم ذلك بحالهما عند التنازع ].

    (يعتبر الحاكم ذلك) أي: تقدير النفقات، وتقدير الكسوة (بحالهما عند التنازع) كما ذكرنا أن الحنابلة قد يجمعون، ويقولون: ينظر إلى حالهما فيخرج الوسط، فإذا تخاصم الزوجان فقالت المرأة: ما أنفق عليّ إلا نفقة قليلة، وقال الرجل: أنفقت عليها نفقة مثلي، فينظر القاضي الوسط بينهما ويحكم، فلو أنفق عليها ألفاً، والوسط ألف وخمسمائة، قال له: أكمل الخمسمائة، ويلزمه بإتمام الخمسمائة التي هي وسط بين النفقتين.

    (عند التنازع) إذا قلنا: العبرة بحالهما معاً -كما هو مذهب الحنابلة- يرد السؤال: قد تكون المرأة تطالب بنفقة مثلها، فيقصر الزوج شهوراً، ثم تشتكي بعد ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر وقد تغير الحال وتغيرت الأوضاع، فقد تكون الأرزاق في حال الشكوى غالية، وتكون في حال المظلمة كاسدة، فهل ننظر حال شكواها أو حال ظلمها، وهل تقدر النفقة بحال الشكوى أو بحال المظلمة؟

    فاختار جمعٌ من العلماء: أن التقدير يكون بحال الشكوى، ويكون هذا نوعاً من الإسقاط، فتتحمل المرأة هذا الحال ربحاً وخسارة، فإذا كان هناك ربح فلها، أو كانت خسارة فعليها، فالعبرة بالحال عند الشكوى.

    ومن أهل العلم من نظر إلى أنه ينظر إلى استحقاق النفقة من حيث هي، فلو كانت النفقة مثل أن يعطيها فيما يكلف ثلاثة آلاف ريال، فإن غلت الأشياء حال الشكوى حتى أصبحت سبعة آلاف وهو الضعف، فإننا نطالبه بالضعف؛ لأن العبرة بحال الشكوى لا بحال المال.

    فاعتبر المصنف رحمه الله بحال الشكوى؛ لدلالة حديث هند : (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فلم يردها إلى ما مضى، بل جعل الحكم مستأنفاً، قالوا: وهذا يدل على أن العبرة بالحال عند الشكوى.

    ما يفرض للموسرة تحت الموسر

    قال رحمه الله: [ فيفرض للموسرة تحت الموسر قدر كفايتها ].

    هناك ثلاث صور:

    الصورة الأولى: أن يكونا غنيين موسرين، هي من أسرة غنية وهو من أسرة غنية.

    الصورة الثانية: أن يكونا من أسرتين فقيرتين أو متوسطتي الحال، فحينئذٍ يتفق حالهما بما دون اليسر ودون الغنى.

    الصورة الثالثة: أن يختلفا فتكون هي غنية وهو من أسرة فقيرة أو العكس، فإذا اتفقا في الغنى ألزمناه بنفقة الغني، وإذا اتفقا في العسر والضيق والفقر ألزمناه بنفقة الفقير، وإذا اختلفا نظرنا إلى الوسط بين غناها وفقره، وفقرها وغناه، فإذا كان الغنى ثلاثة آلاف والفقر ألفاً فالوسط يكون ألفين، فيفرض لها حدود نفقة الألفين.

    قال رحمه الله: [من أرفع خبز البلد].

    إذا نُظر إلى الغنى واليسر فإنه يختلف، فالغنى طبقات، فإن كانت من أغنى الغنى نُظِر إلى أرفعه، وأوسطه وأدناه، كل شيء له قدر: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:3]، فهم يقولون: إذا قُدّر بغناهما أو بفقرهما نظر إلى الحال؛ لكن المصنف قال: ينظر إلى أرفع الحال في الغنى.

    وفائدة المسألة: أنه إذا كان خبزها وطعامها بثلاثة آلاف في أرفع الغنى، وأوسط الغنى فلو كان الغنى يبدأ من الألف، وينتهي بثلاثة آلاف يكون أوسطه الألفان، فينظر إلى حالها في الوسط أو في دون الغنى أو أعلاه.

    الطعام اللازم للزوجة على زوجها

    قال رحمه الله: [ وأُدمه ].

    يعني: ما يؤتدم به مع الخبز، واختلف العلماء رحمهم الله في طعام المرأة: هل الزوج يجب عليه أن يعطي طعاماً مقدراً محدداً فنقول: عليه نصف صاع أو عليه صاع، أم أن النفقة لا تحدد، ونقول له: أنفق بما يسد جوعها بالمعروف؟ الصحيح الثاني.

    استدل الذين قالوا: إنه يجب أن تقدّر، بأن الله تعالى وصف الإنسان بكونه مُطعماً بأقل ما في الكفارات وهو ربع صاع أو نصف صاع على خلاف عندهم، فإذا نظر إلى كفارة الظهار فهي ربع صاع، وإذا نظر إلى كفارة الفدية في الحج فهي نصف صاع؛ ولذلك يختلف الضابط باختلاف هذين القدرين؛ فوصفت الشريعة من يعطي هذا القدر بكونه مطعماً، قالوا: فيطعمها في كل يوم هذا القدر، فإذا أطعمها كل يومٍ هذا القدر فقد أطعم.

    وجمهور العلماء على أنها لا تقدر وأن الأمر يرجع فيه للمعروف، فلا نقول: عليه ربع صاع ولا نصف صاع ولا صاع، وإنما يطعمها بما يتوافق مع عُرفها وبيئتها، وهذا الثاني أقوى القولين: أنه لا يقدر بحدٍ معين.

    قال رحمه الله: [ ولحما ].

    كذلك الإدام واللحم، فمثلاً: إذا نظر إلى أجود اللحم -مثلاً- يكون لحم الغنم، وأجود الغنم الضأن ثم الماعز، ثم بعد ذلك نفس الضأن على مراتب، فقد يأخذ الغني من جدي الضأن، والغني الأوسط يأخذ من أوسطه وطبقة الغنى المطلقة يأخذون بأعلاه، فيلزم بحاله.

    أيضاً لحم الدجاج، فلحم الدجاج هو من رزق الله عز وجل، لكنه معروف بكثرة الأمراض الموجودة فيه وكثرة الأضرار، وعدم ملائمته لصحة الإنسان في كثير من الأحوال، خاصةً إذا كان يعلف بالفضلات أو كان مما لا يعتنى بطعامه، فلا شك أن فيه إضراراً بالولد، خاصة إذا كان في بيئة لا يحسنون إطعامه، وهكذا بقية الدواجن، إذا كان علفها يضر، فهذا لا يصرف نفقة ولا يلتفت إليه؛ لأننا قررنا أنه ينبغي على الزوج في نفقته على زوجته، والوالد في نفقته على ولده أن يتقي الله فيما يُطعم.

    فإذا ثبت أن طعامهم من أجود اللحم أطعمهم من الضأن، وإذا كان من أوسطه كلحم الإبل أطعمهم من لحم الإبل، وإذا كان من أقله وهو لحم الدجاج والداجن كالحمام ونحوها أطعمهم من الأقل، وقد يكون بعض هذه اللحوم أفضل من بعض، فقد تكون بيئة تفضل لحم الإبل ويكون أفضل ما يكون، وقد تكون هناك بيئة تفضل لحم الطيور وتكون أعز، وقد تفضل -مثلاً- نوعاً من أنواع الطيور، وقد تكون بيئة تفضل الأسماك، فيطعمهم من أجود الأسماك وأوسطها على حسب حالهم، فينظر إلى طعام مثلها من هذا الشيء إن كان في الإدام أو اللحم وما يؤتدم به.

    فلو أنه أراد أن يطعمها فأطعمها الخبز دون أن يطعمها ما يؤتدم به فإنه قد قصر، مثلاً: زوج عنده زوجة وأولاد، يطعمهم أرزاً بدون ما يؤتدم به، أو وضع الرز مع إدام بدون لحم، فهذا لا شك أنه يضر بالبدن؛ لأنه يحتاج إلى لحم يكون به قوام البدن وقوة البدن، فجرى العرف عندنا أن يكون الإدام بلحم، لكن لو قال: ما أضع فيه لحماً ولست مطالباً بشيء من هذا، نقول في هذه الحالة: إنه أجحف وأنقصهم عما جرى العرف أن مثله يطعم به.

    على كل حال: إن كان اللحم من بهيمة الأنعام أطعم من بهيمة الأنعام، فإن كان من أجوده في عرفه فالواجب الأجود، وإن كان من أوسطه فالواجب الأوسط، وإن كان من أقله فالواجب الأقل، ولا يحرم الرجل أولاده، ويقول: أنا والله أريد أن آكل من الأشياء العادية وما أريد أن أعوّد ولدي على الترف، هذا ليس بصحيح ولا بسليم، فمعنى أنك لا تعودهم على الترف أي: لا تبالغ في حقهم الذي لهم، أما أن تعطيهم قدر الكفاية فهذا ليس من الترف، بل هذا قيام بالواجب، وليس للإنسان فيه منّة على ولده؛ لأنه واجبٌ عليه في الأصل.

    فيفرق في هذه القضية، فبعضهم يقول: أنا أريد أن أربيهم على شظف العيش وعلى الخشونة، والمنبغي أن يثق كل إنسان أن التربية ليست تربية الأكل ولا الملبس، التربية تربية الروح، فيغرس في قلبه تقوى الله عز وجل، والزوج والوالد الذي يكون قدوة في قوله وفعله ويغرس في أولاده المعاني الطيبة الكريمة، يكون قد قام بحق ولده على أتم الوجوه وأكملها، أما أن يجعل ذلك عن طريق الطعام والشراب، فهذا قد يكون في بعض الظروف، وبقدر، وفي أحوال خاصة، لكن أن يكون هو الشيء المطرد فلا؛ لأن هذا يجحف كثيراً بالأولاد ويجحف بالزوجة.

    فالزوجة تتضرر بين أخواتها وقريناتها وأهلها وذويها ومجتمعها، فإنها تتضرر إذا منعت حقها، ويدخل الشيطان في إفساد الزوجة على زوجها، فيجب أن يطعمها الخبز والإدام واللحم بالمعروف، وفي هذه الثلاث مع خبزٍ يؤكل وإدام يؤتدم به ذلك الخبز؛ لأنهم في القديم كانوا يأكلون الخبز والإدام، وكان البرُّ في القديم يُعصد أو يصنع على أرغفة، فإذا صُنِع -عُصِد- كالعصيدة ونحوها لا بد له من إدام، وهذا الإدام يكون قوياً نافعاً باللحم، فذكر المصنف هذا، ولا زالت بيئات المسلمين إلى يومنا موجوداً فيها هذا الشيء، حتى في زماننا نجد الأرز أشبه بالخبز، ونجد له ما يؤتدم به، ونجد قوة في هذا الذي يؤتدم به إما أن يكون مع الرز أو يكون مع الإدام مثل اللحم، فهذه أشياء ذكرها المصنف رحمه الله وهي موجودة في أعراف المسلمين، وتكون قواماً لهم في أقواتهم.

    قال رحمه الله: [عادة الموسرين بمحلهما].

    عادة الموسرين؛ لقوله تعالى: بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:236]، والقاعدة: أن العادة محكمة، والمرجع في هذا إلى بيئتها وفي حق أمثالها من النساء. فلو كان الأغنياء في المدينة التي هو فيها يأكلون اللحم، وفي مدينة أخرى أهلها وذووها يأكلون نوعاً هو أجود وأرفع من هذا النوع الموجود في بيئته، فإننا لا نطالبه بما في المدينة الأخرى، إنما نطالبه بما هو موجود في قريته أو مسكنه أو مكان عمله الذي انتقل إليه، فينظر أجود الطعام فيه، إلا إذا كان فيه ضرر أو كان مضراً بصحتها، فهذا شيءٌ آخر.

    الكسوة اللازمة للزوجة على زوجها

    قال رحمه الله: [ وما يلبس مثلها من حرير وغيره ].

    بعد ما بين الطعام انتقل إلى الكسوة، فينظر إلى كسوة مثلها في بيئتها والمحل الذي هي فيه، فإذا كانت المرأة الغنية تلبس -مثلاً- في حدود (3000)، والوسط في حدود (2000)، والفقيرة في حدود (1000)، فالأعلى (3000) والأدنى (1000) والوسط (2000)، ففي هذه الحالة إن كان من الأغنياء أنفق كسوة الأغنياء بثلاثة آلاف، وإن كان من الفقراء أنفق كسوة الفقراء بالألف، وإذا كان فقيراً فأنفق بالألف والخمسمائة أو أنفق بالألفين دون أن يكون هناك ضرر، وقصد فيما بينه وبين الله عز وجل إدخال السرور على أهله، وجبر خاطرها، واحتساب الأجر عند الله، فهو داخلٌ في عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (خيركم خيركُم لأهله وأنا خيركم لأهلي)، فهذا من الخيرية، شريطة أن لا يكون هناك شيء يفسدها أو يضرها في دينها، أو يتسبب في الفتنة لها، مثل الألبسة والأكسية التي فيها محاكاة للكفار أو تعين الكفار على المسلمين أو نحو ذلك، فهذه تُتقى، وينبغي أن لا يعينها على ذلك، وأن لا يفتح على نفسه باب الفتنة بكسوتها بهذا النوع من الألبسة.

    الأثاث اللازم للزوجة على زوجها

    قال رحمه الله: [وللنوم فراش ولحاف وإزار ومخدة].

    هذا بالنسبة لأثاث الزوجة، فهناك طعامها ولباسها وأثاثها، فلها أثاث بالمعروف، وإذا تزوج امرأة فالواجب أن يؤثث بيته بما يتفق مع حاله هو، ويكون هذا الأثاث بما ترتفق به في منامها فقال رحمه الله: [ وللنوم فراش ].

    أي: فراش يكون فراش النوم بحاله هو، غِنىً وفقراً وما بينهما، فإذا كان غنياً يأتي بفراش الغني، وإذا كان فقيراً يأت بفراش الفقير، ولا بد من وجود الفراش.

    [ولحافٌ] أي: لحاف الفراش لا بد منه.

    [وإزار] أي: وإزار تأتزر به، [ومخدة]: والعرف في ذلك محتكم إليه، وفي القديم كانت هذه الأشياء بالبركة، وكان الناس في عافية من الفتن التي صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما كشف الله له عما يكون من الفتن، فأخبر عن عظيم ما يكون في الأمة، فالرجل في القديم لا يجد إلا القليل معه، ومع ذلك تجد المرأة سامعة مطيعة في بيتها تكتفي بالقليل، وهذا القليل خرجت منه من الذرية ومن الأمة من نفع وقاد الأمة علماً وعملاً، وصلاحاً وتقوى، مما يدل على أن المظاهر ليست هي كل شيء، فهذه الأمة قادت العالم من المحيط إلى المحيط، وكانت على أقل ما يكون الحال من اليسر والرضا والقناعة، وما كانت أمورها تسير إلا بالرضا عن الله جل وعلا، وهؤلاء أئمة الإسلام يذكرون ما كان عليه بيوت المسلمين.

    وأما اليوم فكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: تجده شبعان ريّان جالساً على أريكته قلّ أن يذكر الله جل جلاله، نسأل الله السلامة والعافية، ولربما تجده شبعان ريان جالساً على أريكته يستهزئ بالإسلام وبأهل الإسلام وبأهل الاستقامة، فشاه وجهه وخرس لسانه، لا يحمد النعمة ولا يعرف ما هو فيه من الخير الذي أعطاه الله عز وجل؛ لأن الله نزع البركة منه، وكل هذا بسبب عدم الشكر.

    وعلى كل حال: فهذه أمور ذكرها العلماء على أساس أقل ما يجزئ، وفي زماننا أثاث البيت يكون بما هو مناسب للعرف، فهناك غرف للنوم تكون للغني وتكون للفقير وتكون للمتوسط، فإن كان حاله حال غنى جعل أثاث بيته أثاث الغني، ويتقي الله عز وجل في زوجته؛ لأنها تزوجت كما زوجت أخواتها وقريباتها، وهذا يضرها إذا كان أثاث بيتها على النقص مع قدرة زوجها على أن ينفق عليها نفقة الأغنياء، وهكذا بالنسبة لما يكون به هذا الأثاث من الفراش.

    وأما الشيء الزائد عن الأصول مما فيه بذخ وفيه إسراف، مثل السيارات التي تشترى، والألوف التي توضع في المظاهر الشكلية التي لا قيمة لها ولا نفع لها، فهذه ساقطة أي: ليست محسوبة، وليس بملزم بعرف يعارض الشرع، وهذه الأشياء ليس فيها فائدة، فعندما يشتري عربية وفيها ثلاثة أو أربعة صحون توضع فقط عند الباب، ماذا تفيد غير المظهر والشكل؟! فتنفق أربعة آلاف أو خمسة آلاف تغني ما لا يقل عن خمسين أو مائة بيت من ضعفاء المسلمين وفقرائهم، كلها تذهب في هذا الشيء الذي لا معنى فيه، نحن ما نقول بالعرف إلا بأمور:

    أولاً: أن يكون هذا العرف غير معارض للشرع، فلو قال قائل: هذا جرى به العرف، نقول: نعم، لكن شرط الاحتكام إلى العرف في مثل قوله تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، في الأمر بالنفقة بالمعروف، وأمره عليه الصلاة والسلام بالمعروف شرطه أن لا يتضمن مخالفة شرعية، فلما يشتري شيئاً بالمائة والمائتين والثلاثمائة والأربعمائة والخمسمائة على أنه صورة وزينة في البيت لا ينفع ولا يفيد فإنه إسراف، والإسراف مخالف للشرع، فحينئذٍ لا يعتبر عرفاً مؤثراً، ولذلك يقولون: إن العادة لا تكون محتكماً إليها إلا إذا وافقت الشرع أو كانت على المباحات، أي: الأشياء المباحة التي لا تضاد الشرع، قالوا:

    وليس بالمفيد جري العيد لخلف أمر المبدئ المعيد

    (فليس بالمفيد جري العيد) يعني: جريان العادة (لخلف أمر المبدئ المعيد) يعني: بخلاف الشرع، ومن هنا قالوا: لو جرى العرف بالمخالفة للشرع من إسبال ثوبٍ، أو جرى العرف بزينة للنساء تكون للرجال أو نحو ذلك من المحرمات، لا يكون عرفاً مؤثراً، فإذاً: الشرط ألا يعارض الشرع.

    ثانياً: أن يكون هذا العرف مطرداً، فلا يكون لبعض الناس دون بعض، فإذاً نلزمه بفراش وأثاث البيت على حاله من الغنى والفقر فيما يكون في حدود الشرع، دون أن يكون مرتكباً لمحظورٍ ومنتهكاً لحدٍ أو حرمةٍ من حرمات الله عز وجل.

    قال رحمه الله: [وللجلوس حصير جيد وزلي].

    فراش البيت في القديم كان الحصير، والحصير كان من سعف النخل، وأيضاً يكون من الجريد، وفي بعض الأحيان تكون الخيوط مع السعف، هذا ما كان في الأعراف في القديم، وكانت هذه الأشياء يصنعها المسلمون وينتفع بها المسلمون ويبيعها المسلمون ويشتريها المسلمون، فأموالهم تؤخذ منهم وتدفع إليهم، وكان أعداء الإسلام يشترون من المسلمين، وما كان المسلمون بحاجة إليهم، ولذلك لما كان المسلمون هم الذين يسدون حاجاتهم كانوا في خير ونعمة، وأموالهم كانت لهم، وقل أن تجد أحداً عاطلاً عن العمل، وقل أن تجد أحداً لا يجد كفايته؛ لأن الله وضع لهم البركة، فتجد الخير والبركة، حتى أن الرجل يصنع من سعف النخل فراش بيته، ويصنع سقف بيته من جريد النخل ومن جذوع النخل، ويصنع منه سفرة طعامه، ويصنع منه الكرسي الذي يجلس عليه، ويصنع منه المروحة التي يروح بها، وهذا من البركة التي وضعها الله عز وجل للمسلمين.

    ولا يظن أحد أننا نتكلم عن خيالات، ونحن نتكلم بهذا لما أصبح البعض يظن أنه منقصة وهو كمال، ويظن أن هذا مذمة وهو شرف وليس بعيب أبداً، هذه الأمة التي كانت في أوج عزها وعظمتها هكذا كانت، كانت بمبادئها، لكن منذُ أن لهث المسلمون وراء الأعداء أصابتهم الذلة التي لا يمكن أن ينزعها الله عنهم إلا إذا رجعوا إلى دينهم ورجعوا إلى ما كانوا عليه، فيضع الله لهم البركة في عمرهم كله.

    فالنفقة والكسوة والحصير والفراش يرجع فيه إلى العرف، فإذا كان العرف سائداً وجارياً بالغنى، أن يفرشها من الفراش الجيد فنقول له: يجب عليه جيد الفراش، وإذا كان هناك ما يسمى بالموكيت أو الفراش المفصل فنقول: أفرشها منه، ولكن إذا كان غنياً فمن الأجود، وإن كان فقيراً فمن الأقل، ويقاس على هذا بقية ما يكون من لوازم البيت وأثاثه.

    قال رحمه الله: [وللفقيرة تحت الفقير من أدنى خبز البلد].

    كذلك مثلما تقدم، ذاك في أعلاه وهذا في أدناه، قال تعالى: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:3]، فلا يطالب بأن ينفق نفقة الغني وهو فقير، والمصنف رحمةُ الله عليه نظر إلى أن المرأة لها حق أن تقدر النفقة بحالها، ونحن بينا أن المرأة لا يلتفت إليها وإنما يلتفت إلى الرجل والعبرة بحال الرجل، وبناءً على ذلك: إن كان غنياً أنفق نفقة الأغنياء من مثله وإن كان فقيراً فعكس ذلك.

    قال رحمه الله: [وأدم يلائمها]. كما تقدم.

    قال رحمه الله: [وما يلبس مثلها ويجلس عليه].

    (ما يجلس عليه) الذي هو الأثاث الذي تقدم في الحصير.

    قال رحمه الله: [وللمتوسطة مع المتوسط].

    ينظر إلى الاثنين، إذا كان متوسطاً أو كان غنياً أو فقيراً، ولذلك ذكر الموسرة تحت الموسر، وللفقيرة مع الفقير، وللمتوسطة مع المتوسط، أما إذا كان كما ذكرنا أن العبرة بحال الرجل، فحينئذٍ ينظر إلى حاله غنى وفقراً ثم إذا كان وسطاً فتقدر نفقته بنفقة الوسط.

    قال رحمه الله: [وللمتوسطة والغنية مع الفقير، وعكسها، ما بين ذلك عرفا].

    هنا خالف الحنابلة رحمهم الله ما ذكرناه راجحاً من مذهب الشافعية، فقالوا: إنه ينظر للغني مع الفقير، والفقيرة مع الغني إلى الوسط بين الغنى والفقر، وقلنا: الصحيح أن العبرة بحال الرجل لا بحال المرأة، فلا تأثير للمرأة في النفقة.

    1.   

    الأسئلة

    كيفية إنفاق من له زوجتان إحداهما لها أولاد دون الأخرى

    السؤال: إذا كان للزوج أكثر من زوجة، وبعضهن لديها أولاد والأخرى ليس لديها ولد، هل يجب على الزوج أن يساوي في عطيته أو ينظر إلى ذات الولد من زوجاته؟

    الجواب: هذا السؤال متعلق بحق القسمة بين الزوجات والعدل بين الزوجات، فإذا كانت الزوجة عندها أولاد زاد في نفقتها بنفقة أولادها، مثلاً: عنده زوجتان: واحدة من الاثنتين ليس عندها أولاد والثانية عندها ولدان، فرضنا أن رأس كل واحدة في نفقتها -مثلاً- في حدود خمسمائة ريال، والأولاد كل واحد منهم يكلف مائتين، فهذه عندها ولدان، معنى ذلك أنها تستحق أربعمائة ريال، لكل واحد مائتان، والأربعمائة مع الخمسمائة التي هي رأس لها تصير تسعمائة ريال، فيعطيها تسعمائة ريال، خمسمائة مستحقة لها وأربعمائة لولديها، والتي لا ولد لها يعطيها فقط خمسمائة نفقة الرأس ولا يلزمه أن يزيد؛ لأنه ليس عندها موجب للزيادة، فالأصل أن ذات الولد تعطى نفقة ولدها؛ لأن هذا ليس لها هي وإنما لولدها، وهذا لا يضر بالعدل والقسم بين الزوجات، والله تعالى أعلم.

    إنفاق الرجل على أهل زوجته

    السؤال: هل للزوجة أن تطالب بنفقة أهلها وإطعامهم إذا لم يكن هناك من يعول أهلها؟

    الجواب: هي تطالبه تكرماً وتفضلاً وإحساناً منه إليهم وصلة للرحم، عل الله أن يخلف عليه ويبارك في ماله، وكم من زوج موفق كان دخوله على أهل زوجته خيراً وبركة، فتجده لا يقصر في الإحسان إلى رحمه، ولا يقصر في النفقة، ولا يقصر في الجاه، وإذا وجد منهم حاجة سدها أو خلة قام بها، ينظر هل يحتاجون إلى جاهه وشرفه، فيقوم بذلك ما يستطيع، فيكون نعم الرحم لرحمه.

    وهذا من توفيق الله للعبد أن يعيش مرضياً عنه بين والديه، مرضياً عنه بين قرابته، مرضياً عنه بين عشيرته، مرضياً عنه بين رحمه، تسأل أقرب الناس عنه فلا يذكرونه إلا بخير، ويقولون: نعم الرجل، حافظٌ للرحم وصول لهم.

    وما استقامت أمور الأمة إلا بهذه المكرمات والفضائل، فتجد الرجل ينظر إلى مقام المحسنين ولا ينظر إلى مقام الإجزاء فقط.

    نقول: إنه ليس بواجب عليك الإنفاق عليهم، وليس من حقها أن تلزمك بهذا، ولكنها فتحت عليك باب رحمة، إن أردت أن يرحمك الله وإن أردت الخير والبركة فاحتسب، وإنه والله مما يقرح القلوب أن تجد الرجل قوي الهمة ينظر إلى الفقراء يميناً وشمالاً، ويلهث في سد حوائجهم ولا ينتبه لأقرب الناس منه، تجده يفيض الله عليه المال فإذا جاء ينظر إلى الغريب ولو كان عنده كفاية يقول: هذا مسكين، وإذا نظر إلى قريبه دقق في كل شيء، فلو وجد عند قريبه أقل المال ظن أن قريبه غني فيصرف عنه كل خير منه، وهذا من الحرمان، نسأل الله العافية.

    ومن توفيق الله للعبد وتسديده وإلهامه الرشد أن يبدأ بأقرب الناس منه؛ ولذلك يقعد الشيطان للإنسان بالمرصاد، وانظر إلى أي مسألة فيها إحسان إلى أقربائك تجد الشيطان يدخل عليك من المداخل التي لا يعلمها إلا الله، فتارةً يقول لك: لا تعطهم، إنك إذا أعطيتهم أفسدتهم، وتارة يقول لك: إذا أعطيتهم تسلطوا عليك ثم غداً يأتونك وهكذا، وتارةً يقول لك: إذا أعطيتهم يذهبون ويخبرون الوالد والوالدة، والوالد والوالدة يغضبون عليك، ويصير الشيطان فقيهاً لا يريد لك غضب الوالدين!! وهو لا يريد الخير للعبد بل يريد أن يسلبه الخير، ولكن الموفق السعيد يقول: أنا أعطي وأما العواقب فعلى الله، أنا أعطي وأرجو من الله رحمته فيجد أن تلك الوساوس تزول، وبمجرد ما يعطي يجد في قرارة قلبه عاجل البركة والخير، وهذا مجرب.

    فليس هناك أشياء وجدناها أكثر نفعاً وأسرع وأحسن عاقبة من صلة الرحم، وهي من أسرع الأشياء بركة على الإنسان، سواء من الإخوان أو الأخوات أو أولاد الأسرة من أولاد الأخوات والأعمام والعمات، كأولاد العم وأولاد العمة وأولاد الخال وأولاد الخالة، فالمسارعة إليهم وقضاء حوائجهم، تجد دونه من الفتن والمحن ما الله به عليم، ولكن ما أن تضع قدمك على أول الطريق إلا نفحتك من رحمات الله ما لم يخطر لك على بال؛ لأنه قال: (فمن وصلها وصلته)، فتحصل بركة العمر، وبركة الرزق، فينسأ له في أثره، ويبسط له في رزقه، ويزاد له في عمره، ومن أراد أن يجرب ذلك فليجرب.

    فمن نعم الله عز وجل على العبد، أن يحرص على أهل الزوجة، فإذا جاءت الزوجة واشتكت أن أقربائها أصابهم شيء، وتأثرت، فيقول لها: أبشري وأرجو من الله أن يجملني معك، حقك وحق أهلك عليّ عظيم، والشيطان يقول: لا تقل هذا الكلام؛ لأنك إذا قلت هذا الكلام تحدث مشكلة، ربما تذهب وتقول للوالدين، وإذا قلت هذا الكلام سوف تخربهم عليك، وغداً سيأتونك ويفتحون لك باب عطاء وكذا. وقد كان مسطح يتكلم في عائشة يتهمها بالزنا، وهو قائم بعد الله على أبي بكر في صدقاته ونفقاته.

    ومنذُ أن تكلم أقسم أبو بكر أن لا يعطيه، فينزل القرآن من فوق سبع سماوات في رجلٍ افترى الفرية وقذف عائشة، وليس هناك أعظم بعد الدين من العرض، وهذا الأمر ليس بالسهل في ثاني رجلٍ في هذه الأمة وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقال تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى [النور:22]، نهاهم أن يحلفوا امتناعاً عن الفضل والإحسان للقريب من فوق سبع سماوات، مع أنهم آذوه أذية عظيمة، وقطع الرحم الذي بينه وبين أبي بكر بقذفه لابنته وفراش النبي صلى الله عليه وسلم. فمن ناحية دينية: كونها فراشاً للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن ناحية الرحم والقرابة: كونها بنت ابن خالته وقريبه، ومع هذه الإساءة كلها أمر القرآن بالإحسان إليه: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22]، كأنه باب مغفرة، فلا تفوت على نفسك يا أبا بكر.

    فرجع أبو بكر عن يمينه وكفر عنها ورجع إلى الخير الذي كان، إن لم يكن قد زاده عما كان فيه من خيره، فالواجب على الإنسان أن لا يفوت مثل هذا، ومن المكرمات لأناس أن الله عز وجل فتح عليهم فجعلهم مفاتيح للخير مغاليق للشر، ومن الناس من جعله الله عز وجل يشري نفسه ابتغاء مرضات الله، والله يقول: (ومن الناس)، أي: وليس كل الناس: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة:207].

    فيجرب الإنسان حينما تأتيه زوجته في ضائقة لأبيها أو أمها، فإذا بلغته الضائقة قامت له الدنيا وقعدت كأنه أبوه وكأنها أمه، وقال لها: أبشري بكل خير، وأرجو من الله أن يجملني معك، ثم قام وسد الخلة حتى ولو يتحمل، وكم في قصص السلف من المواقف الجليلة والحوادث الغريبة في الإحسان للرحم، وما عادت لصاحبها إلا بكل خير في دينه ودنياه وآخرته، بل منهم من تأتيه الإساءة من الرحم فيقابلها بالإحسان ويقف موقف الذليل، وهذا كله إحسان لأخته أو رحمه.

    أحد الأخيار كان له زوج لأخته، فضرب أخته ذات يوم وطردها من البيت، وكان هو المخطئ -وهذا يحدثني به الرجل- وكان الرجل الذي هو أخٌ لهذه الزوجة حافظاً للقرآن من أهل الفضل في المدينة رحمةُ الله عليه، وكان من أصدقاء الوالد ومن الناس الذين قل وجودهم في هذا الزمان، وكان من أكرم الناس وأسمحهم نفساً فيما علمت منه، أحسبه ولا أزكيه على الله في بره للناس، حتى أنه كان يفطر في رمضان ولا يخرج من المسجد حتى يملأ سيارته من الفقراء والضعفاء، ولا يمكن أن يفطر في رمضان أو يتغدى أو يتعشى في أيام عادية إلا بضيف، وهذا مما عرف عنه واشتهر.

    هذا الرجل يحدثني صهره بعد موته -الذي هو الزوج- يقول: أهنتها وضربتها وأخرجتها من البيت -وكان رجلاً عصبياً- يقول: ففوجئت وأنا جالس في محلي بعد صلاة الظهر في عز الظهيرة، إذا به قد هجم عليّ، وأنا أحترمه كثيراً، لكن طاش عقلي من شدة الغضب، قال: فدخل عليّ وقبل خشمي على عادته وعادة الجماعة -يقولون: هذه كبيرة عندنا- يقول: أنا المخطئ وأنا المسيء، فإذا به يقبل خشمي، ويقول لي: أسألك أن تعفو عن فلانة، يقول: والله ما تمالكت نفسي بالبكاء، شيء لا يمكن أن يتخيل! الرجل ينزل نفسه هذه المنزلة، وهذا الرجل له مكانة، ومن أعيان المدينة الذين لهم قوة ولهم مكانة كبيرة، ومع ذلك يأتي صهره هذا الذي هو بائع في دكان ضعيف الحال، لكنه كان بعيداً عنه: فإذا به يأتي في عز الظهيرة وليس بمجرد ما جاءت أخته تشتكي جاء يقول له: ماذا فعلت بها؟ أو أرسل له رجلاً من أجل أن يتفاهم معه، أو اتصل به، بل جاء يغبر قدميه إكراماً لأخته، وإكراماً لوالديه؛ لأن الوالد إذا مات، فمن بر الوالدين أن تحفظ وترعى الأخت، وترعى فلذة كبده، ترعاها في شئونها وحالها، وتعلم أن هذا يصلح حالها ويصلح به، يقول: والله منذُ تلك الحادثة لا أستطيع أن أرفع وجهي في وجهه، ويقول: إذا حضرت معه في مناسبة خجلت خجلاً عظيماً، قتلني بسر الحياء.

    قال: ما أظن أن يبدر هذا ذكاء منه أبداً، لكني أعرف أن هذا جاء من طيبته ومن سلامة صدره ومن حرصه على الرحم، فليس هو بمتكلف، فقتلني بهذا الموقف.

    فأصبحت تستأسد علي في بعض الأحيان حتى لو كانت مخطئة يقول: في القديم ربما كنت أضربها، وضربتها أكثر من مرة وآذيتها، يقول: لكن تلك المرة لما كانت الأمور شديدة ضربتها بقوة فاشتكت، يقول: فمن بعدها ما رفعت يدي عليها، وأصبحت في هذا الموقف، ولا شك أن الإنسان الموفق موفق، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا من أهل الخير وأن ييسره لنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756470335