إسلام ويب

شرح زاد المستقنع كتاب الظهار [5]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من أعظم الشروط اللازم توافرها في الرقبة لإخراجها في كفارة الظهار سلامة الرقبة من العيوب، وهذه العيوب تناولها الفقهاء بكثير من الأحكام والمسائل، من أهمها: ضابط العيب المؤثر وغير المؤثر في الرقبة، وحكم ذهاب العضو أو بعضه من الرقبة، وحكم المريض الميئوس منه، وأم الولد في الإعتاق، وهل يصح إعتاق العبد الأحمق، أو المدبر، أو المرهون، أو الجاني، أو ولد الزنا، أو الأم الحامل مع حملها؟

    1.   

    العيوب المؤثرة في الرقاب في كفارة الظهار

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فقد تقدم معنا أن الرقبة التي أوجب الله عتقها في الكفارات لابد أن تكون مشتملةً على بعض الصفات التي يُحكم بإجزائها وبراءة الذمة في عتقها، وبين رحمه الله في هذه الجملة أنه يشترط في الرقبة أن تكون مؤمنة، وبينا دليل هذا الشرط، وأن أصح قولي العلماء رحمهم الله هو حمل المطلق على المقيد، فنحمل المطلق في كفارة الظهار على المقيد في كفارة القتل، ولذلك أوجبوا الإيمان في الرقبة التي يعتقها المظاهر.

    يقول المصنف رحمه الله: [ولا يجزئ في الكفارات]، وهذه عادة العلماء رحمهم الله، فهم يذكرون المسائل المتماثلة التي يشبه بعضها بعضاً في المظان، فبيَّن أنه يشترط في الرقاب التي يجب عتقها أن تكون مؤمنة، فلو أعتق رقبة كافرة فإنه لا يجزئه، لا في كفارة القتل، ولا في كفارة الظهار، ولا في كفارة الجماع في نهار رمضان، ولا في كفارة اليمين، أي: في الكفارات التي تجزئ فيها الرقبة.

    ثم الشرط الثاني الذي يجب توفره لإجزاء الرقبة وبراءة الذمة من الكفارة بعتقها: أن تكون سالمةً من العيوب، وبينا حقيقة العيب، وأن أصله في اللغة النقص، يقال: عاب فلان فلاناً إذا انتقصه بشيء مما يعد منقصة.

    والعيب ينقسم إلى قسمين في الرقاب، عيب في الجسد، وعيب في النفس والروح.

    فعيب الجسد: النقص في الخلقة الذي يضر ضرراً بيناً.

    وعيب الروح: متعلق بالأخلاق، كأن يكون فاقداً للعقل، أو يكون عصبياً إلى درجة لا يتحكم في نفسه في حالات الغضب، أو يكون يصاب بالصرع والإغماء، فهذا فيه نقص في الروح.

    ضابط العيب المؤثر وغير المؤثر في الرقاب

    تقدم معنا في كتاب البيوع ذكر العيوب المؤثرة في الرقاب، وضابط العيب المؤثر وغير المؤثر في الرقبة، إلا أنه هنا إذا كان النقص في الرقبة يكون النقص في الأعضاء، كقطع عضو كيد أو رجل، أو ذهاب حاسة كذهاب البصر ونحوه، فهذا إذا وجد في الرقبة فإنها لا تجزئ في العتق، فلو كان عنده عبد أو مملوك أعمى وأعتقه كفارة الظهار، أو كفارة لقتل، أو كفارة لجماع في نهار رمضان لا يجزئه، وهكذا لو كان أقطع اليد، أو أقطع الرجل، أو مشلولاً شللاً تاماً، أو شللاً جزئياً لبعض الأعضاء.

    ثم استأنف رحمه الله فقال: [يضر بالعمل ضرراً بيناً]، وهذا يسمى عند العلماء بالضابط، وهو هنا أن يكون العيب مضراً بالعمل ضرراً بيناً، فالعيب يضر ويمنع الإنسان من العمل.

    والسبب في وضع هذا الضابط أن الرقبة إذا كانت لا تستطيع العمل فمعنى ذلك أن الشخص إذا أعتقها يتخلص من تبعة الإنفاق عليها؛ لأنها إذا كانت عاطلة لا تعمل، مثل رقيق مشلول -مثلاً- فهو كما قال تعالى: وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ [النحل:76] أي: كل على سيده فسيده إذا وجبت عليه الرقبة بانتهاكه حرمةً من حرمات الله كقتل نفس محرمة، أو ظهار، أو جماع في نهار رمضان، فأصبح هنا من الخير له أن يعتق هذه الرقبة، وأصبح العتق في هذه الحالة تخلصاً من التبعة، فبدلاً من أن تكون زجراً له أصبحت نعمة عليه، وهذا خلاف مقصود الشرع في أن يتحمل الغرم الذي يؤثر فيه حتى يردعه عن انتهاك حرمات الله، ولذلك أوجب الله الكفارة من عتق الرقاب، والإطعام، ونحوهما من الكفارات التي تكف الإنسان في بعض الأحيان عن انتهاك حرمات الله، حتى يكون ذلك أبلغ في زجره.

    أقوال أهل العلم في الرقبة المعيبة

    إذا ثبت ما سبق فالعلماء على قولين: فمن أهل العلم من قال: إذا وجد العيب المؤثر لا يجزئ عتق الرقبة. فلو أعتق الأعمى -كما ذكرنا- فالجمهور من العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وطائفة من أهل الحديث رحمة الله عليهم كلهم يقولون: إن من أعتق الرقبة التي فيها عيب مؤثر فذلك العتق لا يجزئه.

    وقال بعض العلماء: إنه إذا أعتق الرقبة التي فيها عيب -ولو كان مؤثراً كالعمى والشلل- فإنه يجزئه. وقال: حتى ولو أعتق عبداً مشلولاً شللاً كاملاً يجزئه. وهذا مذهب الظاهرية رحمة الله عليهم وطائفة. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور أن الرقبة يشترط في صحة إجزائها وبراءة الذمة من الكفارة بعتقها أن تكون سالمة من العيوب؛ لأن مقصود الشرع في إعتاق الرقبة الرفق والإحسان إليها، وزجر ذلك المرتكب لحرمات الله عز وجل بوجوب الكفارة عليه، وحينئذٍ لو قلنا بعتق هؤلاء خالفنا مقصود الشرع، فأصبح رفقاً به من تبعة الإنفاق على تلك الرقبة، لذلك نقول: الله عز وجل أمر بعتق الرقبة، والأصل أن تكون الرقبة على الصفة المعتبرة، ودليل ذلك أننا وجدنا الشرع يسقط بالعيب عن الإنسان الواجبات، بل حتى في المستحبات كما في الأضحية -على القول باستحباتها-، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع لا تجزئ في الضحايا: العوراء البين عورها، والعرجاء البين عرجها، والمريضة البين مرضها، والكبيرة التي لا تنقي)، وهي التي لا مخ فيها.

    فإذا كان في المستحبات لا تجزئ فكيف في الواجبات التي ألزم بها، وهذا حي وهذا حي، فالرقبة من الحيوان وكذلك الأضحية من الحيوان، فكوننا نقول في الرقبة: إن الإنسان حيوان فهذا من الوصف بالحياة، وهذا الوصف يطعن فيه بعض المتأخرين، وليس طعنهم بصحيح، فالإنسان حيوان، ووصفه بهذه الصفة من جهة الحياة؛ لأن الله عز وجل يقول: وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ [العنكبوت:64]، يعني: الحياة الحقيقة؛ فإن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.

    فالمراد بهذا أن نقول: إنه امتنع أن يجزئ المعيب في الأضحية على القول بوجوبها، فكما لا يجزئ المعيب في الأضحية لا يجزئ المعيب في الرقاب، من جانب أن هذا ثبت فيه حق الله عز وجل، وإما إذا قلنا: إن الأضحية ليست بواجبة فنقول: إذا كان العيب مؤثراً في الأضحية وليست بواجبة ففي باب الرقاب الواجبة من باب الأولى، فهذا من جهة الأدلة التي تدل على أنه لا يجزئ ما كان معيباً من الرقاب في الكفارات كلها، وهنا ذكر المصنف شرطين لجميع الرقاب: الإيمان، والسلامة من العيب.

    قوله: [كالعمى].

    هو ذهاب البصر، والعمى يكون حسياً ويكون معنوياً، وأشد العمى عمى البصيرة -نسأل الله السلامة والعافية، وأن يجنبنا الله من عمى البصائر-، ولذلك قال الله: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46]، والمقصود هنا العمى الحسي وهو ذهاب البصر.

    قوله: [والشلل].

    هو المرض المعروف، ويعجز الإنسان بسببه عن تحريك العضو، سواء أكان يداً أم رجلاً، فلو كان الرقيق أشل اليد أو الرجل فإنه لا يجزئ، فلو سألك سائل وقال: قتلت نفساً خطأ، وكفرت بعتق عبد مشلول اليد تقول: لا يجزئ. فلا بد أن يكون سالماً من الشلل.

    قوله: [أو أقطع اليد أو أقطع الرجل].

    أقطع الرجل معناه أنه لا يمشي؛ لأن القطع مثل الشلل، بل هو أشد من الشلل، والمشلول قد يأذن الله له بالشفاء ويبرأ.

    قوله: [أو أقطع الأصبع الوسطى أو السبابة أو الإبهام].

    يلاحظ هنا أنه تدرج، وهذا أمر نجده عند علماء السلف، فبعد أن ذكر فقدان العضو كاملاً ذكر فقدان بعضه، فذكر العمى مثالاً على ذهاب العضو كاملاً، فإذا ذهب البصر كاملاً من العينين فإنه لا يبصر بهما، ثم قال: (والشلل)، والشلل يكون لبعض الأعضاء دون بعضها، فالأول ذهاب للعضو كاملاً، والثاني يقع في العضو فيذهبه كله، مثلاً في اليد يسمى مشلول اليدين أو القدمين، وقد يقع لأحدهما، أي: يد واحدة أو رجل واحدة، فهناك ذهاب كلي لبعض الأعضاء.

    وبعد أن انتهى من العمى والشلل شرع في ذكر ذهاب جزء من العضو فذكر أقطع الأصابع، فإن أقطع الأصابع لم تذهب يده نفسها كاملة، ولكن ذهب بعض اليد، ثم اليد في الأصل تطلق ويراد بها اليد الكاملة من أطراف الأصابع إلى مفصل الكف الذي هو مفصل العضو مع الساعد، وتطلق اليد ويراد بها من أطراف الأصابع إلى المنكب. لأنه قد يقول قائل: سلمت بأن الإضرار بالحاسة كاملة لا يجزئ بسببه عتق الرقبة، فما الحكم إذا ذهب بعض العضو، كقطع الأصابع أو بعض الأصابع؟

    فهذه المسألة فيها وجهان للعلماء:

    فبعض العلماء يقول: إن العضو موجود في الظاهر مفقود في الحقيقة، يعني: إذا قطع بعض أصابعه، -القطع الذي يرونه مؤثراً- يقولون: اليد موجودة، ولكن ذهاب بعض الأصابع التي هي منها تذهب فائدة اليد. فأصبح الذي نريد أن نقرره هنا أن السبب الذي من أجله حكم العلماء بأن ذهاب بعض العضو مؤثراً أنهم قالوا: إذا ذهبت المنفعة فحينئذٍ: من قطعت بعض أصابعه قطعاً مؤثراً فإن منفعة يديه تزول، وكأن يده قد قطعت؛ لأنه في هذه الحالة لا يستطيع أن يمسك الأشياء باليد على الوجه الذي يكون في من كانت له أصابع.

    فعندنا ثلاث حالات: الأولى: إذا ذهبت الحاسة كاملة، وهذا لا إشكال فيه، أو ذهب العضو كاملاً كقطع اليد أو الرجل أو شلل أصابها، وأما الحالة الثالثة -وهي محل الإشكال- فهي إذا قطع بعض العضو، فهل هذا القطع ينزل العضو منزلة المعدوم أم لا؟ وهذه المسألة فيها خلاف، فبعض العلماء يقول: إن قطع بعض الأصابع يؤثر، كما اختاره المصنف رحمه الله، والحنابلة، ووجه عند الشافعية، أما القول الثاني فهو أنه لا يؤثر.

    قوله: [أو أقطع الأصبع الوسطى].

    إذا كان أقطع الوسطى لا يرتفق باليد، فلو حمل ماءً أو شيئاً لا يرتفق بها.

    وقوله: [أو السبابة] هي التي تلي الإبهام؛ لأنه يشار بها عند السب.

    قوله: [أو الإبهام] هذه الثلاثة المتتالية يقول المصنف: إن ذهابها مؤثر ومضر.

    قوله: [أو الأنملة من الإبهام].

    لأن الإبهام فيه أنملتان، والأنملة العليا لو قطعت ذهبت منفعة الإبهام، فتدرج أيضاً من العضو إلى جزء العضو، وهذا خاص بالإبهام فقط، وهذا مذهب الحنابلة رحمهم الله، لكن الذي تميل إليه النفس هو ما اختاره بعض العلماء أن ذهاب بعض الأصابع ليس كذهاب الكل، إلا إذا ذهب أكثرها، كثلاث أصابع من الكف، فإنها تذهب المنفعة، سواء أذهب الأصبعان اللذان يليان الإبهام أم ذهب ما بعدهما.

    قوله: [أو أقطع الخنصر والبنصر من يد واحدة]

    أي: لابد أن يذهبا معاً، فلو قطع الخنصر دون البنصر لم يؤثر، وهكذا العكس، لكن يشترط أن يكونا من يد واحدة، فلو قطع الخنصر من يد والبنصر من الأخرى فإنه لا يؤثر في الرقبة.

    1.   

    الرقاب التي لا يجزئ إعتاقها في الكفارات

    قال رحمه الله: [ولا يجزيء مريض ميئوس منه ونحوه].

    أي: ولا يجزئ في عتق الرقبة مريض ميئوس من مرضه، وقد تقدم معنا في أحكام مرض الموت المرض الميئوس منه، وذكرنا جملة من مسائله وبعض الأمور المتعلقة به، وبعض التطبيقات في زماننا، يقولون: لأنه إذا كان الرقيق ميئوساً منه فعتقه تخلص منه، ففي هذه الحالة كلها مخالفة لمقصود الشرع من العتق. وهذا صحيح.

    ومثل المريض الهرِم أو الزَمِن الذي سقط وأعيا، مع أنه لو أعتقه والحالة كما ذكر فمعنى ذلك أنه يهلكه؛ لأنه حينما يكون مملوكاً له يقوم على نفقته والإحسان إليه وتعهده، لكنه إذا أعتقه فإنه يضره بذلك العتق.

    قوله: [ولا أم ولد].

    أي: ولا يجزئ عتق أم الولد، وأم الولد: هي التي وطئها سيدها فأنجبت منه، فهي أم ولد تعتق بعد وفاته؛ لأن الولد لا يملك أمه، والولد سيرث من أبيه، فشبه إجماع أنها تعتق بوفاة السيد، فقالوا: إنه لا يجزئ عتقها؛ لأنه إذا أعتقها تخلص منها وهي معتقة عليه، فحينئذٍ لا يتحقق مقصود الشرع من عتق الرقبة في الكفارة، فقالوا: لا يجزئ عتق أم الولد من هذا الوجه.

    وهذا تقدم معنا في كتاب البيع في حكم بيع أمهات الأولاد، وتكلمنا على هذه المسألة بالتفصيل في شرح بلوغ المرام، وبينا خلاف السلف والأئمة رحمهم الله في مسألة بيع أمهات الأولاد، ومن العلماء من يفصل في هذا على أنها ليست مملوكة من كل وجه في التصرفات، فبناء على ذلك لا يصح عتقها في الكفارات الواجبة ولا يصح بيعها، والمسألة مشهورة، وتقدم بيانها في كتاب البيوع.

    1.   

    ما يجزئ من الرقاب في كفارة الظهار

    قال رحمه الله تعالى: [ويجزئ المدبر].

    أي: ويجزئ عتق المدبر، والمدبر هو العبد الذي أعتقه سيده عن دبر، بمعنى: علق عتقه على موته، فقال: إذا أنا مت فعبدي فلان حر. فهذا التدبير ثابت بالنص، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم، والعمل عند أهل العلم رحمهم الله من السلف والخلف على صحة التدبير وجوازه، وإذا ثبت هذا فإنه لو قال: عبدي فلان حر بعد موتي -أي: أعتقه عن دبر- فهل يجزئ في الكفارة الواجبة أم لا؟ فيه وجهان:

    الوجه الأول: قال بعض العلماء: لو أعتقه عن دبر فله الحق في الرجوع ما لم يمت، وبعضهم يقول: من أعتق عبده عن دبر فليس له حق في الرجوع. فعلى القول بأن المدبر يستحق سيده الرجوع يصح عتقه في الكفارات الواجبة؛ لأنه حينما أعتقه في الكفارات الواجبة كان نوعاً من الرجوع؛ لأن الرجوع نوعان: الرجوع الحقيقي، والرجوع الحكمي، فهو حينما قال: عبدي فلان حر بعد موتي ثم جاء في كفارة الظهار وأعتقه دل على أنه لا يريد أن يعتقه بعد موته، بدليل أنه بادر بعتقه، وهذا القول هو أصح القولين، فمن حق السيد أن يرجع عن عتق عبده قبل موته، ويقوي هذا ما ثبت في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي أعتق مملوكه عن دبر، وكانت به حاجة، فرده النبي صلى الله عليه وسلم وباعه وسد حاجته، فهذا يدل على أنه لو كان التدبير لا يملك فيه الرجوع لما صح بيعهم؛ لأنهم أصبحوا معلقين كأم الولد، وهذا القول -أي: القول بصحة رجوع السيد عن عتقه للمدبر- هو أقوى القولين وأولاهما -إن شاء الله- بالصواب.

    قوله: [وولد الزنا].

    ولد الزنا يعتق، وصورة المسألة أن تكون عنده أمة، وتغتصب ويزنى بها فتلد، فهذا الولد للفراش، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش)، ويكون ملكاً لمالك أمه؛ لأن الولد يتبع أمه رقاً وحرية، ففي هذه الحالة إذا ملكه وصارت عليه كفارة ظهار أو قتل وقال: فلان حر فإنه يصح عتقه ويجزيه وإن كان ولد زنا.

    والدليل على أنه يصح عتقه ويجزيه أمره سبحانه وتعالى بعتق رقبة، وهذا عام يشمل ولد الزنا وغيره؛ لأن الله لم يشترط أن يكون من نكاح صحيح، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـأوس رضي الله عنه وأرضاه حينما ظاهر من امرأته: (أتجد رقبة؟)، وقال لـسلمة بن صخر البياضي رضي الله عنه حينما جامع في نهار رمضان وهو صائم: (أعتق رقبة)، ولم يشترط ألا تكون على فراش الزنا أو غيره.

    قوله: [والأحمق].

    أي: إذا كان به حمق لأن الحمق لا يمنع العمل ولا يضر به من كل وجه، وهناك منافع في الأعمال التي يقوم بها، وهذا العيب راجع إلى النفس، لكن في البيع ذكرنا أن الحمق وسوء الأخلاق وسوء الطبع يعتبر عيباً موجباً للخيار، وبينا أن الخيار يثبت إذا كان المبيع رقيقاً مملوكاً شديد الحمق ولم يُبَيِّن ذلك لمشتريه، والحمق نوع من الغفلة وذهاب التمييز في الأشياء، والأحمق ناقص الكمال، فيقولون: إن هذا لا يؤثر تأثيراً مضراً بالرقبة، أي: لو كان عنده رقيق أحمق فلا بأس أن يكون كفارة في الظهار.

    ويقولون في الأحمق: لا تصاحب أحمقاً؛ فإنه يضرك حيث تظن أنه ينفعك. فالأحمق عنده قصور في فهم الأشياء واستيعابها والتصرف تصرفاً سليماً يضع فيه الأشياء في مواضعها، فتجده كثيراً ما يأتي بالمشاكل والأضرار على من يملكه، فالرقبة إذا كان فيها حمق صح عتقها؛ لأن هذا لا يضر بالعمل ضرراً بيناً، وهو نقص في الكمال.

    لكن الأحمق لو زجرته وأخذته بالقوة يستقيم، فهو عيب لكنه يمكن تداركه، وذكرنا في البيوع أن بعض العيوب تؤثر وبعضها لا تؤثر؛ لأنه يمكن تلافي الضرر الموجود، فالأحمق ليس كالأعمى أو المشلول، فالحمق عيب -كما قلنا- راجع إلى النفوس، وأيضاً لو أعتقه فإن هذا لا يمنعه من عتقه؛ لأن الرقبة ليس بها عيب يضر من ناحية بدنية ولا من ناحية نفسية؛ لأن الحمق نوع من الغفلة تذهب إذا ابتلي بشيء واستضر به مرة أو مرتين ففي الثالثة يتوب، وهذا معروف، فالحمق صفة عارضة، وبعض الأحيان مع شدة الخوف وشدة الأذى والضرر يستقيم أمره، فالناس يختلفون، ومن هنا قالوا: إنه ربما يكون العيب في حق قوم ولا يكون عيباً في حق آخرين، فإذا كان الرقيق أحمقاً فإنه يجزئ عتقه في كفارة الظهار.

    قوله: [والمرهون].

    أي: يصح عتق المرهون والسبب في ذلك أنه تعارض عندنا حق العتق وحق صاحب الدين، فإذا قال: أعتقت عبدي فلاناً كفارة من ظهار أو قتل فإن العتق قد نفذ ومضى، والعتق أشد من حق الآدمي في الرهن؛ لأن استحقاق صاحب الدين الرهن لعارض قد يزول كما لو سدد المدين، ومن هنا يصحح العلماء العتق، وقد بينا ما الذي يجب في حالة إعتاقه للعبد المرهون، وبينا أنه يطالب بمثله، وقد قلنا هذه المسألة في كتاب الرهن، وبينا أن عتقه لا يخرج المدائن عن المطالبة ببديل عنه يقوم مقامه.

    فإذا تعارض ما يمكن تداركه وما لا يمكن تداركه قدم الذي لا يمكن تداركه على الذي يمكن تداركه، وتوضيح المسألة أنه إذا ارتكب أمراً يوجب عليه الرقبة، وقال: إن عبدي فلاناً حر، وقصد أن يكون كفارة لظهاره، أو لجماعه في نهار رمضان، وكان مرهوناً، فإن فوات يد الرهن على الرقيق يمكن تعويضها بمال آخر يقوم مقامه، لكن العتق لا يمكن تعويضه، ولذلك في كثير من المسائل إذا أعتق مضى عليه؛ لدلالة قوله عليه الصلاة والسلام: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: العتاق والطلاق والنكاح)، فالعتق أمره عظيم في الشرع، ولذلك لو قال لعبده -وهو يمزح-: أنت حر، م قال: ما قصدت أنه حر نقول: لزمك العتق؛ لأن جده جد وهزله جد. فهذا يدل على أن العتق أقوى من الرهن، فحينئذٍ إذا أعتق رقبة مرهونة فإنه يصحح العتق، ويلزم بضمان الرهن.

    قوله: [والجاني].

    الجاني: مأخوذ من الجناية. والعبد إذا جنى فالجناية تكون في رقبته، فلو أنه أعتقه لا يخلصه من الجناية، سواء أكانت قصاصاً أم مالاً، فيتحمل مسئولية ذلك ويصح العتق، وهذا لا يؤثر، فدخول الضمان بالجناية لا يمنع صحة العتق وإجزائه.

    قوله: [والأمة الحامل ولو استثني حملها].

    أي: ويصح عتق الأمة الحامل ولو استثنى حملها، وصورة المسألة: إذا ظاهر ووجبت عليه كفارة وعنده أمة حامل، فأعتقها كفارة لظهاره واستثنى فقال: هي حرة إلا جنينها، فقال بعض العلماء: يبطل عتقها. ويراه من الأمور التي لا تصح في عتق الكفارات، وأنه يجب عليه أن يستبدل، فإما أن يعتق الكل أو يترك الكل، وليس عندهم استثناء في هذه الحالة.

    ومن أهل العلم من قال: يصح عتقها، ويصح الاستثناء، ومنهم من قال: يصح عتقها ويبطل الاستثناء، فهذه أوجه عند العلماء رحمهم الله فيها، والأقوى أنه لو استثنى الجنين وقال: هي حرة إلا جنينها فإنه يقوى القول بصحة العتق وإجزائه، والاستثناء معتبر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن لك على ربك ما اشترطتي)، فهذا اشترط واستثنى، وقياسه على البيع فيه علة ليست موجودة في الظهار، فنصححه في عتق الظهار، ولا نصححه في البيع.

    1.   

    الأسئلة

    إعتاق العبد المدبر

    السؤال: هل المدبر يعتق فوراً عند وفاة سيده، أم ينظر هل يجاوز الثلث أم لا؟

    الجواب: الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:

    فهذه المسألة مفرعة على الحديث الذي تقدم معنا وبيناه، وذكرنا أن مسألة الثلث مؤثرة في الأموال، لكن المدبر خارج عن هذا، فمن أعتق عن دبر؛ فإنه يلزم الورثة بعتق مورثهم عند وفاة المورث، فعند وفاته يحكم بحريته، وتسري عليه أحكام الحر سواء بسواء. والله تعالى أعلم.

    حكم إقامة الحد على الحر لكونه ارتكب جناية في فترة رقه

    السؤال: العبد المملوك لو ارتكب جناية ثم أعتق هل يقام عليه الحد بصفته الماضية أم الحالية؟

    الجواب: هذه مسألة لها نظائر، ففي بعض الأحيان الشريعة تنظر إلى حاله وقت الجناية لا إلى حاله وقت الاستيفاء والقصاص، وفي بعض الأحيان يكون الحكم بحال الشخص عند القصاص أو عند إقامة الحد عليه، ولها نظائر كثيرة، منها: لو أنه زنا -والعياذ بالله- ثم جن ففي هذه الحالة سقط عنه؛ لأنه أصبح غير مكلف، وإن كان في الأصل أنه زنى، وهذا يوجب عليه أن يقام عليه الحد، لكنه بجنونه منع من استيفائه.

    ومنها ما لو كان -مثلاً- في أول الحال -أعني حال الجناية- ثم انتقل إلى صفة لا يؤاخذ بها عند إرادة القصاص منه. وكذلك لها نظائر في الحقوق الأخرى، كالحقوق المالية، والحقوق الشخصية الاعتبارية، فيختلف حال الإنسان من حالة إلى حالة، وهل ينظر إلى الابتداء أو إلى المآل؟

    وفي مسألتنا عند الاستيفاء لا شك أنه يقوى -وسيأتينا إن شاء الله في كتاب الجنايات- النظر إلى حاله عند تنفيذ الحكم عليه فيؤاخذ ويلزم به. والله تعالى أعلم.

    حكم إعتاق العبد إذا كان معيباً في غير موضع الضرر كمشلول الرجلين لمن حرفته بيده

    السؤال: العبد إذا كانت منفعته توجد في غير موضع الضرر، كأقطع الرجل لمن حرفته بيده هل يجزئ في الكفارة؟

    الجواب: لا يصح ذلك العبد أن يكون كفارة للمظاهر وغيره، وأحياناً قد يكون المشلول من أشد خلق الله عز وجل ذكاءً، ومن حكمة الله تعالى أنه لا يأخذ شيئاً -خاصة من المؤمن- إلا عوضه خيراً منه، فليست القضية أنه يمكن التعويض، وإنما النظر إلى الحال، فاليد إذا ذهبت أثرت، بغض النظر عن كونه يستطيع أن يفعل باليد الثانية ما لا يفعله صاحب اليدين، وهذا موجود، وبعض الناس يكون أقطع اليسرى ولكن يده اليمنى السليمة يفعل بها ما لا يفعله صاحب اليدين، وبعض الناس يكون به عيب في عضو وهو معوض في عضو آخر بأشياء أفضل، وهذا لا ينظر إليه، وإنما ينظر إلى الشخص من حيث هو، فأي ضرر يتعلق بعضو -بغض النظر عن كونه له بديل أو لا بديل له- فإن هذا في الأصل العام والقاعدة العامة أنه يمنع، فأقطع اليد منع من منفعة يده المقطوعة، وأقطع الرجل منع من منفعة رجله المقطوعة، فحينئذٍ يحكم بكونه ضرراً بيناً، بغض النظر عن كونه له بديل أو لا بديل له، وهذا كله لا يلتفت إليه، وإنما قد يلتفت إليه في التعويضات، وفي الأروش، وفي مسائل الجنايات.

    وهنا مسألة أخرى، فلو أنه -والعياذ بالله- أتلف عين الأعور -وهي عين واحدة- يثبت عليه أداء دية كاملة؛ لأن منفعتها في الأصل منفعة العينين، فهذه أمور مستثناة لا علاقة لها بمسألتنا، وإنما مسألتنا في النظر الغالب أن ذهاب العضو كاملاً، أو الجزء -على التفصيل الذي ذكرناه- مؤثر ومضر بالعمل ضرراً بيناً، بغض النظر عن كونه له بديل أو لا بديل له.

    وقد تجد الرجل فيه آفة في عضو واحد تعطله عن الأعمال، فلا يستطيع أن يقدم أو يؤخر من أموره شيئاً، والعكس، فقد تجد شخصاً عنده أربع آفات في أربعة مواضع، ومع ذلك يفعل أشياء قد لا يستطيعها من كملت أعضاؤه، فهذه أمور لا يلتفت إليها، وإنما يلتفت إلى النظر الغالب، والشريعة تنظر إلى الغالب، ولذلك حينما حكمت الشريعة بجواز الفطر في السفر؛ فلأن الغالب في السفر المشقة، لكن لا يمنع أن تسافر في طائرة وأنت مستريح، ولا يمنع أن يسافر الغني الثري وهو في راحة واستجمام، أو يسافر الشخص المتعود على الأسفار ولا يجد تعباً، أو يسافر الشخص الذي هو في قوة وجلد وعنده صحة وعافية لا يتضرر بمشقة السفر، فهذه كلها أمور مستثناة وأمور نادرة، والشريعة لا تلتفت إليها.

    وكذلك -أيضاً-: تحرم الشريعة لمس المرأة الأجنبية ومصافحتها، وقد تجد في الرجل من الإيمان بالله وخوف الله عز وجل ما لا يلتفت معه إلى امرأة حتى ولو صافحها، فلا يجد شهوة ولا يلتفت إليها، لكن هذا لا يلتفت إليه؛ لأن الشريعة لا تنظر إلى الأفراد، وللإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في قواعد الأحكام كلام في هذه المسألة قرره عند كلامه على مسألة الظنون المرجوحة، وبعض العلماء يسمونها المرجوحة أو الفاسدة أو الموهومة، وهي التي تأتي على الأحوال النادرة والقليلة، وإنما جعلت الشريعة الحكم للغالب، ففي هذه الحالة إذا كان مقطوع اليد فإنه في الأصل تعطلت مصالح ذلك العضو، بغض النظر عن كونه في بعض الأحيان يعوض، أو يفعل ما لا يستطيع أن يفعله من عنده العضو كاملاً.

    حكم انقطاع الصفوف في الصلاة وعدم اتصال خارج المسجد بداخله

    السؤال: ما حكم انقطاع الصفوف في الصلاة، حيث إن يوم الجمعة يصلي بعض الناس خارج المسجد، والصفوف غير متصلة؟

    الجواب: السنة إتمام الصفوف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قلنا: يا رسول الله! وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصف الأول فالأول)، فالواجب على المصلين أن يتموا الصفوف الأول فالأول، سواء أكان داخل المسجد أم خارجه، ومن قصر في إتمام الصف الذي أمامه فإنه يأثم ويتحمل وزره في عدم إتمام الصف الذي يجب عليه إتمامه، سواء أكان ذلك داخل المساجد أم خارجها، وعلى طلاب العلم أن ينصحوا الناس، وأن يعلموهم، وأن يوجهوهم، وأن يعذروا إلى الله ببيان هذه السنة لهم. والله تعالى أعلم.

    حكم زيادة ركعة في الصلاة سهواً

    السؤال: صليت صلاة العشاء. فأشكل علي كم بقي علي من الركعات، فزدت ركعة، وبعد الصلاة تأكدت من أني صليت خمس ركعات، فماذا علي؟

    الجواب: تسجد سجدتين بعد السلام؛ لأن القاعدة: (لا عبرة بالظن البين خطؤه)، وقد بان لك أنك أخطأت فزدت في صلاتك، فأنت معذور بهذه الزيادة؛ لأنك بنيتها على ظن صحيح؛ لأن الأصل شرعاً أنك تبني على الأقل؛ لحديث أبي سعيد الخدري : (إذا صلى أحدكم فلم يدر واحدة صلى أو اثنتين فليبن على واحدة)، وكذلك حديث ابن عباس في صحيح مسلم : (إذا صلى أحدكم فلم يدر أواحدة صلى أو اثنتين فليبن على واحدة، فإن لم يتيقن أثنتين صلى أو ثلاثاً فليبن على اثنتين، فإن لم يدر أثلاثاً صلى أو أربعاً فليبن على ثلاث، ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم).

    فأنت في هذه الصورة لك حالتان:

    الحالة الأولى: ألا تستيقن، أو لم ينكشف لك الحال قبل السلام، فإذا لم ينكشف لك الحال قبل السلام فتسجد سجدتين قبل السلام، وذلك لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وهاتان السجدتان تسميان سجدتي الشك، فأنت لا تدري هل أنت زائد في صلاتك، أو صلاتك تامة، ففي هذه الحالة تسجد سجدتين في حالة الشك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فليسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان الذي صلاه أربعاً فالسجدتان ترغيم للشيطان، وإن كان الذي صلاه خمساً فالسجدتان تشفعانها)، ففي هذه الحالة إذا لم تعرف قبل السلام وسجدت السجدتين فإنك لا تسجد بعد السلام، ولو تبين لك أنت زدت، أما إذا تبين قبل السلام أنك زدت فتسلم ثم تسجد بعد سلامك؛ لأنك تحققت من الزيادة في صلاتك، والله تعالى أعلم.

    إذا كانت المرأة حائضاً ومرت من الميقات ولم تحرم

    السؤال: أنا من بلاد الشام سافرت إلى الرياض فمكثت فيها بضعة أيام، ثم أتيت مكة محرماً، أنا وزوجتي، وكانت حائضاً، ثم عندما تطهرت ذهبنا إلى التنعيم وأحرمنا من هناك، وهل هذا جائز، أم علينا الرجوع إلى ميقات أهل الرياض؟

    الجواب: يلزمكم الرجوع إلى ميقات الرياض، وكان من السنة أنك إذا مررت ومعك الأهل في حال العذر أن يغتسل الأهل في الميقات، ثم يحرمون بعد الاغتسال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت عميس رضي الله عنها -وهي زوجة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما نفست بـمحمد بن أبي بكر الصديق في البيداء- أن تغتسل وتهل، قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (مرها فلتغتسل ثم لتهل)، فمن جاء ومعه نسوة إلى الميقات وهن معذورات يحرم ويلبي، ويحرم النسوة ويلبين، ثم يمضين ولا يفعلن العمرة حتى يطهرن، فإذا تطهرن فإنهن يقمن بأداء العمرة.

    وأما إذا جئتِ ودخلتِ مكة وجلست فيها، وبعد ذلك أردتِ بعد أن طهرت أن تأتي بالعمرة، فإنه يجب عليكِ الخروج إلى الميقات؛ لأنكِ مررت بالميقات أولاً ناوية العمرة، وقد أمر الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم كل من مر بهذه المواقيت وعنده نية العمرة أو الحج أن يحرم منها، كما في الصحيحين من حديث ابن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عن الجميع: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل نجد قرن المنازل، وقال: هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة)، فأنت كان يجب عليك أن تذهبي إلى ميقاتك، أما وقد أحرمت من التنعيم فإن التنعيم ميقاتك إذا أنشأت النية من مكة، أما وقد أنشأت النية خارج مكة فيلزمك الإحرام من موضعك الذي أنشأت فيه، وعليك دم، وعلى الزوج أيضاً دم، وإن كان معكم رفقة آخرون فإنه يجب عليهم الدم إذا فعلوا كفعلكم. والله تعالى أعلم.

    حكم ترك بعض الصلوات عمداً بسبب المرض

    السؤال: مرض شخص في رمضان، فأجرى عملية استلزمت إفطاره خمسة أيام، وترك الصلاة في هذه الأيام الخمسة بأمر الأطباء، فهل عليه قضاؤها مثل قضاء الصيام؟

    الجواب: الأطباء ليس لهم علاقة بالشرع، فكيف أصبحت الصلوات تترك بأقوال الأطباء؟! فالأطباء يتكلمون في الأمور الشرعية، ولهم الحق أن ينصحوا المريض في الركوع والسجود، فيقولون: لا تحنِ. لا تفعل. في أمور تضر به، أما أن يقولوا له: اترك الصلاة فهذا ليس من حقهم أبداً، وليس من شأنهم، فعلى المسلم أن ينزل المسائل الشرعية على أهل العلم، وأن يأخذ من الأطباء الثقات ما اتفقوا عليه، أو غلب على ظنونهم أنه يجب على المريض أن يفعله أو يتركه.

    وبناءً على ذلك فإنه إذا تعذر عليك في حال العملية الجراحية، أو كنت بحالة لا تستطيع معها القيام ولا القعود ولا الركوع ولا السجود فينبغي أن تصلي على فراشك، وعلى أي حالة كنت، قال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].

    وقد جاء عمران بن حصين رضي الله عنه وأرضاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي إليه ما يجده من البواسير، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)، فتصلي على حالتك، ولست بمعذور في ترك الصلاة.

    وبناء على ذلك يجب عليك قضاء هذه الصلوات كاملة، ويأثم مَن أخذ العلم الشرعي من غير أهله، حتى ولو من أنصاف المتعلمين، أو ممن هم ليسوا بأهل للفتوى، ولا يجوز لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسأل ويستفتي، ولا أن يأخذ حكماً شرعياً إلا ممن يوثق بعلمه ودينه وأمانته، وهذا شيء نعذر إلى الله منه، وهذا الذي نجده في زماننا من تكالب الناس على الفتوى وسهولة القول على الله بدون علم -نسأل الله السلامة والعافية- أمر منكر عظيم، وتنقض به عرى الإسلام عروة عروة، فالعلم له أهله، والوحي له من المؤتمنين عليه من الأنبياء وورثة الأنبياء من العلماء العاملين والأئمة المهتدين المهديين الذين هداهم الله وهدى بهم، فلا يجوز لمسلم أن يقدم على أي أمر من أمور عبادته أو معاملته بناء على كلام الناس، ولو كان أرفع الناس كلاماً، إنما يتخذ من يثق بدينه وعلمه وأمانته حجة بينه وبين الله عز وجل، فإذا وقف بين يدي الله وقال له: لم أحللت هذا ولم حرمته؟ قال: أفتاني فلان أنه حلال، وأفتاني فلان أنه حرام، وعندها يكون فلان أهلاً للحجة بين يدي الله.

    يقول الإمام الشافعي رحمه الله: رضيت بـمالك حجة بيني وبين الله.

    فمن أحب أن يقف بين يدي الله وحجته العلماء الذين أمر أن يرجع إليهم فليفعل، ومن أراد أن يكون حجته من لا عذر له بين يدي الله عز وجل فليفعل، فإنما هي النار فمن شاء فليتقدم ومن شاء فليتأخر، فعلى المسلم أن يتقي الله عز وجل، وأن يخشى الله سبحانه وتعالى، وأن يراقب الله عز وجل في هذه الأمور، وألا يتساهل فيها، خاصة في المجالس.

    ومن الغش أن يكون معك أولادك، أو معك إخوانك -خاصة إذا كنت من طلاب العلم-، وتأتي إلى شخص تعلم أنه ليس أهلاً للفتوى فتسأله، ومن سأل شخصاً لا يوثق بعلمه وجاء أحد واغتر بسؤاله فإنه يحمل وزر نفسه ووزر من سأله، حتى قال العلماء رحمهم الله: من سأل جاهلاً وهو يعلم بجهله، أو يعلم أنه ليس بأهل للسؤال فأفتى بدون علم فعليه مثل وزره؛ لأنه هو الذي أعانه على ذلك، فلا يجوز تكثير سواد الجهال، ولا يجوز إنزال المسائل إلا بالعلماء الذين يوثق بدينهم وعلمهم وأمانتهم.

    ولو أن الناس أنزلوا الفتاوى بأهلها وبمن يوثق بدينه وعلمه لارتاح الناس في كثير من الأمور، ولاستقام أمر الأمة، ولكن إلى الله المشتكى، قال صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء).

    فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل ولايتنا واهتداءنا بالأئمة الهداة المهتدين الذين جعلهم الله هداة مهتدين يقومون بالحق وبه يعملون. والله تعالى أعلم.

    تفسير قول الصحابي: (أجعل لك صلاتي كلها)

    السؤال: قول الصحابي رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: (أجعل لك صلاتي كلها)، هل معناه ترك الدعاء مطلقاً، وجعل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بدل الدعاء؟

    الجواب: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من أجل القربات وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، وقد أحب الله هذا النبي الكريم محبة جليلة كريمة، أحبه الله فجعله رحمة للعالمين، وأحبه فجعله سيد الأولين والآخرين، قال صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، وأحبه فصلى عليه من فوق سبع سماوات، وأمر بالصلاة والسلام عليه المؤمنين والمؤمنات، وصلى على من صلى عليه عشر مرات، وأحبه الله وشرفه وكرمه، وقد أقسم أنه بالليل والنهار، وبالعشى والإبكار فقال تعالى: .. وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:1-5]، فهو مقام ما بلغه أحد، وهذا المقام ما بلغه نبي مرسل قبله عليه الصلاة والسلام، وهذا من أجل النعم، ولذلك فتح له فتحاً مبيناً، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأتم نعمته عليه وهداه صراطاً مستقيماً، فهو مقام أعطاه الله عز وجل هذا النبي الكريم ليس في الدنيا فحسب، بل في الدنيا والآخرة، وانظر كيف أن الخلائق تحشر فيجعل الله عز وجل له ذلك المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون، فيسجد فيقال له: (يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع) صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

    ولعظيم حقه على الأمة أمر الله الأمة بالصلاة والسلام عليه تشريفاً له وتكريماً، فصلى الله عليه وسلم تسليماً، وزاده تشريفاً وتكريماً وتعظيماً، فمحبته كثرة الصلاة والسلام عليه عليه الصلاة والسلام، وكان بعض السلف إذا ذكر الحديث تغرورق عيناه من الدمع وهو يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: فضل الله أهل الحديث بكثرة الصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم. فهذه من أجل القربات وأحب الطاعات، وللأسف أنها تركت عند كثير من أهل السنة إلا من رحم الله، بل أحياناً تجد الشخص إذا سمع شخصاً يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وضع عليه علامة استفهام، مع أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من أجل القربات وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى.

    ومن صلى على النبي صلى الله عليه وسلم مرة صلى الله عليه بها عشراً، فتأمل ماذا يكون في العشر مرات التي يصلي بها، ثم انظر كيف فضله الله وشرفه، فما جعل الشخص يصلي عليه مباشرة، ولكن جعلك تدعو الله وتسأل الله أن يصلي عليه، وتقول: اللهم صل عليه، وهذا فضل من الله شرف به هذا النبي الكريم، حتى إن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول: (ما أرى ربك إلا يسعى فيما يرضيك). وهذه كلمة عظيمة جداً، فقد عاشت معه عليه السلام ورأت أحواله، ورأت كيف يكرمه ربه ويشرفه، ففي عام الحزن ينكسر قلبه صلوات الله وسلامه عليه فيجبر الله كسره، ويعظم أمره، فيسري به ليلة من الليالي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ويفضله على الأنبياء، ويقدمه على الأصفياء الأتقياء، ثم يرفعه إلى أطباق السماوات السبع الأولى إلى سدرة المنتهى، قال تعالى: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:16-18].. وأي مقام أرفع من مقام أعطاه له الله سبحانه وتعالى!! وأي مقام أعلى من مقام بلغه عليه الصلاة والسلام من حب ربه له، والمحبة التي وضعها بين عباده سبحانه وتعالى لهذا النبي الكريم.

    فحقه كبير، فعلينا أن نكثر من الصلاة والسلام عليه، وخاصة يوم الجمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك فقال: (فأكثروا علي من الصلاة فيه)، وكان بعض العلماء يقول: إن على الإنسان أن يستحيي؛ لأن الحديث يقول: (فإن صلاتكم معروضة علي)، فالإنسان ينظر إلى صلاته على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن الإنسان يوم الجمعة قد لا يصلي عليه إلا نزراً قليلاً، فالإنسان يتفكر ويتدبر ويتشرف بالإكثار من الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي من أجل القربات وأحبها إلى الله.

    وحديث كعب رضي الله عنه هذا من أقوى الدلائل -وحسنه غير واحد من العلماء- على فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك تجد المكثرين من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم تنالهم بركة ذلك، وهذا أمر لمسناه ووجدناه، فما وجدنا محباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم صادق المحبة مكثراً للصلاة والسلام عليه إلا وجدنا أشرح صدراً، وأثبت جناناً وقلباً، وأشرق وجهاً ونوراً، فتجد عليه نور الطاعة والخير؛ لأنها من أجل الطاعات بعد القرآن، وبعد قول: (لا إله إلا الله)، وليس هناك أشرف ولا أفضل بعد القرآن والباقيات الصالحات من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فهي قربة للعبد ووسيلة له بين يدي الله، والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35]، فهي عمل صالح وقربة إلى الله عز وجل، وطلاب العلم ينبغي عليهم أن يكثروا من الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فقد وفق، ويحبه الله عز وجل؛ لأن الله يعطي الدنيا من أحب ومن كره، ولكن لا يعطي الدين إلا من أحب، فهذه الخصلة العظيمة الكريمة الشريفة -وهي الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم- فيها وفاء لحقه عليه الصلاة والسلام، فهو صلى الله عليه وسلم الذي حمل هم وغم الأمة كلها، ويشهد الله من فوق سبع سماوات أنه كان حريصاً عليها، حيث قال تعالى:.. لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، فهو عزيز عليه عنتكم، ويشهد الله له بفضله.

    وانظر إلى رحمته عليه الصلاة والسلام حينما اغتم يوماً من الأيام واهتم؛ لأن الله كشف له ما يكون لأمته من الفتن التي تكون في آخر الزمان فأهمه وأغمه، فاشتكى ذلك إلى الله، فأرسل الله إليه جبريل -والله أعلم بما قال وما يقول- فقال: (أقرئ محمداً مني السلام، وقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك أبداً)، فهذا وعد من الله سبحانه وتعالى، وهو يقول سبحانه: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:1-5]، فهو مقام عظيم لمن ملأ الله قلبه شفقة على هذه الأمة، فرحم هذه الأمة كباراً وصغاراً، وشباباً وشيباً وأطفالاً، ورحم الصغير حتى كان إذا صلى فسمع بكاءه خفف الصلاة صلوات الله وسلامه عليه، ورحم الصغير إذا امتطى ظهره فكان لا يزعجه وهو على ظهره، ورحم الصغير وهو يمر عليه ويسلم تواضعاً منه وكرماً صلوات الله وسلامه عليه، ورحم الكبير، ورحم النساء، ورحم الرجال، وذلك كله بفضل الله وحده لا شريك له.

    فالذي يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتأمل آيات القرآن والأحاديث الصحيحة التي فُضل بها عليه الصلاة والسلام على غيره من الأنبياء، وفُضل بها على غيره من ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه يعرف حينما يقول: (اللهم صل على محمد) من هو هذا النبي الكريم الذي يصلي عليه، فتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وأنت تستشعر منزلته ومكانته، ولا تترك هذه السنن لمن لا يحسن التعامل مع هذه النصوص، ولذلك هجر بعض طلاب العلم ذلك -أصلحهم الله- حتى استغله من يغلو ومن يجهل، بل ينبغي على أهل السنة أن يكونوا أحرص على ذلك، فقد كان الإمام مالك رحمه الله لا يحدث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إذا طيب مجلسه، وكان إذا جاءه الناس يقرعون بابه تسأل الخادمة والأمة: أتريدون الفتوى والفقه؟

    فإن قالوا: نريد الفتوى والفقه خرج إليهم، أو جلس لهم وأفتاهم، فإذا قالوا: نريد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطيب وتوضأ وجلس على أريكة لا يجلس عليها إلا إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إجلالاً وإكراماً لهذا الحديث.

    وخرج ذات يوم فسأله أحد طلابه عن حديث فقال: ما كنت أظنك بهذه المنزلة أتسألني عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تمشي! إجلالاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيريد أن يحدث على أجمل وأطيب الحالات توقيراً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    فالواجب علينا محبته عليه الصلاة والسلام محبة صادقة في قلوبنا، ومحبة صادقة في أقوالنا وأفعالنا تدعونا إلى الاتباع، فالمحبة شيء والاتباع شيء آخر، فإن المحبة تعين على الاتباع، فهناك فرق بين المحبة والاتباع، لكن المحبة الصادقة أن تتبع، أما نقول: المحبة هي الاتباع من كل وجه فلا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (جاءه أعرابي فقال: يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولما يعمل بعملهم -أي: لم يحصل منه الاتباع الكامل- فقال له: أنت مع من أحببت)، فأثبت المحبة، والمحبة شعور في القلب، وكان الصحابة رضي الله عنهم يحبونه حباً أعز من أنفسهم التي بين جنوبهم، وهذا أمر فطري جبلي، وهو أن يكون عند الإنسان شعور هذا النبي الكريم، وأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره وإجلال، ومن ذلك أن نكثر الصلاة والسلام عليه.

    ومعنى الحديث أن يكثر من الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم في أحواله، أي: يصبح يكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويختار هذا الذكر الذي يحبه الله عز وجل ويرضاه، فيجعل له صلاته كلها، فمن المعروف أن الشرع خير المسلم بين الأذكار والطاعات، فمن اختار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثبت النص له بهذا الفضل، ومن اختار التهليل فله فضل، ومن اختار كثرة تلاوة القرآن فله فضل، فهذا كله تنويع، لكن من اختار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يكفى همه ويقضى دينه، أي: يكفيه الله عز وجل هم الدنيا والآخرة.

    فنسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يعيننا على كثرة الصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم، ويرزقنا محبته، ويثبتنا على سنته، وأن يحشرنا في زمرته غير خزايا ولا مفتونين، ولا ضالين ولا مضلين، إنه ولي ذلك وهو أرحم الراحمين. والله تعالى أعلم.

    حكم من حلف على شيء أن لا يفعله ثم فعله ناسياً

    السؤال: إذا حلف شخص على عدم فعل أمر معين ثم فعله ناسياً فهل عليه كفارة؟

    الجواب: اختلف العلماء في هذه المسألة، فمن أهل العلم من يقول: إن الناسي غير مكلف، فإذا حلف على شيء لا يفعله، أو على شيء أن يفعله، ثم نسي فلم يفعل أو فعل فإنه لا كفارة عليه. لأنهم يرون أنه غير مكلف، فحينئذٍ لا يعتبر منه ذلك التقصير إخلالاً.

    ومن أهل العلم من قال: إن النسيان يسقط الإثم ويسقط الحرج، ولكنه لا يسقط الضمان، فيجب عليه أن يكفر. وهذا القول أحوط، والقول الأول أقوى من حيث الأصل. والله تعالى أعلم.

    حكم الإنفاق على الزوجة حال نشوزها

    السؤال: إذا خرجت المرأة من بيتها مع أولادها إلى بيت أهلها بدون إذن زوجها وعلمه طالبة الطلاق، والزوج لا يرغب في تطليقها فهل يلزمه الإنفاق عليها وعلى الأولاد فترة مكوثها ببيت أهلها؟

    الجواب: هذا السؤال فيه تفصيل، وفيه أمور:

    الأمر الأول: على كل امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تعلم أن حق الزوج عظيم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الزوج للمرأة جنة وناراً، فهو جنة إذا اتقت الله، ونارٌ إذا اعتدت حدود الله عز وجل.

    الأمر الثاني: أنه ينبغي أن تعلم أنه لا يجوز لها أن تخرج من بيت الزوجية إلا بإذنه، فإذا أذن لها بالخروج خرجت، وإذا لم يأذن تبقى في بيت الزوجية.

    وإذا حدثت مشاكل فلا يخلو الأمر من حالتين:

    الحالة الأولى: أن يمكنها أن تبقى في البيت مع وجود هذه المشاكل حتى يأتي وليها ويتفاهم مع الزوج، فلا يحل لها أن تخرج.

    والحالة الثانية: أن يكون بقاؤها فيه خطر، كأن يكون زوجها مبتلى بالسكر، أو مبتلى بأشياء يخشى معها أن يقتلها أو يفعل بها أمراً يضرها أو يضر أولادها، وهذه حالات استثنائية، ويجوز لها أن تخرج من بيت الزوجية ولو لم يأذن لها الزوج.

    أما أن تخرج كلما حدثت مشكلة وتذهب إلى أبيها أو أمها فلا، وهذا ليس من حقها، ولا يجوز للمرأة أن تخرج من بيت الزوجية، ولا يجوز للأب ولا للأم ولا للقريب أن يعينها على هذا المنكر، والمرأة لا يجوز لها الخروج من بيت زوجها إلا بإذن، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فليأذن لها)، فالأصل أن النساء عليهن السمع والطاعة للزوج في الخروج، فإذا حدثت المشاكل فالله جعل لكل شيء قدراً، وجعل للمشاكل طرقاً تحل بها، أما أن تذهب وتركب رأسها وتجلس عند أبيها وأمها بسبب مشكلة ما، فلا. وليس من العدل ولا من الإنصاف أن الزوج يدفع المهر، ويتكفل ببيت وبأسرة، ثم تأتي المرأة عند أمور معينة لتخرج من البيت، ولذلك أجاز الله عز وجل له أخذ ما أنفقه على زوجته -المهر- إذا شاءت أن تخالعه إذا لم يكن هناك موجب للطلاق.

    أما إذا ظلمها الزوج وآذاها وأضر بها فهذا على أحوال:

    الحالة الأولى: أن يكون الضرر مما يمكن الصبر عليه، فتحتسب الثواب، وترجو عند الله حسن العاقبة والمآب، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، فإن استعانت بربها جبر كسرها وعوضها خيراً مما ذهب عنها، فإذا كانت المشاكل يمكن الصبر عليها من سوء في خلقه وسب وشتم فإن الله عز وجل لا يضيع أجر الصابرين، والله مع الصابرين، فالله معها ويؤيدها ويثبتها ويكفر خطيئاتها بهذا البلاء، ويرفع درجتها، فهذه نعمة عظيمة للمرأة المؤمنة، فتمضي عليها الأيام تلو الأيام، وتغيب عليها شمس اليوم وهي تؤذى في الله عز وجل، وتهان وتذل وهي صابرة لوجه الله عز وجل، فعندها يعظم أجرها وتحسن العاقبة لها، فكم من امرأة أذلها زوجها فأعزها الله في نفسها وأولادها، وجعل الله لها الخلف، فالأمور بالعواقب، فكم من امرأة بكت في أول حياتها وشقيت وتأذت وتضررت من زوجها فأقر الله عينها في آخر عمرها بذريتها، فتوفي عنها زوجها وبقي لها أولادها كخير ولد لوالدته، فعوض الله صبرها وجبر كسرها وأحسن العاقبة لها.

    ومن قرأ في أخبار الناس وأحوالهم يجد ذلك جلياً، فهذا شيء نشهد به لله عز وجل، فلا أحد أحسن وفاءً ولا أكرم من الله سبحانه وتعالى، وكم من امرأة تقدم لزوجها وتضحي لبعلها فلا تجد لساناً شاكراً، ولا تجد قلباً معترفاً بالجميل، ولكن الله سبحانه وتعالى يحسن لها الخلف في دينها ودنياها وآخرتها.

    فإذا كانت المشاكل يمكن الصبر عليها فلا بأس أن تتحمل والله معها، وكل أمة تؤمن بالله واليوم الآخر تعلم علم اليقين أن الدار الدنيا دار هم وغم وكرب، لا سرور فيها للمؤمن إلا بطاعة الله عز وجل، وتأمل في الحياة كلها، وانظر عن يمينك وشمالك، ومن أمامك وخلفك، ومن فوقك وتحتك، وابحث عن شيء يسرك، فلن تجد إلا ذكر الله وما والاه.

    والدنيا ما سميت دنيا إلا لدناءتها، وما سميت دنيا إلا لكفران الحق فيها، فالحق باطل والباطل حق، والخير شر والشر خير، وكل هذا من دناءة الدنيا، وهي سجن المؤمن، ولتعلم المرأة علم اليقين أنها حيثما ذهبت وولت ستبتلى من الله عز وجل، فإذا سلمت من بيت زوجها وخرجت من بيت الزوجية يسلط عليها إخوانها وأخواتها يؤذونها في بيت أبيها، وإن سلمت من إخوانها وأخواتها لم تسلم من كلام الناس، ولم تسلم من قرابة زوجها، ولم تسلم من صويحباتها، فعليها أن تتأمل، وأن تنظر أين الثواب العظيم وأين الجزاء الكبير، فتصبر وتحتسب، وهذا إذا أمكنها الصبر، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

    وأما كيف نصير فالمرأة تعطى قوة من الله بالتصبر، ففرق بين الصبر والتصبر، فالتصبر فوق الصبر؛ لأن الصابر قد ألف سجية الصبر واعتادها ودأبها، لكن التصبر والتحمل والضغط على النفس هذا هو الذي يعلو به الإنسان إلى الكمالات، وهذا التصبر يحتاج إلى معاملة مع الله عز وجل، وأن يكون قلبك مع الله، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وجدنا ألذ عيشنا بالصبر. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه من يتصبر يصبره الله)، فالمرأة إذا أرادت أن تصبر على زوجها جاء الشيطان وقال لها: كيف تصبرين وقد قال؟ وكيف تصبرين وقد فعل؟ وكيف تصبرين وقد حصل؟ فتتصبر وتقول: الله يهديه. وهذا من أجمل وأكمل ما يكون من المرأة المسلمة، فتقابل الإساءة بالإحسان، وتقابل الذنب بالصفح والغفران، وتدعو لزوجها وتدعو لبعلها، فإذا بالشيطان ينخنس، وإذا بذاك البيت المملوء بالمشاكل يعود أنواراً وخيراً وبركة على أمة الله المؤمنة لصبرها وفضل الله عز وجل عليها.

    فهي أمة تجدها لله قانتة صابرة، تضايق وتؤذى وتضطهد وهي جالسة في بيتها، ومع ذلك قل أن تجدها تشتكي لأبيها أو أمها أو أخيها؛ لأن قلبها مع الله، وكل يوم تؤذى بصنوف البلاء، وإذا بها تعطى درجة في كل يوم خيراً مما كانت فيه بالأمس، قال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، فهذا وعد من الله عز وجل.

    فإن كانت المشاكل مما يسع الصبر عليها فلا تخرج.

    الحالة الثانية: إذا كانت المشاكل مما لا يمكن الصبر عليها، وكانت قد بلغت حدوداً لا تستطيع المرأة أن تتحملها، أو بلغت حدوداً فيها إضرار بأولادها وذريتها فالله عز وجل يقول: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ [النساء:130]، فالله عز وجل يعد بحسن الخلف إذا فارقت زوجها إذا كان الأمر وصل إلى درجة يشرع فيها طلب الطلاق.

    فبعد أن تستنفد جميع الوسائل الشرعية لإصلاح الزوج وإصلاح بيت الزوجية تستخير الله عز وجل، فلا تطلب الطلاق حتى تستخير ربها: هل الخيرة أن تطلب الطلاق أو لا تطلبه فإن كان انشرح صدرها واطمأن قلبها فتُقْدِم عليه، وقبلما تستخير، وقبلما تسأل الله عز وجل الخيرة عليها أن ترجع إلى العقلاء من العلماء والفضلاء، فتستشير من تثق بدينه وأمانته من أهل العلم، وكذلك من أهل العقل والحجا فتسألهم، حتى النساء من صويحباتها، فإذا استبان أنه لا بد من الفراق، وأن المصلحة في الفراق، واستخارت وانشرح صدرها تواجه زوجها به إن كانت المواجهة تحقق المصلحة وتدر المفسدة، وإن كانت المواجهة تحدث مشاكل، أو تحدث ضرراً، ولربما تتفاقم الأمور أكثر فحينئذٍ تنظر إلى الأعقل والأرشد والأقوى، فتنظر إلى قوي أمين من قرابتها، فإن لم تجد قوياً أميناً من والديها، ولم تجد قوياً أميناً من إخوانها وقرابتها تنظر إلى القوي الأمين في عشيرتها وجماعتها، وتنزل الأمر به، وإخوانها وقرابتها عليهم أن يعينوها، وأن يتقوا الله عز وجل في ذلك إذا رأوا أن الحق معها، ثم تطلب الطلاق.

    وهذا هو الأمثل، فتخرج من بيت الزوجية بالطريقة الشرعية.

    أما أن تخرج قبل الطلاق وتجلس في بيت أبيها فكيف ستعتد عدة الطلاق؟ وكيف ستقوم بالأمور التي أوجب الله عز وجل على المطلقة أن تقوم بها من بقائها في بيت الزوجية؟!

    فعلى النساء أن يتقين الله عز وجل، وأن يأخذن بهذا الأصل الشرعي، فلا يطلب الطلاق إلا من ضرورة، والأصل أن تصبر المؤمنة وأن تتحمل، وإذا طلبت الطلاق بمسوغ شرعي فإنه لا بأس عليها ولا حرج.

    أما لو أن المرأة ظلمت وجارت وخرجت من بيت الزوجية فتعدت حدود الله عز وجل وتعالت على زوجها وطلبت الطلاق فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنه: (أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فالجنة عليها حرام)، نسأل الله السلامة والعافية، فهذا أمر عظيم، وعلى المرأة أن تتقي الله.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل لنا من جميع أمورنا فرجاً ومخرجاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755962566