إسلام ويب

شرح زاد المستقنع كتاب اللعان [3]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إذا حصل اللعان بين الزوجين فإنه يترتب عليه فرقة أبدية بين الزوجين، وهناك قاعدة تتعلق باللعان ذكرها العلماء رحمهم الله وهي: أن كل من يصح قذفها يصح لعانها، وكل من لا يصح قذفها لا يصح لعانها؛ ولذا لو كانت الزوجة صغيرة لا توطأ أو كانت مجنونة، فإنه لا يثبت القذف في حقها ولا يثبت اللعان، كما أن هناك ألفاظاً ذكرها المصنف لا تأخذ حكم القذف ولا توجب اللعان.

    1.   

    عقوبة من قذف زوجته الصغيرة أو المجنونة بالزنا

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: وإن قذف زوجته الصغيرة أو المجنونة بالزنا عزر ولا لعان، ومن شرطه: قذفها بالزنا لفظاً كزنيت، أو يا زانية، أو رأيتك تزنين في قبل أو دبر].

    يشترط في صحة اللعان أن يكون المحل الذي ورد عليه القذف يتعلق به القذف، ويثبت به حكم القذف.

    وتوضيح ذلك: أن اللعان شرع لدفع الحد عن الزوج القاذف، فلابد في الزوجة المقذوفة أن يثبت القذف في حقها، ولذلك كل من يصح قذفها يصح لعانها، وكل من لا يصح قذفها لا يصح لعانها، فهذه قاعدة عند العلماء رحمهم الله.

    فلو كانت الزوجة صغيرة لا توطأ أو كانت مجنونة كذلك فإنه لا يثبت القذف في حقها ولا اللعان؛ لأن اللعان فيه معنى التعبد، والأيمان لا تصح من الصبية ولا من المجنونة، ولذلك لو لاعنها فإنها إذا حلفت لم تؤاخذ على أيمانها.

    ومن هنا: لا يصح لعان الصغيرة ولا يصح لعان المجنونة، فقال رحمه الله: (وإن قذف زوجته الصغيرة أو المجنونة عزر) أي: أنه يثبت التعزير فيعزر، والتعزير يرجع في عقوبته إلى نظر واجتهاد الحاكم والقاضي، فإذا نظر القاضي إلى أي جريمة لا حد فيها؛ ولا عقوبة مقدرة من الشرع فيها، فإنه يجتهد في معاقبة صاحبها، وسيأتينا إن شاء الله بيان ذلك في باب التعزير.

    وبناءً على ذلك: لو أن رجلاً تزوج بنتاً عمرها -مثلاً- خمس سنوات، قال وليُّها: زوجتك بنتي، قال: قبلت، وتم العقد بينهما وعقد عليها، ثم قال لها: يا زانية، فحينئذ لا يثبت اللعان ولا يثبت القذف؛ لأن الزنا لا يتأتى من الصغيرة، فليست محلاً للتهمة -وسيأتي في باب القذف من الذي يثبت في حده القذف، ويعتبر قذفه موجباً للحد، ومن هو بخلاف ذلك- فإذا قال لهذه الزوجة الصغيرة: يا زانية ورماها بالزنا، فإن الزنا لا يتأتى منها أصلاً؛ لأن مثلها لا يوطأ وليست محلاً للوطء، وحينئذ لا معنى لقوله: يا زانية، إلا الأذية والإضرار، فليست التهمة بالزنا حقيقية؛ لأنه لا يتأتى منها الزنا الذي له حكمه الشرعي.

    لكن هناك عقوبة وهي التعزير، فينظر القاضي في المرأة المقذوفة التي رماها بالزنا، وينظر إلى حاله، ثم يقدر العقوبة بحسب ذلك، وفي هذه الحالة لا يستطيع الزوج أن يقول: أريد أن ألاعنها وهي زوجتي؛ لأن هذا يدرأ ويدفع عنه الحد، فحينئذٍ لا يثبت أصلاً حد القذف في حقه للأسباب التي ذكرناها، فإذا انتفى أمر القذف ولم يثبت حده فلا وجه للعان، وحينئذٍ ينصرف الأمر إلى جناية لا تقدير لها في الشرع، وهي جناية السب الذي ذكره لها بالزنا، وهذه لا عقوبة لها في الشرع محددة؛ لأنه ليس بالقذف الشرعي الذي يثبت، ولذلك قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلات [النور:23]، والإحصان له شروطه كما سيأتينا إن شاء الله تقريره في باب القذف بإذن الله تعالى، وبناءً على ذلك فلو قذف الصغيرة أو المجنونة التي هي زوجة له، وقيل له: قد قذفتها ونريد أن نعزرك، قال: أريد اللعان، نقول: لا لعان؛ لأن الصغيرة والمجنونة لا يثبت فيمن رماهما حد القذف، ولا يثبت اللعان بسبب ذلك.

    1.   

    القذف بالتعريض والكتابة

    قال رحمه الله: [ومن شرطه قذفها بالزنا لفظاً]

    أي: من شروط ثبوت اللعان، (قذفها) الضمير عائد إلى الزوجة، (بالزنا) إما أن يكون صريحاً، كقوله لها: يا زانية -والعياذ بالله- أو رأيتك تزنين أو أنت زانية، وقد يكون تعريضاً، كأن يقول لها في معرض الغضب وحال الخصومة: إني لست بزانٍ، كأنه يقول لها: أنت زانية، فهذا تعريض، فعند بعض العلماء -كما سيأتينا إن شاء الله في باب القذف- أنه يوجب ثبوت التهمة؛ لأن الله اعتبره موجباً لثبوت التهمة، في قوله: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مريم:28]، فجعل الله عز وجل هذا من الفرية مع أنهم لم يصرحوا لها بالزنا، وكأنهم يقولون: قد خالفت أباك وأمك فأنت على حال ليس كحالهم.

    فعلى كل حال يشترط في ثبوت اللعان أن يكون هناك قذف؛ لأن الله تعالى يقول: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ [النور:6]، فأثبت الله سبحانه وتعالى وجود الرمي، وقد بينا أن الرمي تطلقه العرب حساً ومعنىً، والمراد به في الآية الكريمة الرمي المعنوي وهو القذف، فيشترط أن يرميها بالزنا لفظاً؛ لأن عويمر العجلاني قال: يا رسول الله! الرجل يجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم ماذا يفعل؟ فقد يجد الرجل مع امرأته رجلاً يزني بها، وفي الصحيح من حديث عبد الله بن عباس : (إن هلال بن أمية قذف امرأته بـشريك بن سحماء )، فأثبت أن هناك قذفاً، وجاءت الرواية عن هلال بن أمية أنه قال: (والله! يا رسول الله! لقد سمعت بأذني ورأيت بعيني) فأثبت أنها زانية، وبين أنه يستند إلى المشاهدة والسماع اللذين هما أقوى دليل على ثبوت الأمر، وعدم الشك فيه.

    إذاً: لابد من وجود الرمي بالزنا، وأن يكون لفظاً، فلو رمى بغير الزنا سواءً كان مما فيه فحش أو مما ليس فيه فحش؛ لا يجب اللعان، فمن قال لامرأته: يا غافلة أو يا بلهاء، فهذا ليس بقذف ولا يوجب إثبات الحد، وهكذا لو قال لها: يا مجنونة، فلابد من وجود التهمة بالزنا، وأن تكون لفظاً لا فعلاً، وقال بعض العلماء: الكتابة تنزل منزلة اللفظ، وهذه مسألة تقدمت معنا في حكم طلاق من كتب طلاقه، فقال بعض العلماء: إن كتابة الشيء كالتلفظ به، فمن كتب لامرأته بالطلاق ولم يتلفظ به وقع طلاقه، ومن قذف بالكتابة ولم يتلفظ به فإنه قاذف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عفا لأمتي عما حدثت بها نفسها ما لم تتكلم أو تعمل)، ولأن الله يقول لرسوله عليه الصلاة والسلام: بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة:67]، وقد كتب إلى الملوك ملوك الأرض، فنزّل الكتابة منزلة البلاغ المباشر، فدل على أن الكتابة تنزل منزلة العبارة.

    ومن أهل العلم من قال: إنه لابد من وجود الرمي بالقول إعمالاً للأصل؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، وإذا قذف بالكتابة لم يكن رمياً من كل وجه، ومن هنا: لا يأخذ حكم القذف، وقد تقدمت معنا هذه المسألة في كتاب الطلاق.

    وقوله: (كزنيت): هذا لفظ صريح، فإذا قال لها وهي حاضرة شاهدة: زنيت، فهذه تهمة بالزنا وقذف، والقذف يوجب ثبوت حكمه، وإذا قال: يا زانية أو رأيتك تزنين فهذا أيضاً لفظ صريح، إذا قاله لزوجته وهي حاضرة شاهدة، فهي تهمة بالزنا وقذف، والقذف يوجب ثبوت حكمه.

    1.   

    قول العلماء فيمن قذف امرأته بأنها وطئت في الدبر

    وقوله رحمه الله: (في قبل أو دبر) تقدم معنا مسألة هل اللواط ووطء المرأة في الدبر ينزل منزلة القبل؟

    فيها وجهان للعلماء رحمهم الله:

    فمن أهل العلم من اختار أن وطء المرأة في الدبر كالزنا بها إذا كان من غير الزوج، وهكذا إذا كان زوجاً فإنه قد أتى الحرام، وقالوا: إنه يعزر أشد التعزير.

    ومنهم من قال: يقام عليه الحد. ونسب لبعض العلماء الترخيص فيه، ولكنه مذهب شاذ لا يعول عليه ولا يعمل به؛ لأن الله تعالى يقول: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [البقرة:223]، والحرث إنما هو في القبل دون الدبر، فوطؤها في الدبر كوطء الأجنبية، فهو وطء في غير المحل المعتبر شرعاً، وروى الترمذي حديثاً حسن بعض العلماء إسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم بريء ممن أتى امرأته في دبرها، وهذا وعيد شديد، وجماهير السلف والخلف رحمهم الله أن من كبائر الذنوب إتيان المرأة في الدبر، وللإمام ابن القيم كلام نفيس في هذا، وذكر أن المرأة حينئذ تسوء أمورها، وتفسد أخلاقها، فالرجل إذا أتى امرأته في دبرها أفسدها الله عليه، فذهب ماء وجهها، وأظلم قلبها، وكان سبباً في كثير من المفاسد والشرور، إضافة إلى ما فيه من الاعتداء لحدود الله عز وجل والانتهاك للمحارم، فإن الله يقول: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة:223]، والمراد بإتيان الحرث مكان الوطء، فلو أنه قذف المرأة بأنها وطئت في الدبر، أو وطئت في القبل، فالحكم عند الحنابلة رحمهم الله واحد، فهو كالقذف بالزنا الصريح، فإذا خاطبها بذلك ثبت به القذف، وحينئذ إذا كان زوجاً فإنه يلاعنها.

    1.   

    ألفاظ لا تأخذ حكم القذف ولا توجب اللعان

    قال المصنف رحمه الله: [فإن قال: وطئت بشبهة أو مكرهة أو نائمة، أو قال: لم تزن ولكن ليس هذا الولد مني، فشهدت امرأة ثقة أنه ولد على فراشه، لحقه نسبه، ولا لعان].

    قول الرجل لامرأته: وطئت بشبهة

    (فإن قال: وطئت بشبهة) أي: وطأك الغير بشبهة، والشبهة: الشيء المشبه للشيء الذي فيه ما يقارب أوصافه فيختلط به، فالوطأ بالشبهة هو: الذي فيه شبه من الحلال وشبه من الحرام، مثلاً: امرأة يدخل عليها رجل يظنها زوجة له وهي تظنه زوجاً لها، فيطؤها بشبهة، فهو ظن أنها زوجته ولا يقصد الزنا، ولا يريد الحرام، ولو علم أنها أجنبية لما وطئها، وكذلك هي، فهذه شبهة تدرأ الحد، فيه شبه من الحرام؛ لأنها ليست زوجته، وفيه شبه من الحلال حيث أنه لا يؤاخذ ولا يعاقب؛ لأنه يعتقد أنها زوجته، وكذلك هي مكنته من نفسها ظناً منها أنه زوجها، فهذا وطء الشبهة، ومن وطء الشبهة أن يكون في نكاح فاسد يظن أنه صحيح، فيعقد على المرأة عقداً فاسداً، ويظن أنها قد حلت له بهذا العقد الفاسد، ثم تمكنه من نفسها، وينكحها وهو يظنها زوجة حلالاً، وحينئذ يكون الوطء فيه شبهة تمنع الحد، ويثبت بها نسب الولد.

    فلو قال لامرأته: وطئت بشبهة، لم يكن قذفاً؛ لأن هذا ليس برمي بالزنا، فليس بقذف ولا يوجب ثبوت اللعان؛ لأنه إذا لم يكن اللفظ قذفاً لا يثبت اللعان.

    قول الرجل لامرأته: وطئت مكرهة

    وقوله: (أو مكرهة): أي: وطئت مكرهة، إذا أكرهت المرأة على الزنا فجماهير العلماء رحمهم الله أنه لا يقام عليها حد الزنا، وأنها لا تأخذ حكم الزانية؛ وذلك لأنها إذا أكرهت سقط التكليف عنها، والله تعالى يقول: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]، فلو أن امرأة توافرت شروط الإكراه فيها، وقد ذكرنا هذه الشروط في طلاق المكره، وقلنا: إن من شرط الإكراه أن يكون الشيء الذي تهدد به أعظم من الشيء الذي يطلب منها، فالقتل أعظم من الزنا، فلو قيل لها: إذا لم تزني قتلناك أو قتلنا ولدك، وعلمت أنه سيقع هذا الشيء الذي هددت به، ولا يمكنها أن تستصرخ ولا أن تستنجد، فمكنت من الزنا بها، ولكنها كارهة بقلبها غير مطمئنة، فهذه توافرت فيها شروط الإكراه، فجاء زوجها وقال لزوجته: وطئت مكرهة، فاشتكته عند القاضي وقالت: قذفني، فنقول: قوله: وطئت مكرهة، ليس بقذف؛ لأن الوصف بالإكراه يوجب ارتفاع حكم اللعان، وهذا وصف حقيقي، وهكذا لو قال: وطئت بشبهة، أو وطئت مكرهة، على أمر يعلمه بينه وبينها، فإنه لا يوجب ثبوت القذف.

    قول الرجل لامرأته: وطئت نائمة

    وقوله: (أو نائمة): أي: وطئت نائمة، المرأة إذا وطئت وهي نائمة، اندرأ عنها الحد، ولا يوجب ذلك ثبوت زناها، كما إذا كانت ثقيلة النوم، وقد أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن امرأة كانت صالحة، ففوجئ أهلها بأنها حامل، فرفع أمرها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فسأل عنها فوجد أنها ممدوحة بالخير ويثنى عليها، فسأل عن أمرها فقالت: يا أمير المؤمنين! إني كنت نائمة ولم أشعر إلا وقد فرغ الرجل من حاجته، فدرأ رضي الله عنه عنها الحد.

    فالمرأة إذا كانت نائمة فإنها غير مكلفة، فلو وطئت وهي نائمة، ثم قال لها زوجها: وطئت وأنت نائمة، فإن هذا لا يوجب ثبوت اللعان.

    1.   

    من لم يرم زوجته بالزنا ونفى الولد

    قال المصنف رحمه الله: (أو قال: لم تزن ولكن ليس هذا الولد مني) القذف في اللعان يشتمل على صورتين:

    الصورة الأولى: أن يرميها بالزنا.

    الصورة الثانية: أن ينفي الولد ولا يرميها بالزنا، يقول: هذا الولد ليس بولدي، فيقال له: تتهمها بالزنا؟ يقول: هذا الولد ليس بولدي، وقد تحمل المرأة وتكون معذورة شرعاً، مثل أن توطأ بشبهة، أو شاهدها وقد أكرهت فقال: هذا الولد ليس بولدي، فيقع اللعان على نفي الولد.

    فتارة يقع اللعان على درأ حد القذف، وتارة يقع على نفي الولد.

    دليل الصورة الأولى: حديث ابن عباس رضي الله عنهما -في الصحيحين- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـهلال بن أمية : (البينة أو حد في ظهرك)، فهو اتهم زوجته بالزنا، ودرأ عن نفسه الحد بهذا اللعان.

    ودليل الصورة الثانية -وهي أن ينفي الولد-: ما جاء في قصة هلال، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انظروا إليه فإن جاءت به خدلج الساقين، أكحل العينين، سابغ الأليتين، فهو للذي رميت به)، وجاءت به على هذه الصفة، وخدلج الساقين: أي: كثير لحم الساقين، وأكحل العينين: أي: أنه شديد سواد منابت الشعر في عينيه كأنها قد أكحلت، وسابغ الأليتين: أي كثير الشحم في الأليتين، فجاءت به على هذه الصفة، فهذا لعان على نفي الولد، فوقع لعان هذا الصحابي على الصورة التي يسميها العلماء: الصورة المركبة، وهي: أن يجمع بين نفي الولد وزناها، فيشهد في اللعان قائلاً: إن زوجتي فلانة زانية، وإن هذا الولد ليس بولدي، وإذا كانت حاملاً يقول: وهذا الحمل ليس مني.

    وقد يكون اللعان بنفي الولد دون التهمة بالزنا، والمرأة قد تحمل بدون زنا، فربما لو دخلت مستحماً للرجال، فاستدخلت ماء الرجل في فرجها، فيقع الحمل دون وجود الزنا، وهذا قد يقع، وهذا الذي جعل التحليلات الطبية ليست بدليل شرعي كشهادة الأربعة العدول، ومن هنا تدرك عظمة هذه الشريعة، وبعض الناس قاصر فهمه يقول: الآن عندنا تحليلات طبية، التحليلات الطبية ليست بدليل شرعي، فربما أن المرأة تحمل باستدخال المني في الفرج بدون الوطء، وهذا معلوم وموجود.

    فقد يقع الحمل في صور بدون وطء، لكن ليس هناك مثل أربعة عدول من المسلمين يشهدون أنهم رءوا الزنا، وأنهم رءوا الرجل يزني بالمرأة، وأن ذلك منها كالميل في المكحلة، فهذا من أثبت وأوضح ما يكون، أو تقر المرأة أو يقر الرجل على هذا الشيء، فهذه هي البينات الشرعية.

    فالشاهد أنه حينما يقول: هذا الولد ليس بولدي، ولا يتهمها بالزنا، فهذا نوع من اللعان فينفي الولد، وهي تلاعن على أن الولد ولده. قال رحمه الله: (أو قال: لم تزن ولكن ليس هذا الولد مني): ليس ولدي أو ليس مني، وهذه المسألة لها صور:

    إذا كان الزوج يشك في الولد وفي الحمل، ونفى الولد وقال: هذا الولد ليس بولدي، فحينئذ إما أن ينفيه حال حملها قبل الوضع، أو ينفيه بعد الوضع.

    فإن نفاه حال حملها فللعلماء وجهان:

    من أهل العلم من قال: لا تصح الملاعنة حتى تضع، فلا يرون اللعان في حال حمل المرأة؛ لاحتمال أن يكون الانتفاخ الذي في بطن المرأة مرض وليس بحمل، فحينئذ لا لعان؛ لأن هناك شبهة، وهناك أمر غير بين، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة رحمهم الله.

    وقالت الشافعية والمالكية: يصح اللعان على نفي الحمل، وهذا ثابت في حديث هلال بن أمية، فإنه لما لاعن نفى النبي صلى الله عليه وسلم الولد منه، ولم يجعله له، فدل على أن اللعان وقع على الزنا وعلى نفي الولد. والصحيح أنه يصح اللعان على نفي الحمل خلافاً لمن قال: لا لعان حتى تضع المرأة.

    إذاً: إذا نفى الحمل قبل أن تضعه المرأة، فالصحيح أنه يقع اللعان، وأن المرأة تلاعن، والرجل يلاعن.

    الصورة الثانية: أن يقع نفيه للولد وتهمته لزوجته وأن الولد ليس بولده بعد وضعها، فمن أهل العلم من قال: يشترط أن يكون بعد الوضع مباشرة فلا يتأخر؛ لأن سكوته بعد وضع الولد، وقبوله للتهنئة بالولد يعتبر رضاً منه بنسبته إليه، وإقرار منه أن الولد ولده، فيشترطون أن يكون نفيه مباشرة، وألا يكون هناك تأخر ولا تراخٍ.

    فهناك ثلاث صور:

    الصورة الأولى: أن يقول: الولد ليس بولدي، وهي زانية، فجمع بين الأمرين بين نفي الولد وزناها.

    الصورة الثانية: أن يقول: لم تزن، والولد ليس بولدي، فنفى الزنا لكن أثبت أن الولد ليس بولده.

    الصورة الثالثة: أن يقول: الله أعلم زنت أو ما زنت، لا أدري، ولكن الولد ليس بولدي.

    هذه ثلاث حالات: فإذا نفى الزنا وأثبت الولد -وهذا الذي يعنينا- قال فيه المصنف رحمه الله: (وشهدت امرأة ثقة أنه ولد على فراشه لحقه نسبه ولا لعان)؛ لأن الولد للفراش، والفراش هي الزوجة، وخذ هذه القاعدة: من عقد على امرأة عقداً شرعياً، ومضت مدة يمكن أن تحمل فيها أو تضع، فجميع ما تضعه المرأة -والعقد قائم- ينسب لهذا الرجل، سواء وضعته في حال حياته أو بعد موته بمدة الإمكان على تفصيل سيأتينا إن شاء الله في لحوق النسب، والدليل على هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر)، فقوله عليه الصلاة والسلام (الولد للفراش) قاعدة في أننا ننسب الولد للفراش، فإن كانت منكوحة نسب إلى الناكح، وإن كانت غير منكوحة نسب إلى أمه؛ لأنه ولد زنا والعياذ بالله!

    وبناءً على ذلك: إذا قال: هذا الولد ليس بولدي، ففيه تفصيل: بعض العلماء يقول: إذا نفاه مباشرة بعد الوضع فإنه من حقه، وخاصة على مذهب من لا يرى اللعان حال الحمل، فإذا وضعت الولد وقال: هذا الولد ليس بولدي، أو شهد عدول على أنه نفاه مباشرة وأنه لم يقبل التهنئة به، ولم يثبت الدليل على رضاه؛ صح نفيه ولاعن.

    لكن المصنف رحمه الله يقول: (إذا شهدت امرأة ثقة) وهذه المسألة تعرف عند العلماء بشهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال، وستأتينا إن شاء الله في باب البينات، ونبين أن الشريعة تقبل شهادة الرجال فقط كما في الحدود والدماء ولا تقبل شهادة النساء، ولذلك ما ذكر الله شهادة النساء في الدماء وفي الحدود، فمثلاً في الزنا، ما يشهد ثمان نسوة، ولذلك قال: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [النور:4]، ولم يذكر البدل من النساء، وفي هذا حكمة عظيمة؛ لأن النساء تغلب عليهن الغيرة، ويغلب عليهن الاستعجال للضعف البشري الذي هو من طبيعة خلقهن، لو خلق الله بنيتي ضعيفة، ما آتي وأقول: لماذا خلقني الله ضعيفاً؟ هذه خلقة الله سبحانه وتعالى، وهذا الضعف الحاصل في المرأة كمال لها في مواطن، لكن خلقها سكناً للرجل وفيها هذا الضعف، ولذلك جبرت شهادتها بشهادة أختها، فقال: فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى [البقرة:282]، فجعل شهادتها في الأموال وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا [البقرة:282]، فبين الله علة جعل شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل، أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ [البقرة:282]، وفي قراءة فَتُذْكِرَ يعني: تجعلها كالذكر، (فَتُذْكِرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى [البقرة:282]، فتنقل شهادتها من النقص إلى الكمال، فالأمور التي تقبل فيها شهادة النساء هي الأموال وما يئول إلى الأموال إعمالاً للنص، وهذا هو الأصل الذي ورد في كتاب الله عز وجل، والمرأة لا تساوي الرجل في هذا، يرضى من يرضى، ويغضب من يغضب، هذا شرع الله عز وجل، وهذا كتاب الله، وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

    وقد بينا غير مرة أن الله سبحانه وتعالى فضّل الرجل على المرأة بنصوص الكتاب والسنة التي لا تقبل جدالاً ولا مراءً، كقوله: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [الزمر:6]، فأول ما خلق الله بيده آدم، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له الملائكة، ولم تكن حواء مخلوقة مستقلة، وإنما خلقها من آدم، تشريفاً للذكر وتكريماً له، والله يفضل من شاء كيف شاء ومتى شاء وبما شاء، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الأنبياء:23]، فذلك فضل الله عز وجل يؤتيه من يشاء، فهذا التفضيل حتى في الخلقة والإدراك والتركيز والشعور، فالمرأة من حيث هي لا تقبل شهادتها في الدماء، ولذلك انظر إلى المرأة إذا وقع أمامها أي جرح تغمض عينيها فهي لا تتحمل، والشهادات تحتاج إلى تحمل، وتحتاج إلى قوة، خاصة الأمور التي فيها قتل، وفيها جرائم، وفيها اعتداء، فمن هنا: نقول إن شهادة النساء تقبل في الأموال، وفيما لا يطّلع عليه إلا النساء -وهذا محل الشاهد معنا هنا- كمسألة كون المرأة بكراً أو ثيباً، كما تقدم معنا في مسائل النكاح، وكمسألة الوضع في الفراش؛ لأن المرأة تلد غالباً عند النساء، فالنسوة هن اللاتي يقمن بتوليد النساء في الأصل، وهذا الذي أثبتته قواعد الشريعة؛ لأن الجنس مع الجنس أبعد عن الفتنة، وأبعد عن الحرام والوقوع في المحظور، فإذا ثبت هذا، فمن حيث الأصل أن المرأة تقبل شهادتها في الأموال، وما يئول إلى الأموال، وفيما لا يطلع عليه إلا النساء، مثل مسألة الولادة، ومسألة الرضاعة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قبل فيه شهادة الواحدة، حينما قال عليه الصلاة والسلام: (كيف وقد قيل؟) وسيأتينا إن شاء الله في باب الرضاع، فلما قبل امرأة واحدة في إثبات الرضاع وهو مما لا يطلع عليه إلا النساء دل على قبول شهادتهن في نوع خاص، وهذا فيه تفصيل عند العلماء وضوابط وقيود؛ لأن الأصل يقتضي ألا تقبل الشهادة إلا بالعدد، فإذا شهدت المرأة الثقة أن امرأة ولدت هذا الولد على فراشه، وما زال النكاح قائماً، وما زالت الزوجية قائمة على صفة يلتحق به الولد، فحينئذ الولد ولده ولا لعان على ما اختاره المصنف رحمه الله، ونحن قد بينا أن العمل على التفصيل، فإن كان هناك مبادرة بالإنكار حال حمله أو بمجرد وضعه، فله الحق أن يلاعن وأن ينفي هذا الولد عنه.

    1.   

    تكذيب الزوجة لزوجها شرط في وقوع اللعان

    قال المصنف رحمه الله: [ومن شرطه أن تكذبه الزوجة]:

    ومن شرط وقوع اللعان أن تكذبه الزوجة، فلو أن الزوجة صدقته فإنه يقام عليها الحد، لو قالت: هو صادق، وأقرت بذلك في مجلس القاضي ثبتت عليها جريمة الزنا ويقام عليها الحد.

    لكن لو أنه قال لها: يا زانية، في البيت وسكتت، وسألتها إحدى النساء: هل أنت زانية؟ قالت: نعم، ووقع إقرارها في البيت، فحينئذ لا لعان؛ لأن اللعان يكون مع امرأة تكذب وتنفي، ولذلك ستشهد بالله أيماناً مغلظة على أنه ليس بصادق أو أن هذا الولد ولده، إذاً: لابد أن تكذبه المرأة.

    1.   

    الأمور المترتبة على اللعان

    سقوط الحد والتعزير

    قال المصنف رحمه الله: [وإذا تم سقط عنه الحد والتعزير].

    وإذا تم اللعان على الصفة المعتبرة شرعاً فلاعن الزوج سقط عنه الحد، وسقط عنه التعزير، والأصل أن الزوج إذا لاعن فإنه يدرأ بأيمان اللعان الحد عن نفسه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـهلال بن أمية : (البينة أو حد في ظهرك) فقال: يا رسول الله! الله يعلم أني صادق فيما أقول، وسينزل الله فيّ قرآناً، فأنزل الله فيه قرآناً، فأثبت اللعان لأجل درأ الحد عن الزوج، فدل على أن الزوج إذا لاعن، وحلف أيمان اللعان كاملة أنه يندرأ عنه الحد.

    الفرقة الأبدية بين الزوجين

    قال المصنف رحمه الله: [وتثبت الفرقة بينهما بتحريم مؤبد]

    إذا لاعن رجل زوجته، وحلفت المرأة أيضاً ولاعنت، فيفرق بين الزوج والزوجة فراقاً أبدياً، قال الزهري رحمه الله: مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما فلا يجتمعان أبداً، ولذلك لما لاعن عويمر زوجته، وسأل عن المهر قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كنت صادقاً -أي بأنها زانية- فالمهر لها بما استحللت من فرجها، وإن كنت كاذباً فهو أبعد لك منك)، فشبه إجماع بين العلماء رحمهم الله أنه يفرق بين المتلاعنين فراقاً أبدياً فلا يجتمعان.

    ولكن إذا كذب نفسه وقال: كذبت فيما رميتها به، وهي ليست بزانية، فهل يحق له أن يعقد عليها وترجع إليه؟ قال بعض العلماء: يصح ذلك، ويقام عليه الحد، وترجع إليه زوجته؛ لأنه شرع لسبب وهو بقاء اللعان، ومن العلماء من يقول: إذا وقع اللعان وقعت الفرقة إلى الأبد؛ لأنه تنتقل حكومة الزوج والزوجة من الدنيا إلى الآخرة، فيبقى الفراق بينهما حتى يقضي الله بينهما بالحق، وهو خير الفاصلين، فيقضي الله بينهما في حكومة يوم الدين؛ لأن كلاً منهما قد أتى ببيناته وشهاداته، فتعذر ترجيح إحدى الشهادتين على الأخرى، فبقي الأمر معلقاً إلى يوم القيامة.

    1.   

    الأسئلة

    إذا شهد أربعة على المرأة بالزنا فهل لزوجها أن يلاعنها؟

    السؤال: إذا وجد الشهود فهل للزوج أن يلاعنها أو يكتفى بشهادة الشهود وتستحق الرجم؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    هذه مسألة خلافية، فمن أهل العلم من يقول: من عنده بينة فإنه لا يلاعن، وإنما يقيم البينة ولا لعان، وحينئذ لا يثبت اللعان بالشهود.

    ومن أهل العلم من قال: هو مخير لاحتمال أن تكون البينة كاذبة؛ لأنه قد يشهد شهود ويكون عندهم خطأ أو يكون عندهم كذب وتزوير والعياذ بالله! ويريدون إلحاق الضرر بالمرأة، قالوا: فالأفضل: أنه يلاعن حتى يمكنها من أن تدفع عن نفسها الضرر، وعلى كل حال، فكلا القولين له وجه، لكن الأحوال تختلف، فإذا كان يعلم أنها زانية وعنده شهود فالأفضل والأكمل سترها بشرط ألا يكون هناك حمل يلتحق به، فإذا كان هناك حمل ولا يمكنه أن يدفع هذا الحمل إلا باللعان فقد فصلنا فيه القول في أول باب اللعان، وبينا متى يجب عليه أن يلاعن، ومتى يجوز، ومتى يحرم.

    فعلى كل حال إذا كان عنده بينة، وعلم أنها زانية، وحصل منه قذف لها، واشتكت؛ فحينئذ الأولى والأحرى أن يقيم عليها البينة، حتى لا يكون هناك تلاعب بحدود الله فتشهد بالباطل، وإذا لم تكن عنده بينة ولم يكن هناك شكوى منها وأراد الستر عليها ولا ضرر عليه فالأفضل والأكمل أن يستر عليها؛ لأن الشريعة نصوصها مطبقة على مشروعية الستر وأفضلية الستر، حتى إن ماعزاً رضي الله عنه لما اعترف بالزنا ندبه النبي صلى الله عليه وسلم أن يستر على نفسه، وهذه من الرحمة التي بعث بها سيد الأولين والآخرين، صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين، والله تعالى أعلم.

    اندراج الحد الأدنى تحت الحد الأعلى في العقوبات

    السؤال: أشكل عليّ قول المصنف: [سقط عنه الحد والتعزير]، فما هو التعزير المقصود هنا؟

    الجواب: هو في مسألة إذا جمع بين نفي الولد وبين التهمة بالزنا، فحينئذ يسقط عنه حد القذف بالزنا، ونفي الولد في غير اللعان يوجب التعزير، فيسقط تعزيره باللعان.

    الصورة التي ذكرها المصنف رحمه الله أنه ينفي الولد والمرأة تشهد أن الولد ولده، فإذا كان هناك اشتراك بين ما يوجب الحد والتعزير، سقط عنه الحد فيما يوجب الحد، وسقط عنه التعزير فيما يوجب التعزير.

    ومن العلماء من يقول: إذا لاعن سقط عنه الحد، لكن يبقى التعزير فيعزر، فمسألة اندراج التعزير تحت سقوط الحد قد تقدمت معنا في مسألة الاندراج، فإن الاندراج يقع في العبادات مثل من يصلي راتبة الظهر فتندرج تحتها تحية المسجد، ومن يطوف طواف الإفاضة وينوي تحتها الوداع، ويقع أيضاً في العقوبات، فيندرج الحد الأدنى تحت الأعلى، وقد أثر عن ابن مسعود رضي الله عنه ذلك -كما حكاه غير واحد من العلماء رحمهم الله- أنه لو زنى وهو محصن، وسرق، وقتل؛ فإنه يقام عليه حد القتل قصاصاً، ويندرج تحته حد الزنا؛ لأنه اجتمع حق الله عز وجل وحق المخلوق، فلابد أن يقتل مرة واحدة، فإننا لو رجمناه بقي حق القصاص، ولو قتلناه قصاصاً بقي حق الزنا، فقال: يقام عليه حد القصاص ويندرج تحته باقي العقوبات، وحتى إن بعضهم يقول: لا يقام عليه حد السرقة الذي هو الأخف، ومذهب بعض العلماء أنه تقام عليه الحدود الممكنة، تندرج الحدود التي لا يتعذر جمعها، والله تعالى أعلم.

    السن الذي تتأهل فيه المرأة للوطء

    السؤال: ما هو ضابط العمر بالنسبة للتي توصف بأنها صغيرة؟

    الجواب: السن الذي تتأهل فيه المرأة للوطء هو التسع سنوات، وهذا يختلف باختلاف النساء واختلاف المناطق، لكن في الغالب تسع سنوات، وقد تقدم معنا هذا في كتاب الحيض، وبينا أن المرأة تتأهل لهذا بوجود الحيض فيها، وقد تكون ضعيفة البنية، لكن هذا بالنسبة إلى الغالب، خاصة في المناطق الحارة، ولذلك قال الإمام الشافعي رحمه الله: أعجب من رأيت في الحيض نساء تهامة، فإني وجدت جدة وعمرها إحدى وعشرون سنة، أي: أنها تزوجت وعمرها تسع سنوات، وحملت ووضعت حملها في العاشرة، ثم هذا الحمل بلغ تسع سنين، فأصبح عمر الأم تسع عشرة سنة، ثم حملت البنت ثم وضعت، فأصبح عمر الأم إحدى وعشرين سنة، لكن هذا لما كان النساء في زمان البركة، ويأكلن أكلاً طيباً، أما اليوم -والله المستعان- ضعفت البنية، الآن لو تزوج بنتاً عمرها ثمان سنوات، تقوم الدنيا ولا تقعد، وعائشة رضي الله عنها تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم نكحها -يعني عقد عليها- وهي بنت ست سنوات، ودخل بها وهي بنت تسع سنين!

    فالمرأة تتأهل للحيض، وتتأهل للوطء، وعمرها تسع سنوات، والله تعالى أعلم.

    حكم بول وروث الجلالة

    السؤال: إذا كان يحرم أكل لحم الجلالة، فهل معنى ذلك أن بولها وروثها نجس؟

    الجواب: مسألة الاغتذاء بالنجاسة؛ فيها خلاف وتفصيل عند العلماء رحمهم الله، والثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه نهى عن أكل الجلالة حتى تحبس، وهذا يقتضي أنها تضررت بما أكلته، وإذا كانت تأكل النجس فقد أثر فيها، وينبغي فهم العلل من النصوص بما فيها من دلائل، فإذا كانت جلالة تأكل النجاسات فهي نجسة، وإن كانت تأكل القاذورات فهي مستخبثة، فيكون التحريم إما للنجاسة وإما للاستخباث، ولذلك طائر الرخم، وهو الطائر المعروف الذي يأكل الجيف ويغتذي بها لا يؤكل، مع أنه ليس من ذوات المخالب كالنسر والباز والباشق والشاهين وغيرها من الطيور الجارحة، قالوا: إنما حرم طائر الرخم لخبث مأكله، ودليل ذلك قوله تعالى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157].

    والجلالة لها صورتان:

    بهيمة الأنعام أو الدواجن كالدجاج التي تتغذى على النجاسة أو التي تتغذى على القاذورات. فتتغذى بالنجاسة مثل أن تطعم الدماء، فبعض الدجاج تطعم الدم الذي يكون مسفوحاً، فيجفف ثم تطعم، فهي متغذية بالنجاسة، وحكمها حكم الجلالة، أو تتغذى بالقاذورات مثل أن تطلق البهيمة كالبقر فتأتي إلى الزبائل وتأكل منها -أكرمكم الله-، فلا يشرب من حليبها، ولا يطعم من لحمها، حتى تحبس؛ فإذا حبست وأطعمت طعاماً طيباً حل أكلها وذبحها، وحل أيضاً الاغتذاء بلبنها، وبعضهم يرى حبسها أسبوعاً حتى تطيب.

    فالمنع من أكل الجلالة لأمرين: إن كانت تأكل النجاسة فللنجس، وإن كانت تأكل القاذورات فللقذر، والله تعالى أعلم.

    حكم صلاة الوتر والضحى والإشراق للمسافر

    السؤال: هل للمسافر أن يصلي صلاة الوتر والضحى والإشراق؟

    الجواب: السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ما ترك الوتر حضراً ولا سفراً، ولذلك ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه كان عليه الصلاة والسلام يوتر على بعيره، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه أوتر على بعيره فسئل عن ذلك -كما في الصحيحين- فقال: (لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله ما فعلته)، فأوتر على بعيره إلى غير القبلة في السفر، فالسنة ألا يترك المسافر الوتر لا حضراً ولا سفراً.

    وأما بالنسبة للضحى ففيه خلاف، وظاهر السنة أن صلاة الضحى تترك، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام (إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمله صحيحاً مقيماً)، ومن أهل العلم من قال: تصلى الضحى في السفر لحديث أم هانئ رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الفتح ضحى فصلى في بيتها ثماني ركعات، فمن أهل العلم من قال: إنها ركعات الضحى، ولذلك يرى بعض أهل العلم أن أوسط الكمال في الضحى ثمان ركعات، وأعلاها اثنتا عشرة ركعة، والصحيح أن هذه الثمان الركعات هي ركعات الفتح، صلاها عليه الصلاة والسلام شكراً لله عز وجل في اليوم الذي أعز الله فيه جنده، ونصر عبده، وأنجز وعده، وهزم الأحزاب وحده لا شريك له، فصلى لله شكراً، ولذلك ما صلى كذلك إلا يوم الفتح، وصلاها سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه يوم فتح إيوان كسرى، فهذا هو الصحيح أن الثمان الركعات التي صلاها عليه الصلاة والسلام في بيت أم هانئ إنما هي صلاة الفتح شكراً لله عز وجل على نعمة الفتح.

    وصلاة الضحى الأشبه أنه لا يصليها المسافر، ولكن إذا أراد أن يصليها من باب الخروج من الخلاف فلا بأس وفيه وجه من السنة، والصحيح والأقوى أنها لا تصلى إلا حضراً.

    وأما بالنسبة لركعتي الإشراق، فالإشراق عام، فلو أنه سافر إلى جدة أو سافر إلى مكة أو سافر إلى المدينة فصلى الفجر في جماعة، ثم قال: أريد الخير، فانتظر حتى طلعت عليه الشمس في مصلاه وهو يذكر الله، ويقعد في نفس المصلى يذكر الله عز وجل، ولا ينام ولا يتحدث في أمور محرمة، ولا يتحول عن مكانه، ثم يصلي ركعتين بعد طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح، فله أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة، ولا يشكل على هذا ما ورد عن الصحابة -كما في الصحيح من حديث جابر- أنهم كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الفجر ويتحلقون عليه؛ لأن هذا ليس له علاقة بمسألة ركعتي الإشراق؛ لأن الإنسان مخير بين أن يجلس في مكانه فيصيب ركعتي الإشراق، وبين أن يجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم من طلب العلم، وطلب العلم أفضل من العبادة، ولذلك لو تعارض الجلوس إلى الإشراق مع حلقة علم، فإن نفع العلم متعدٍِ فهو مقدم على العبادة القاصرة، بل لو مضى إلى ذلك المجلس وفي نيته أنه لولا المجلس ولجلس إلى الإشراق وصلى، فإن الله يكتب له الأجرين، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، والله تعالى أعلم.

    الأفضل في حق ولد تجاه والد كبير السن متقاعد

    السؤال: والدي كبير في السن، وقد تقاعد من عمله، وهو ممن يحب العمل، فهل من البر البحث له عن عمل أم أحثه على الانشغال بالعبادة؟

    الجواب: ابحث له عن عمل إذا كان عنده قدرة وطاقة ويحب أن يعمل، فالتمس رضاه بعد رضا الله عز وجل، وإذا كان يمكنك أن تقوم على معيشته أو راتبه يكفيه فيتفرغ للعبادة فهو أفضل، فمن تفرغ لربه كفاه الله ما أهمه من أمر دينه ودنياه وآخرته، وهكذا كان كبار السن من أهل الإسلام يلزمون بيوت الله عز وجل، ويعكفون على العبادة لعل الله أن يختم لهم بخاتمة الخير، والمؤمن إذا شاب شعره، ورق عظمه انتظر مجيء النذير من ربه، وانتظر الأجل الذي قدره له مولاه، فيستكثر من الأعمال الصالحة، ولربما ينكسر قلبه، ويخشى الله سبحانه وتعالى، فيتوب توبة نصوحاً يغفر الله له بها ذنوب العمر كلها، وكم من رجل مسيء خطّاء كثير الذنوب أسرف على نفسه، فوقف في آخر عمره على باب الله عز وجل يرجو رحمته فانكسر لله قلبه، واطمأن بذكر الله فؤاده، وسأل الله وتعالى أن يعفو عما سلف من الذنوب والعصيان، ولربما كان ابن سبعين أو ابن تسعين أو ابن مائة أو أكثر من ذلك وصدق مع الله فصدق الله معه، فمحا الله عنه ذنوب عمره كلها، والله يفرح بتوبة التائبين، ويحب من عبده أن يقبل عليه وهو أرحم الراحمين، هو أغنى ما يكون عن عباده، والعباد أفقر ما يكونون إليه، فالمؤمن إذا شقي في هذه الدنيا وتعب في جني مالها لكي يعف نفسه ويعف أهله، فعلى أولاده إذا كبر سنه، ورق عظمه أن يتقوا الله فيه، وأن يرحموا كبر سنه، وأن يحاول الابن البار أن يقوم على أبيه في آخر عمره، وأن يتفانى وأن يضحي وأن يجلب له ما يسد رمقه، ويعينه على ذكر الله عز وجل، وكم من ابن بار فتحت له أبواب الخير بدعوات صالحات طيبات مباركات من أم برها أو أبٍ أكرمه في آخر عمره، فكفاه مئونة الدنيا، وكتب الله له بذلك سعادة الدنيا والآخرة، فيوصى الابن أن يبحث أول شيء عن سداد حاجة والده، إذا كان الوالد بحاجة وعندك القدرة على أن تسد حاجته وتضحي له فحينئذ تقطعه عن الدنيا وتقول له: يا أبت! تفرغ لآخرتك واستجمع قلبك لربك، وكفى ما مضى، وجزاك الله عني وعن إخوتي وأهلك كل خير، لم تقصر في شيء فجزاك الله كل خير، والآن سأقوم على أمرك، وأسعى في جلب الرزق إليك، فادع الله أن يعينني، فتسعى والله سبحانه وتعالى لا يخيبك، وكم من عبد يرزق بفضل الله ثم بفضل والديه، ولذلك لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم الرجل يسعى على أخيه وهو عبد صالح قال عليه الصلاة والسلام: (لعله يرزق بسببه)، يعني: الأخ الغني فتح الله له أبواب الغنى والرزق بسبب قيامه على أخيه، وهذا رحمة من الله سبحانه وتعالى يرحم بها عباده. على كل حال، إذا كان الوالد بحاجة إلى الراحة فالأفضل أن تقوم عليه، وإذا كنت تستطيع أن تكفيه هذا الهم وتقول له: اجلس في البيت وأنا أقوم عليك ولا يتأذى بذلك ولا يتضرر فافعل رحمك الله، واحتسب الأجر عند الله، وإن من أعظم الطاعات وأجلها زلفى عند الله -بعد توحيده والإيمان به وعبادته- بر الوالدين، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم لنا ولك ولكل مسلم التوفيق لذلك، والله تعالى أعلم.

    إذا نوى المسافر الإتمام ثم تبين أن الإمام مسافر

    السؤال: مسافر ظن إمامه مقيماً فنوى الإتمام، ثم تبين أن الإمام مسافر، فهل يلزم بالإتمام؟

    الجواب: من دخل وفي نيته أن يتم لزمه الإتمام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما لكل امرئ ما نوى)، فإذا نويت الإتمام وجبت عليك الأربع.

    ودائماً على الشخص أن يحتاط إذا شك في الإمام: هل هو مقيم أو مسافر أن ينوي القصر، فإذا نويت القصر وكان الإمام مسافراً فلا إشكال، تسلم معه، وإذا نويت القصر وكان مقيماً أحدثت الإتمام؛ لأنه يجوز الزيادة على النقص، فلا بأس أن تدخل بنية القصر ثم يتبين أن إمامك مقيم فتنوي الإتمام، فلا حرج عليك في ذلك ولا بأس، والله تعالى أعلم.

    إذا سافر بعد الأذان فهل يصليها قصراً أم يتمها؟

    السؤال: أذن الفرض وأنا مقيم ثم شرعت في السفر بعد الأذان مباشرة، فإذا أردت الصلاة وأنا في الطريق فهل أتم أم أقصر؟

    الجواب: إذا خرجت من آخر عمران المدينة وبيوتها وأذن عليك الأذان بعد خروجك فأنت مسافر، وتقصر صلاتك إذا كانت رباعية، وأما إذا أذن الأذان قبل خروجك -ولو بخطوة واحدة- من المدينة فإنه يجب عليك أن تتم الصلاة؛ لأنه توجه عليك النداء بأربع ركعات، ووجبت عليك وأنت مقيم، فلا يجوز إسقاط الأربع؛ لأنها ثبتت في ذمتك، وبناءً على ذلك يجب عليك الإتمام ما دام قد أذن عليك أذان الظهر أو العصر أو العشاء قبل أن تخرج من آخر العمران، أما إذا خرجت وأذن عليك بعد خروجك فلا إشكال، والله تعالى أعلم.

    التخفيف في الركعتين الأخيرتين يشمل التخفيف في جميع الأركان

    السؤال: هل من السنة في الرباعية تطويل الركعتين الأوليين وتخفيف الأخيرتين؟ وهل التخفيف في جميع الأركان؟

    الجواب: الظاهر من السنة أن التخفيف في جميع الأركان، ولكن التخفيف نسبي، فثبت عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه -وكان أميراً لـعمر على الكوفة- وكان رضي الله عنه وأرضاه من أحرص الناس على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا الصحابي الجليل الذي يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (ارم فداك أبي وأمي)، هذا الصحابي الجليل الذي غبّر قدمه في سبيل الله عز وجل، وأبلى في الإسلام بلاءً عظيماً لا يعلم قدره إلا الله عز وجل، ومع هذا كله آذاه أهل الكوفة، وانظر كيف يبتلى الصالحون! فكل داعية وكل طالب علم وكل عبد صالح يتكلم فيه فلينظر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل ذلك أنبياء الله عز وجل، فهذا الصحابي الجليل آذاه أهل الكوفة، وما زالوا يؤذونه حتى أرسلوا وفداً إلى عمر ، وذكروا له عدة شكاوى: أول شيء أنه وضع باباً بينه وبين الناس، فجعل على قصره باباً لكي يحتجب عن الناس.

    ثانياً: قال قائلهم: أما وقد سألتنا عن سعد فإنه لا يقسم بالسوية، ولا يمشي في السرية، والشكوى الثالثة إنه لا يحسن أن يصلي بنا! قبحهم الله وقبح ما جاءوا به، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ [الكهف:5]، فزعموا أنه لا يحسن الصلاة، انظروا ماذا يقولون عن أحد الأجلاء الذي كان سابع سبعة في الإسلام؟ كان يقال له: سبع الإسلام، وقيل: سدس الإسلام، ومع هذا قالوا عنه: ما يحسن الصلاة! شرعت الصلاة فرآها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم كفار، أو أن أمهاتهم لم تلدهم، ما كانوا يفقهون من دين الله شيئاً، وهو يجاهد ويجالد رضي الله عنه وأرضاه مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يأتون ويقولون: ما يحسن أن يصلي! -وهذا في الصحيح-، فأرسل عمر محمد بن مسلمة، فوجد الباب كما ذكروا فأحرق الباب، وكان قد قال له عمر : إن وجدت له باباً كما زعموا فأحرقه ثم لا تلبث حتى تأتيني به، فلما جاء وقف على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقام الوفد وقال أحدهم: أما وقد سألتنا عن سعد فإنه لا يقسم بالسوية، ولا يمشي في السرية، ولا يحسن أن يصلي بنا الصلاة، فقال رضي الله عنه: أما الباب فإن الناس الذين في السوق قد شوشوا عليّ أثناء الخصومات؛ لأنه كان يقضي بين الناس، فكان إذا جلس يريد أن يسمع الخصوم، علت أصوات الناس في السوق، فلا يستطيع أن يسمع الخصوم، فاتخذ هذا الباب حتى يحجب عنه أصوات الناس في السوق، ويستطيع أن يقيم شرع الله عز وجل، انظروا كيف تفهم الأمور على العكس تماماً؟!

    فعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا

    ولهذا فكل من أظلم قلبه -والعياذ بالله- ساءت ظنونه في خلق الله عز وجل، ولكن المؤمن التقي الورع دائماً يلتمس المخارج، فهذا رده على الشكوى الأولى.

    وأما رده على الشكوى الأخرى فقال: إنهم يتهموني أني لا أحسن أن أصلي بهم مثال صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله! ما كنت آلو أن أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطول في الأوليين، وأحذف في الأخريين، فجاء بالسنة رضي الله عنه، وصدق وبر، ومن عاداه لقمه الحجر، حتى إنه رضي الله عنه قال: اللهم! إن كنت تعلم أنه كاذب فيما يقول، فأطل عمره، وأذهب بصره، وعرضه للفتن، فعمر فوق المائة سنة، وسقط حاجباه، وهو يتغزل بالنساء وعمره فوق المائة، تقول له المرأة: يا هذا! اتق الله، فيقول: أصابتني دعوة الرجل الصالح، نسأل الله السلامة والعافية!

    فالشاهد في قوله: ما كنت آلو -يعني أقصر- أن أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أطول في الأوليين، في الأخريين، وهذا يدل على أنه كان يستعجل ويخفف فيهما، والذي عليه العمل أن يكون قيامه في الأخيرتين أخف من قيامه في الأوليين، وأن يكون ركوعه وسجوده أخف، لكن مع مراعاة التعادل في الأركان.

    واختلف العلماء رحمهم الله: هل الأولى والثانية من الأوليين بقدر واحد أو تخفف الثانية دون الأولى؟

    والذي اختاره بعض العلماء أن ما ورد من الأحاديث بالمساواة في الأولى والثانية فسببه أن الأولى ينسب لها التطويل بالقراءة، لكن ما قرأه النبي صلى الله عليه وسلم في الثانية يعادل الذي قرأه في الأولى، وطالت الأولى بدعاء الاستفتاح، وحينئذ تكون روايات الإطالة في الأولى على الثانية محمولة على وجود دعاء الاستفتاح، والتطويل ليس في القراءة، وإنما هو لوجود دعاء الاستفتاح.

    وقال بعض العلماء: أنه يطول في قراءة الأولى، ويقصر في قراءة الثانية.

    ثم في الثالثة والرابعة وجهان أيضاً لأصحاب الشافعي رحمهم الله، منهم من قال: يقرأ في الثالثة والرابعة كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، فيقرأ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] في الثالثة، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] في الرابعة، وهذا يعني أن هناك فرقاً نسبياً، وعلى كل حال فالسنة تخفيف الأخيرة عن الأولى، والله تعالى أعلم.

    حكم رفض المستأجر إتمام عقد الإجارة

    السؤال: لو أن المستأجر رفض وأبى أن يتم الإجارة بعد التزام جزء من العين المؤجرة، وبقي جزء آخر صالح الانتفاع فما الحكم في ذلك؟

    الجواب: الحكم أنه يلزم بإتمام عقد الإجارة، فجمهور السلف والخلف على أن عقد الإجارة من العقود اللازمة، يعني إذا ثبت بين طرفين إجارة شرعية فإنه إذا صح العقد وثبت يجب على الطرفين أن يتما العقد، فإذا انهدمت بعض العمارة، وبقي بعضها على وجه يمكن الانتفاع به، فقال المستأجر: أنا أريد أن أبقى في هذا الجزء ولا ضرر على المالك، فإنه يلزم شرعاً بإتمام العقد لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، والإجارة عقد، وأمر الله بالوفاء بالعقد، فلزم المؤجر أن يتم العقد لصاحبه، ولا يجوز له في هذه الحالة أن يمتنع؛ لأن امتناعه ليس من حقه وإن كانت العين ملكاً له، فالمنفعة ملك للمستأجر حتى يتم مدة الإجارة، وينتهي عقدها، ومن هنا يرتفع الأمر إلى القاضي، فيلزمه القاضي بإتمام العقد لما ذكرناه، والله تعالى أعلم.

    وسائل معينة للتخلص من داء الشح

    السؤال: أجد في نفسي داءً يكاد أن يهلكني، فلقد كنت فقيراً ثم أغناني الله من فضله بالمال، والآن أجد في نفسي شحاً وبخلاً في الإنفاق في سبيل الله، ويحزنني ما يفوتني من المال، فكيف أتخلص من هذا الداء؟

    الجواب: من أعظم النقم التي يبتلي الله عز وجل بها عبده أن يقفل في وجهه أبواب الخير، ومن أعظم أبواب الخير على الإطلاق باب النفع في الدين مثل العلم، وباب النفع في الدنيا مثل الإنفاق لستر العورات وتفريج الكربات وبذل الجاه والشفاعة لمن يحتاج، فإذا أراد الله عز وجل بعبده خيراً فتح به أبواب الخير، وفتح له أبواب الخير، فيسر له تعليم الناس، ودلالتهم على الخير، ولم يشح بعلمه إذا كان طالب علم، وتمنى أن الناس كلهم علماء، وإذا كان خطيباً أو إماماً أو معلماً تمنى أن لو ينزع بيده العلم من قلبه لكي يضعه في غيره مع مساواته فيما هو فيه، من حبه للخير للناس، فهذا ولي الله المؤمن، الذي طهر الله قلبه وسلمه، وهو بخير المنازل عند الله؛ لأن الله أعطاه حكمة فعمل بها وعلمها للناس.

    وكذلك إذا أعطاه الله المال، سلطه على هلكته بالحق، وإذا أراد الله بعبده شراً، قسا قلبه، وعزب عنه رشده، فأخذ ينظر لنفسه، وكأنه يستوجب على ربه أنه مالك للمال، وكأن المال قد أتاه بحوله وقوته، فنسي نعمة الله، وبطر بما آتاه الله، وكفر بفضل الله، فعندها لا يأمن من استدراج الله وعقوبته، ولذلك الرجل الأعمى حينما أعطاه الله أمنيته فأذهب الله عنه العمى، وأوتي المال، فأعطي وادياً من الغنم وكثر غنمه، جاءه الملك في صورته التي كان عليها، وقال له: أنا ابن سبيل منقطع، فقال له: كنت أعمى فرد الله علي بصري، وكنت فقيراً فأغناني الله، والله! لا أمنعك اليوم من مالي شيئاً؛ لأنه يحس أن المال ليس بيده، وأن المال مال الله، ويحس أن النعمة جاءته من الله، فأخذ يلتمس رضا الله بأي وجه من الوجوه، فقال: دونك الوادي فخذ منه ما شئت، والله! لا أمنعك من مالي شيئا،ً إيمان كامل وتسليم كامل، وهذا كله لا يكون إلا بفضل الله ثم بحياة القلوب، فعلى العبد دائماً أن يفكر: كيف يعامل الله؟ الدنيا فانية زائلة لا محالة، يا هذا! إذا أصلحت ما بينك وبين الله أصلح الله أمرك وأصلح حالك، فأما ما سألت عنه من داء الشح فأقول:

    أولاً: أوصيك ونفسي بتقوى الله عز وجل وأن تكثر من الدعاء، فإنه والله! لا يمكن أن ينجيك مما ابتليت به إلا الله وحده لا شريك له، فتدعو الله في الأسحار، وتقوم في جوف الليل، وتبكي وتتضرع إلى ربك قائلاً: اللهم! أصلح لي قلبي، اللهم! إني أعوذ بك من فتنة هذا المال، اللهم! اجعله لي عوناً على طاعتك، اللهم! بارك لي في مالي، اللهم! اجعل ما رزقتنيه عوناً لي على طاعتك ومحبتك ومرضاتك، يالله! سهل لي الخير، ونحو ذلك من الدعوات التي تسأل فيها ربك ما يرضيه عنك.

    ثانياً: أن تكثر من الأسباب التي تعينك على الجود والسخاء، ومن أعظمها قصر الأمل في الدنيا، وعظم الرجاء في الآخرة، يا هذا! ليس لك من مالك إلا ما لبست فأبليت، وأكلت فأفنيت، وتصدقت فأبقيت، ليس لك من هذا المال إلا ما قدمته لآخرتك وابتغيت به ما عند ربك، فاعلم علم اليقين أن هذا المال لا يمكن أن يكون نعمة حقيقية إلا إذا كان في يدك لا في قلبك، ومن الأسباب التي تعينك على إنفاق المال أن تتذكر كيف كنت، وأن تعلم علماً يقينياً لا شك فيه ولا مرية أن الله قادر في طرفة عين أن يجعلك فقيراً، فكم من إنسان أصبح غنياً فأمسى فقيراً! ولربما يكون الإنسان ثرياً وفي طرفة عين يكون فقيراً، جاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله برحمته الواسعة، ويقال: إنها حدثت مع الوليد بن عبد الملك، والمشهور أنها عن الوليد، فجاء رجل إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك رحمه الله، فدخل عليه وهو كفيف البصر، فقال: يا أمير المؤمنين! إني كنت أغنى قومي، وكان عندي من المال ما لا يعد ولا يحصى من إبل وغنم، وكان عندي من العبيد والموالي ما لا يحصى كثرة، وكانت لي ضيع -يعني بساتين- ففوجئت في ليلة من الليالي بمطر غزير فجاء السيل فلم يبق من ذلك شيئاً، ما أبقى له مالاً ولا ولداً ولا أهلاً، اجترفهم السيل عن بكرة أبيهم، قال: فرقيت على شجرة فسلمت ونجوت بفضل الله عز وجل، وما زال يبكي عليهم حتى فقد بصره، ففقد أهله وفقد ماله وفقد بصره، وكان في أعز الغنى، فلا يأمن أحد مكر الله عز وجل، ومكر الله يحل على القوم الفاسقين، ويحل على الظالمين، ويحل على المعتدين.

    وقد يكون الإنسان في نعمة ورغد من العيش ويبسط الله له النعمة، فيأتيه الرجل في ظلمة ليل أو ضياء نهار، ويقول له: إني في كربة وفي حاجة وفي ضائقة وهو صادق، والله! لو كان عنده شعوره لعلم أن هذا الرجل ابتلاء من الله قبل أن يكون رجلاً محتاجاً، أي شخص يقف عليك وعندك قدرة على أن تعطيه من الدين أو الدنيا فاعلم أنه ابتلاء من الله، قبل أن يكون رجلاً محتاجاً، إلا أن يكون كذاباً فهذا أمر آخر.

    فعلى كل حال؛ على الإنسان أن يستجمع الأسباب التي ذكرناها، ومن أعظم الأسباب أنه لا يأمن مكر الله، فقد يؤخذ منه المال في طرفة عين، والله على كل شيء قدير، وهذا أمر لا يعجز الله في الأمم فضلاًً عن الأفراد، فكم من قرية أمست ظالمة فما أصبح لها أثر، وكم من قرية أصبحت ظالمة فأمست وهي بحالٍ بئيس وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى [هود:102] ما قال: الأفراد ولا الأشخاص ولا القرية وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ [هود:102] ما قال: الأفراد ولا قال: القرية، وإن كان ذكر لنا مثل القرية إذا جاءها بأسه بياتاًً، فإذا جاء بأس الله بياتاً أو جاء صباحاً فهذه سنة الله، أما إذا جاء للأخذ والقدرة الإلهية المتعلقة بصفاته سبحانه وتعالى فقال: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى [هود:102]، وهذا تعظيم لصفات الله متعلق بالتوحيد، فلما جاء عند الصفة وهي الأخذ جاء بصيغة الجمع وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ [هود:102]، جملة وهي ظالمة حالية، أي: والحال أنها ظالمة إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]، فالإنسان الذي يشح بماله عليه أن يعلم علم اليقين أن لله سطوات، وأن لله أخذات، وأن الله سبحانه وتعالى يبتلي كل من أعطاه النعمة، ولذلك قيل لقارون: أَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ [القصص:77]، فلما عتا وطغى وتمرد على الله جل وعلا، أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، فهو في الأرض يتزلزل فيها إلى يوم القيامة فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ [القصص:81]، فلا أحد يستطيع أن ينصر العبد إذا أخذه الله عز وجل، فعلى الإنسان أن ينتبه، فهذا المال امتحان من الله.

    ومما يعين على ترك الشح، وعدم الاغترار بالمال؛ كثرة ذكر الآخرة، فالذي يعلم أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يأخذه بين عشية وضحاها، فإنه يزهد في الدنيا وتهون عليه الدنيا، ولذلك انظر إذا حضر الأجل إلى الشخص فإنه يتمنى لو تصدق بماله كله؛ لأنه تهون عليه الدنيا كلها، ويزول عنه غروره.

    ومن الأمور التي أوصيك بها والتي تعينك على ترك الشح أن تنظر إلى الأسباب التي ولدت الشح في قلبك؛ من وجود القرناء، ومنافسة القرناء، والجلوس مع الأثرياء، وكثرة الحديث في الدنيا، فإن هذا مما يورث الشح، ومن جالس قوماً تأثر بأخلاقهم، فجالس الأخيار والصلحاء والأتقياء والفضلاء وابتغ ما عند الله سبحانه وتعالى، واسأل عن عورات المسلمين فاسترها لعل الله أن يسترك، واسأل عن كرباتهم فنفسها لعل الله أن ينفس كربتك، والتمس مرضات الله سبحانه وتعالى.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل ما وهبنا من الدنيا وزينتها عوناً على طاعته ومحبته ومرضاته.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756541904