إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الإجارة [9]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ينفسخ عقد الإجارة بتلف العين المؤجرة أو بظهور عيب مؤثر فيها، فإن كان قد مضى على استئجارها مدة قبل تلفها أو ظهور عيب مؤثر فيها لزم المستأجر دفع أجرة تلك المدة، وأما إذا تلفت أو ظهر عيبها قبل البدء في الاستئجار فلا يلزمه دفع شيء.

    1.   

    أحكام انفساخ عقد الإجارة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [وإن اكترى داراً فانهدمت، أو أرضاً لزرع فانقطع ماؤها أو غرقت انفسخت الإجارة في الباقي].

    شرع المصنف رحمه الله في هذه الجملة في بيان ما يتعلق بالتزامات المؤجر، فإن الواجب على من أجر غيره أن يلتزم بتمكينه من المنفعة، وعقد الإجارة منصب على منفعة مطلوبة بالمعاوضة، فالمستأجر دفع المال لتحصيل هذه المنفعة، فالواجب على المؤجر أن يمكنه من هذه المنفعة، فإذا حصل العذر الطارئ الذي يمنع من استيفاء هذه المنفعة، ولا يتمكن المستأجر من أخذ حقه من العين المستأجرة؛ فإنه حينئذ ينفسخ عقد الإجارة.

    تلف العين المؤجرة

    فأنت -مثلاً- إذا استأجرت داراً من أجل أن تسكن فيها، فإنك إنما طلبت هذه الإجارة من أجل منفعة السكنى، فلو أن هذه الدار التي استأجرتها سقطت وانهدمت فإنه يتعذر ويمتنع عليك أن تستوفي حقك، وحينئذ فإن المنفعة التي هي محل العقد بين الطرفين قد فاتت بفوات العين؛ ولذلك ينفسخ عقد الإجارة، ويكون هذا -كما مثل المصنف رحمه الله- في العقارات، كدار استأجرها من أجل أن يسكنها فانهدمت، فإذا انهدمت الدار فلها حالتان:

    الحالة الأولى: أن تنهدم قبل استيفاء المنفعة، وحينئذ ينفسخ عقد الإجارة، حيث لا يمكن استيفاء المنفعة، ويجب على المؤجر أن يرد المال للمستأجر.

    الحالة الثانية: أن يحصل العذر الطارئ بالانهدام عند بدء استيفاء المستأجر مدة ما من العقد، كأن يستأجر الدار سنة، وتنهدم الدار في الربع الأول أو في النصف الأول من السنة، أو بعد مضي ثلاثة أرباع السنة، ففي هذه الحالة: إذا انهدمت الدار وقد استوفى المستأجر شيئاً منها فإن الإجارة تتبعض بتبعض ذلك الشيء، فنقول للمؤجر: لك عند المستأجر أجرة المدة التي استوفاها، سواء بلغت نصف المدة أو كانت دونها أو زادت على ذلك.

    وأما بالنسبة للمؤجر فنقول له -إن كان قد أخذ الأجرة مقدماً-: يجب عليك دفع الزائد على هذه المدة، وينفسخ العقد بينكما.

    فلو استأجر الدار بعشرة آلاف لسنة كاملة، وانهدمت بعد نصف سنة من سكناه، فنقول للمستأجر: ادفع خمسة آلاف. ونقول للمؤجر -إن كان قد أخذ العشرة آلاف-: رد للمستأجر الخمسة الآلاف التي أخذتها، وتملك نصف الأجرة التي دفعت إليك.

    وقد مثل المصنف بمثالين:

    المثال الأول في الدور، والمثال الثاني في الأرضين والمزارع. فإذا استأجرت الدار أو العمارة أو الشقة من أجل السكنى فلا إشكال، ويكون التمثيل بالانهدام.

    وإذا استأجرت أرضه من أجل الزراعة، وكان في الأرض بئر، فغار ماؤها وانقطع، أو استأجرت أرضاً للزراعة فجاء سيل واجتاح هذه الأرض وأغرقها بحيث لا يمكن زراعتها، لأنها إذا غمرت بالماء تعذر زرعها إلا إذا انكشف وانحسر الماء عنها، فحينئذٍ إذا كانت الأرض معدة للزراعة فإنه لا يصح أن تعقد الإجارة عليها من أجل الزراعة إلا إذا كان الماء موجوداً فيها، وقد ذكرنا هذا، وذكرنا الدليل عليه، وقلنا: إن أي عقد للزراعة على أرض ينبغي أن يكون الماء موجوداً، فإذا اتفق الطرفان على أنه يستأجر منه هذه الأرض للزراعة سنة كاملة، ثم في منتصف السنة غار الماء وانقطع، فإنك لن تستطيع أن تحصل المنفعة التي من أجلها عاوضت بالإجارة على هذه الأرض، فمن الظلم أن تبقى على هذا العقد فيأخذ المال منك وأنت لا تأخذ حقك، فينفسخ عقد الإجارة في النصف الثاني من السنة، ويصحح عقد الإجارة في النصف الأول من السنة؛ لأن النصف الأول قد أخذت المنفعة تامة كاملة، والنصف الثاني قد حيل بينك وبين هذه المنفعة، فحق مالك الأرض أن يأخذ منك ما استوفيت، وحقك منه أن تأخذ منه ما لم تستطع استيفاءه، فينفسخ العقد في نصف السنة.

    وإذا غار الماء بعد ذهاب ثلثي السنة فالحكم كذلك، تدفع أجرة الثلثين ويرد إليك أجرة الثلث.

    إذاً: القاعدة: إذا امتنع استيفاء المنفعة وتعذر ذلك بسبب انهدام الدار أو غرق الأرض وانقطاع الماء عن الأرض فلا يخلو من حالتين:

    إما أن يكون قبل استيفاء المستأجر ومضي شيء من العقد، فحينئذ ينفسخ العقد من أصله، وترد القيمة كاملة.

    وإما أن يقع هذا وقد مضى شيء من المدة، فحينئذٍ نقول: تتبعض الإجارة؛ فيجب على المؤجر أن يرد من القيمة بقدر ما بقي من مدة الإجارة، سواء كان نصفاً أو أكثر على التفصيل الذي ذكرناه.

    قوله: (فانقطع ماؤها)؛ لأن الماء هو الذي ينمو به الزرع، لكن لو أنه قال له: أريد أن أستأجر منك هذه الأرض لأزرعها، وإذا لم أزرعها فسأجعلها محلاً للدواب. فحينئذٍ أعطاه أمرين، فلو فاتت مصلحة الزراعة بانقطاع الماء فإنه يكون من حقه أن يستوفي عن طريق جعلها محلاً لدوابه كما ذكر، ولا يكون هذا التفصيل إلا إذا تمحض العقد من أجل الزراعة، أما إذا لم يكن من أجل الزراعة فلا إشكال، وحينئذٍ ننظر:

    ففي بعض الأحيان لو أنه استأجر أرضاً من أجل أن تكون مستودعاً له، فجاء السيل وأغرقها، فهذا له نفس حكم انقطاع الماء، وهكذا لو أنه استأجر أرضاً لمصلحة، ثم إن هذه المصلحة تعذرت، فمثلاً: لو أنه استأجرها من أجل أن يضع فيها دوابه، فصارت أرضاً مسفعة تهلك الدواب، فلا يمكن أن ينتفع ويرتفق بها على الوجه المعتبر.

    فالقاعدة والضابط ما ذكرناه، والمثال ما ذكره العلماء رحمهم الله من انهدام الدار وغرق الأرض، وهذه أمثلة، لكن المهم لطالب العلم أن يعرف قواعد المسائل، وقاعدة هذه المسألة: أن يتعذر الاستيفاء. وهذا في القديم.

    وفي زماننا: لو أنه استأجر سيارة بعينها على أن يركبها إلى موضع معين، ثم تلفت السيارة، وقد ذكرنا أن بعض العلماء يقول: إذا تعطلت العين وكانت معينة يفوت العقد بفوات المنفعة منها، فلا يمكن أن يقوم غيرها مقامها إذا عين، وقال له: بهذه السيارة.

    وبعض العلماء يقول: إذا كان يمكن إيجاد مركوب بنفس الصفة فلا ينفسخ العقد، فنقول له: صحيح إن هذه السيارة قد تعطلت، يمكن أن ينفذ بقية العقد -الذي هو نصف المسافة- فنقول حينئذ: ائت بسيارة مثلها في الأوصاف، وأمض العقد وتمم. على التفصيل الذي تقدم معنا في مسألة تلف العين المستأجرة.

    وقوله: [انفسخت الإجارة في الباقي].

    في الحقيقة أنه من دقة المصنف أن قال: (انفسخت الإجارة في الباقي)، وهذا فيه مسألتان:

    المسألة الأولى: أنه أعطاك حكم ما إذا وقع الخلل والعذر الطارئ أثناء المدة، فتفهم منه أنه إذا وقع قبل التنفيذ والاستيفاء فإنه يجب رد المال كاملاً، وهذا من أجمل ما يكون في المتون الفقهية، وبها يدرك فقه صاحب المتن وحسن اختصاره؛ لأن المتون تقوم على الاختصار، فبدل أن يقول: انفسخ العقد من أصله، ووجب رد القيمة كاملة في حال ما إذا كان العذر قبل التنفيذ وقبل استيفاء شيء من المنفعة، ويقول بعد ذلك: وأما إذا حصل ذلك أثناء المدة انفسخ العقد فيما بقي؛ جاء بالجملة الأخيرة منبهاً على حكم المسألتين، فعندك شيء مصرح به، وهو: أنه يجب رد ما بقي من القيمة، ونفهم من هذا أنه إذا لم ينتفع بشيء وجب رد القيمة كاملة؛ لأنه إذا وجب رد بقية القيمة لعدم التمكن من الاستيفاء فيما بقي من المدة وجب رد القيمة كاملة إذا لم يتمكن من الاستيفاء كلية، فهذا بالنسبة لحكم المسألتين.

    والاختصار أن نقول: إن القاعدتين: إذا تعذر الاستيفاء من العين، أو من هذا الشيء الذي تقوم عليه المصلحة التي من أجلها استأجر المستأجر، فلا يخلو من حالتين:

    إما أن يكون قبل أن يأخذ شيئاً من المنفعة، وإما أن يكون بعد أن أخذ شيئاً من المنفعة أو مضى شيء من المدة، ففي الحالة الأولى: ينفسخ العقد ويجب رد المال كاملاً، وفي الحالة الثانية: يدفع المستأجر على قدر ما استوفى من المنافع وحصله.

    ظهور عيب في العين المؤجرة

    قال رحمه الله: [وإن وجد العين معيبة أو حدث بها عيب فله الفسخ، وعليه أجرة ما مضى].

    هذا كله -كما ذكرنا- في التزامات المؤجر، فإذا اتفق معك على إجارة سيارة أو أرض أو دار، فإنه يجب عليه الشيء الذي التزم به بموجب العقد، ومنه: أنه يمكنك من العين حتى تستوفي، إذاً: لابد أن تكون العين موجودة ويمكن استيفاء المنفعة منها.

    يبقى مسألة: إذا وجد في العين عيب، فهي لم تتلف، ولكن فيها عيب لا تستطيع أن تستوفي المنفعة بالشكل المطلوب، وانظروا إلى دقة العلماء -وقد نبهنا على ذلك غير مرة- أنهم يأتون بالمؤثر من كل وجه، أو يأتون بالمؤثر الأكبر، ثم بعد ذلك المؤثر الأصغر.

    فكأن سائلاً سأل: قد علمنا إذا استأجر المستأجر داراً وانهدمت الدار فإنه لا يمكن الاستيفاء من كل وجه، لكن لو وجد في الدار عيب لا يمنع من استيفاء المنفعة، ولكنه يضر بمصلحة المستأجر في المنفعة، كتسرب الماء من السقف ونحوه، فما الحكم؟ فإذا نشأ هذا السؤال فيكون العيب على صور:

    أولاً: العيب: هو النقص، يقال: عاب فلان فلاناً إذا انتقصه، فأصل العيب: النقص.

    وأما بالنسبة في اصطلاح العلماء إذا ذكروا العيب في البيع والإجارة ونحوها من عقود المعاوضات، فهو: كل شيء يؤثر في مالية العين أو المنفعة، أي: الشيء الذي ينقص من قيمة العين المبيعة، أو ينقص من قيمة العين المؤجرة والمنفعة التي عليها عقد الإجارة، فهذا يعتبر عيباً، أما إذا لم ينقص من القيمة ولم يؤثر في المالية فليس بعيب، ولذلك ذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني ضابط عيب الإجارة: أنه ما أنقص المالية، فمثلاً: أجرك شقة بخمسة آلاف، وهذه الشقة التي استأجرتها مدة سنة بالخمسة الآلاف تستحق ذلك، ولكن إذا تشقق سقفها فإنها تؤجر بألف أو بخمسمائة، فأنقصت المالية -ربما في بعض الأحيان- ثلاثة أرباع القيمة، هذا بالنسبة للشقق، وفي القديم مثلوا لذلك بالدابة والظهر، كأن يستأجر ناقة من أجل أن يركب عليها، والناقة فيها عيب إذا مشت، أو جموحاً إذا ركب عليها الشخص ربما تسقطه، والإسقاط هذا قد يقتله، كما في الرجل الذي وقصته دابته وهو واقف بعرفة.

    إذاً: هناك عيوب في العين المؤجرة، وبناء على ذلك قال العلماء رحمهم الله: إن كل شيء ينقص المالية وينقص من القيمة، فيعتبر عيباً مؤجراً.

    أقسام العيوب في العين المؤجرة

    وتنقسم العيوب بالنسبة للحيوانات والآدميين إلى قسمين: عيوب نفسية، وعيوب ذاتية، وهناك ما يسمى عيوب كمالات وعيوب نفسية، فمثلوا في القديم: كما لو استأجر رجل شخصاً مجنوناً، أو رجلاً شديد الغضب لا يستطيع أن يتفاهم معه، ولا يستطيع أن يحصل منفعته منه كما ينبغي، أو استأجر خادماً من أجل أن يخدمه فإذا به شديد الغضب، لا يستطيع أن يحصل مصالحه، كثير السخط وكثير التضجر، فهذا يؤذي الرجل ويجحف به وبأهله، وبالمصلحة، فهو كلما أراد أن يطلب المصلحة أو يريدها فإنه يعيقه عن طلبها وأخذها واستيفاء حقه من الرجل لسوء خلقه، فهذا عيب في النفس وفي الخُلُق.

    وعيب الذات: كأن يكون به مرض في جسده، بحيث لو طلبت منه منفعة جاءك بالمنفعة متأخرة، أو جاءك بها ناقصة، فمثل هذا بدلاً من أن تستأجره بألف لوجود العيب فيه تكون أجرته خمسمائة ريال؛ لأن هذا عيب مؤثر؛ لأنه إذا ثبت عند أهل الخبرة أن هذه العين المؤجرة فيها مثل هذا العيب فلا يقولون: أجرتها عشرة آلاف؛ بل يقولون: أجرتها خمسة آلاف.

    إذاً: كل شيء أثر في نفسه أو أثر في الذات فهو عيب، وأصبح تأثير النفس أو تأثير الذات ضابطاً تبني عليه نقص المالية، ومن هنا قال الفقهاء: العيب ما أنقص المالية. ثم قسموا الذي أنقص المالية إذا كان في الحيوانات كالآدمي والبهائم إلى عيب ذات وعيب نفس، وعيب النفس في البهائم هو الجموح، فإذا كانت دابة وجاء يركب عليها فإنها تنفر ولا يستطيع أن ينتفع منها، وكذلك أيضاً قد تكون مؤذية مثل ما ذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله، ومثل لذلك بالدابة العضوض -وهي الدابة التي تعض- وهو يريد أن يستوفي منفعتها، فإذا رآها عضوضاً خاف، وهذه طبيعة البشر، وقد يكون عنده من أطفال أو يكون هو بطبعه يخاف، فهذا ينقص المنفعة ولا يمكنه من الاستيفاء.

    وبالنسبة للبيوت: ففيها عيوب ذات وعيوب نفس، والبيوت ليس لها نفوس، لكن مما ذكر العلماء: أن يكون البيت -والعياذ بالله- مسكوناً، وهذا أمر ثابت، وقد ذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني وغيره من الأئمة: وجود السكن في البيت، فإذا وجد في البيت سكن وأذية من الجان صار عذراً، ويعتبر من العيوب النفسية؛ لأن ذات الدار كاملة، فلو جاء الرجل الذي أجر الدار يقول لك: ليس من حقك أن تفسخ عقد الإجارة، فقد أجرتك داراً بغرفها ومصالحها ومنافعها، فكونها مسكونة أو غير مسكونة هذا لا يعنيني. تقول: لا، هذا عيب مؤكد، ويمنع الرجل من استيفاء المنفعة ويزعجه ويؤذيه، وقال بعض العلماء: حتى ولو كان الجار جار سوء وفيه أذية، وخاصة إذا كان على العرض، كأن يقول له: هذه الدار أؤجرك إياها والحي كله -مثلاً- فيه سكن من العزاب، فهذا يضر به إذا جاء بأهله، وكان ينبغي أن يقول له قبل الإجارة: إن هذا الحي أو جارك الذي يواجهك أو جارك الذي بجوارك أو من يسكن العمارة من العزاب، وعلى هذا فإنه إذا وجد ما يضر بمصلحة المستأجر ويضيق عليه فهو عيب.

    كل هذه العيوب يقضي فيها القاضي، ويفتي فيها المفتي بمجرد عرض المسألة، فإذا عرضت المسألة وقال: استأجرت من فلان داراً يتسرب من سقفها الماء، أو استأجرت داراً سقفها يسقط منه التراب -ونحو ذلك كما في البيوت القديمة- أو استأجرت داراً تبين أنها مسكونة، وثبت ذلك وقامت البينة عليه؛ فإن القاضي يقضي بانفساخ عقد الإجارة، ويعطي المستأجر الخيار ويقول له: أنت بالخيار: إما أن تفسخ عقد الإجارة، وإما أن تمضي فيه وترضى بهذا العيب، أو تتفق مع الرجل على إنقاص القيمة بقدر وجود هذا العيب، وتمضي ذلك العقد كما اتفقتما عليه.

    هناك عيوب هي في الحقيقة ليست مؤثرة في الأصل، لكنها مؤثرة في الشرط، ونحن قررنا أن العيب الذي يكون -مثلاً- في الدار في سكنها أو منافعها أنه يضر، يبقى السؤال: لو قال قائل: إن في الدار ثقب يسير في الجدار، فهذا عيب لكنه ليس بعيب مؤثر. وهكذا لو أنه وجد (ماسورة) تسرب الماء ويمكن إصلاحها، فنقول للمؤجر: أصلح (الماسورة) ويمضي العقد؛ لأن القاعدة تقول: (الإعمال أولى من الإهمال) ولذلك تفرع على هذه القاعدة القول: (إعمال الأصول بما أمكن) فإذا عقد إجارة بين طرفين فلا نتعرض للفسخ إلا بعيب مؤثر؛ لأن الأصل في الشرع عندنا يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1] فالله ألزم الطرفين وأوجب على المتعاقدين أن يتما صفقتهما بعقد الإجارة وغيره، وعلى هذا نقول: ليس من حق أحد أن يفسخ هذا العقد أو يعطي الخيار بفسخه للمستأجر إلا إذا كان العيب مؤثراً، والعيب هنا غير مؤثر.

    وهكذا لو أنه جاء فوجد (بلاطة) -مثلاً من الأمثلة- اقتلعت في الدار، فقال: العلماء يقولون: العيب يوجب الفسخ، وهذا عيب، فافسخوا عقد الإيجار. نقول: لا، هذا عيب يمكن تلافيه وتداركه، فليس كل عيب يوجب الفسخ، لكن هذه العيوب البسيطة قد توجب الخيار إذا كانت في الشرط مثل ما تقدم معنا في البيوع، فمثلاً: لو أن رجلاً استأجر داراً، وبعد أن تم العقد بين الطرفين وجد خللاً في أحد الأبواب، من حيث الأصل لا يعتبر هذا عيباً مؤثراً، فنقول له: أصلح هذا العيب. وانتهى.

    لكن لو قال له في بداية العقد: أشترط عليك: ألا يوجد أي عيب في الأبواب أو النوافذ. فإن هذا يعتبر عيباً مستحقاً بالشرط، هو في الحقيقة عيب ليس بذاك المؤثر، لكنه لما اشترط عليه كأن العقد ترتب على وجود هذا الشرط، فلا نلزمه إلا إذا كان المعقود عليه ومحل العقد سالماً من العيب بالصفة التي اتفق عليها الطرفان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المسلمون على شروطهم) فكأنه يقول: إني متفق معك وملتزم بما التزمت به بشرط: أن تكون هذه الدار أو هذه العين المؤجرة سالمة من العيوب. فقال له الآخر: قبلت. فمعنى ذلك: أنه إذا اشترط عليه وقبل، فإن في ذمة المؤجر أن يعطيه الخيار إذا ظهر هذا العيب، ولو أن العيب في الأصل لا يؤثر، ولو قال له: أستأجر منك هذه الدار بشرط: أن تجعل أبوابها بلون كذا وكذا، وما يبتدئ عقد الإجارة بيننا إلا وقد -مثلاً- أصلحت الأبواب، أو قد ضربت بلون معين، أو أن الدار تضرب بلون معين أو ترخم، فاتفقا على ذلك، فجاء وقت التنفيذ وجاء أمد الإجارة ولم يحدث شيء من ذلك، فنقول: للمستأجر الحق في فسخ عقد الإجارة.

    في المواسم يأتي شخص يستأجر العمارة، فيقول له: أنا أستأجر منك هذه العمارة بمائة ألف شهر ذي الحجة. قال: قبلت. قال: لكن أشترط أنه ما يأتي يوم ثمانية وعشرين من ذي القعدة إلا وهي مفروشة ينوع كذا وكذا. واشترط شيئاً معيناً، فجاء يوم ثمانية وعشرين وهي ليست بمكتملة أو فرشت كلها إلا القليل منها، فنقول للمستأجر: لك الخيار؛ لأنه التزم، والشريعة تحترم هذه العقود، وقد ترى هذا شيئاً يسيراً، لأنه لو أخلت الشريعة بشرط يسير فستخل بما هو أعظم، لأنه قد تقول -مثلاً-: إن الفراش سهل تدبيره، لكن قد يشترط عليه أموراً تكون بالملايين، ولذلك كما أن الشريعة تلزم باليسير من المال فإنها تلزم بالكثير من المال، فإذا التزم وقال: أنا ألتزم ألا يأتي يوم ثمانية وعشرين أو ألا يأتي بداية العقد إلا وقد هيأت هذه العمارة بالصفة الفلانية أو بالشكل الفلاني، وتم العقد، وجاء الوقت ولم يؤد ما التزم به، نقول للمستأجر: لك الخيار، وهذا عيب، لكنه عيب مستحق بالشرط.

    فأصبح العيب عندنا على قسمين:

    عيب يستحق بالعقد، وعيب يستحق بالشرط، فالعيب الذي يستحق بالعقد: بعض الأحيان يخضع للعرف، فمثلاً: عندنا في العرف أن البيوت في داخل المدن تكون مؤثثة ومجهزة، وفيها منافع ما، فلو أنه أجر وقال له: أؤجرك عمارة في داخل البلد على صفة كذا وكذا، فجاء ولم يجد الكهرباء فيها، فقال له: أنا التزمت لك أن أؤجرك عمارة، لكن أنت ما اشترطت أن يكون فيها كهرباء، نقول: أبداً، (المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً) وكما يقول بعض العلماء: كالمشروط لفظاً.

    فإذاً: هو في الحقيقة لم يشترط، لكن نعتبر العرف دليلاً على الشرط، كأنك وعند سكوتك عن هذا الشرط تقول له: أستأجر منك عمارة في داخل المدينة على ما جرى عليه عرف أهل هذه المدينة، فأي إخلال يعده أهل ذلك العرف إخلالاً فإننا نعتبره موجباً للخيار، ونقول: هذا عيب، صحيح أنه لم يشترط ذلك صراحة، لكن سكوته ورده ذلك إلى العادة يدل على أنه قد رضي بما جرى به العرف في ذلك البلد والموضع.

    ومنا هنا تفرع هذا المسألة في العيوب المستحقة بالأعراض على القاعدة المشهورة: (العادة محكمة). ففي زماننا الكهرباء أو الماء، فلو قال له: أجرتك هذه (الفيلا) بعشرة آلاف مدة سنة كاملة من كذا إلى كذا، قال: اتفقنا، ثم تبين أنه لا ماء فيها، فننظر: إن كان الحي الذي فيه (الفيلا) يصل إليه الماء، نعرف أنه سكت المستأجر لأنه علم أو سأل أو غلب على ظنه أن هذا الموضع فيه ماء، فنقول: هذا عيب يوجب خيار المستأجر؛ لأن كلفة إحضار الماء مئونة ومشقة، حتى ولو كان قد التزم له أن يحضره عن طريق -مثلاً- السقاء، فذلك ليس كوجوده دائماً في البيت، فهذا يؤثر على مصالح المستأجر ويكون عيباً مؤثراً، لكنه عيب مستحق بالعرف، وليس مستحقاً بالشرط وصريح العقد.

    وعلى هذا: فإن العيوب تعتبر موجبة للخيار، وفصلنا القول في أنواع العيب.

    1.   

    الأدلة على أن العيوب تثبت الخيار في فسخ عقد الإجارة

    والأدلة على أن المستأجر يكون له الخيار إن وجد العيب ما يأتي:

    أولاً: قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188] وجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أنه إذا استأجر المستأجر عيناً تامةً كاملة، وأوجب الصفقة والعقد مع المؤجر على أنها تامة كاملة وأعطى القيمة، فقد رضي بإعطاء القيمة المتفق عليها على شيء تام، فإذا ظهر العين في المؤجرة العيب فإن العيب ينقص القيمة، فأصبح المال مأخوذاً بالباطل.

    وتوضيح ذلك بمثال: لو أجره شقة أو عمارة تستحق في السنة عشرة آلاف على أنها تامة، فدفع له عشرة آلاف، وتبين أن بها عيباً ينقص قدر الألفين، فحينئذٍ تكون مستحقة في الأصل ثمانية آلاف، فتكون زيادة الألفين غير مستحقة بالعقل، فلو أننا لم نعط الخيار بالعيب لأكلت الألفين بالباطل، لأن قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188] ومعنى (بالباطل) أي: بدون وجه حق، فالألفان التي أكلها المؤجر أكلها بدون وجه حق؛ لأنه ليس لها قيمة في العين المؤجرة، وليس لها مقابل في العين المؤجرة ومنافعها، وعلى هذا قال العلماء: إن وجود العيوب في البيوع والإجارات يكون مندرجاً تحت قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188] لأن وجود العيب ينقص المالية، وإذا أنقص المالية فإن صاحب العقد الذي يملك العين سيأخذ المال كاملاً، والواقع أنه لايستحقه كاملاً، فإذا أعطيت الخيار للمستأجر فإنك أسقطت هذا الباطل؛ وقلت له: إن أحببت أن تمضي العقد وترضى به، فهذا لك. قال: رضيت، فحينئذ رضي ببذل الألفين، وهذا محض الخيار منه، وإذا قال: لا أرضى. رد المال إليه؛ فكان ذلك منعاً من أكل المال بالباطل.

    أما الدليل الثاني: فهو الإجماع، وقد حكى هذا الإجماع غير واحد من العلماء، وحكاه الإمام ابن قدامة وابن المنذر رحمهم الله، حيث قال الإمام ابن قدامة : لا نعلم خلافاً أنه إذا وجد عيب في الشيء المكترى أنه يستحق المكتري الخيار بوجود ذلك العيب.

    وأما بالنسبة للقياس والنظر الصحيح فإننا نقول: يستحق المستأجر الخيار بالعيب إذا كان موجوداً في العين المؤجرة كما يستحقه المشتري إذا وجد العيب في السلعة المشتراة؛ بجامع كون كل منهما عقد معاوضة، وتوضيح هذا القياس أن نقول: إنه يستحق المستأجر الخيار -خيار العيب- إذا ظهر العيب في العين المؤجرة، كما اتفقنا على أنه في البيع يستحق الخيار؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في البيع: (من اشترى شاة مصراة ثم أمسكها ثلاثاً فهو بالخيار -أي: إذا اكتشف أنها معيبة -إن شاء رضيها- أي: رضي بالعيب وأمضى العقد فلا إشكال- وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر) فقوله عليه الصلاة والسلام: (وإن سخطها ردها) دل على أن العيب يوجب الخيار في البيع، وقد تقدم معنا هذا وبيناه، وذكرنا الأدلة النقلية والعقلية عليه، فنحن نقول: كما اتفقنا في البيع على أن العيب يوجب الخيار، وكذلك في الإجارة العيب يوجب الخيار.

    فلو سئلت عن الرابط بين الفرع والأصل تقول: العلة الرابطة أنه في البيع عقد معاوضة، والإجارة أيضاً عقد معاوضة، فكما أنه في البيع دفع المال لقاء السلعة فوجد العيب فاستحق الخيار، كذلك في الإجارة دفع المال لقاء المنفعة، فيكون له الخيار إن وجد العيب فيها.

    وعلى هذا: يثبت خيار العيب في الإجارة، إن أحببت أن تختص بالقياس تقول: العيب مؤثر في الإجارة كالبيع؛ بجامع كون كل منهما عقد معاوضة، فالعيب موجب للخيار في الإجارة كالبيع.

    وفي اعتبار الشريعة الإسلامية لخيار العيب في العين المؤجرة دليل على سماحة هذه الشريعة وكمالها وسمو منهجها، فإن الله عدل، وجعل هذه الشريعة الكاملة التامة قائمة على العدل، فقال سبحانه وتعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115] فمن عدله سبحانه أن جعل لهذه العقود ما يضبطها دون أن يتوصل أحد الطرفين إلى أذية الآخر والإضرار بحقه، فكما أنهما اتفقا على الكمال فإنه يجب الرد إذا ثبت النقص، فكما أن المؤجر يشتكي من المستأجر إذا أخل بعينه كذلك المستأجر يشتكي من العين المؤجرة إن ظهر العيب فيها، فالعدل قائم للطرفين، وكما أن هذا يأخذ حقه كاملاً فكذلك الآخر يجب أن يأخذ حقه كاملاً.

    ظهور العيب بعد مضي فترة في الإجارة

    قال رحمه الله: [وإن وجد العين معيبة أو حدث بها عيب فله الفسخ، وعليه أجرة ما مضى].

    (وإن وجد العين معيبة) هذا قبل العقد، وقبل استيفاء المنفعة، فمثلاً: إن اتفق معه بعد صلاة العصر على أن يستأجر منه عمارته الشهر القادم، وكان ذلك في اليوم التاسع والعشرين، وبعد أن اتفقا وجاء في ليلة العقد يريد أن ينظر في العمارة نظرة ثانية، وبعد أن رآها تبين له وجود العيب المؤثر، فنقول: ينفسخ العقد. هذا إذا وجدها معيبة قبل الاستيفاء.

    أما إذا وجدها معيبة بعد الاستيفاء، كأن يكون استأجر منه العمارة نصف شهر، وكان قد اتفق معه مدة سنة كاملة، أو استأجرها ومضى شهر كامل، ثم بعد مضي الشهر تبين أن العمارة فيها ضرر في تسليك الماء الموجود فيها، وهذا يضر بها، وربما سقطت وقتلت من بداخلها، فهذا العيب مؤثر، أو وجود النجاسة -أكرمكم الله- على سقفها في مواضع دورات المياه مثلاً، أو وجد السقف يتسرب بعد شهر أو شهرين أو ثلاثة شهور كما لو جاء فصل المطر فتسرب السقف، فتبين أنها معيبة، فنقول له: الفسخ فيما بقي يكون له الخيار، ولكن يجب عليه أن يدفع قيمة ما مضى على التفصيل الذي ذكرناه.

    1.   

    الأسئلة

    حكم المزروع عند انفساخ عقد الإجارة

    السؤال: ذكرت أن الأرض إذا انقطع ماؤها انفسخت الإجارة، فهل ما غرسه المستأجر يدفع له المؤجر، أم له أن يقلع ما غرس؟

    الجواب: يجب على المستأجر أن يقلع الغرس، فإذا غرس نخلاً قلعه إلى أرض ثانية، ويمكن للنخل إذا قلع من هذه الأرض أن يحيا في غيرها، والضمان على المستأجر لا على المؤجر؛ لأن هذا الغرس ربح للمستأجر فخسارته عليه؛ لأن الخراج بالضمان كما بينه عليه الصلاة والسلام بقوله: (الخراج بالضمان) وهذا بينا فيه إجماع العلماء أن الربح لمن يضمن الخسارة، كما أن ربح الزرع للمستأجر كذلك خسارة الزرع في الأمور الطارئة كالفيضانات والسيول إذا غطت الزرع كلها تعتبر من الإتلافات التي ليست في يد المؤجر ولا يملك دفعها، ومثل الإعصار إذا أحرق الزرع، والرياح العاتية إذا أفسدت المحصول، فكل هذا يضمنه صاحب الزرع ولا يضمنه صاحب الأرض؛ لأن هذا الزرع نماؤه وربحه لصاحبه، وكذلك أيضاً خسارته وفساده بالجوائح على من استأجر لا على من أجر، والله تعالى أعلم.

    اشتراط المؤجر عدم ضمان وجود الماء

    السؤال: من استأجر أرضاً لزراعتها، وكان قد اشترط عليه المؤجر أن البئر ينضب ماؤها في فترة انقطاع الأمطار، فوافق المستأجر، فهل شرط المؤجر معتبر؟

    الجواب: هذه المسألة تحتاج إلى نظر؛ لأننا ذكرنا أن العلماء رحمهم الله -ومنهم الإمام النووي والإمام ابن قدامة وكذلك الماوردي رحمة الله على الجميع- نصوا على أن إجارة الأرض للزراعة شرطها وجود الماء، وبناءً على ذلك لو قال له: أؤجرك هذه الأرض للزراعة والماء غير مضمون وغير موجود صار من الغرر، حتى لو رضي المستأجر؛ فإن هذا العقد من العقود الفاسدة في الأصل.

    إلا أن بعض العلماء قال: إذا كان الماء موجوداً في غالب السنة، ويمكنه أن يحصل منافع أخرى غير منفعة الزرع، فإذا اتفقا على ذلك فلا بأس، أما إذا كان غالب السنة لا يوجد الماء، ووجوده مخاطر به، وهو يريدها من أجل الزرع، مثل الأمر المحتمل المتردد، فهذا لا إشكال في عدم جوازه، والشرط باطل؛ لأن الشرط على هذا الوجه يتوصل به إلى تحليل الحرام؛ لأنه في هذه الحالة يريد المؤجر أن يأخذ مال المستأجر بدون حق.

    فلو فرضنا أنه اشترط عليه أنه إذا نضب البئر لا دخل له في ذلك، فتم العقد فنضب البئر في اليوم الثاني من العقد، وقد استأجر منه ثلاث سنوات، وإجارة الأرضين للزراعة قد تكون في بعض الأحيان خمس سنوات، وتصور إذا قلنا بتصحيح هذا، وهو شرط يؤدي إلى أكل المال بالباطل، وصحة الشروط موقوف على كونها لا تعارض الشرع، ولا تفضي إلى أكل أموال الناس بالباطل، ولا يكون الشرط موجباً للغرر والإضرار، وهذا لا يتحقق في مثل هذا الشرط، فالشرط وجوده وعدمه على هذا الوجه سواء ولا يؤثر، ولا يعتبر المؤجر ولا المستأجر ملزماً بمثل هذه الشروط، والله تعالى أعلم.

    حكم أجرة العامل إذا مرض

    السؤال: من استأجر عاملاً فمرض وتغيب عن عمله بضعة أيام، فهل له أجرة من حيث الإمكان، أم له بعدد الأيام التي عملها؟

    الجواب: من حيث الأصل إذا مرض العامل فإنك لست بملزم بدفع أجرته؛ لأن العقد والاتفاق بينك وبينه على أن يقوم بالمصلحة، وبناء على ذلك فمرضه على نفسه، ويتحمل مسئولية نفسه، هذا من حيث الأصل الشرعي، لكن لو أن صاحب العمل تسامح، أو جرى العرف بالمسامحة، وكان ذلك عن طيبة نفس من المالك الحقيقي، فإنه لا إشكال في هذا، وللمالك الحقيقي أن يفرق بين مرض وآخر.

    أما إذا كان العامل قد أصابه المرض وتعطلت مصالح صاحب العمل، فلا إشكال أننا نقول لهذا العامل: أقم غيرك مقامك. فيقيم غيره مقامه، وحينئذ يمضي العقد على ما اتفقا عليه، فإذا لم يقم غيره مقامه فإننا نقول لصاحب العمل: أقم غيره مقامه، ولك الحق أن تستوفي ذلك من الأجرة التي اتفق عليها، والله تعالى أعلم.

    مسألة تطبيق حديث الشاة المصراة على شراء السيارة

    السؤال: هل يصح أن يطبق حديث الشاة المصراة في شراء سيارة بدون شرط على البائع؟

    الجواب: الشاة لها حليب، والرسول صلى الله عليه وسلم أثبت هذا، وقال: (أمسكها ثلاثة أيام) ولا يمكن تبين وجود العيب إلا إذا احتلبها ثلاثة أيام، والشاة المصراة هي التي يربط ثديها ويحبس الحليب فيها، فأنت إذا جئت تشتريها من السوق فإنك تراها منتفخة الضرع، فتعجبك وترغب في شرائها؛ لأنك تريدها حلوباً، فإذا اشتريتها تجد في أول يوم أن الحليب والخير كثير، لكن في اليوم الثاني سيظهر نوع من النقص، ولن تستطيع في اليوم الثاني أيضاً أن تكتشف نقصها، ولن تستطيع ذلك إلا في اليوم الثالث، إذاً: لابد أن يكون فيها حليب، ولذلك أثبت النبي صلى الله عليه وسلم الخيار في الشاة المصراة، وأنا لا أعرف سيارة مصراة!

    وينبغي على طالب العلم أن تكون عنده موازين ثابتة، ويكون الأمر واضحاً له، ولذلك كان بعض طلبة العلم إذا مر على أحد بسيارته يقرع الجرس الذي في السيارة ويسلم، فقيل له في ذلك فقال: أنا لا أعرف أن السلف كانوا إذا مروا بأحد شدوا زمام البعير من أجل أن يصيح!

    فهناك أشياء يمكن قياسها وإلحاقها بالمنصوص عليه إذا اتفق وجه الشبه، أما إذا كان وجه الشبه متعذراً، ولا يمكن تحقيق العلة التي من أجلها ورد النص فهذا بعيد جداً.

    وعلى العموم: لا يمكن هذا، فليس في السيارة ما يشابه الحليب حتى ترد السيارة وصاعاً من تمر، فليس هناك شبه، ولا يستقيم القياس، وعلى هذا: إذا وجدت في السيارة عيباً فإن من حقك الرد، لكن بشرط أن يقول أهل الخبرة -وهم المهندسون-: إن هذا العيب مؤثر. كأن يكون مثلاً عيباً مؤثراً في سرعة السيارة ودفعها، أو يكون العيب مؤثراً إذا ركب الإنسان فإنها تضر به، كأن يكون هناك ما يمسك السيارة ويمنعها من المسير بحيث لا يعمل، ونحو ذلك من العيوب المؤثرة، فإذا قرر أهل الخبرة أن مثل هذا العيب مؤثر؛ فحينئذ يكون لك الخيار، والله تعالى أعلم.

    حكم تحديد عقد الإجارة بنهاية شهر هجري

    السؤال: نحن نؤجر شققاً ومحلات تجارية في السنة، ونكتب في العقد: من غرة رجب إلى الثلاثين من جمادى الآخرة. وهو متعارف عليه ولا يعترض عليه أحد، هل هذا العقد صحيح، أم لابد من كتابة ثلاثمائة وستين يوماً؟

    الجواب: إذا قلتم: من غرة رجب إلى الثلاثين من جمادى الآخرة. فهذا يعتبر عقداً محتكماً إليه بالاتفاق، يعني: اتفقتما على أن يوم ثلاثين من جمادى الآخرة ينتهي عقد الإجارة، فحينئذٍ أنتم غير ملزمين بثلاثمائة وستين يوماً، هذا من حيث الأصل.

    لكن الإشكال فيه: لو أنكم قلتم: إلى نهاية جمادى. فهذا أفضل؛ لأنه لا يوجد شيء يثبت أن جمادى يكون ثلاثين يوماً، ربما كان جمادى تسعة وعشرين يوماً، فحينئذ يرد السؤال: هل من حقه أن يستفضل يوماً زائداً لأنك قلت: إلى الثلاثين؟

    فهذا فيه إشكال، فلذلك الأفضل أن تقول: إلى نهاية جمادى الآخرة. فإن كان جمادى الآخرة ناقصاً أو تاماً فلا إشكال، لكن أن تقول: إلى ثلاثين جمادى. ليس عندك من دليل يدل فعلاً على أن الشهر سيكون تاماً، وحينئذ تكون فيه شبهة، وإن كان الحقيقة مثل ما ذكر السائل أنه يتعارف عرفاً أن المراد بالثلاثين نهاية الشهر.

    لكن على العموم: الأورع والأفضل أن تقول: إلى نهاية شهر جمادى.

    حكم استئجار الآبار

    السؤال: ما حكم استئجار الآبار؟

    الجواب: البئر لا يؤجر؛ وهذه فائدة التعريفات، فالإجارة: على المنفعة، والبيع: على الذات، ومن يستأجر البئر لا يريد أن يسكن البئر، ولا يريد أن يأخذ منفعة معينة من البئر، بل يريد ذات الماء، ولذلك لا يكون عقد إجارة، بل يكون عقد بيع للماء، وعلى هذا: لا يقال في عقد الآبار أنه عقد إجارة أبداً، ومن هنا لا يمكن أن ندخل الإجارة مع البيع، مثل الإجارة المنتهية بالتمليك؛ لأن الإجارة تكون للمنفعة والبيع يكون للذات، ولا يجتمع الاثنان، أي: أنهما متضادان، فعقد الإجارة ينصب على المنفعة على أن الذات ملك للمؤجر، والبيع على أن الذات ملك لمن اشترى، ولا يمكن أن تقول للمستأجر: مالك وغير مالك. فهذا تضاد، ولا يمكن الجمع بين الضدين المتناقضين على هذا الوجه.

    وعلى هذا: فمسألة بيع ماء البئر فيها نص أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع فضل الماء، وهذه مسألة فيها تفصيل للعلماء رحمهم الله: أنه إذا جاء الرجل المحتاج للماء في البر والفلاة -كما هو موجود في القديم، يحتاجه لإبله وغنمه أو يحتاجه لنفسه وهو في السبيل- فلا يجوز أن يمنعه صاحب البئر، ويمكنه من فضل الماء، ففي الحديث الصحيح: (أن الله تعالى يقول لمن منع فضل مائه: إنك منعت فضل مائك، واليوم أمنعك فضلي كما منعته) نسأل الله السلامة والعافية.

    ولذلك: لا يجوز للإنسان إذا كان عنده فضل ماء أن يمنع، وخاصة من يحتاج إلى ذلك، كأن يأتي يستقي، أو مثلاً الكلأ في المزرعة، تأتي المرأة تريد أن تحتش للبهائم، أو يأتي الرجل الكبير من المسلمين كالشيخ الحطمة، أو يأتي الصغار ويريدون أن يحشوا دون أن يضروا بالبستان، فيمكنهم؛ لأن مثل هذا فضل الله عز وجل أنعم به عليه، فيمكن الناس من مثل هذا، ولا ينبغي أن يكون هناك أنانية وشح ومادية تطغى على معاني الأخوة والرحمة والمحبة التي أوجب الله عز وجل أن تكون بين المسلمين، والمسلمون رحماء بينهم، ولو كنت مكان أخيك لما رضيت أن أحداً يساومك على مثل هذا.

    لكن لو أن شخصاً حفر البئر، وتكلف في حفرها أموالاً، ووضع عليها -مثل ما هو موجود في زماننا- الآلات التي تنقل، وأراد أن يملأ مثلاً (الوايتات) أو يملأ خزانات الماء من أجل أن يبيع سائق (الوايت) على غيره، فيمكن أن يتفق الطرفان على أن كل خزان -مثلاً- بمائة ريال؛ لأن هذا سيبيعه على غيره، فأنت تعطيه إياه لا على سبيل ارتفاق النفس، وإنما على سبيل المتاجرة، فإذا تاجر به فإن سائق (الوايت) تحمل المشقة في الخروج إلى البئر، وهذا قد يكون على مسافات بعيدة من المدينة، وتحمل الانتظار، وتحمل حمل الماء وعبء السيارة، وتحمل نفقة وقود السيارة، وغير ذلك، هذه كلها أمور يستحق في مقابلها الماء، فحينئذٍ نقول: إن هذا من باب ما يتكلفه في الجني، ولذلك قال العلماء في قوله عليه الصلاة والسلام: (المسلمون شركاء في ثلاثة: الماء والكلأ والنار) قالوا: بشرط عدم الحيازة، فمن حاز شيئاً من هذه الأشياء وضمه إلى نفسه وتكلف مشقة الضم، فإنه في هذه الحالة من حقه أن يساوم عليه، وهو أحق به من غيره.

    وبناء على ذلك نقول: المعاوضة على الماء بيع، وليست بإجارة؛ لأن ضوابط الإجارة لا تنطبق عليها، وإنما ينطبق عليها ضوابط البيع، والله تعالى أعلم.

    الإعمال أولى من الإهمال في المعاملات غالباً

    السؤال: القاعدة التي تقول: (الإعمال أولى من الإهمال) هل لها صور في العبادات؟

    الجواب: الإعمال أولى من الإهمال في المعاملات أكثر منها في العبادات، لكن قد يحتاج الفقيه إلى مثل هذا الذي هو الحكم ومحاولة تصحيح العبادة ما أمكن، أي: بحيث إذا أمكن التدارك، لكن المعروف أن هذه القاعدة أكثر ما تكون في المعاملات، والأشبه في ذلك عقود المعاوضات كما ذكرنا في الإجارات، والعقود التي فيها الغبن أكثر، فهذه لا شك أن الإعمال فيها أولى من الإهمال؛ لأنها مبنية على حقوق المخلوقين، وهي مبنية على المشاحة والمقاصة، وقد اتفق الطرفان والتزما، بخلاف العبادات التي تكون بين المخلوق والخالق، فهي مبنية على المسامحة، فالأمر فيها أوسع من قضية المعاملات، فلذلك يختلف الحال ما بين العبادات والمعاملات من هذا الوجه، والله تعالى أعلم.

    وقد يكون تطبيق القاعدة ممكناً في مسائل الخلافات التي تقع بين العلماء رحمهم الله في الأيمان والنذور والعبادات في الصلاة والزكاة والصوم والحج، قد يقول الفقيه: إن تصحيح العبادة أولى من إبطالها، وإتمامها أولى من إلغائها، يمكن هذا ويقع، ويستند على هذا الأصل ويقول: إن قولي بصحة العبادة مع وجود الضمان في مثل هذا، أو يستغفر وتمضي عبادته أولى من قولنا بإبطالها؛ لأن بقاء العبادة وأصول التعبد لله عز وجل والطاعة أفضل من الإلغاء كلية.

    مثلاً: إذا قال بعض العلماء: إن من أقيمت عليه الصلاة وهو يصلي الراتبة، أو يصلي تحية المسجد، وبقي من الصلاة شيء يسير كأن يكون -مثلاً- في التشهد، أو يكون في السجدة الثانية، ويمكنه أن يدرك الصلاة، فنقول: بقاء العمل واعتباره على ما هو أولى من إلغائه، فنقول: أتم صلاتك رحمك الله، وأدرك الجماعة. فهنا الإعمال أولى من الإهمال، نقول له: اتركها ودعها، وسلم من صلاتك وأبطلها! لا، الإعمال أولى من الإهمال.

    من أمثلتها في الحج: مسألة ما لو أحرم بالحج قبل دخول أشهر الحج، كرجل جاء في رمضان وقال: لبيك حجاً. جمهور العلماء على أن الحج مؤقت، والله يقول: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197] وأجمعوا على أن بداية هذه الأشهر -كما صح عن ابن مسعود وابن عمر وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وقد ذكر ذلك ابن جرير الطبري بسند صحيح عنهم- من هلال شهر شوال، والذي هو ليلة العيد، فلو جاء في يوم تسعة وعشرين من رمضان أو ثلاثين من رمضان، أو قبل غروب شمس آخر يوم من رمضان وقال: لبيك حجة.

    فالظاهرية يقولون: الحج باطل وفاسد وتفسد عبادته. والجمهور يصححون نيته بالحج، ويقولون: إنه يبقى بهذه النية ويتم حجه، ويمكن أن يفسخها بعمرة، وبعض العلماء كالشافعية يقولون: إنه إذا أحرم بالحج قبل زمانه، كأن يكون في آخر رمضان، فإنه لا تصح له النية بالحجة؛ لأنه قبل زمانه -كما لو أحرم بصلاة الظهر قبل الزوال- فأبطل نيته بالحج، وأصحح هذه النية وأعُمِلُها؛ لأنه في الأصل دخل المسجد، فأصححها بعمرة، وأقول: يذهب بعمرة ويتحلل منها. فإذاً أعمل ولم يهمل، فـالشافعي هنا يعمل النية ويقول: هذا رجل اختار النسك، وعندنا حج أصغر وحج أكبر، وتعذر الأكبر فينصرف إلى الأصغر.

    ومن أمثلتها في الصلوات: لو أنه أحرم بالفجر على أن الفجر قد تبين، ثم اتضح أن الفجر ما تبين، فإحرامه بالفجر دخول في العبادة والصلاة، فإذا جئت تهمل وتقول: يمتنع فجراً وقد نوى الفجر، فلا ينتقل إلى غيره، فيهمل وتبطل صلاته ولا تنعقد له، لا فريضة ولا نافلة، تعذر كونها فريضة لأنها قبل الفجر، وتعذر كونها نافلة لأنه لم ينو أنها نافلة، وإنما نواها فريضة وقد قال عليه الصلاة والسلام: (وإنما لكل امرئ ما نوى).

    لكن الجمهور يقولون: تنقلب نافلة، والإعمال أولى من الإهمال.

    فإذاً يمكن اعتبار مثل هذه المسائل خاصة في مسائل الخلاف، ويمكن تطبيق هذه القاعدة، والله تعالى أعلم.

    حكم وجود أثر الدم في الفم في نهار رمضان

    السؤال: استيقظت من النوم وأنا في نهار رمضان، ووجدت أثر الدم في فمي ولم أجد طعمه في حلقي، فهل صومي صحيح أم لا؟

    الجواب: الصوم صحيح إن شاء الله، ولا يؤثر وجوده في الفم؛ لأنه من الخارج وليس من الداخل، كما لو تمضمضت فإن المضمضة بالإجماع لا تؤثر، وعلى هذا وجود الدم والمفطر في الفم لا يؤثر، والله تعالى أعلم.

    حكم الجهر في سنة المغرب

    السؤال: رجل يصلي سنة المغرب بعد أن صلى الفرض في المسجد، فجاء رجل لم يصل المغرب وصلى معه، وجعله إماماً له، فالسؤال: هل يجهر بصلاته في ركعتيه أم لا؟

    الجواب: عند من يصحح صلاة المغرب وراء صلاة العشاء في السفر يقول: يصح. ويجوز على هذا الوجه كما يختاره بعض أئمة الشافعية رحمهم الله، فيجوز على هذا الوجه أن يجهر بالقراءة؛ لأن صلاة الليل يجوز فيها الجهر، وهي سنة محفوظة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يجوز الجهر حتى في النهار، وهو محفوظ عن السلف كـعائشة رضي الله عنها، فقد كانت في صلاة الضحى ربما جهرت رضي الله عنها وأرضاها.. والله تعالى أعلم.

    حكم من حلف أيماناً كثيرة لا يعلم عددها

    السؤال: حلفت أكثر من مرة، ولا أعلم كم عدد الحلف، فكم كفارة علي؟

    الجواب: إن الحقوق التي بين المخلوق والخالق إذا تعذر ضبطها على التعيين لزم التقدير، فتطالب بتقدير ذلك حتى يغلب على ظنك أنك قد استوفيت العدد الذي تحصل به الطمأنينة، فنقول لك: إن هذه الأيمان لو قلنا: إنها مائة يمين. تقول: كثير. فنقول: خمسون يميناً. فتقول: قليل. فنقول: خمس وسبعون يميناً. تقول: غالب الظن أنها لا تزيد عن خمس وسبعين يميناً. فنقول: اعتبرها خمساً وسبعين يميناً، وقس على هذا بالنسبة لبقية الحقوق المتعلقة بالمكلف، فإذا كان يجهل قدرها فإنه يطالب بالتقدير، ويكون على وجه يغلب على ظنه أنه قد حصل العدد الذي يجب عليه، والله تعالى أعلم.

    مسألة تقديم السعي على الطواف للحائض

    السؤال: أشكل عليَّ حديث عائشة رضي الله عنها في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت) في مسألة تقديم السعي على الطواف بالنسبة للحائض، هل يكون دليلاً على جواز تقديم السعي على الطواف؟

    الجواب: هذه المسألة فيها ضرورة لـعائشة ، وأولاً: يحتاج إلى إثبات أن عائشة رضي الله عنها سعت قبل الوقوف بعرفة، مع أن بعض مشائخنا رحمة الله عليهم يقول: كان سعيها رضي الله عنها بعد طهرها، فطافت ثم سعت رضي الله عنها، وعائشة رضي الله عنها انقلبت إلى كونها قارنة؛ لأن حجها وقع قراناً كحج النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قالوا: كانت هي ناوية للتمتع وجاءت بعمرة، ثم إنها لما حاضت في سرف قبل دخولها إلى مكة، ودخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في صبح اليوم الثالث من ذي الحجة حينما كانوا بسرف، وهي رضي الله عنها قد حاضت فوحدها تبكي، فقال: (ما يبكيك؟ ذاك شيء كتبه الله على بنات آدم، اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت) نقلها من العمرة إلى الحج قراناً.

    وبناء على ذلك قالوا: إنها تنقلب قارنة، والمتمتع إذا تعذر عليه الوصول إلى البيت قبل الوقوف بعرفة فينتقل إلى القران، وبناء على ذلك: إذا انتقلت قارنة فالقارن يجوز له أن يسعى سعي الحج يوم النحر، ولو سعاه بعد طواف القدوم؛ لأن سعيه عند قدومه يصح تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا: فإنه ليس في حديث عائشة ما يدل على أنها سعت قبل يوم عرفة، لكن يبقى لفظ الحديث؛ لأن الحديث قال فيه: (اصنعي ما يصنع الحاج) فكونها حتى ولو تأخرت إلى يوم العيد فعندها رخصة وإذن.

    فأجاز العلماء الذين يقولون بوجوب تقدم الطواف على السعي، أجابوا بأن عائشة رضي الله عنها وأرضاها تعذر عليها الطواف لعذر، فلا يصح إلحاق غير المعذور بالمعذور؛ لأن الرخص لا يتجاوز بها محالاً، إنما يستقيم الاستدلال إن لم يوجد عذر، أما وقد وجد العذر فلا.

    وأما حديث (سعيت قبل أن أطوف) فإن هذا الحديث فيه (لم أشعر) ولذلك فإن الإمام أحمد في رواية عنه حينما سئل عن هذا الحديث قال: إن مالكاً وغيره قال: (لم أشعر) فأثبت وصفاً -يقول الأصولون كما أشار إلى ذلك الإمام الحافظ ابن دقيق العيد - مؤثراً في شرعية الحكم، وهو قوله: (لم أشعر) والحكم: التخفيف والرخصة، والرخصة مرتبطة بعدم الشعور، وكان الإمام أحمد -لفقهه- رحمة الله عليه ينظر إلى تنوع الأسانيد واختلاف الرواة، وكان يدقق في الروايات ويشدد فيها حتى عن الصحابة أنفسهم، ولذلك لما أشكلت مسألة حديث رافع بن خديج رضي الله عنه في إجارة الأرضين والمزارعة والمساقاة، قال: حديث رافع ألوان.

    وكان رحمه الله -وهذه ميزة يمتاز بها عن بقية إخوانه من الأئمة، وإن كانوا قد شاركوه في شيء منها لكنه قد فاقهم بشهادة كل منصف- عنده دقة وإلمام عظيم بأسانيد الروايات واختلافها، وما تضمنته تلك الروايات من الألفاظ والعبارات! وخاصة إذا انفرد عن العلماء رحمهم الله برواية وأثر، فمن المعلوم أن الإمام أحمد رحمة الله عليه تأخر عن بقية إخوانه من الأئمة الثلاثة، فتتلمذ على الشافعي فحصل علوماً كثيرة في الأصول، وكان يقول: لولا الشافعي ما عرفت ناسخ الحديث من منسوخه. وهذا من الورع والحفظ الجليل وحفظ الحق للعلماء ومعنى كلامه: أنه تفقه على الشافعي في علم الأصول واستفاد منه، وأول من دون علم الأصول في الكتب هو الإمام الشافعي ، وكان آية رحمة الله عليه في المدرسة النقلية التي كان يقوم فيها الخلاف بين أئمة الحنفية وبين الجمهور رحمة الله عليهم.

    فأخذ من الإمام الشافعي وحصل منه كثيراً من الضوابط الأصولية ومدرسة العقل، واستفاد كثيراً منه، ثم زاد على ذلك؛ لأن الإمام الشافعي تتلمذ على الإمام مالك ، فحصل الشافعي فقه مالك ، وحفظ الموطأ -يقال- في أربعين ليلة، وكان الإمام الشافعي قوي الحفظ، وكان لا يجلس المجلس إلا استوعب ما يقال فيه رحمة الله عليه من قوة علمه وفضله رحمه الله برحمته الواسعة.

    فحصل من الشافعي ما حصله من مالك أثراً ونظراً، ثم أعطاه الله عز وجل اطلاعه على الأسانيد واطلاعه على آثار الصحابة، فتجد في بعض الأحيان ينقل من المرويات عن الصحابة ما لا يقل عن اثني عشر صحابياً، وفي بعض الأحيان عن عشرين صحابياً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رحمه الله من ألثر الناس اتباعا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجلالاً لهم رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.

    فكان رحمه الله من فقهه أنه يدقق في مثل هذا، ولا شك أنه أمر ينبغي لمن يتعامل في مسائل الخلاف أن يراعيه، رحمهم الله جميعاً برحمته الواسعة، وأنار قبورهم بأنواره الساطعة، وأعلى مراتبهم وأجزل ثوابهم في الدنيا والآخرة، والله تعالى أعلم.

    حكم نساء جد الزوجة

    السؤال: جد الزوجة إن كان له أكثر من امرأة هل كلهن محارم للزوج، وهل مثلها إن كان لأبي الزوجة أكثر من امرأة، فكلهن محارم للزوج؟

    الجواب: جد الزوجة لا تعتبر زوجاته محارم لذلك الزوج إلا الأم التي أنجبت هذه الزوجة، فيختص التحريم بمن أنجبت هذه الزوجة، فمثلاً: لو أن محمداً كانت له زوجة اسمها خديجة، وله ثلاث زوجات غير خديجة، فأنجبت خديجة عبد الله، ثم عبد الله أنجب عائشة، وعائشة تزوجها علي، فإنه يختص التحريم بأم عائشة ولا يشمل بقية زوجات الجد؛ لأن زوجات الجد لسن بمحارم، ولذلك يعتبرن أجانب بالنسبة لذلك الزوج.

    لكن هؤلاء محارم بالنسبة لذريته وأولاده، فأولاده هم الذين لا يختص التحريم في زوجات أبيهم بأمهن -يعني: أمهن التي أنجبتهن، والتي هي الجدة- وإنما يشمل بقية زوجاته، فلو أن الجد كان له أربع نسوة، سواء بقين في عصمته أو طلقهن، أو مات عنهن وهن في العصمة فهن محارم لذريته وأولاده وأولاد أولاده وإن نزلوا، لعموم قوله تعالى: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22] فجعل التحريم مختصاً بكل امرأة عقد عليها الأب وأبوه -وهو الجد وإن علا- فيشمل كل امرأة عقد عليها، بغض النظر عن كونها هي التي أنجبت ذلك الابن أو غيرها.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756197695