إسلام ويب

شرح زاد المستقنع كتاب الوقف [3]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ليس كل شيء يجوز الوقف عليه، بل إن هناك أشياء يحرم الوقف عليها، منها: بناء الكنائس والوقف للكافر الحربي، ونسخ التوراة والإنجيل، وكتب أهل البدع والزندقة، وإذا أوقف على ذلك فإنه يصار إلى أقرب شيء موافق وشبيه للموقوف عليه في الشرع، والأصل أن العبد إذا أوقف وقفه بشروط غير ممنوعة شرعاً، فإنه ينبغي العمل والتقيد بشروط الواقف وعدم العدول عنها.

    1.   

    ما لا يجوز الوقف عليه

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واهتدى بهديه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فهناك وجوه لا يجوز الوقف عليها، وهي الوجوه التي حرمها الله عز وجل؛ لأن الله سبحانه وتعالى نهى عباده المؤمنين عن جملة من الأمور، فلا يجوز لهم أن يستحلوها كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله أحل أشياء فلا تحرموها، وحرم أشياء فلا تحلوها).

    فالوقف على هذه الأشياء يُعين على معصية الله عز وجل، ويعزز ويقوي هذا الأمر المحرم، ولذلك حظر الله عز وجل على عباده أن يكونوا سبباً في المعونة على الإثم والعدوان، كما قال سبحانه وتعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].

    وأعظم الإثم أن يعين على ما يؤثر في العقيدة والتوحيد، فإن إفساد إيمان الناس بالله، والتحريض على ما يصرفهم عن توحيد الله عز وجل وإفراده بالعبادة؛ هو أعظم المنكر الذي حرمه الله عز وجل، فأنزل من أجل تحريمه كتبه، وأرسل رسله سبحانه وتعالى.

    الوقف على الحربي

    يقول المصنف رحمه الله: [غير حربي]

    أي: لأن الحربي المحارب لله ورسوله، محارِب للمسلمين مباح الدم.

    مثلاً: إذا وقعت حرب بين المسلمين والكفار؛ فإن هؤلاء من أهل الحرب ليس لهم حق على المسلمين، لمحاربتهم للمسلمين، ولذلك تستباح دماؤهم، وتباح أعراضهم، فتُسبى ذراريهم ونساؤهم، وكذلك لا يجوز ولا يشرع أن يُعاملوا معاملة الحسنى؛ لأنهم حاربوا الإسلام ومنعوا نشره، ففي هذه الحالة لا يجوز أن يُوقِف عليهم؛ لأنه ليس بِبِِِر، بل يعينهم على المسلمين، فلا يُشرع الوقف عليهم.

    الوقف على الكنائس ونحوها

    يقول رحمه الله: [وكنيسة]

    وكذلك الوقف على كنيسة لا يصح ولا يجوز؛ لأن الكنائس جاز استبقاؤها للضرورة، ولذلك فإذا هُدمت لم تُبن، وقد تقدم معنا أحكام الكنائس في أحكام أهل الذمة، وبيّنا الشروط العمرية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتلقي الأمة لها بالقبول.

    فلا يجوز الوقف على بناء الكنائس، سواءٌ كانت في ديار المسلمين، أو كانت خارج ديار المسلمين، ولا يجوز المعونة على بنائها، ولا ما يقوي من نشاطها، فكل ذلك محظور؛ لأن الوسائل تأخذ حكم المقاصد، فلما كان دين أهل الكتاب ديناً منسوخاً، فلا يجوز المعونة عليه.

    الوقف على نسخ التوراة والإنجيل

    يقول رحمه الله: [ونسخ التوراة والإنجيل]

    كما أن الوقف يكون على المحسوسات من بناء الكنائس محظوراً كذلك يكون على المعنويات، وهي الأمور الفكرية التي تؤثر في عقائد الناس، من نَسْخ التوراة المنحرفة والإنجيل المحرف، وقد نَسَخ الله عز وجل العمل بالكتابين بكتابه سبحانه وتعالى الذي أنزله مهيمناً وناسخاً للشرائع.

    فنسخ التوراة والإنجيل، لا يجوز الوقف عليه، وكانوا في القديم يحتاجون إلى نسخ الكتب، سواءً كانت من الكتب المنزلة، أو كانت كتب علم، فبقاء الدين موقوف على نسْخ هذه الكتب، فنسخ التوراة والإنجيل مثال ضربه المصنف رحمه الله لكي يلحق به غيره.

    ومما يدخل في هذا كتب البدع؛ فإن الكتب التي تشتمل على البدع المنكرة من الأذكار والصلوات والأوراد التي لا أصل لها في الشرع، لا يجوز نسخها ولا المعونة عليها، ولا بثها بين الناس؛ لأن هذا يُفسد عليهم دينهم وإخلاصهم لله عز وجل، ويجعلهم يعتقدون ما لم يأذن الله عز وجل باعتقاده، ويعتقدون نسبتها إلى الشرع، والشرع لم يأذن بهذه الأشياء ولم يأمر الله عز وجل بها.

    فلا يجوز الوقف على طبع كتب أهل البدع، سواء كانت في الأذكار أو كانت تحمل أفكاراً تصرف الناس عن السنة، ومذهب أهل السنة، أو تشكك في عقائد الناس، أو توهن إيمان الإنسان بالله عز وجل، ككتب الزندقة والإلحاد والفلسفة التي تجعل الباطل حقاً، وتجعل الحق باطلاً، وهكذا مثّل بعض العلماء بكتب السحر -أعاذنا الله وإياكم منه ومن أهله- وغير ذلك من الكتب التي تشتمل على أضرار دينية.

    وهكذا لو كانت الكتب تشتمل على أمورٍ إباحية تُفسد أخلاق الناس، أو تثير الغرائز، ونحو ذلك من الأمور المحرمة لا يجوز الوقف عليها؛ لأن ذلك كله يدخل في المعونة على الإثم والعدوان، والله حرم التعاون على الإثم والعدوان.

    وقد أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم الوقف على مثل هذا، ويبقى السؤال: إذا أوقف على كتب محرّمة أو على كتب بدع وضلالة أو نحو ذلك، فهل يبطل الوقف من أصله، أو ينظر إلى قريبه وشبهه؟

    هذه المسألة من أمثلتها أن يوقف مثلاً على طبع كتب محرّمة، ككتب البدع ونحو ذلك، ثم يعرض الأمر على القاضي بعد أن انتهى من وقفيته وأتمها، فهل نقول: الوقف صحيح، والجهة التي يصرف لها باطلة، فيصرف إلى أقرب شيء منها، أو نقول: الوقف باطل من أصله، ويرجع المال إلى صاحبه.

    قال بعض العلماء: إذا أوقف على أمر محرّم، سواء كان بناء ما يحرم بناؤه، أو نَسْخ ما يحرم نسخه، فإن الوقف باطل من أصله، وبناءً على ذلك يرجع المال إلى صاحبه.

    وعلى هذا القول لو أن ميتاً أوقف داره على طريقة من طرق المبتدعة، أو على طبع كتب من الكتب المحرمة، من كتب البدع؛ فإن الورثة يستحقون هذا الذي أوقفه ويرجع ميراثاً شرعياً؛ لأن الوقف باطل من أصله، هذا مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله.

    وبعض العلماء يرى أنه لما تلفظ بالوقف أخرج المال عن ملكيته، وحُظِر عليه الصرف في الممنوع، فوجب البذل للمشروع، فلو قال: أوقفت هذه الدار -مثلاً- على الطريقة الفلانية، أو على البدعة الفلانية ولا يراها بدعة، أو على الشيء الفلاني وهو بدعة. فيقولون: نرى أنه قد أوقف، والأصل الإعمال، ولذلك نُعْمِل وقفيته، ثم لما قال: على الطريقة الفلانية أو الأمر المبتدع الفلاني؛ فإنه يُمنع صرف هذا الوقف إليه، ويصرف إلى ما أذن الله به، ثم يصرف بالأشبه والأقرب مما أوقف عليه.

    فإن كان أوقف على نَسْخ التوراة والإنجيل صُرف إلى نسخ وطبع القرآن، وإذا كان طبع القرآن متيسراً؛ فإنه يصرف إلى طبع كتب العلم أو كتب التفاسير أو كتب الحديث؛ لأنها أشبه بالذي أوقف عليه، فلما أوقف على الممنوع نفذ وقفه من جهة الإخراج -أنه أخرجه عن ملكه- فنعمل هذا ونبقيه على ما هو عليه، ثم نمنع من صرف المال أو صرف الغلة إذا كان للوقف غلة إلى ذلك الممنوع، ونصرفها إلى أشبه شيء من المشروع.

    كذلك لو أوقف على أصحاب طريقة وقال: داري هذه أوقفتها من أجل الأذكار والصلوات والخلَوات وهي أمور غير مشروعة، فنقول: تُصرف لطلاب العلم.

    فالمقصود أنه إذا اعتقد أن هذا من المشروع؛ فإنه يُلغى هذا الأمر المحرّم، وننظر إلى ما هو أشبه، وهو الذي يذكر الله عز وجل، فوجدنا طالب العلم ذاكراً لله، وهو أشبه بوقفيته، ويقاس على هذا بقية المسائل.

    هذا القول الثاني اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه وطائفة من المحققين، أن من أوقف على الممنوع ينفذ وقفه في الأصل؛ ولكن يُصرف من الممنوع إلى المشروع، وهذا مبنيٌ على أنه قد أخرج من ذمته المال فنبقي إخراجه على ما هو عليه، ثم يُصرف إلى الجهة التي أذن الله بها.

    قال رحمه الله: [وكتب زندقة]

    وهكذا كتب الزندقة، ومن أعظم ما يكون جرأة على الله سبحانه وتعالى الجرأة على إفساد عقائد الناس، وأعظم منكر على وجه الأرض أن يُصرف الناس من التوحيد والفطرة والإخلاص لله عز وجل، إلى عبادة غير الله وتعظيم غير الله، وتنصَب هذه الكتب أو هذه الأوقاف على إفساد عقائد الناس بتعظيم غير الله، فيُصرف ما لله لغير الله سبحانه وتعالى، وهو أعظم الظلم إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].

    (إن) التي تفيد التوكيد الشِّرْكَ لَظُلْمٌ [لقمان:13]، وصفُه بالظلم، وجاء نكرة لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] ثم يقول الله: (عَظِيمٌ)، وليس بعد عظيم الله عظيم، فمثل هذه التصرفات، مثل كتب الزندقة وكتب الإلحاد التي تُدس فيها السموم لصرف الناس من التوحيد الخالص، ومن الفطرة السوية إلى غير ذلك مما فيه المحاربة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ومما يدخل في ذلك كتب الاستهزاء بالدين، أو التشكيك في الدين، أو التشكيك في الحقائق والثوابت الدينية، وكتب الاتجاهات الفكرية في كل زمان ومكان، حتى في الزمان المعاصر حيث تصرف من تعظيم الدين وحب الدين والتعلق بالدين، إلى الاستهزاء والسخرية به، ونحو ذلك من الأمور المنكرة.

    كل ذلك لا يجوز الوقف عليه، ومن فعل ذلك فقد أعان على أعظم الإثم واعتدى حدود الله عز وجل، ومن اعتدى حدود الله فقد حارب الله سبحانه وتعالى، ومن ذا الذي يقوى على محاربة الله عز وجل؛ فإن الله سبحانه وتعالى له سنن لا تختلف، وله آيات بينات أنزلها سبحانه وتعالى بمن كفر بدينه وغير شرعه؛ فإنه لا يفلت من عقوبة الله العاجلة والآجلة.

    فلا يجوز طبع مثل هذه الكتب، ولا توزيعها، ولا نشرها، ولا الإشادة بها، بل ينبغي الحذر كل الحذر من ذلك الأمر، والعلماء نصوا على أنه لا تجوز الوقفية عليها، فينبغي أن يفهم طالب العلم أن المسألة ليست مسألة وقفية فحسب، لكن المسألة أن هذه وسيلة إلى أمر محرم، فيجمع جميع الأسباب، والوسائل، والأمور التي تعين على هذا المنكر العظيم، سواءً كانت بالأقوال أو كانت بالأفعال، أو بالمادة أو بالمحسوسات أو بالمعنويات، أو بأي سبيل وبأي طريق كان هذا الإفساد، فإنه محاربة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتغيير لدين الله عز وجل.

    وكل من طبع هذه الكتب، أو أعان على نشرها وتوزيعها، فمن ضل وأضل بها غيره فعليه إثمه وإثم من يُضِل إلى يوم القيامة والعياذ بالله وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [العنكبوت:13]، فمثل هذه الأمور ينبغي الحذر منها، وعدم التساهل فيها، فكتب الزندقة حذر منها العلماء رحمهم الله في القديم، ولا زال أئمة الإسلام في كل عصر ومصر يحذرون من هذا، وينبغي قفل جميع الأسباب التي تعين على نشر الزندقة.

    الزندقة ما دخلت على المسلمين إلا في عصور ترجمة المنطق، ولما أدخلها المأمون على المسلمين حصلت المفاسد العظيمة، والشرور الكبيرة، فصار الباطل حقاً، والحق باطلاً، ولبِّس على الناس دينهم، فدخلت الأمة في النقاشات، وفي الاتجاهات الفكرية حتى أصبحت السنة كالبدعة في أنظار هؤلاء الذين زاغوا وأزاغوا.

    فمثل هذا المنكر العظيم لا يجوز المعونة عليه بطبع كتبه أو نشرها، حتى الإشادة بها، بل ينبغي للمسلم دائماً أن يعلم أن الوسائل تأخذ حكم المقاصد، وهذا ما قرره العلماء رحمهم الله، وللإمام العز بن عبد السلام رحمه الله كلام نفيس في كتابه: قواعد الأحكام ومصالح الأنام، بين أن الوسائل إلى المنكرات تختلف آثامها على حسب عظم المنكر، فالوسيلة إلى الشرك أعظم من الوسيلة إلى الزنا، والوسيلة إلى القتل أعظم من الوسيلة إلى السرقة، فأعظم وسيلة ما كان وسيلة إلى الشرك؛ لأنه ليس بعد الشرك ذنب وإثم يُعصى به الله سبحانه وتعالى.

    فإذا كان الفعل أو القول أو أي شيء يقدُم عليه الإنسان وسيلة إلى هذا المنكر العظيم؛ فإنه في أسوء منازل الوسائل المحرمة.

    يذكر بعض العلماء رحمهم الله أن الزندقة لا تختص بالزندقة المباشرة، فقد تكون زندقة ضمنية مثل من يجرؤ على تفسير القرآن وتفسير السنة بالهوى والرأي، أو ليّ النصوص الواردة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم عن حقيقتها، وعن تفسير السلف الصالح رحمهم الله لها، إلى تفسيرات توقع الناس في البلبلة، وتوقع الناس في ريب من هذا الكتاب الذي أنزله الله عز وجل هدى ونوراً للعباد، كل هذه الأمور من المحرمات العظيمة.

    والوسائل التي هي في أعظم درجات الإثم أعظم إثماً، وأعظم جرأة على الله عز وجل، ولكن ينبغي أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى متكفل بدينه، وأن الله سبحانه وتعالى غالب على أمره، فوالله لو اجتمع أهلُ الأرض، جنهم وإنسهم، كبيرهم وصغيرهم، على أن يغيروا كلمة الله عز وجل ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وليختلفن الليل والنهار ولا يمكن أن تتبدل كلمة الله سبحانه وتعالى، مهما رأيت من كتب الزندقة والهوى والجرأة على تغيير الحق والاستهزاء بالحق وأهل الحق، فاعلم أن لله سطوات، وأن الباطل مهما كان حاله، ومهما كان شأنه؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقذف بالحق عليه فيدمغه.

    ولكن لهذا الحق رجال يسخِّرهم الله عز وجل لهذه الأمة، كما أخبر صلى الله عليه وسلم أنه يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، هم الذين يذبُّون عن الشريعة، وتغار قلوبهم وألسنتهم على الحق، فيصدعون بالحق، لا يبالون بمن خالفهم، ولا يضرهم من ناوأهم كائناً من كان.

    فهذه الكتب،كما أنه يحرم طبعها ينبغي إتلافها وصرف الناس عنها، وبيان عوارها، والعيوب التي فيها، وكشف حقائقها للناس، وإن حاول الأعداء صرف الناس إلى مثل هذه الكتب، فيجب على الداعية أن يكون حكيماً ويصرف عناية الناس إلى التوحيد الخالص الذي به تقمع كل بدعة.

    فإذا اعتنيت بالأساس -التوحيد الخالص- لم تنصرف القلوب إلى غيره، ففي بعض الأحيان يشتغل الأعداء بشغل المسلمين بكتب الزندقة عن ترسيخ العقيدة الأساسية، ولذلك إذا نظرت إلى كتاب الله عز وجل وجدته يهذب المؤمنين ويرشدهم ويقيمهم على صراط الله عز وجل المستقيم مع كثرة الشبهات، وكثرة الاعتراضات على كتاب الله عز وجل، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن انصبت الآيات في أكثر الأحيان على ترسيخ التوحيد في قلوب المؤمنين.

    ولا يعني هذا السكوت عن رد البدع والشبهات، لكن لا ينبغي أن لا ننصرف كلية إلى رد هذا، بل علينا أن ننصرف أول ما ننصرف إلى تقرير الأصل؛ لأنك إذا قررت الأصل، وأقمت الإنسان على المحجة، وبيّنت له السبيل وأقمت عليه الحجة؛ فإنه في هذه الحالة لن يؤثر فيه شيء بإذن الله عز وجل.

    ففي بعض الأحيان يحرص أعداء الإسلام على شغل المسلمين عن ترسيخ هذا الأصل والأساس، فيكثرون عليهم الشبهات، ويجعلونهم في مقام المدافع ونحو ذلك مما يشغل به علماء الأمة أو دعاتها والمخلصون منها، حتى لا يتفرغوا لغرس العقيدة والأساس في الناشئة؛ لأن أهم ما ينبغي في محاربة كتب الزندقة وأفكار الزندقة التركيز على الناشئة.

    وليعلم طالب العلم أن فتنة الشهوة والشبهة مهما أثارها أعداء الإسلام، فإن أضر ما تكون هذه الفتنة إذا كانت في الصغير لا في الكبير؛ لأن الصغير إذا نشأ على هذه الأمور؛ فهو غداً الذي يمسك بزمام الأمور، ولذلك يحرص أعداء الإسلام على كتب الزندقة في التأثر على الناشئ، ومن هنا كان ينبغي أن يُعتنى بالنشء قدر المستطاع؛ لأنه إذا نشأ على الفطرة والتوحيد والإخلاص، ورُكِّز على هذه القلوب البريئة؛ فإنه بإذن الله عز وجل لن يضرها من خالفها، وسيكون دين الله قوياً.

    كان بعض الحكماء يقول: إذا رأيت الدين في الصغار فارج خيراً، أي: ارج خيراً لهذه الأمة، وأما إذا رأيته في الكبار فإنه شر يُنتظر. يعني: إذا مات الكبار خلفهم الصغار، فحينئذ تعظم الشهوة والشبهة، ونسأل الله العظيم أن يعيذنا من هذه الضلالات ومن أهلها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    عدم جواز الوصية على محرم

    قال رحمه الله: [وكذا الوصية]

    أي: ولا تجوز الوصية على الكنائس، ولا الوصية لنسخ كتب الأديان السماوية الأخرى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى عمر رضي الله عنه يقرأ في صحف أهل الكتاب غضب عليه الصلاة والسلام فقال كما في الصحيح: (والذي نفسي بيده لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي).

    وهذا عمر رضي الله عنه الذي تؤمن عليه الفتنة، ومع ذلك صرفه عن شغل وقته، وإضاعة وقته في قراءتها (والذي نفسي بيده لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي)، فإذا كانت الوصية لهذه الأمور المحرمة فإنها تكون باطلة، لكن هل تبطل من أصلها أو تصرف إلى ما هو أقرب من وجوه الخير؟ على التفصيل المتقدم.

    عدم صحة الوقف على نفسه

    قال رحمه الله: [والوقف على نفسه]

    أي: لا يصح أن يوقف على نفسه؛ لأن الوقف إخراج للمال المملوك عن ملكيته لله سبحانه وتعالى، خاصة إذا كان على وجوه البر كما تقدم، فإذا أوقف على نفسه فإنه في هذه الحالة لم يصنع شيئاً وليست هذه هي حقيقة الوقف.

    ومن هنا قال بعض العلماء: لا يصح وقف الإنسان على نفسه بغير خلاف، يعني لا خلاف بين أهل العلم رحمهم الله في هذه المسألة، لكن لو أنه جعل لنفسه حظاً في حال حياته من الوقف فإنه يصح، كأن يجعل له نصيباً من هذا الوقف مدة حياته.

    وهكذا لو اشترط النظارة فقال: هذا البيت يكون وقفاً علي وعلى ذريتي من بعدي، ولكن لي حق النظارة في حال حياتي، ولو أوقف بيته على الفقراء والمساكين واشترط النظارة عليه؛ صح، فإذا اشترط النظارة لنفسه أو نصيباً من الوقف لنفسه، فإنه لا بأس بذلك. وقال بعض العلماء: إن الإمام أحمد رحمه الله قد نص على أنه إذا اشترط لنفسه جزءاً أو شيئاً مخصوصاً مدة حياته أنه لا بأس بذلك ولا حرج عليه.

    1.   

    شروط الموقوف عليه

    قال رحمه الله: [ويشترط في غير المسجد ونحوه أن يكون على معيّن يملك، لا ملَكٌ وحيوان وقبر وحمل لا قبوله ولا إخراجه عن يده]

    أي: ويشترط في الوقف إذا كان على غير مسجد ونحوه أن يكون على معيّن. والمعين: ضد المبهم والمجهول سواءٌ حدّد الجنس أو لم يحدده، فلو قال مثلاً: داري هذه وقف على أحد هذين الرجلين لم يصح؛ لأننا لا ندري أيهما، ولم يحدد أي الرجلين، فلو جئنا نصرف لأحدهما احتمل أن يكون الآخر، فلا بد من التعيين.

    فلا يصح أن يقول مثلاً: أوقفت داري هذه على رجل من المسلمين، أو على واحد منكم، دون أن يُعيِّن، ففي هذه الحالة لا يصح الوقف؛ لأنه وقفٌ على مبهم، وقد نص الأئمة كالإمام ابن قدامة رحمه الله والإمام النووي أن من شرط صحة الوقف أن يكون على معيَّن، وأن يكون هذا المعيَّن يملك، فلا يصح أن يوقف على من لا يملك كما سيذكره المصنف رحمه الله.

    قوله (في غير مسجد): المسجد إذا أوقفه الإنسان فهو ليس على معين؛ لأنه لعموم المسلمين، فإذا أوقف المسجد أو أوقف سبيلاً للشرب، أو نحو ذلك، فهذا على غير معيَّن، والوقف في هذه الحالة صحيح مع أنه لم يحدده بشخص معين أو جهة معينة.

    قوله: (أن يكون على معين)، في بعض الأحيان يجعل التعيين بالشخص فيقول: داري هذه وقف على فلان وذرِّيته من بعده، ويسميه، فحينئذ عيَّن، وذريته من بعده مستحقين لهذا الوقف.

    وفي بعض الأحيان يعيِّن بذكر صفة من الصفات كقوله: داري هذه وقف على الفقراء، داري هذه وقف على المساكين، داري هذه وقف على طلبة العلم، ونحو ذلك، فهذا يُنظر فيه، فيكون كل من اتصف بهذه الصفة من الفقر والمسكنة وطلب العلم؛ مستحقاً لهذا الوقف.

    قوله: (يملك) أي: يشترط أن يكون الوقف على معين، وأن يكون هذا المعين يملك، فخرج الحمل، لأنه لا يملك، وهكذا الملَك، فلو قال: داري هذه وقف على مَلَك من الملائكة أو على الملائكة فهذا ليس بصحيح، ولا يصح الوقف على هذا الوجه، ولذلك قال: (لا مَلَكٌ)، وكل هذا تطبيق للشرط، أي لا يصح الوقف على مَلَكِ.

    وقال: (وحيوان) لأن الحيوان لا يملك، فلو قال -مثلاً-: أوقفت مزرعتي هذه على أن يُصرف ثلث منها طعمة للدواب، فهذا من الصدقات، أو قال -مثلاً-: أوقفت هذا المال سقيا للدواب على الطريق، مثلما يقع في بعض الآبار تكون وقفاً وسبيلاً يُستقى منها للدواب، فإذا أوقف على هذا الوجه فليس مراده أن يملك الحيوان، وإنما مراده الرفق بالحيوان بشربه وانتفاعه، فالوقف صحيح على هذا الوجه.

    وقال: (وقبر)، أي: وهكذا لو أوقف على قبر، لأن الإنسان لا يملك بعد موته ملكاً مستأنفاً.

    وقال: [وحمل]، أي: إذا سمى أثناء الوقف أو رتّب، فإذا قال مثلاً: داري هذه وقف على أولادي، وعنده جنين في بطن أمه لم يستحق شيئاً في تلك السنة، ولو كانت المرأة حاملاً به أثناء تلفظه بالوقف، فإذا خرج حياً فحينئذٍ يملك.

    ولذلك فمن حكم الله عز وجل وفي شرعه أن الجنين لا يرث إلا إذا استهل صارخاً، أي: إذا خرج من بطن أمه حياً، ولو للحظة واحدة، وصرخ ثم مات فإنه يستحق الإرث، أما إذا نزل ميتاً فإنه لا يستحق، لأن الجنين لا يملك.

    لا يشترط القبول من الموقوف عليه

    قال: [لا قبوله]

    أي: ولا يشترط قبول الموقوف عليه، وهذا مما يختص به الوقف كالوصية، على تفصيل عند العلماء رحمهم الله في الوصية وسيأتي إن شاء الله تعالى، فلو قال: أوقفت داري هذه على محمد وأولاده من بعده، فالوقف على الرجل وذريته من بعده، فلو جئنا نشترط القبول، فالقبول متيسر من محمد إذ كان حياً، لكن ذريته لا يمكن أن يتأتى منهم قبول، فالقبول ليس بشرط في صحة الوقف، فإذا أوقف الواقف نفذ وقفه ولو لم يقبل الموقوف عليه.

    لا يشترط مع الصيغة في الوقف أن يخرجه الواقف عن يده

    قال: [ولا إخراجه عن يده]

    (ولا إخراجه عن يده): هذه المسألة سبقت الإشارة إليها، فمن أهل العلم من قال: إن مجرد صدور صيغة الوقف يُعتبر مُلزماً للوقفية موجباً لثبوتها، فلو قال: داري هذه وقفٌ، أو هذا المسجد وقفٌ، أو هذا السبيل وقفٌ على المسلمين؛ فإنه يحكم بالوقفية مباشرة، ولا يُشترط أن يتصرف تصرفاً يدل على خروجه عن ملكيته.

    فإذا تلفّظ وحصلت الصيغة؛ فإن ذلك وحده كافٍ في الحكم بالوقفية، وقد بيّنا أن هذا هو أرجح قولي العلماء رحمهم الله في هذه المسألة.

    فإذاً مجرد الصيغة وحصول التلفظ بالوقف كاف للحكم بثبوته والعمل به، ولا يشترط إخراجه كما يقول بعض أصحاب الشافعي رحمهم الله.

    1.   

    الأسئلة

    حكم دخول الواقف ضمن من أوقف عليهم

    السؤال: من أوقف وقفاً للفقراء والمساكين، ثم أصبح الواقف فقيراً بعد سنوات، فهل يجوز له الارتفاق بهذا الوقف لدخوله ضمن هذا الوصف؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،أما بعد:

    فمن أوقف على غيره فإنه لا يدخل في ذلك الغير ولو تحققت فيه صفته، وقال بعض العلماء: إنه يمكن أن يدخل أحد من ذريته لكن هو لا يدخل، ومن حيث الأصل، الأورع أنه لا يدخل هو ولا ذريته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما فاطمة بضعة مني).

    ووجه هذا الحكم أنه حينما قال: أوقفت هذه الدار على الفقراء، ولم يجعل له نصيباً ولا لذريته؛ فُهِم من ذلك أنه لا حظ له مطلقاً سواء تحقق فيه هذا الوصف أو لم يتحقق.

    وبناءً على ذلك فإن الأشبه والأولى أنه لا استحقاق له فيه، والله تعالى أعلم.

    حكم اقتطاع جزء من أرض موقوفة لمسجد لبناء سكن للإمام

    السؤال: إذا أوقف شخص أرضاً محددة لتكون مسجداً، فهل يجوز بناء مسكن للإمام والمؤذن داخل هذه الأرض أم أن جميع مساحتها تكون مسجداً؟

    الجواب: من حيث الأصل أن من أوقف الأرض كاملة للمسجد فإنها تبقى وقفاً على المسجد؛ لأنه قصد أن تكون محلاً للصلاة والعبادة، وإذا أراد أن يبني للإمام أو للمؤذن موضعاً فلا بأس بذلك، فيخص قطعة من المسجد قبل أن يوقف كل المسجد، أو يقول في هذا المسجد: إن ثلثي أرضه مسجد، والثلث الثالث يكون نزلاً للإمام، أو يكون مرافق تابعة للمسجد.

    فهذا من حق الواقف، أما من حيث الأصل فإنه إذا أوقف الكل فالكل وقف، ويبقى وقفاً تاماً شاملاً لجميع الأرض، إلا أن بعض مشايخنا في الأزمنة المتأخرة -في حالة وجود الحاجة إلى قرب الإمام من المسجد-، يفتي أو يخفِّف في انتزاع قطعة من المسجد سكناً للإمام؛ لأن هذا يحقق المقصود من جماعة المسجد، وحَصَل نقاش في هذه المسألة بين بعض المشايخ المتأخرين رحمهم الله، وكان البعض يستمسك بالأصل وهو أن الأرض كلها وقف، ولا ينبغي صرف شيء منها إلى غير ذلك.

    وهذا لا شك أنه من حيث الأصل أقوى دليلاً وألزم، والذين يفتون بجواز أن يُقتَطع منها جزء لإمام المسجد ونحو ذلك، فهذا مبني على شيء قرره بعض العلماء رحمهم الله، وهو أنه يجوز التعرُّض لبعض الوقف لاستصلاح كل الوقف.

    وهذه المسألة هي المسألة المشهورة: يجوز إتلاف بعض الوقف لاستبقاء باقيه، واستدلوا بقصة موسى عليه السلام مع الخضر، فإنه كسر لوح السفينة حتى تنجو السفينة كاملة، فقالوا: إذا تعطلت مصالح الوقف وأصبح لا سبيل إلا أن يؤخذ شيء من الوقف فلا بأس بذلك.

    وأُلحق بهذه المسألة مسألة الإمام، قالوا: لأن الإمام إذا لم يكن قريباً من المسجد ستتعطل مصالح الإمامة، وهذا ليس على كل حال، أما في بعض الأحيان فنعم، وفي بعض الأحيان لا؛ لأن الفرض في الإمام أن يتقي الله عز وجل، وأن لا يكون إماماً إلا وهو يستشعر أنه محافظ على صلواته محافظ على حدوده.

    ولذلك إذا ارتبط الشخص بمهمة أو عمل تجده يحضر لها من مئات الكيلومترات؛ لأنه يشعر بالمسئولية ويشعر بالأمانة، فلا شك من حيث الأصل أن القول الأول أشبه وأقوى وأورع، وأنه إذا أُوقفت كاملة فليس من حق أحد أن ينتزع منها شيئاً إلا لما خصصت له، والأولى شراء قطعة أرض يبنى عليها منزل للإمام بجانب الأرض الموقوفة.

    ثم كان بعض مشايخنا الذين يمنعون من قطع جزء من الأرض ما دام أنها موقوفة كلها يقول: إنه لو قلنا بفتوى من يجيز إتلاف البعض لاستبقاء الكل فليست منطبقة على هذا من كل وجه؛ لأنه لا يكون ذلك إلا إذا كان المسجد في موضع لا يتأتى فيه سكن للإمام بجواره، وهذا ليس على كل حال.

    فإذاً تحتاج المسألة إلى تحرير، أما كقاعدة وكأصل، فالأصل يقتضي أنه إذا أُوقفت الأرض كاملة على مسجد أو مدرسة أو أي سبيل من سبل البر؛ فإن جميع الأرض مستحقة لهذا السبيل ولا يجوز صرفها عنه إلا في الأحوال المستثناة التي سيأتي إن شاء الله بيانها، والله تعالى أعلم.

    حكم التصرف في بعض الوقف لمصلحة الوقف

    السؤال: رجل لديه إبل، وأوقف لبنها على الفقراء والمساكين، وعجزت ذريته من بعده عن نفقة هذه الإبل وإطعامها، فهل يبيعون شيئاً من لبنها لشراء علَفها وما فيه إصلاح لشأنها؟

    الجواب: في الحقيقة مسائل الوقف ينبغي أن يُعلم أنها ألصق بالقضاء منها بالفتوى، لا بد من الرجوع إلى القاضي في مسائل الوقف؛ لأن الوقف أمرُه أضيق من غيره، والسبب في هذا ملكية الوقف، فالواقف نفسه لا يملك وقفه؛ لأنه بمجرد ما أوقف خرجت عن ملكيته، فيحتاج الأمر إلى حكم القاضي، فالقاضي له ولاية شرعية؛ فإذا نظر ووجد المصلحة في بيع شيء من الأوقاف فإنه يُباع أو يُصرف؛ فهذا أمر مردّه إلى القضاء.

    أما من حيث الفتوى فهذا إذا لم يوجد القضاء، إذا أوقف غلّتها أو ركوبها وظهرها، فالأصل أن يبقى الوقف على ما هو عليه، وعلى الوارث أن يَبَر مورثه وأن يحتسب الأجر ما أمكنه، إلا إذا وصل الأمر إلى شيءٍ فوق طاقته، فيرفع الأمر إلى القاضي، والقاضي يحكم بما يراه.

    تفسير قوله تعالى: (رب إني نذرت...)

    السؤال: ما معنى قوله تعالى حكاية عن امرأة عمران: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا [آل عمران:35]، هل هو من قبيل حبس الذرية على الطاعة والعبادة؟

    الجواب: ليس هو النذر على حقيقته المعروفة بحبس الذرية من كل وجه، إنما المراد بذلك الاصطفاء للطاعة والخير والبر، كما ذكره بعض أئمة التفسير رحمهم الله، والأصل أن الإنسان إذا رُزِق الذرية أن يَجتهد في إصلاحها وإقامتها على طاعة الله عز وجل.

    فهي تعبِّر بما يكون من أمرها؛ أن هذه الذرية ستكون لله سبحانه وتعالى، ومن لازم ذلك العناية بتنشئتها على الخير، ومحبة الله ومرضاته، فكأنها التزمت بأنها تقوم بحق الله عز وجل في ولدها وذريتها، والله تعالى أعلم.

    حكم نسيان النذر

    السؤال: امرأة نذرت ونسيت نوع النذر الذي نذرته، ما هو السبيل لإبراء الذمة من هذا النذر؟

    الجواب: هذا النذر إذا كانت لا تعرف منه شيئاً، ولا تتذكر منه شيئاً، فالحكم أنها ليست بمكلفة، وليس هناك نذرٌ أصلاً حتى تعلمه وتعرفه ثم تُلزم به، فلا إلزام بالمجهول، أما إذا كانت تعرف أصل النذر، وتقول: أنا نذرت نذر صدقة.. نذرت نذر صيام.. نذرت نذر صلاة، فإذا كانت تعرف أصل النذر، فتُطَالب بأقل ما يَصْدُق عليه ذلك الأصل.

    فإذا قالت: أنا نذرت نذر صدقة، لكني لا أعلم بكم أتصدق، نقول لها: تصدقي بأقل ما يُسمى صدقة، إذا قالت: نذرت أن أذبح ولا أتذكر هل نذرت أن أذبح شاة، أو بقرة، أو ناقة، نقول: تذبحين أقل ما يقوم به الذبح، وهو الشاة، فتأخذ بالأقل إذا كانت عرفت نوع النذر، ولم تستطع أن تحدد قدره، والله تعالى أعلم.

    حكم ترك الصلاة من الكبير العاجز

    السؤال: امرأة كبيرة في السن ومريضة، ولا تستطيع أن تقوم عن السرير، ولا تتذكر أذكار الصلاة، وإذا علِّمت تنسى، فما الحكم فيما لو تركت الصلاة؟

    الجواب: إذا غيّبت بالكلية، وأصبحت لا تعي؛ فإنها غير مكلفة، إنما تكون المرأة ويكون الرجل مكلفاً إذا كان يعقل، أما إذا نسي، وأصبح عنده فقدان للذاكرة، أو أصبح مضيعاً لا يستطيع أن يتذكر شيئاً، وإذا صلى لا يعرف كيف يصلي، أو يصلي بعض الصلاة، ويتلاعب ويضيع بعضها، ونحو ذلك مما يدل على أنه لم يعد مدركاً؛ فإنه لا تكليف عليه، والله تعالى أعلم.

    حكم الصلاة بدون وضوء نسياناً

    السؤال: صليت الفجر بدون وضوء، ولم أتذكر إلا بعد صلاة العصر، فما هو الواجب علي؟

    الجواب: أما صلاة الفجر فإنها لا تصح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)، فيلزمك أن تعيد صلاة الفجر، وأما صلاة الظهر والعصر فلا تصح واحدة منهما إلا بعد أن تُبْرِئ ذمتك من الفجر، لأن الترتيب مشترط؛ لأن الله تعالى يقول: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103].

    فلا تصح الظهر وصلاة الفجر باطلة، بل عليك أن تصلي الظهر بعد الفجر، فيلزمك قضاء الفجر، ويلزمك قضاء الظهر والعصر مرتبة على الصفة الشرعية، وأنت مأجور على كل حال، والله تعالى أعلم.

    حكم الإفطار بدون عذر في صيام النافلة

    السؤال: ما حكم من أفطر عمداً في صيام النافلة؟

    الجواب: إذا أفطر متعمداً في صيام النافلة فلا شيء عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المتطوع أمير نفسه)، ولكن لا ينبغي للإنسان أن يزهد في الخير، بل عليه أن يكون حريصاً على الطاعة والبر، وليعلم أنه إذا أفطر باختياره في النافلة فإنه قد حُرم خيراً كثيراً؛ فإن هذا اليوم لا شك أنه لو وفِّق لصيامه كان أعظم لأجره وأرضى لربه سبحانه وتعالى.

    فمع كونه أميراً لنفسه، فالأفضل والأكمل أن لا يُبطل عمله؛ لأن الله تعالى يقول: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33]، فالأفضل والأكمل أن يُتم الطاعة، وأن يمضي فيها ما لم يجد طاعة أفضل منها، أو يجد خيراً أرضى لله عز وجل منه، قال صلى الله عليه وسلم: (إني والله لا أحلف على يمين فأجد غيرها خيراً منها، إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير)، فإذا كان هذا في اليمين، فكيف في الأمور التي هي دون ذلك، وليست بمُلزمة كإلزام اليمين، والله تعالى أعلم.

    العلة في جرد عروض التجارة وخرص النخل عند إخراج الزكاة

    السؤال: النخل يُقدَّر بالخرص، وعروض التجارة لا بد لها من جرد، وذلك في إخراج الزكاة، فهل هناك علة، أم أن الأمر تعبدي؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

    فهناك فرق كبير بين النخل وبين عروض التجارة، فثمرُ النخل لا تستطيع أن تعرف قدره إلا إذا أخرجته من العِرق، وإذا أخرجته من العرق فقد تريده تمراً، والوقت الذي يُراد تقدير الزكاة فيه هو عند بدو الصلاح، وعند بدو الصلاح لا يمكن قطفه.

    فإذاً متعذر أن تعرف الحقيقة لذلك الشيء الذي تريد زكاته، فلمّا تعذّر أن تعرف قدر كيلِه انتُقِل إلى الخرص والتقدير، وهذا السنة به ثابتة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث عبد الله بن رواحة رضي الله عنه إلى نخل خيبر قبل وفاته؛ لأنه جعل خيبر بينه وبين اليهود نصفين، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر أنه عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها.

    فكان يخرصها حتى يعرف ما الذي لهم، وما الذي لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فاعتَبَر التقدير، والقاعدة أنه لا يُصار إلى التخمين والتقدير عند القدرة على اليقين، فإذن القدرة على اليقين متعذِّرة فيُنتقل إلى غالب الظن، والشريعة تتعبَّد المكلَّفين بغالب الظن، فغلبة الظن في البصير الحاذق الخارص الذي له خبرة ومعرفة أنه يُصِيب.

    وهذا شيء رأيناه بأعيينا، والله إن الرجل كان يأتي إلى مزرعة الوالد رحمه الله، ويقول: هذه النخلة خرصُها كذا، فما تزيد ولا تنقص بقدرة الله عز وجل، وتأتي بالرجلين لهما خبرة في خرص النخل أحدهما من جهة، والثاني من جهة، ويقفان تحت النخلة، ويقول الأول: هذه بين كذا وكذا، ويأتي الثاني لا يعلم ما الذي قاله الأول فيقدر قريباً مما قاله الأول، ويأتي الثالث ويقدر قريباً مما قدر الثاني، وهذا كله احتياطاً من الوالد رحمه الله من أجل أن يعرف القدر ويحتاط بالأكثر، لكن الشاهد أنك تجد الثلاثة كلهم يتفقون، ولم يعلم أحدٌ منهم بما قاله الآخر.

    هذه قدرة من الله سبحانه وتعالى جعلها في الإنسان، قد تجد الشخص منذ نعومة أظفاره وهو تحت الشجر، يعرف الثمر، ويعرف خرصه، ويعرف تقديره، فمن حيث الأصل فالخرص حجة ومعمول به، وقد أجازته الشريعة في الزكوات، وأجازته في تقدير الحقوق، وفي المساقاة، وفي المزابنة حينما أجاز بيع التمر على رءوس النخل يؤخذ بِخَرصِه تمراً، كل هذا لأن الغالب فيه الصواب.

    أما بالنسبة لعروض التجارة فهي موجودة بين يديك، يمكن أن تقدرها، ويمكن أن تُجري فيها الصّاع، وتعرف قدرها كيلاً، وتعرف قدرها وزناً.

    فالقدرة على اليقين تمنع من الشك، فلا يمكننا أن نصير إلى الحدس والتخمين في عروض التجارة مع إمكان الجرد، ولذلك من الخطأ ما يفعله بعض التجار أنه يستثقل جرد المحل بأكمله، ووالله لو أنه أراد شيئاً من مصالح تجارته لجرده قطعة قطعة، ولم يتعذّر عليه ذلك، بل تجده يعرف القليل والكثير ويحسب ذلك حساباً دقيقاً.

    ولكن إذا كان للطاعة وللبر وللخير فهذا شيء آخر، ولذلك لا ينبغي التساهل مع الناس في هذا، ولا ينبغي التلاعب بالفتوى، يجب على التاجر أن يجرد بضاعته.

    وهناك أمور نفسية نريد زرعها في التجار، التاجر إذا احتاج إلى يوم أو يومين أو ثلاثة أيام لجرد محله فلا يضره أن يغلق محلّه الثلاثة الأيام، ويشعر أنه في عبادة.

    وكما أنه يريد تجارة الدنيا فهناك تجارة للآخرة، فتصبح النفوس ليست معلقة طيلة أيام العام بالدنيا وأمور التجارة، يُحس عنده العامل، ويحس عنده التجار، ويحس كل موظف عنده في هذه التجارة أن للشرع سلطاناً على أموال الناس، وعندها يشعر الإنسان بتقوى الله عز وجل.

    وهذه أمور مهمة جداً، فليست القضية قضية زكاة وقدرها، فهذه وإن كانت مهمة، ولكن هناك قضية أهم وهي تقوى الله عز وجل لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37]، فإذا شعر الناس أنهم يُعاملون الله سبحانه وتعالى، وأنهم مع الله عزّ وجل، وأن التاجر يحاسب على الصغيرة والكبيرة لمعرفة حق الله الذي وجب عليه، فعندها تكون تقوى الله عز وجل.

    أما إذا أصبح يخمِّن، ويتلاعب بحق الله عز وجل، فهذا أمر لا شك أنه مخالف لشرع الله الذي أوجب عليه أن يعطي المسكين ومن سمى من أهل الزكاة، حقوقهم من ماله الذي استخلفه الله فيه، والله تعالى أعلم.

    مدى تعارض الصيام مع طلب العلم

    السؤال: طالب علم عندما يصوم صيام نافلة فإنه يتعطل عن أمورٍ منها طلب العلم، فهل يترك الصيام لكي يقوى على الطلب وقراءة القرآن، وما توجيهكم فضيلة الشيخ في هذا الأمر؟

    الجواب: في الحقيقة.. بالنسبة للصيام، صيام النافلة نوعان: الصيام المقيد، كصوم الإثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر والأيام البيض على القول بأنهما نوعان من الصوم، هذه لا تُرهق طالب العلم إرهاقاً يشغله عن طلب العلم.

    فلا ينبغي للإنسان أن يبالغ في وصف هذه الأمور أنها تعيق عن طلب العلم، بل إنها تعين على طلب العلم، وليعلم طالب العلم أن سرور الدنيا وبهجتها، وأن أُنسه كله في طلب العلم مقرونٌ بالعبادة، وإذا أردت أن ترى طالب العلم في أكمل صوره وأجمل أحواله فانظر إليه في العلم والعمل.

    الصيام عمل بالعلم، وقيام الليل عملٌ بالعلم، وكثرة تلاوة القرآن عمل بالعلم، فينبغي على طالب العلم دائماً أن لا يفرِّق بين علمه وعمله، فهما مقترنان، لكن إذا جاءت أحوال خاصة وأمور خاصة، فلا بأس بالنظر في الأولى منهما، وهذه المسائل أصبحت كثيراً ما تُطرح، ويُقعَّد فيها ويفصَّل، وهي مسائل واضحة لا تحتاج إلى إشكال.

    الصحابة رضوان الله عليهم وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأخذون من سنته وهديه وسمته ودلَّه -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- وهم في أعلى الدرجات في طلب العلم، وفي أعلى درجات التلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كانوا في صيام وقيام وجهاد في سبيل الله، لا في صيام وقيام فقط، بل وجهاد في سبيل الله في ساعة عسرة، ولذلك زكاهم الله عز وجل -لتلك الأمور- من فوق سبع سماوات، وأثنى عليهم، ورضي عنهم وأرضاهم سبحانه وتعالى.

    هذا كله ما ضرّهم، بل جعلهم في أحسن الأحوال وأتمِّها وأكملها، ولن يسعنا إلا ما وسع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنفوس إذا جَعلت بينها وبين العبادة والطاعة عوائق فإن الله سبحانه وتعالى يبتليها دائماً، وخذها قاعدة، إذا نويت قيام الليل بعد سهر معقول في طلب العلم، ونمت على تلك النية وهيأت نفسك، فعند ذلك تأتيك المعونة من الله سبحانه وتعالى، ويأتيك التوفيق والسداد، وتُرشد وتصيب الخير من أمورك على أتم الوجوه وأكملها.

    والعكس بالعكس، فإذا تخاذل طالب العلم وقال: أنا إذا صمت لا أستطيع أن أحفظ، وأنا إذا قمت لا أستطيع أن أقوم، فإنه يختلق لنفسه أموراً قد يكون في عافية منها.

    فأحسن الظن بالله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما في مسند الإمام أحمد يقول: (يقول الله تعالى: أنا عند حسن ظن عبدي بي، فمن ظن بي خيراً كان له).

    والله إن أسعد أيام العمر في طلب العلم كانت الأيام التي يكون فيها الإنسان على أتم الوجوه وأكملها في قيام الليل وصيام النهار، ولن تجد والله في الصيام إعاقة، بل الصيام يعين على كل خير وبِر، فلذلك قال عبد الله بن مسعود : (من سعادة العبد كثرة الصلاة، وكثرة الصيام، وصحبة العلماء).

    فلا بد من اقتران العبادة بالعلم؛ فاجتهد رحمك الله في أن تصيب الخير على أتم الوجوه وأكملها مستعيناً بالله، واثقاً محسناً الظن بالله عز وجل.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهيئ لنا من أمورنا رشداً، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756016727