إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الوصية بالأنصباء والأجزاءللشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إذا أوصى المورث لشخص بمثل نصيب أحد الورثة وعينه فعند ذلك يعطى الموصى له مثل نصيب ذلك الوارث المعين، وإن لم يعينه أعطي الموصى له مثل أقل الورثة نصيباً، وإن وصى بسهم من المال للموصى له؛ أعطي الموصى له السدس، وإن وصى بجزء من المال أو شيء أو حظ؛ أعطي الموصى له ما يصدق عليه أنه مال.

    1.   

    معنى الأنصباء والأجزاء

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [باب الوصية بالأنصباء والأجزاء].

    الأنصباء: جمع نصيب، ونصيب الإنسان حظه المقدّر، والمراد هنا: ما قدره الله تبارك وتعالى للوارثين، فقد جاءت نصوص الكتاب والسنة بإعطاء الوارثين حقوقهم، فأعطى الله جل جلاله كل ذي حق حقه من التركة، وجعل هذا الإعطاء مقدراً بمقادير معيّنة، أو يكون تعصيباً ينال الإنسان به ما فضل عن أصحاب المواريث، كما سيأتي -إن شاء الله- في كتاب الفرائض.

    فالمراد هنا بقوله: (بالأنصباء): نصيب الوارث، وقوله: (الأجزاء): جمع جزء، وجزء الشيء بعضه، سواء كان أكثر البعض، أو نصفه، أو أقل من ذلك.

    وقوله رحمه الله: (باب الوصية بالأنصباء والأجزاء)، هذا الباب يذكر فيه الموصِي أنه قد أعطى من أُوصِي له قدراً معيناً أو مبهماً يمثِّله بنصيبٍ لوارث؛ كأن يقول: أعطوا خال أولادي مثل أُخته، فأخته زوجة، ولها نصيب في كتاب الله عز وجل حيث ترث الثمن إذا كان هناك أولاد، فلما قال: أعطوه مثل نصيبها، فمعناه أنه يريد أن يعطيه الثمن.

    وفي بعض الأحيان يقول: أعطوا فلاناً أقل نصيبٍ لوارث، فحينئذٍ لا يُحدِّد، وإنما يبيّن أن له الأقل، فننظر فربما كان الأقل أثناء كتابته للوصية شيئاً، ثم يختلف بعد موته فيكون شيئاً آخر.

    وفي بعض الأحيان يقول: أعطوا فلاناً من تركتي جزءاً أو سهماً أو حظاً أو شيئاً، فيبهم، ففي هذه الأحوال -أي: كلها- درس العلماء رحمهم الله هذا النوع من الوصايا، وعند التأمل والنظر نجد أن هذا النوع من الوصايا يرجع إلى كتاب الفرائض.

    والمسائل فيه مسائل حِسابية، ولكن المصنف رحمه الله والعلماء يفردونه بباب مستقل عناية به، وقد تقدم بيان السبب في هذا، وهو أن أهل العلم رحمهم الله ربما يقتطعون من الباب العام أو الكتاب العام مسائل تُذكَر في مواضع خاصة مفرقة على حسب مناسبات كتبها وأبوابها.

    فقد تقدم معنا أن كتاب القضاء ينتضمن أحكام الشهادات والبيِّنات، فربما ذكر العلماء رحمهم الله مسائل من القضاء في كتاب البيوع، ويذكرون مسائل البيوع المتصلة بالقضاء؛ لأنهم يرونها في هذا الباب ألطف.

    وعلى كل حال: هذا بابٌ مهم، ولذلك يقول عنه الإمام النووي رحمه الله في الروضة: ( هذا فن طويل، ولذلك جعله العلماء علماً برأسه، وأفردوه بالتدريس والتصنيف).

    قوله: (هذا فن طويل جعله العلماء علماً برأسه) يعني: من عناية أهل العلم به أنهم جعلوه رأساً، وإلا فالمفروض أن يكون مندرجاً تحت الفرائض؛ لكنهم جعلوه رأساً مستقلاً، وأفردوه بالتصنيف والتدريس، فصنفوا فيه، ولذلك قال المصنف رحمه الله: (باب الوصية بالأنصباء والأجزاء)، فأفرده ببيانه وتدريسه.

    وهذا الباب مسائله كثيرة جداً، وهو من أمتع الأبواب في دراسة مسائله الحسابية، لكن بعد إتقان الفرائض، ولا يستطيع الإنسان أن يضبطه ضبطاً تاماً إلا بعد إتقانه للفرائض، مع الإلمام بأصول الأحكام المتعلقة به.

    1.   

    أحكام ومسائل الوصية بالأنصباء والأجزاء

    يقول رحمه الله: (باب الوصية بالأنصباء والأجزاء) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالوصايا التي يُذكر فيها النصيب، أو يذكر فيها الجزء، ويتبع هذا ذكر الوصايا بالسهم وبالشيء المجهول .

    وإذا وَصَّى الإنسان فإما أن يذكر قدراً معيناً من التركة بالنسبة، كقوله: أعطوا فلاناً نصف مالي، أو أعطوا فلاناً بعد موتي ثلث مالي، فإذا حدد بالنسبة ففي هذه الحالة تنقسم المسألة إلى ثلاث صور:

    الصورة الأولى: أن يعطيه الثلث.

    الصورة الثانية: أن يعطيه أكثر من الثلث.

    الصورة الثالثة: أن يعطيه أقل من الثلث.

    فإذا أعطاه الثلث فأقل فبالإجماع أنه تنفذ وصيته على التفصيل الذي قدمناه، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير)، فأعطى المريض مرض الموت أن يتصرف في ثلث ماله فيعطيه من شاء.

    إذاً: النص يدل على أن من حقك أن توصي بثلث مالك وصية شرعية معتبرة، وكذلك دل النص على أن ما دون الثلث يجوز للإنسان أن يوصي به.

    الصورة الثالثة: أن تكون وصيته أكثر من الثلث، فقد ذكرنا أنها لا تجوز، وأنه ليس من حق الميت أن يُوصِي بأكثر من الثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم منع سعداً من ذلك.

    وبيّنا إجماع العلماء رحمهم الله على هذا، وقد اختلف العلماء إذا أوصى بأكثر من الثلث فأجاز الورثة ورضوا: هل هي عطية مبتدئة أو عطية تنفيذية؟ ثم ذكرنا خلاف العلماء والثمرة المتعلقة بهذا الخلاف.

    إذاً: مسألة أن يُحدد نسبة معينة من المال كله لا إشكال فيها.

    الحالة الثانية: أن يذكر نصيباً أو جزءاً أو حظاً، فإذا أعطى مثل نصيب الوارث فقال: أَعطوا خال أولادي مثل محمد، أو أعطوا خال أولادي مثل أخته، فإذا حدَّد نصيب الموصَى إليه بنصيب وارث لم يخل الورثة من حالتين:

    الحالة الأولى: أن يكون نصيب الورثة مستوياً، فيأخذ كلٌ منهم مثلما يأخذ الآخر، مثاله: لو تُوفي رجل عن ابنين ليس له غيرهما، فحينئذٍ المال يُقسم بينهما بالسوية، فإذا قال: أعطوا فلاناً -عم أولادي، أو خال أولادي- مثل نصيب أحدهم؛ فحينئذٍ لا إشكال أن المال يُقسَم بين الجميع على حد سواء، وكأنه ابن ذكر دخل بينهم.

    الحالة الثانية: أن يكون النصيب مختلفاً، فيقول: أعطوا خال أبنائي مثلما تأخذه أخته، فحينئذٍ الذي تأخذه الزوجة هو الثمن، ولو توفي وترك زوجة وثلاثة أولاد أبناء ذكور، ففي هذه الحالة تجعل المسألة من ثمانية، فتعطى الزوجة الثمن، ويعطى كل واحد من الأبناء ثمنين، فتصبح المسألة من سبعة، ثم يدخل هذا الخال معهم فتصبح المسألة من ثمانية.

    فإذا اختلفت الأنصبة بين الورثة فإننا في هذه الحالة ننظر إلى الشخص الذي عيّنه، ونضيف سهم الشخص الذي أدخله من غير الوارثين في الوارثين بذلك السهم، مضافاً إلى أصل المسألة، كما سيأتي -إن شاء الله- بيانه وشرحه.

    إذاً: اتفقت أنصبة الورثة، فيكون كواحدٍ منهم، وإذا اختلفت فتعطيه سهم من سَمّى من الورثة -كالزوجة ونحوها- وتدخله في المسألة حتى ولو عالت المسألة، وسيأتي -إن شاء الله- توضيح هذه الأمثلة.

    وإذا أبهم وقال: أعطوا خال أولادي أو عمهم مثل نصيب وارث، ولم يحدد الأقل ولا الأكثر، والورثة مختلفون، فهل نعطيه نصيب الأكثر أو نعطيه نصيب الأقل؟

    جمهرة أهل العلم رحمهم الله في هذه المسألة على أنه يُعطى مثل نصيب أقلِّهم؛ لأنه هو اليقين الذي يجب صرفه إليه، ولا يُعطى مثل نصيب الأكثر.

    أما لو قال: أعطوه جزءاً من مالي، أو شيئاً من مالي، فحينئذٍ نقول للورثة: أعطوه أي شيء ترضاه أنفسكم، فأقل ما يصدُق عليه أنه مال إذا أعطوه إياه فقد نفذَت الوصية وتمت؛ لأنه قال: أعطوه شيئاً، والشيء يصدق على القليل والكثير، فكل ما طابت به أنفس الورثة فإنه هو المجزئ تنفيذاً لهذه الوصية.

    وبقيت مسألة أخيرة وهي: إذا قال: أعطوا فلاناً سهماً من مالي، فبعض العلماء يقول: نعطيه أقل نصيب من الورثة، وهذا قول اختاره الإمام الشافعي رحمه الله وطائفة من أهل العلم.

    وبعض العلماء يقول: نعطيه سدس المال؛ لأن السهم في كتاب الله عز وجل -كما هو معلوم، وكما تقدم معنا في كتاب الجهاد وغيره- هو السدس، وهذا هو الذي يكون نصيباً له إذا عبّر الميت بالسهم.

    وهذا القول أفتى به علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود ، وقضى به إياس بن معاوية القاضي المشهور، واختاره جمع من الأئمة رحمهم الله.

    هذا حاصل ما يذكر في الأنصبة والأجزاء، وسيفصل المؤلف رحمه الله في هذه المسائل في هذا الباب.

    الوصية بمثل نصيب وارث معين

    قال رحمه الله: [إذا أوصَى بمثل نصيب وارث معين فله مثل نصيبه مضموماً إلى المسألة]

    لو أوصى أن يُعطى مثل ابنه محمد، وله ثلاثة أبناء، فحينئذٍ في الأصل -قبل أن يدخل هذا الشخص- أن يُقسم المال على ثلاثة، فكل واحد من أبناء الذكور يأخذ ثلث المال، فإذا أدخل هذا الأجنبي ووصى له فإنه في هذه الحالة يقسم المال على أربعة، فيكون لكل واحد من هؤلاء الأبناء الربع، وله هو أيضاً الربع، فنصيبه مثل نصيب الوارث.

    هذا هو معنى قوله: (فله مثل نصيب الوارث مضافاً إلى أصل المسألة).

    ونبدأ المسألة بالتدريج، فإذا وصَّى لشخص بمثل نصيب وارثه، وليس له وارث إلا ابن ذكر واحد، ففي هذه الحالة يكون لهذا الوارث مثل نصيب الابن الذكر؛ فيُقسم المال بينهما مناصفة، فإذا قسمناه بينهما مناصفة فحينئذٍ سيكون حظه فوق الثلث، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصية فيما زاد عن الثلث، فتصح في الثلث، ونقول لهذا الوارث: هل تأذن له بما زاد أو لا تأذن؟ فإن أذن مضت الوصية، وكان له نصف المال، وإن لم يأذن لم يكن له إلا الثلث.

    وأما إذا كان له ابنان، ففي هذه الحالة يكون المال مقسوماً بين الابنين، وكل منهما يأخذ النصف، فإذا دخل هذا الأجنبي الذي وصَّى له فسيكون المال منقسماً على ثلاثة، ولكل واحد منهم الثلث؛ لأن الابنين شرَّكا هذا الأجنبي بقوله: (مثل نصيب الوارث)، ففي هذه الحالة يكون له الثلث، وإذا كان له ثلث المال فهذا حظُّه ونصيبه الذي تجوز الوصية به.

    وإذا كان له ثلاثة أبناء ذكور، ففي هذه الحالة يكون لكل ابن ثلث المال قبل دخول الأجنبي، فلما دخل هذا الأجنبي أصبح المال منقسماً على أربعة، فيكون للأجنبي ربع المال، وكل واحد من الأبناء يأخذ ربعاً، فتتم القسمة على أربعة، وعلى هذا تسير المسألة.

    قال المصنف رحمه الله: [فإذا أوصى بمثل نصيب ابنه وله ابنان فله الثلث].

    قوله: (فله الثلث) بدأ بهذا، ولم يذكر إذا كان له ابن واحد؛ لأن المسألة فيها زيادة على الثلث؛ لأنه سيكون له النصف، فابتدأ رحمه الله بالثلث الذي هو أصل الاستحقاق، فإذا كان له ابنان ووصى له بمثل نصيب أحدهم، فإنه في هذه الحالة يكون له ثلث المال وللابنين الثلثان.

    قال رحمه الله: [وإن كانوا ثلاثة فله الربع].

    لأن المال منقسم على ثلاثة، وكل واحد سيأخذ الثلث، ثم لما دخل الأجنبي انقسم على أربعة؛ لأنه جعله كواحد منهم، فينقسم على أربعة، فيكون له ربع التركة.

    قال رحمه الله: [وإن كان معهم بنت فله التسعان] أي: إن كان الثلاثة الأبناء الذكور معهم بنت وأجنبي، فالثلاثة الأبناء الذكور لما دخلت معهم البنت سيكون لكل واحد منهم اثنان وللبنت واحد، فتكون المسألة من سبعة، وفي هذه الحالة سيدخل هذا الأجنبي معهم كواحد من الذكور، فتصبح المسألة من تسعة، فيكون له تُسعان، ولكل واحد من الذكور تسعان.

    ففي هذه الحالة تجعل الأجنبي داخلاً بمثل نصيب الوارث مضافاً إلى أصل المسألة، فهم ثلاثة ذكور مع أختهم، والثلاثة: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، فتضربهم في اثنين فتصبح من ستة، والأنثى لها واحد، فتصبح المسألة من سبعة، فأصل المسألة من سبعة، فلكل ذكر سبعان، والأنثى لها سُبع واحد، فلما دخل الأجنبي أصبحت المسألة من تسعة، فبدلاً من أن يكون للذكر سُبعان سيكون له تسعان، ويكون للأجنبي التُسعان، هذا إذا قال: له مثل الذكر، أما لو قال: مثل بنتي؛ فيكون له ثمن المال.

    الوصية بمثل نصيب أحد الورثة دون تحديد الوارث

    قال المصنف رحمه الله: [وإن وصى له بمثل نصيب أحد ورثته ولم يبين، كان له مثل ما لأقلهم نصيباً].

    إذا وصى له بمثل ما لوارثه ولم يبين، فلم يقل: أعطوه مثل ابني أو ابنتي، أو مثل فلان؛ فمن العلماء رحمهم الله من قال: يُعطى مثل أقلهم؛ لأن هذا هو اليقين، وهذا هو الذي عليه كثير من العلماء رحمهم الله، وعليه الفتوى والعمل.

    فإذا قال: أعطوه مثل ما للأنثى، وعنده وارث من الذكور يرث سهمين، ووارث من الإناث يرث سهماً واحداً، ففي هذه الحالة نُعطيه مثل ما للأنثى، وتكون المسألة التي قدمناها -في الثلاثة الذكور والأنثى- من ثمانية؛ فيكون للأنثى الثمن، وللثلاثة الذكور لكل واحد منهم ثمنان.

    فإذا كانوا ثلاثة فلهم ستة والأنثى معهم السابعة، فتكون المسألة من سبعة، من حيث الأصل، فعندما قال: أعطوا فلاناً مثل ما لوارثي، ولم يبيِّن، فحينئذٍ نعدل به إلى الأنثى، وإذا عدلنا به إلى الأنثى فمعناه: أنه سيأخذ مثل الأنثى، وإذا أخذ مثل الأنثى فمعناه: أن له سهماً واحداً، فبدلاً من أن تكون المسألة من سبعة ستكون من ثمانية، فيكون لكل ذكر سهمان من ثمانية، وهما الثمنان، فتكون ستة أثمان للذكور، ويبقى الباقي -وهو الثمنان- منقسماً بين البنت وبين هذا الأجنبي، هذا إذا لم يُسَمِّ.

    ولماذا قال العلماء بالأقل؟ هناك عند العلماء قاعدة تقول: (اليقين لا يُزال بالشك)، وهذه القاعدة تفرّعت عليها من المسائل ما لا يحصى كثرة، ولذلك اعتبرها الأئمة رحمهم الله من أمهات القواعد الفقهية الخمس المشهورة، فيقولون: إذا قال: أعطوه مثل ما لوارثي، فعندنا وارث ينال الأقل، ووارث ينال الأكثر، فإذا أعطيناه الأقل فلا نشك أنه ينال هذا الحظ الذي هو السهم، ولكن نشك في السهم الزائد، والأصل أنه ليس له حق في التركة؛ لأنه أجنبي، فنبقى على اليقين، ولا نعطيه ما زاد عن هذا النصيب الأقل حتى يَنُص صاحب المال على أنه يزاد له في حظه.

    هذا هو السبب في أننا نعطيه الأقل؛ لأنه اليقين، وقد ثبت بيقين أنه يأخذ هذا السهم، وما زاد عنه باقٍ على الأصل، وهو أنه لا حظ له حتى يدل الدليل؛ لأنه لو أراد أن يعطيه أكثر لقال: أعطوه مثل فلان، فلما قال: أعطوه مثل ما لوارثي؛ أَلست إذا أعطيته مثل نصيب البنت تكون قد أعطيته نصيب وارث؟ بلى، فالبنت وارثة، فإذا كانت البنت ترث، ووصف الإرث متعلق بها؛ فإنك إذا أعطيته مثل نصيب الأقل فقد أعطيته نصيب الوارث، وهذا مذهب طائفة من العلماء كما ذكرنا، وهو الذي عليه العمل والفتوى؛ لصحة دلالة قواعد الشريعة عليه.

    لكن في الحقيقة يبقى الإشكال: وهو أن أحد مشايخنا رحمة الله عليه أورد مسألة لطيفة وهي: إذا قال: أعطوه مثل نصيب وارثي، وكان أبناؤه كلهم ذكوراً، وزوجته حامل، فلما توفي وضعت أنثى، فالوارث في الأصل هم الذكور، فكان المفروض أنه يدخل معهم بنصيب أفضل، لكن وضعت الأم بنتاً وماتت الأم، فإن نصيب البنت سيكون الأقل، والواقع أننا نعطيه مثلما نعطي الإناث؛ لأنه بعد الموت -والوصية مضافة لما بعد الموت- يصدُق وصف الإرث على الأنثى كما يصدق على الذكر، ولذلك تسري نفس القاعدة الأولى، وهذه من بعض الإشكالات التي يورِدها بعض العلماء.

    وهناك من يقول: يُعطى مثل الذكر؛ لأنه وإن لم يُسم الذكر فقد عُلِم من دلالة الحال أنه يريد الوارث الذكر، ولكن هذا لا يخلو من نظر؛ لمسائل نظيرة لهذه المسائل يفتي فيها حتى العلماء الذين يقولون بأنه يكون له مثل نصيب الوارث مع كونه أقل، وعلى هذا فإنه يأخذ نصيب الأقل بكل حال.

    وقوله: [وإن وصَّى له بمثل نصيب أحد ورثته ولم يبين؛ كان له مثل ما لأقلهم نصيباً، فمع ابن وبنت ربع].

    فالابن له سهمان، والبنت لها سهم واحد، ففي هذه الحالة تصبح المسألة من ثلاثة، فإذا أَعطيت الابن السهمين وأعطيت البنت سهماً، فقد أعطيت الذكر مثل حظ الأنثيين، فتصبح المسألة من ثلاثة.

    وفي هذه الحالة إذا قال صاحب الورث: أعطوا محمداً مثل ما لوارثي، فإذا كان عنده ابن وبنت، فالابن له اثنان، والبنت لها واحد، فتصبح المسألة من أربعة، فالبنت لها سهم واحد، والأجنبي له سهم واحد؛ لأنه هو السهم الأقل، والابن الذكر له سهمان، فتصبح المسألة من أربعة، ويُقسم المال بينهما، لكلٍ من الأجنبي والبنت الربع، وللابن الذكر نصف المال الذي هو الربعان.

    وقوله: [ومع زوجة وابن تسع].

    لأن المسألة في الأصل من ثمانية، فالزوجة لها الثمن واحد، والابن له سبعة أثمان؛ لأن الابن عصبة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر)، فالابن عصبة، ودائماً إذا اجتمع صاحب فرضٍ وصاحب تعصيب وليس هناك غيرهما، فصاحب الفرض يأخذ فرضه، وتصح المسألة من نفس المقام الذي للفرض، ثم تُعطِي الباقي للعصبة، فالزوجة تأخذ الثمن لوجود الابن، فيبقى سبعة أثمان تَصرِفها إلى الابن الذكر.

    فلما قال: أعطوا مثلما لوارثي، فالزوجة وارثة، فنعطيه مثل الحظ الأقل وهو الثمن، فيكون له سهم واحد، فتعول المسألة، فبدلاً من أن كانت من ثمانية فتصبح المسألة من تسعة، فيكون له التُّسع وللزوجة التُّسع، وسبعة أتساع للابن الذكر.

    الوصية بسهم من المال

    قال رحمه الله: [وبسهم من ماله فله سدس].

    قوله: (وبسهم من ماله) كما لو قال: أعطوا فلاناً سهماً من مالي، فمن أهل العلم من قال: يُعطى أقل ما يصدُق عليه أنه مال؛ لأنه سهم، ومنهم من قال: يُعطى السدس، كما ذكرنا، وهو الذي أفتى به بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـعلي وابن مسعود رضي الله عنهما، وفيه حديث مرفوع -لكنه حديث ضعيف- (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيمن وصى بالسهم بالسدس)، ولكن هذا الحديث ضعيف السند، والعمل على أنه يأخذ السدس؛ لأنه هو السهم في كتاب الله عز وجل، فيُعْطَى سدس المال.

    الوصية بشيء أو جزء أو حظ من المال

    قال رحمه الله: [وبشيء أو جزء أو حظ أعطاه الوارث ما شاء].

    إذا قال: وصيت لفلان بجزءٍ أو بشيءٍ من مالي، فننظر إلى أقل ما يصدُق عليه أنه مال -وهو الواجب- فيجب على الوارث أن يعطيه أقل ما يصدُق عليه أنه مال، فإذا أحب الورثة أن يزيدوا فهذا أمر يعود إليهم.

    أما الذي يستحقه فهو أقل ما يصدُق عليه أنه مال؛ لأنك إذا أعطيته ولو ريالاً واحداً؛ فإنه شيء من المال، وإذا أعطيته ريالاً من التركة فإنه جزء من المال، وإذا أعطيته ريالاً من التركة فهو بعض من المال، ويصدُق عليه أنه بعض وأنه جزء، وعلى هذا فيعطيه الوارث ما شاء.

    1.   

    الأسئلة

    بيان معنى تأدية الله للدين عن بعض عباده

    السؤال: كيف يجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم: (نفس المؤمن مرهونة بدينه)، وبين قوله عليه الصلاة والسلام: (من أخذ حقوق الناس يريد أداءها أدى الله عنه

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

    فقوله عليه الصلاة والسلام: (نفس المؤمن مرهونة بدينه)المراد به: أن الميت إذا مات وعليه دين فإن نفسه تُرهن، والعرب تقول: الشيء مرهون إذا كان محبوساً، قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38]. أي: محبوسة، فعِيلة بمعنى: مفعولة.

    فالمراد: أن النفس تُحبس، وقد اختلف العلماء في هذا الأمر، والحقيقة: أن الأمر فيه شيء من الغيب، فإنه لم يرِد تفصيل عن كيفية حبس نفس الإنسان إذا مات وهو مديون، لكن ورد حديث صحيح، وهو حديث أبي قتادة رضي الله عنه، وهو يدل على أمر عظيم، حاصله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بميت فقال : (هل عليه من دين؟ قالوا: نعم ديناران، فقال صلى الله عليه وسلم: هل ترك وفاءً؟ قالوا: لا. قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة رضي الله عنه: هما عليّ يا رسول الله! فصلَّى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو قتادة: فلم يزل يلقاني ويقول: هل أديت عنه؟ فأقول: لا بعد، حتى لقيني ذات يوم فقال: هل أدّيت عنه؟ قلت: نعم، قال: الآن بردت جلدته)، فحتى ولو تحمل عن الميت بعض الورثة فيقول: أنا أتحمل عن أبي، فلا يكفي ذلك حتى تُسدِّد بالفعل، فهناك تبرأ الذمة بالفعل.

    وقوله صلى الله عليه وسلم: (الآن بردت جلدته)، هذا شيء لا يستطيع الإنسان أن يدركه؛ لأنه علم غيب، فأمور القبر والبرزخ أمور غيبية متعلقة بالسمعيات والنصوص التوقيفية، ولا يستطيع أحد أن يجتهد فيها، ولا يستطيع الإنسان أن يكشف غيبها؛ لأن علم الغيب استأثر الله به، حتى الأنبياء والرسل لا يعلمون الغيب إلا إذا أطلعهم الله عز وجل على شيء من ذلك.

    وبناءً على هذا: فلا يُخاض في حقيقة الرهن والحبس، لكن الإشكال كيف نقول هذا مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه

    اختلف العلماء في قوله: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها)، وقد كانت أم المؤمنين رضي الله عنها حفصة كثيرة الدين، وكانوا يلومونها كثرة الدين، فقالت: (لا أترك الدين)، لكنها ما كانت تستدين من أجل أن تبني لنفسها أو تمتع نفسها، فقد كانت من أكرم الناس كأبيها رضي الله عنها وأرضاها، فكانت كريمة سخية لا تُمسك شيئاً في يدها، وهكذا كن أمهات المؤمنين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهن تربين على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفن حقيقة هذه الدنيا وهوانها، فكانت لا تُمسك شيئاً فكثُر عليها الدين، فأصبحوا يلومونها، فقالت رضي الله عنها: لا أترك الدين منذ أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدى الله عنه)، فقال بعض العلماء: معنى قوله: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها) أي: أنه عندما يأتي ليستدين اطلع الله على قلبه ونيته أنه يريد أن يُسدد، فصيها ويُيَسِّر الله له السداد ولو بعد حين، حتى ولو توفي فإن الله يعين ورثته حتى يسددوا.

    وهذا في الذي يأخذ أموال الناس يريد أداءها، أما الذي يأخذها -والعياذ بالله- لا يريد أداءها؛ فإن الله يحول بينه وبين ذلك ولو تمنى، فكلما جاء يُسدد يُحدث الله له مشكلة، ويفتح الله عليه باب فقر، حتى لربما تُوفِّي وهو لم يسدد الناس، ثم عجز ورثته من بعده، ولربما نُسي، فعذِّب بذلك الدين، نسأل الله السلامة والعافية.

    إذاً: هذا الأداء المراد به المعونة.

    وقال بعض العلماء -وهو القول الثاني-: المراد أدى الله عنه يوم القيامة؛ لأن الله يقول: قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة:119]، فكل من صدق في نيته وكانت نيته صالحة، فإن الله يتولى أمره بحسن نيته، حتى ولو كان فيما بينه وبين الله، وقد ورد في الخبر أن العبد يُوقف بين يدي الله فتُكشَف له ذنوبه ويشفق على نفسه، فيقول الله: (عبدي! أما وإنك قد فعلت ذلك فقد كنت تخافني وترجوني)؛ وذلك لما كان في ضميره وقلبه، فالشخص إذا كان في ضميره وقلبه أن يُسدد الناس وعجز عن السداد في حياته، ولقي الله يوم القيامة وقد جاء خصومه يطالبونه بالديون، أدى الله عنه؛ لأنه علم منه حسن النية وصِدق القصد في أن يؤدي؛ فكانت هذه رحمة من الله عز وجل.

    وفي الحقيقة: أمر الدّين عظيم، وعلى الإنسان -من حيث الأصل- أن يتقيه ما أمكنه، وبعض العلماء يُخفف في هذا إذا كانت نية الإنسان صادقة في السداد، ويعلم الله أنه ما استدان إلا لظروف وضرورة، فيرى أولاده وزوجته، ويرى من يعول محتاجاً، فيذهب يستدين من أجلهم، ويتحمل من أجلهم، كما استدان عليه الصلاة والسلام من أجل عورات المسلمين، وسد حاجاتهم، والقيام عليهم، فأدى الله سبحانه وتعالى عنه دينه، وقد تُوفِّي عليه الصلاة والسلام ودرعه مرهونة في صاعين من شعير ليهودي.

    فالمقصود: أن الدين يخفِّف فيه بعض العلماء، وخاصةً إذا جاءت ظروف تضطر الإنسان إلى أن يستدين.

    وعلى كل حال: فالإنسان عليه أن يتقي الدين ما أمكن، فهو ذل النهار وهم الليل، نسأل الله بعزته وجلاله وقدرته على كل شيء أن يؤدي عنا حقوق عباده، وأن يخرجنا من هذه الدنيا وقد سلمنا وسُلِّم منا وهو على كل شيء قدير، وعلى هذا: فليس هناك تعارض ولا إشكال، فمن أخذ أموال الناس وهو يريد أداءها أدى الله عنه، ويُصبح مستثنىً من الأصل، فإذا أردت أن تجمع بينهما بالعموم والخصوص، أو تقول: أدى الله عنه، لكن لا يمنع أنه مرهون ومحبوس حتى يؤدي الله عنه، بخلاف الذي كانت نيته غير صالحة فيجمع الله له بين العذابين: بين حبس نفسه، ثم لا يؤدي الله عنه، فيؤخذ من حسناته على قدر مظالم الناس، فيُصبح قوله: (أدى الله عنه) إذا حُمل على أداء الآخرة، فتكون نفس المؤمن مرهونة أو محبوسة بدينه من البرزخ إلى لقاء الله عز وجل، ثم يؤدي الله عنه بحسن نيته، هذا إذا قلنا: إن الأداء هو في الآخرة، وأما إذا كان الأداء في الدنيا، فلا إشكال فيه على التفصيل الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم.

    من أوصى لغير وارث بمثل نصيب وارث

    السؤال: أشكلت عليّ مسألة وهي قوله: (وقع زوجة وابن تسع) كيف يكون الموصَى له التسع، أليس له الثمن كحق الزوجة لأنه أقل إرثاً؟

    الجواب: في هذه الحالة ستعطيه ثمناً مثل الزوجة، وأصل المسألة من ثمانية، فمعنى ذلك: أنك ستقسم ويكون للزوجة الثمن؛ لأنه أعطاه مثل نصيبها، فلا تستطيع أن تعطيه ثمناً آخر، لأن المسألة أصلاً لا تصح على هذا الوجه، وفي هذه الحالة يكون له النصيب مثل نصيب الوارث.

    وبعض العلماء -وهو مذهب آخر- يرى التشريك حتى في الزوجات، فلو قال: له مثل الزوجة، وكانت له زوجتان؛ فتصح تصح المسألة من ثمانية، ويُقسم الثمن بينهما، ثم تعول لكل واحدة منهما واحد على ستة عشر، ويكون له واحد على ستة عشر، أي: جزء النصيب في الميراث، وفرق بين جزء النصيب في الميراث وبين النصيب في الإرث الذي هو الثمن، والذي يظهر هو ما اختاره المصنف أنه يكون له مثل الثمن؛ لأن الذي ذكرته أنت يكون له فيها جزء الميراث، وهذا يرده غير واحد من أهل العلم رحمهم الله، والصحيح: أنه يكون له الثمن رأساً، وتكون المسألة من تسعة؛ للزوجة تسع وله تسع، والباقي للرجل الذكر على التفصيل الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم.

    معنى قول العلماء: (لا مشاحة في الاصطلاح)

    السؤال: ما معنى قول العلماء رحمهم الله: لا مشاحة في الاصطلاح؟

    الجواب: الاصطلاح لا مشاحة فيه، بمعنى: أن لكل قوم أن يَصطلحوا على تسمية الشيء باسمه كاصطلاح بينهم، فلا يأتي واحد ويخطئهم، أو يبين عوارهم في اختيار هذا، فهذا مصطلح لهم، ولا مشاحة في الاصطلاح.

    وإذا اختلف اثنان، فإما أن يختلفا حقيقة أو صورة، فالخلاف ينقسم إلى: خلاف حقيقي وخلاف لفظي، فالخلاف اللفظي هو خلاف المصطلحات.

    فمثلاً: لو جاء شخص وسَمّى شيئاً معيناً باسم معين لا يُعطيه حكم ذلك الاسم الشرعي، واصطلح مع غيره على هذه التسمية، فمثلاً: لو جاء بعض العلماء وأخرجوا بيع الصرف من البيع -فإن: بعضهم يراه بيعاً، والإجماع منعقد على أن الصرف يسمى بيعاً- ووضع تعريفاً، ورأى أن باب الصرف باب يستحق أن يُفرد بكتاب، وأن يفرد بمسائل حتى يُضبط أكثر ويُتقن أكثر.

    وذلك مثل المالكية رحمهم الله في مذهبهم حيث أفردوا الصرف بباب مستقل، وبتعريف مستقل، وميزوه عن تعريف البيع العام، وأفردوا السلم عن باب البيع، مع أنه نوع من أنواع البيع؛ لأنه رخصة وبيع للمعدوم، فأفردوا السلم والصرف باسمهما وبباب مستقل، ووضعوا لكل منهما تعريفاً مستقلاً.

    فلما جاءوا في كتاب البيع يعرِّفون البيع أخرجوا هذين النوعين من البيع؛ لكنهم أخرجوهما اصطلاحاً لا حقيقة؛ لأنهم في الحقيقة يسلِّمون أنهما نوعان من أنواع البيع؛ لكن في الظاهر جاءوا في التعريف فقالوا في البيع: عقد معاوضة على غير منافع ولا متعة لذة ذو مكايسة. وهنا ينتهي تعريف البيع العام، ثم قالوا: أحد عِوضيه غير ذهب ولا فضة، معيّن غير العين فيه. فلما قالوا: أحد عِوضيه غير ذهب ولا فضة؛ أخرجوا بيع الصرف، ولما قالوا: معين غير العين فيه، أخرجوا بيع السلَم، ولكن لم يخرجوهما من البيع حقيقة؛ لأنهم يرون أن كلاً منهما بيع، لكنهم اصطلحوا في مذهبهم على إفراد هذين النوعين من البيع، وهذا مصطلح خاص بالمذهب، لكنهم في الحقيقة يرون الصرف بيعاً والسلَم كذلك بيعاً، فهم في الحكم متفقون، وفي الاصطلاح مختلفون؛ فنقول: لا مشاحة في الاصطلاح.

    فلا يأتي شخص ويقول: هذا التعريف خطأ؛ لأنه أخرج الصرف والسلَم وهما من البيع، بل نقول: هذا إخراج اصطلاحي لا حقيقي فلا يؤثِّر؛ لأنه لا مشاحة في الاصطلاح.

    مثال آخر: الواجب والفرض، فبعض العلماء يرى أن الخلاف بين الحنفية رحمهم الله وبين الجمهور في الواجب والفرض خلافٌ لفظي؛ لأن الحنفية يرون أن الفرض ما ثبت بدليل قطعي، وإذا كان ثابتاً بدلالته بدليلٍ قطعي، ودلالته قطعية وثبوته قطعي، فيكفَّر جاحده، ويعطونه أحكام الفرض من حيث أنه يثاب فاعله ويعاقب تاركه.

    والجمهور عندهم أن ما ثبت من الواجبات بدليل قطعي، وصار معلوماً عند الإنسان ثبوته ثبوتاً ودلالة أنه قطعي، وعلم وقامت عليه الحجة، بإجماع الجمهور أنه يكفر إذا جحده، فمثلاً: الصلاة عند الحنفية فرض، وعند الجمهور تسمى فرضاً وتسمى واجباً، والحنفية لا يطلقون الواجب إلا على الذي ثبت بدليل ظني، فإذا أنكر شخص الصلاة، وقال: الصلاة ليست واجبة، فعند الجمهور وعند الحنفية أنه يُكفَّر، فالنتيجة واحدة، فالخلاف اللفظي والاصطلاحي نتيجته واحدة، ولكن من حيث الاصطلاح يختلف، فلكل مذهب اصطلاحه. ولو أن أناساً داخل البيت اصطلحوا على تسمية شيء باسم، مثل البئر، فالبئر معروف، ومصطلح الناس العام في البئر معروف، ولكن لو كان عندك داخل البيت حوض صغير، وتقول دائماً لأولادك: ضعوها في البئر، اطرحوها في البئر، فيأتي شخص ويقول لك: لماذا سَمّيت هذا الحوض بئراً؟ فتقول له: هذا مصطلح بيني وبين أولادي، ولكن لو جاء شخص من الخارج وقال: ارمِ هذا في البئر، فذهب ووضعه في حوض؛ فنقول: هذا خالف الاصطلاح العام، فلا يمكن أن يُحمل لفظه على مصطلح خاص، لكن أنت فيما بينك وبين أولادك لكم مصطلح خاص، ولا مشاحة في الاصطلاح.

    ولو وصَّى شخص بحفر بئر فلا نحفر حوضاً؛ لأن هذا خارج عن الاصطلاح العام، ففي الأحكام هذا شيء آخر، ولكن من ناحية التعارف اللفظي واتفاق الناس لكل قوم ما اصطلحوا عليه، فهم يصطلحون على ما شاءوا عليه، ولكن في الحقائق والأحكام لا يُعرف إلا ما ثَبت؛ إما بدليل الشرع، أو الطبع الذي هو الحقيقة الوضعية أو اللغة، والله تعالى أعلم.

    حكم ترك الصلاة أو بعضها لمن كبر سنه

    السؤال: والدي كبير في السن، ومريض، ويترك بعض الصلوات، فهل يقضيها؟ ومتى تسقط عنه الصلاة؟

    الجواب: هذا السؤال فيه تفصيل، فإذا كان الوالد حين تركه للصلاة مدركاً عاقلاً؛ فحرام عليه أن يترك فريضة الله التي فرض عليه، ولا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها إلا لمن رخص الله له بالتأخير.

    أما إن كان مريضاً فيصلي على حاله، ولا يجوز له أن يؤخِّر الصلاة عن وقتها حتى ولو كان مريضاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعمران بن الحصين رضي الله عنهما: (صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)، والله تعالى يقول: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].

    فلا يجوز أن يترك الإنسان الصلاة، وأما إذا كان الوالد -لا قدّر الله- عنده خلل يُغَيِّب تارة ويرجع إليه عقله تارة، فإذا رجع إليه عقله خُوطِب بالصلاة، وإذا غَيَّب فإنه لا يخاطب بها، وليس بملزم بالصلاة؛ لأنه في حكم المجنون الذي رفع عنه القلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم-: المجنون حتى يفيق)، فدل هذا على أنه لا يخاطب إذا غَيَّب وذهب عنه عقله، والله تعالى أعلم.

    الجد من جهة الأم محرم للزوجة

    السؤال: هل الجد من جهة الأم محرم للزوجة؟

    الجواب: جد الزوج هم آباؤه من جهة أبيه، وآباؤه من جهة أمه، وهم محارم للزوجة؛ لأن الله تعالى قال: وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ [النساء:23]، فذكر من المحرمات حليلة الابن، وحليلة الابن هي زوجة الابن، سواءً كان مباشراً أو كان بواسطة، ولا شك أن الجد من جهة الأم زوجة ابن بنته تعتبر حليلة ابنه؛ لأن البنت ابن، قال صلى الله عليه وسلم عن الحسن : (إن ابني هذا سيد)، وقد قال الله تعالى: وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ [النساء:23]، فدل دليل السنة على أن ابن البنت ابن للجد، وإذا كان ابناً للجد؛ فدليل القرآن يقول في المحرمات وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ [النساء:23]، فجد الزوج من أمه، وجده من أبيه، وجد جده وإن علا منهما، يُعتبر محرماً لزوجة ابن بنته وإن نزل، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله، بدليل ظاهر كتاب الله عز وجل، وظاهر السنة، والله تعالى أعلم.

    من اعتمر في أشهر الحج ثم عاد إلى بلده وأحرم بالحج فليس متمتعاً

    السؤال: من اعتمر في أشهر الحج ثم رجع إلى بلده وحج من عامه، فهل يُعتبر متمتعاً؟

    الجواب: هذه المسألة بإجماع العلماء على أنه ليس يتمتع، فمن كان من أهل المدينة وجاء بعمرة في شوال أو في ذي القعدة أو في أول ذي الحجة، ثم رجع، ثم أحرم بالحج من ذي الحليفة، فالإجماع على أنه ليس بمتمتع؛ لأن الله يقول: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196].

    ولذلك قال الأئمة كما أشار الإمام ابن المنذر وغيره: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ [البقرة:196] أي: لم يسافر بعد عمرته، بمعنى: لم يرجع إلى بلده، وهذا لم يتمتع بعمرته الأولى؛ لأنه لما أدى العمرة رجع إلى بلده، وإنما يكون متمتعاً لو أنه بقي بمكة وأنشأ الحج منها، فقد تمتع بسفر العمرة الأول فلزمه الدم، ولذلك لم يلزم أهل مكة؛ لأنهم أحرموا بالنسكين من موضع الإحرام وهو مكة.

    أما بالنسبة لمن قال: يعتبر متمتعاً، فهذا مذهب شاذ، وهو قول طاوس بن كيسان تلميذ ابن عباس ، ولذلك قال الإمام ابن رشد في بداية المجتهد: وشذ طاوس فقال: هو متمتع وإن رجع إلى بلده! والقول الشاذ لا يفتى ولا يُعمل به، فهو قول مهجور عند الأئمة سلفاً وخلفاً، فمن أدى العمرة في أشهر الحج ثم رجع إلى بلده، ثم أحرم بالحج من بلده فليس بمتمتع بإجماع العلماء، ومن عدّه متمتعاً فقول شاذ يُحفظ ولا يُعوّل عليه، والله تعالى أعلم.

    حكم الطواف من داخل الحجر

    السؤال: رجل اعتمر، وفي الشوط السابع من الطواف أراد أن يختصره فدخل من الحِجر وأتم عمرته، فهل عليه شيء؟

    الجواب: هذه عمرة مختصرة، والله يقول: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ [البقرة:196]، فلا يصح هذا، والطواف لابد أن يُتِم بالبيت، ولذلك جمهور العلماء على أنه إذا دخل بين الحِجر وبين البيت لم يصح ذلك الشوط الذي دخل فيه، والدليل على هذا: قوله تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، و(العتيق): القديم، والمراد به ما كان على قواعد إبراهيم، وقواعد إبراهيم فيها شيء من الحجر كما هو معلوم، فالخمسة الأذرع إلى الستة الأذرع -كما في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام- تابع للبيت؛ فإذا دخل بين الحجر وبين البيت، فقد اقتطع جزءاً من البيت ولم يستتم الطواف بالبيت.

    فالوصف بالتعتيق جاء لحكمة في كتاب الله عز وجل، ولذلك لم يقل: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ) فقط؛ لأنه لو قال: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ) فقط؛ لكان بالإمكان أن يحسب ذلك الشوط، والحنفية يتهربون من هذا الإشكال، ويقولون: العتيق؛ لأن الله عتقه من الجبابرة، وليس المراد بالعتيق القديم.

    والصحيح: أن البيت العتيق المراد به: ما كان على قواعد إبراهيم عليه السلام، فلا يصح الطواف بين الحجر وبين البيت على أصح قولي العلماء وهم الجمهور، وعلى هذا: فيلزمه أن يعيد طوافه، وإن قيل بعدم صحة السعي إلا بعد الطواف فيلزمه إعادة الطواف والسعي، ثم يتحلل بعد ذلك، والله تعالى أعلم.

    حكم الخصم الجزائي على الموظف

    السؤال: في بعض الأحيان يكون غياب العامل ساعة أو أقل أو أكثر يضر بمصلحة العمل، فنخصم عليه نصف يوم تأديباً وردعاً لغيره، فهل يجوز ذلك؟

    الجواب: يقول صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى بي ثم غدر)، أي: يجيء شخص فيقول له: أمَّنِّي، فأعطاه الأمان بالله على أنه لا يفعل به شيئاً، فإذا مكنه من نفسه غدر به وأضر به، أو أعطى عهده على أنه على بيعته للإمام أو ولي أمره ثم غدر، فهذا خصمه الله عز وجل، ومن كان خصمه الله فقد خصمه.

    وأما الثاني: (ورجل باع حراً فأكل ثمنه).

    وأما الثالث: (ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفه أجره).

    وهذا رجل عمل عندك إحدى عشرة ساعة، فعليك أن تعطيه أُجرة إحدى عشرة ساعة كاملة غير ناقصة، وإن غاب ساعة فتخصم عليه ساعة، لا تزيد ولا تُنقص، وهذا هو القسط الذي أمرك الله به، والله تعالى يقول: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ [الأعراف:85]، وهذا ظلم، فإذا كان قد عمل يوماً ثم اخترم من اليوم جزءاً فتأتي وتأكل من ماله، وهو من عرَقِه وتعبه ونصبه، بدون حق على سبيل التأديب، فهذا ليس بوارد وليس بصحيح.

    وبعض المتأخرين من العلماء اجتهد في هذه المسألة وقال: إنه يجوز من باب التعزير. ولكن هذا ليس بصحيح، فإن هذه نصوص واضحة، والنصوص الواضحة لا اجتهاد فيها، فالأجير له أجره كاملاً، فلا يجوز أن يُنقص من أجره شيئاً، وإذا أردت أن تؤدبه فقل له: ما دمت بهذه المثابة فلا تعمل عندي، والواجب علينا أن ننظر بالعدل والإنصاف، فالعامل إذا غاب ساعة فانظر إن كانت عنده ظروف، وأنت تعرفه بالجد والاجتهاد والمحافظة، فاعلم أنه إن غاب وقصّر فذلك بدون اختياره، وإذا قصّر مرة فليسعه حلمك، والوفي الكريم هو الذي لا ينسى الفضل، والشخص الذي يحاسب الناس بهذه الدقة سيشدد الله عليه كما شدد على الناس، فينبغي على الإنسان أن يكون بعيد النظر، وخاصة مع هؤلاء الضعفاء المستأجَرين المستخدمين، ولذلك فإن الله تولى أمرهم؛ لأن الغالب في الأجير أنه يكون ضعيفاً، ولذلك قال: (أنا خصمه)، فالله سبحانه هو خصيم هؤلاء، فعلى المسلم أن يتّقي الله عز وجل.

    فإذا استأجرت أجيراً أو عاملاً وقام لك بعمل ولم يتمه، فأعطه حقه فيما قام به غير منقوص، وتلقى الله سبحانه وتعالى وأنت بريء من حقوق الناس.

    فليس هناك أعظم من حق إخوانك عليك، فقد يتحمل الشخص ذنوباً وسيئات فيما بينه وبين الله فيغفرها الله له في طرفة عين؛ لأنها من حقوق الله، والله يتجاوز عنها؛ لكن حقوق الناس لا يتجاوز الله عنها، ولا بد أن يسامح صاحب الحق، والغالب أن الضعفاء إذا أُكِل كدُّهم ونصبهم وتعبهم أنهم لا يسامحون، فينبغي على الإنسان ألا يخرج أحداً من هؤلاء الضعفاء إلا وقد وفىَّ له أجره.

    ومسألة العقوبة بالتعزيرات هذه مسألة مقدرة بأشياء مخصوصة، منها ما ورد في الزكاة: (إنا آخذوها وشطر ماله)، فالذين قالوا بالجواز قاسوها على الزكاة، وهذا غير صحيح؛ لأن الحديث : (إنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا)، فهذا نص جاء يستثني الزكاة؛ لأن الله يملك الناس وأموالهم، لكن الأجير لا تملكه وماله، بل تملك عمله ومنفعته، فإذا أعطاك العمل والمنفعة ناقصة بعض الشيء فأعطه بعض الشيء.

    والوقفة الأخيرة: يا أخي الكريم! ليسأل كل واحد منا نفسه، فقد يتأخر بعض الأحيان العامل وقتاً يسيراً عن العمل، فيقيم صاحب العمل الدنيا ويُقعدها على هذا التأخر، وقد يتأخر ابنه في شيء يرسله فيه فيحصل عند الابن بعض التساهل ويتأخر فيقيم الدنيا ويقعدها، وقد تتأخر زوجته فيقيم الدنيا ويقعدها، وهو لا ينظر إلى نفسه وهو يتأخر عن ركن من أركان دينه، وهي الصلاة، فإن الله قد فرض عليك أن تصلي مع الجماعة، فسل نفسك متى جئت وكبّرت تكبيرة الإحرام مع الإمام؟ لماذا يشدد الإنسان دائماً في معاملة الغير وينسى نفسه؟!

    أذكر ذات مرة أنه حصل ظرف مع أحد الأشخاص فتأخر بعض من يقوم عليهم، فعاقبهم عقوبة شديدة، فقلت له: يا أخي! هذا لا يجوز، وليس هذا من حقك، فقد كانت عقوبة خارجة حتى عن الأصل الذي من حقه أن يعاقب فيه، فقلت: ليس ذلك من حقك، فقال: حتى يتأدب.

    فسألته: أنشدك الله ألا تتأخر عن الصلاة التي فرضها الله عليك؟ قال: بلى، فقلت: يا أخي! إذا كنت أنت تعذر نفسك في الصلاة وأنت تتأخر عنها، وأنت شبعان ريان تسمع نداء الله عز وجل، وأنت في أتم عافية، وعندك سيارة، ومع ذلك لا تدرك تكبيرة الإحرام ولا تؤدي حق الله كاملاً، فتحاسب -بكل تشدد وبكل أذية- هؤلاء الضعفاء!! والله لا آمن أن يُشدد الله عليك مثلما شددت عليهم.

    فالإنسان عليه أن يتقي الله عز وجل، وليعلم أنه مثلما يعامل الناس سيعامله الله؛ لأنه ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً كان يديِّن الناس، وكان يقول لأوليائه وعماله: إذا وجدتم معسراً فتجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا، قال: فلقي الله فتجاوز الله عنه)، فمثل ما تفعل فيمن تحتك يفعل الله بك.

    ومما ذكره الحكماء: أنك لن تجد رجلاً يرفق بالضعفاء الذين من تحته إلا وضع الله له القبول فيمن فوقه، وثق ثقة تامة أن الله عدل، وتجد الذي يعسر على من تحته منكدة أموره ممن فوقه؛ لأن الله عدل، وهذا الكون لا يظن أحد أنه سدى، بل إن أزِمَّته ومقاليد أمره بيد جبار السموات والأرض، والقسط بيده سبحانه يخفضه ويرفعه سبحانه وتعالى.

    فعلى الإنسان أن يدرك أن حقوق الضعفاء لا يُتسلط عليها؛ بل تُدفع إليهم كاملة، فإذا عمل عندي تسعة وعشرين يوماً وترك يوماً من الشهر أخصم عنه يوماً واحداً، ولا أزيد، وإن نقصت في الخصم فجزاك الله خيراً، وإن تجاوزت عنه تجاوز الله عنك، إذا نويت وجه الله عز وجل وابتغيته.

    فمثل هذه الأمور أُوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل فيها، وبالأخص في الأبناء والبنات والزوجات والأهلين، وكذلك العمال والخدامين والخدامات والمستأجرين من الضعفاء، فليتقِ الإنسان فيهم ربه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وليضع نُصب عينيه أنه تحت قدرة الله عليه.

    فقد جاء في الحديث الصحيح: أن أبا مسعود قال: (كنت أجلد غلاماً لي؛ فلم أشعر إلا وبرجل من وراء ظهري يقول: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام، قال: فالتفت فإذا هو رسول الله، قال: فقلت: يا رسول الله! هو حر لوجه الله).

    لقد كان الصحابة بمجرد وعظهم يُوعظون ويتركون الذنب، فقال له عليه الصلاة والسلام: (الله أقدر عليك)، فقَرن النبي صلى الله عليه وسلم بين قدرته عليه وقدرة الله، وهذا يدل على أن الله سيعامل الإنسان مثل معاملته مع الغير، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا مفاتيح للخير، وأن يُيسِّر بنا ولا يُعسِّر، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

    حكم صلاة وترين في ليلة

    السؤال: ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم : (لا وتران في ليلة

    الجواب: قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الثابت: (لا وِتران في ليلة) يدل على مسائل:

    المسألة الأولى: أنه لا يجوز للمسلم أن يُصلي وترين في ليلة ويقتصر عليهما؛ لأن الوتر ينبغي أن يكون آخر الصلاة حتى يكون العدد وترياً لا شفع فيه، فإذا صلى وِترين في ليلة واحدة فقد شفع الوتر الأول بالوتر الثاني، وبناءً على ذلك: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه فقال: (لا وِتران في ليلة).

    المسألة الثانية: دل هذا الحديث على أن الوتر ينقض الوتر؛ لأنه لما نهى عن أن يوتِر وترين، دل على أن الوتر الثاني مؤثر في الوتر الأول، ومن هنا أخذ جمهور العلماء رحمهم الله جواز نقض الوتر بالوتر، ثم بعد ذلك يصلي شفعاً شفعاً ثم يوتر، كما أُثر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فيما لو أَوتر أول الليل ثم نام، ثم قام آخر الليل فإنه يُصلي ركعة ينقض بها الوتر الأول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)، فلما قام آخر الليل وأراد تحصيل هذه السنة التي أمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بجعل آخر الصلاة وتراً، فإنه ينقض الوتر الأول بركعة، ثم يصلي ركعتين ركعتين ثم يوتر.

    المسألة الثالثة: قوله: (لا وتران في ليلة)، هذا محمول على الوتر النافلة، فيخرج من هذا وتر الفريضة مع النافلة؛ لأن المغرب وتر، والوتر للنوافل وتر، فصارا وتران في ليلة، فالمراد من هذا الوتر في النوافل، وإلا هناك وتران: وتر المغرب، ووتر النافلة، فقال العلماء: إن المراد بالحديث وتر النافلة، والمغرب وتر الفرائض، فجعلوا المغرب وتراً للفرائض، وجعلوا الوتر الشرعي وتراً للنوافل.

    وفي الحقيقة: جعل المغرب وتراً للفرائض محل نظر، لأنه لو كان هناك وتر للفرائض لكانت العشاء ثلاثاً، لأن الوتر يكون آخرها، ومما يضعف هذا القول: أن الوتر يبتدئ بدخول وقت صلاة العشاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أمدكم -وفي رواية: زادكم- بصلاة هي خير لكم من حمر النعم، الوتر جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر)، فدل هذا على أن وقت الوتر يبتدئ بصلاة العشاء.

    وفائدة هذه المسألة: أنك لو كنت في سفر وجمعت بين المغرب والعشاء في وقت المغرب، وأردت أن تصلي الوتر فنقول: تأخَّر حتى يدخل وقت العشاء ثم صل الوتر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر).

    وقال بعض العلماء: قوله: (جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء): وقوعاً، وليس المراد وقتاً، بحيث لو صلى العشاء متبوعة مع المغرب ثم أوتر، فقد وقع وتره ما بين عشائه وفجره، فيرخِّصون من هذا الوجه، والأحوط أنه ينتظر إلى دخول وقت العشاء.

    المسألة الرابعة والأخيرة: في هذا الحديث فضيلة للوتر؛ لأن الله وتر ويحب الوتر، وإذا صلى الوتر مع الوتر لم يتحقق له وِتره؛ فأُمِر بأن يقتصر على وتر واحد تحقيقاً لهذا الأصل، واعتباراً لهذا الفضل، والله تعالى أعلم.

    دعوة من الشيخ لدعم المسلمين في الشيشان

    السؤال: وردنا خطاب من مؤسسة الحرمين الخيرية حول جمع التبرعات لصالح إخواننا في الشيشان، ويأملون من فضيلتكم توجيه الحضور بالاحتساب في ذلك؟

    الجواب: أولاً: نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك جهود الإخوة في معونة المحتاجين والمنكوبين، وأن يعينهم على ذلك، وأن يرزقنا وإياهم فيه الإخلاص لوجهه، فإن الأعمال مدارُها على الإخلاص لوجه الله الكريم، وإن من أحب الأعمال وأعظمها ثواباً عند ذي العزة والجلال: تفريجُ الكربات، وإدخال السرور على المؤمنين والمؤمنات، والاحتساب في ذلك مع وجود المشقَّة والعناء أجرُه عظيم عند الله.

    وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الله أعظم من العبد صدقته، وأعظم منه إحسانه وبره حتى لربما كف النار عن وجهه بنصف تمرة، فربما ينفق نصف تمرة لوجه الله، يحتسبها عند الله، فيجعلها الله له حجاباً من النار، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة).

    وفي الحديث الصحيح: (أن امرأة دخلت على عائشة وهي تحمل بنتين، فاستطعمتها، فأطعمتها ثلاث تمرات فأعطت كل بنت تمرة ثم أخذت التمرة الثالثة تريد أكلها، فاستطعمتها إحدى بنتيها، فأطعمتها التمرة، فعجبت عائشة من صنيعها وإيثارها! فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بخبرها فقال صلى الله عليه وسلم -نزل الوحي علي من ساعته- : إن الله قد أوجب لها بها الجنة).

    فيكف إذا كان إخوانكم وهم في شدة البرد والزمهرير يعانون وطأة الحروب، وفراق الأهل والأولاد والذريات، في نكبة وفاجعة لا يعلم قدرها إلا الله؟! فاحتسبوا بارك الله فيكم في تفريج كرباتهم، ومواساتهم في مُصابهم، والله لا يُضيع أجر من أحسن عملاً.

    إلى الله العظيم فارج الهم كاشف الغم رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما نتوجه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، ونسأله بعزته وقدرته على خلقه، هو الله الذي لا إله غيره ولا رب سواه، اللهم اجعل لإخواننا في الشيشان وفي كل مكان من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية.

    اللهم ثبت أقدامهم، اللهم سدد سهامهم، اللهم صوِّب آراءهم، اللهم اجمع شملهم يا حي يا قيوم! اللهم عليك بأعدائك أعداء الدين حيثما كانوا يا ذا العزة والجلال! اللهم شتِّت شملهم، اللهم فرِّق جمعهم، اللهم اجعل بأسهم بينهم، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً.

    اللهم أنت الله لا إله إلا أنت نبرأ إليك بعزتك وقدرتك، ووحدانيتك يا ذا الجلال والإكرام! نشكو إليك بغي الكفار على أوليائك وأهل دينك وطاعتك، اللهم اسلبهم عافيتك، اللهم اشدد عليهم وطأتك، اللهم أنزل بهم رجزك وعذابك يا إله الحق، لا إله إلا أنت.

    سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756301857