إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الوكالة [1]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • شرع الله سبحانه وتعالى الوكالة رحمة بالعباد ورفقاً بهم، حتى يأخذ الناس حقوقهم، ويحافظوا على أموالهم، ولا تكون الوكالة في كل شيء، فهناك أشياء لا تصح فيها الوكالة مطلقاً، وهناك أشياء تصح فيها الوكالة عند العجز، وهناك أشياء تصح فيها الوكالة مطلقاً.

    1.   

    الوكالة تعريفها وحكمها

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [باب الوكالة ].

    هذا الباب يشتمل على جملةٍ من الأحكام والمسائل المتعلقة بالنيابة، سواءً كانت في العبادات أو في المعاملات، فيقيم المسلم غيره مقامه، لاستيفاء حقٍ من حقوقه، أو يقيمه مقامه في عبادةٍ أذن الشرع فيها بالنيابة.

    وباب الوكالة متصلٌ بباب الحجر بمناسبةٍ ظاهرة وهي: كون الحجر يتولى فيه ولي المحجور النظر في أمواله ومصالحه، وكأن الوكيل أصبح قائماً مقام من تولى النظر في مصالح موكله، فالمناسبة ظاهرة.

    تعريف الوكالة لغةً

    والوكالة في لغة العرب تطلق بمعنى: الحفظ والتفويض، وكذلك القيام على الشيء، قال تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:122] أي: ليفوضوا أمورهم إلى الله لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل:9] أي: فوض أمورك إليه، واجعل جميع حوائجك إليه، وكِلْ أمورك إلى الله سبحانه وتعالى، وقال سبحانه عن نبيه: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ [هود:56] أي: فوضت أمري كله لله، وقال تعالى: خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر:62] فهو سبحانه القائم على أمور عباده.

    وعلى هذا دارت معاني الوكالة في الحفظ، وكذلك أيضاً التفويض، وكذلك القيام على الشيء والكفالة.

    تعريف الوكالة اصطلاحاً

    والوكالة في الاصطلاح: استنابة جائز التصرف لمثله فيما يدخله النيابة، وقيد بعض العلماء هذا التعريف بقوله: في حياته، كما هو مسلك الشافعية رحمهم الله.

    فقولهم: (استنابة)، الاستنابة: مأخوذة من النيابة، والأشياء تقع على صورتين:

    إما أن تقع من الإنسان أصالةً، وإما أن تقع من الإنسان نيابةً، فإذا أسند الإنسان الشيء إلى غيره فقد أنابه وأقامه مقامه، فقالوا: الوكالة استنابة، فعندنا موكِل، وعندنا موكَل، وعندنا موكَلٌ فيه، وعندنا صيغةٌ تقع بها الوكالة، فالاستنابة تحصل من الموكِل، وتُطلَب من الوكيل، ولذلك يقولون: هي من الموكل -اسم الفاعل- إذْن، ومن الوكيل رفق، وتوضيح ذلك: أنك إذا قلت لشخص: بع البيت لي، فقد أذنت له أن يبيع، وهو يقوم بالبيع رفقاً بك.

    وأما بالنسبة لقولهم: (استنابة جائز التصرف)، وبعض العلماء يقول: (استنابة من له حق التصرف)، فهذا من إضافة المصدر إلى فاعله، ومعناه: أن يكون شخصاً بالغاً عاقلاً حراً رشيداً، فهذه أمور أو صفات إذا توفرت في الشخص حكمنا بكونه أهلاً للتصرف، والتصرف يشمل: البيع، والشراء، والإجارة، وسائر العقود التي سبق أن ذكرنا ضوابط التصرف فيها في باب الحجر، وكذلك غيره من أبواب المعاملات، فحينما قال العلماء: الوكالة: استنابة من له حق التصرف، فمعنى ذلك: أن الذي يوكِّل لا بد وأن يكون أهلاً للتصرف فيما وكَّل فيه.

    وعلى هذا: إذا كانت وكالةً ببيع فلا بد وأن يكون الموكِّل أهلاً لأن يبيع، وإذا كانت وكالةً بإجارة فلا بد وأن يكون الموكِّل أهلاً لأن يؤجر، وإذا كانت وكالةً بغير ذلك من العقود فلا بد وأن يكون الأصيل والموكِّل أهلاً للقيام بها، فلو كان الأصيل -وهو الموكِّل- ليس بأهل كأن يكون ليس ببالغٍ كالصبي ولا عاقلٍ كالمجنون وقال لغيره: بع داري أو أجر الدار لم تصح الوكالة؛ وذلك لأنه ممنوع من التصرف في حق نفسه فمن باب أولى أن يمنع من إنابة غيره؛ ولأن النيابة تفتقر إلى وجود أهلية في الأصل حتى يتحقق إذن الشرع بالنيابة على الوجه المرضي.

    (استنابة من له حق التصرف مثلَه)، فقولهم: استنابة من له حق التصرف، هذا بالنسبة للموكل (مثله) هذا الوكيل، وقالوا: (مثله)؛ لأن القاعدة في الشرع تقول: (البدل يأخذ الحكم مبدله)، و(الفرع تابعٌ لأصله)، فالفرع يستمد قوته من الأصل، فإن كان عند الأصل قوة كان الفرع قائماً عليها، وأما إذا كان الأصل ليس له حق التصرف وليس بأهل فإنه حينئذٍ لا ينبني عليه غيره، وكذلك أيضاً من يقوم مقامه لا بد وأن يكون أهلاً للتصرف، وعلى هذا فلو وكلت شخصاً بالبيع فلابد وأن يكون الشخص الذي يقوم بالبيع عنك أهلاً لأن يبيع لنفسه؛ لأنه إذا كان لا يصح بيعه لنفسه فمن باب أولى أن لا يصح بيعه لغيره.

    مثال ذلك: لو وكَّل عاقل أو من هو أهل للتصرف مجنوناً لم تصح الوكالة؛ لأنه ليس بمثله أي: ليس ممن هو جائز التصرف، ولو وكّل صبياً أو محجوراً عليه فإنه لا يحكم باعتبار الوكالة؛ لأنها لم تقع على الوجه المعتد به شرعاً، وهو أن يكون مثله فيما تدخله النيابة، هذا هو محل الوكالة، فأنت توكل شخصاً للقيام بأمر إثباتاً ونفياً في حقٍ مالي أو غير مالي، في حقٍ لله أو حق لعباده، فهذا كله يسمى محلاً للوكالة، فلو قلت له: وكلتك أن تبيع أرضي، فمحل الوكالة بيع الأرض، ولو قلت له: وكلتك أن تبيع داري فمحل الوكالة الدار، ولو قلت له: وكلتك أن تحج عني -وكانت الوكالة بالحج معتداً بها شرعاً، وممن يعجز أن يحج لنفسه- فإنه حينئذٍ يكون محل الوكالة هو الحج وهكذا..

    (فيما تدخله النيابة) هذا قيد يخرج ما لا تدخله النيابة، فلو قال شخصٌ لآخر: وكلتك أن تصلي عني! لم يصح؛ لأن الشرع قصد أن يصلي المكلف بعينه؛ ولذلك يقولون: فروض الأعيان التي قصدها الشرع من عين المكلَّف -وإلا قد تكون فرض عين لا يقصد منها الشرع أن يقوم بها المكلف بعينه- لا تدخلها النيابة، كالصلاة حيث قصدها الشرع من المكلف بعينه، فلا يمكن لشخص أن يقول: أنا أصلي عنك. كذلك أيضاً أن لا يكون محل الوكالة مما فيه إثم، ومن ذلك منع العلماء -رحمهم الله- أن يوكل غيره في ظهار امرأته؛ لأن الظهار منكرٌ من القول وزور، وقالوا: الأصل في ذلك قوله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، فهو إذا أقام غيره مقامه في فعل إثمٍ أو طلبه أو تحصيله فقد خالف مقصود الشرع؛ لأن مقصود الشرع أن لا يفعل هذا الإثم وأن لا يتعاون عليه، فلو كانت الوكالة صحيحة فكأن الشرع يأذن لذلك فعل المحرم، هذا بالنسبة لقوله: (فيما تدخله النيابة)، فخرج الذي لا تدخله النيابة.

    كذلك أيضاً: ينبغي أن تقع هذه الوكالة في الحياة، أما لو أسند إليه الفعل بعد الموت فهي وصية، وليست بوكالة، فلو عهد إليه أن يزوج أيتامه أو يزوج بناته فإنه في هذه الحالة وصيٌ وليس بوكيل، فالوكالة في الحياة والوصية من بعد الموت.

    هذا حاصل ما ذُكِر في تعريف الوكالة، والوكالة شرعها الله عز وجل وأباحها لعباده لما فيها من الرفق والتيسير ومحض الإحسان، فإن الإنسان قد يتعذر عليه أن يقوم بتحصيل مصالحه بنفسه، وقد يتعذر عليه ذلك بسبب شغله، وقد يكون من الصعوبة أن يقوم بذلك بسبب مكانته كالعالم يتولى أمور البيع والشراء بنفسه، فيقع في حرج السوق، وربما يكون في أمرٍ فيه خصومة فيقع في تسلط السفهاء وأذيتهم ونحو ذلك، فشرع الله عز وجل الوكالة حتى يدفع الإنسان عن نفسه الضرر في مثل هذا، ثم أيضاً يحصل بهذه الوكالة المعونة على الحق والخير، فلربما كان الموكل محتاجاً إلى الوصول إلى حق من حقوقه كما يقع في القضاء؛ ولكنه لا يحسن الكلام ولا يحسن الاستدلال لنفسه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنكم تختصمون إليّ فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض) فبعض الناس يقلب الحق باطلاً والباطل حقاً، ويستطيع بلسانه وحلو مقاله أن يؤذي الناس ويكون الشخص مصيباً فيواجه مثل هذا، فحينئذٍ لو واجهه غلب على ظنه أنه لا يستطيع أن يقوم بحجته، فيوكل من يرى أنه أهل لبيان حقه والدفاع عن حقوقه، ففي الوكالة رفقٌ بالناس من هذه الوجوه.

    مشروعية الوكالة

    وقد دل دليل الكتاب ودليل السنة ودليل الإجماع على جوازها وصحتها، أما دليل الكتاب: فإن الله سبحانه وتعالى قال عن أهل الكهف: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ [الكهف:19] ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله تعالى حكى عمن قبلنا أنهم تعاطوا هذا النوع من المعاملة -وهو الوكالة- فوكل أصحاب الكهف أحدهم أن يشتري لهم ويتولى عقداً من العقود المالية: (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا)، فوكلوه أن يشتري لهم الطعام وجعلوا الوكالة مقيدة، (أَيُّهَا أَزْكَى) أيها أطيب (فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ) وعلى هذا قالوا: دلت الآية على مشروعية الوكالة، وكذلك أيضاً قال تعالى عن نبيه يوسف: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]، قال بعض العلماء: إن هذه الآية تدل على مشروعية الوكالة؛ فإن يوسف عليه السلام سأل من ملك مصر أن يجعله قائماً على خزائن الأرض، وإذا كان قائماً فإنه يقوم بالوكالة؛ لأنه في هذه الحالة وكيلٌ عن الولي العام، وحينئذٍ دلت الآية على شرعية الوكالة في تحصيل المصالح ودرء المفاسد، فالآية الأولى تدل على شرعية الوكالة في الأموال والعقود المالية، وآية سورة يوسف تدل على شرعية الوكالة فيما تدخله الوكالة في المصالح العامة.

    وكذلك السنة: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكَّل، ومن ذلك ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في حديث عروة بن أبي الجعد البارقي رضي الله عنه وأرضاه قال له النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام: (اشتر لنا من هذا الجلب شاةً، فذهب عروة وأعطاه ديناراً، فذهب عروة إلى السوق فاشترى شاتين بدينار، ثم باع إحدى الشاتين بدينار فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بدينار وشاة، وقال: يا رسول الله! هذه شاتكم وهذا ديناركم).

    ولفظ صيغة الحديث عند الدارقطني وأحمد :

    عن عروة بن أبي الجعد قال: عرض للنبي صلى الله عليه وسلم جلب فأعطاني ديناراً وقال: (أي عروة ! ائت الجلب فاشتر لنا شاة بهذا الدينار، فأتيت الجلب فساومت فاشتريت شاتين بدينار، فجئت أسوقهما أو قال: أقودهما، فلقيني رجل في الطريق فساومني فبعت إحدى الشاتين بدينار، وجئت بالشاة وبدينار فقلت: يا رسول الله! هذه الشاة وهذا ديناركم فقال: صنعت كيف؟ فحدثته بالحديث فقال: اللهم بارك له في صفقة يمينه، فلقد رأيتني أقف في كناسة الكوفة فأربح أربعين ألفا قبل أن أصل إلى أهلي) أعطاه ديناراً فاشترى به شاتين بدلاً من شاة واحدة وقال له: اشتر لنا شاة واحدة، فذهب واشترى الشاتين بدينار، فلما اشترى الشاتين باع إحداهما بدينار، فرجع بالدينار رأس المال، ورجع أيضاً بالشاة، وهذا حديث عظيم فيه فوائد عظيمة منها: الوكالة، حيث وكله النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (اشترِ لنا من هذا الجلب شاةً).

    ومنها: جواز أن يأخذ الربح (100%)، وما يقوله بعض العوام من أنه لا يجوز أن يربح أكثر من (10%) أي: عشر الثمن أو نصف الثمن كل ذلك معارض للشرع، فالشرع أطلق البيع وأذن للمسلم أن يأخذ ولو أضعاف أضعاف قيمة المبيع؛ لأنه اشترى بنصف دينار وباع بدينار وهذا ربح (100%)، وعلى هذا: فالحديث دلّ على مشروعية الوكالة بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لها.

    كذلك أيضاً حديث: حكيم بن حزام رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً، وأمره أن يشتري شاةً أضحية، فهذا توكيل.

    كذلك أيضاً: حديث أبي رافع رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم وكله في نكاح ميمونة ، وبعثه سفيراً إليها رضي الله عنه وعنها، فكل هذه النصوص من الكتاب والسنة جعلت أمر الوكالة محل إجماعٍ عند أهل العلم، فقالوا بمشروعية الوكالة وجوازها.

    ومن الحكم المستفادة من شرعيتها: الرفق بالموكل، وكذلك حصول الأجر للوكيل لما فيه من المعونة والإحسان، ويعتبر العلماء عقد الوكالة من عقود الرفق، بمعنى: أنه لو وكل شخص شخصاً فالمقصود من هذه الوكالة الرفق؛ لأنك إذا توكلت عنه بالبيع، وبعت عنه فقد رفقت به في مصلحة البيع، ولو توكلت عنه في إجارة أو نكاحٍ أو غيره فقد رفقت به في تحصيل تلك المصلحة.

    يقول المصنف رحمه الله: (باب الوكالة) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من الأحكام والمسائل المتعلقة بعقد الوكالة.

    1.   

    الصيغة التي تتم بها الوكالة

    صيغة الإيجاب من الموكل

    قال رحمه الله: [تصح بكل قولٍ يدل على الإذن].

    يقول رحمه الله: (تصح) أي: الوكالة، (بكل قولٍ يدل على الإذن)، فالوكالة تكون بالقول، وتكون بالفعل، وبكل ما يدل على الإذن بأن يقوم الشخص مقام موكله، أما قوله: (تصح بكل قولٍ) فالقول ينقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: يسميه العلماء: القول الصريح.

    القسم الثاني: القول غير الصريح، وهو الظني الذي يدل على أنه وكلك بصيغةٍ أو بلفظٍ غير صريح بل محتمل، لكنه يتضمن معنى الإذن، فأما إذنه لك بالوكالة فيقول: يا محمد أو يا عبد الله وكلتك أن تشتري لي سيارةً من نوع كذا وكذا بعشرة آلاف، فحينئذٍ وكلك بصريح القول، وقد يوكلك بالفعل، مثلاً: تجد العامل إذا كان يعمل مع شخص في دكانٍ فجاء إلى صاحب الدكان وقال: انتهى الماء عندنا، ومن عادته أن يشتري الماء بمائة ريال، فأخذ صاحب الدكان مائة من جيبه ورماها للعامل، ما معناه؟

    معناه: قد وكلتك أن تذهب وتشتري لنا ماءً مثل ما كنت أو عهدت أو كان بيننا فيما تقدم، فهو لم يتكلم ولم يقل له: وكلتك أن تشتري، بل هذه دلالة الفهم، فعندنا دلالة القول وعندنا دلالة الفهم، ودلالة القول الصريح منها: وكلتك، والضمني كأن يقول له: خذ، ولا يوكله بصريح القول: وكلتك، أو يقول له: قم بالشيء، افعل الشيء، ولا يأتِ بصريح لفظ الوكالة، فعندنا اللفظ الصريح: وكلتك، واللفظ غير الصريح: قم بالأمر، تولَّ الأمر، انظر في الأمر، ونحو ذلك مما هو متضمنٌ للإذن وليس بصريح، وأما الفعل: كأن يلقي له المال دالاً على الإذن بالشراء أو نحو ذلك من التصرفات التي تتضمن معنى النيابة.

    قال رحمه الله: [ويصح القبول على الفور والتراخي بكل قول أو فعل دال عليه].

    عندنا الوكالة فيها: صيغة، وموكل، ووكيل -وهما العاقدان- ومحل الوكالة، أما العاقدان: فوكيل وموكل، ولا تقع الوكالة إلا بطرفين: أحدهما موكِّل والثاني: موكَّل أو وكيل؛ أما الصيغة فالتي ذكرناها، وتشتمل على الإيجاب والقبول، والمحل يشتمل على المطلوب فعله من الوكيل، فأما بالنسبة للمصنف رحمه الله فابتدأ بأحكام الصيغة، وإذا قال العلماء: صيغة الوكالة، صيغة الصلح، صيغة البيع، صيغة الإجارة، فهناك جانبان لا بد وأن يضعهما طالب العلم أمامه: الإيجاب والقبول، فهناك إيجاب صادر من الأهل وهو قوله: وكلتك، وهناك قبول من الطرف المقابل يقول: قبلت، فالصيغة تقوم على جانبين: الإيجاب والقبول، فلما أراد المصنف أن يبين أحكام الصيغة ابتدأ بالإيجاب، وذلك بقوله: (تصح بكل قولٍ دالٍ على الإذن)، كما ذكرنا: الصريح وغير الصريح، وفي حكم القول: الفعل، وقد قرر شيخ الإسلام رحمه الله -وهذا أصل سبق وأن نبهنا عليه- مسألة تنزيل الأفعال منزلة الأقوال، وذلك في كتابه النفيس: القواعد النورانية، وهو من أنفس ما كتب في القواعد الفقهية التي قعدها ونظرها، وبين فيها أن أصول الشريعة الإسلامية لا تلزمنا في العقود بلفظٍ معين أو صيغةٍ معينة إلا إذا دلّ الدليل على الإلزام، وأن الناس يعتدون بما تعارفوا عليه من الصيغ إيجاباً وقبولاً، وبناءً على ذلك نأخذ صيغة الوكالة، فعندنا إيجاب وعندنا قبول، ونقول: القاعدة في ذلك: كل ما تعارف الناس عليه أنه يتضمن معنى الوكالة فهو وكالة، إن كان بالقول فقول، وإن كان بالفعل ففعل، ويعتبر صيغة للوكالة.

    بقي أن نقول: القول في الوكالة وصيغة الوكالة يكون من الموكل والوكيل، فبعد أن فرغ -رحمه الله- من الموكل، وقوله: (وكلتك) فلا بد وأن يكون هناك ما يقابله وهو القبول.

    صيغة القبول من الوكيل

    فقال رحمه الله: [ويصح القبول على الفور والتراخي].

    ويصح القبول من الوكيل على الفور وعلى التراخي، على الفور كأن يقول له: يا محمد! وكلتك أن تبيع سيارتي بعشرة آلاف عصر هذا اليوم في السوق، فيقول: قبلت، فهذا قبول على الفور، بمجرد ما انتهى من صيغة الوكالة قال: قبلت، فالصيغة إذا كان بها جانب الإيجاب والقبول فإما أن تكون على الفور أو على التراخي، فالفورية أن يكون القبول مباشراً، والتراخي أن يتأخر القبول إما عن المجلس فيختلف المكان، أو يتأخر بالزمان كأن يقول له: يا محمد! وكلتك أن تزوج ابنتي من فلان، فسكت، وفي بعض الأمور إذا طُلِب منك أن تقوم مقام غيرك فالحكمة تقتضي أن لا تعجل، وأن تنظر: هل تستطيع القيام بذلك الأمر وهل هناك مصالح يمكن تحقيقها، وما طلب منك هل تترتب عليه مفاسد أو لا تترتب؟ فتحتاج أن تنظر وتتراخى فيه في القبول، والشريعة وسعت في هذا الأمر، فلك أن تقول مباشرة: قبلت، ولك أن تتأخر حتى تنظر: هل الأصلح أن توافق أو لا توافق؟ ثم بعد ذلك تقول ما ترى فيه المصلحة. أيضاً من التراخي أن يكتب له كتاباً: يا فلان! إني وكلتك أن تبيع داري بالمدينة، فيخرج الكتاب من بلد الموكل إلى بلد الوكيل الذي فيه الدار ويستغرق شهراً، أو يستغرق -مثلاً- سنةً، أو يأخذ وقتاً طويلاً ويتأخر الكتاب كما في القديم، فلم يأت إلا بعد شهور، فهل نقول: الصيغة باطلة؟ هذا مراد العلماء، فتصح الوكالة إذا وقع القبول فيها فورياً أو متراخياً، فلا يؤثر في هذا لو كتب له كتاب قبل شهور، فلا يأتي ويقول: هذه وكالةٌ غير صحيحة، لأنه قد وكلني قبل شهور، بل نقول: يصح القبول في الوكالة على الفور وعلى التراخي.

    قوله: [بكل قول أو فعل دال عليه].

    (بكل قول) تقول: قبلت، (بكل) من صيغ العموم، فكما أن القول في الإيجاب على قسمين: صريح وضمني، كذلك القبول صريح وضمني، فالقبول الصريح كأن يقول لك: يا محمد! وكلتك أن تبيع داري في المدينة بعشرة آلاف، فتقول: قبلت وكالتك، فهذا صريح وليس فيه إشكال، فإنك نظرت وقبلت وكالته بصريح اللفظ الذي لا يحتمل.

    القول الضمني في القبول هو كالذي يعرف الآن في أعرافنا، يقول له: يا محمد! بع سيارتي مثلاً بما تراه، فيقول: ما يهمك، فهذه ليست بصريحة في قبول الوكالة، لكن درج العرف على أنها تدل على الرضا والقبول، فتنزل منزلة الصريح، فقوله: ما يهمك، أنا أتولى الأمر عنك، اترك الأمر لي، -هذه كلها عبارات ليست بصريحة في الوكالة، لكنها تتضمن معنى القيام أو القبول بالتفويض والوكالة، فالقول الصريح والقول الضمني والفعل الدال يدخل في ذلك، والفعل الدال كأن يقول: يا محمد! خذ هذا الكتاب وأعطه زيدا، فقام وأخذ الكتاب دون أن يقول: قبلت؛ فإن حمله للكتاب يدل على أنه قد رضي بالوكالة، فإذا حمل الكتاب وخرج من عنده وافترق عنه وحدث أي شيء للكتاب ترتبت عليه أحكام الوكالة، وهل يضمن الوكيل أو لا يضمن، كما سيأتي إن شاء الله.

    فإذاً نقول: القول الصريح وغير الصريح والفعل في القبول سواء.

    1.   

    محل الوكالة وأقسامه

    قال رحمه الله: [ومن له التصرف في شيء فله التوكيل والتوكل فيه].

    هذه المسألة: محل الوكالة، ذكرها رحمه الله بعد أن فرغ من الصيغة، فالموكل والوكيل بينا ضوابطهما في الأصل، لكن نريد الآن أن نعرف ما هي الأشياء التي يمكن أن يوكل فيها، والأشياء التي لا يمكن أن تكون محلاً للوكالة، أو لا يصح أن تقع فيها وكالة، فتنقسم الأشياء من حيث الوكالة إلى أقسام:

    القسم الأول: أن يكون الشيء مما تجوز فيه النيابة مع العجز والقدرة.

    القسم الثاني: أن يكون الشيء مما لا تجوز فيه النيابة لا مع العجز ولا مع القدرة.

    القسم الثالث: أن يكون الشيء مما تجوز فيه النيابة مع العجز ولا تجوز مع القدرة.

    ما تجوز فيه النيابة مع العجز والقدرة

    القسم الأول: أن يكون الشيء الذي وقعت فيه الوكالة -سواءً كان البيع أو الإجارة أو الرهن أو المضاربة أو غير ذلك من العقود- مما تجوز فيه النيابة، سواءً كنت أنت الموكل عاجزاً أو قادراً، وهذا معنى قولنا: (تصح فيه النيابة مع العجز والقدرة)، العجز: أي: عن فعل ذلك الشيء، والقدرة: التمكن من القيام بذلك الشيء، وهذا غالباً ما يقع، فهذا هو القسم الأول من محل الوكالة: أن يكون الشيء تدخله الوكالة مع العجز والقدرة، وهذا غالباً ما يقع في الحقوق المالية، أو في المعاملات.

    وهذا القسم ينقسم في الأموال إلى نوعين:

    النوع الأول: الحقوق المتعلقة بالله سبحانه، فإذا وقع أحد في الوكالة في حقٍ مالي وجاءك يسأل: هل هي وكالة شرعية أو غير شرعية؟

    فتنظر إلى هذا الحق المالي وتصنفه، فلا يخلو: إما أن يكون حقاً لله، أو يكون حقاً للمخلوق، فهناك حقوقٌ مالية لله، وهناك حقوق مالية للمخلوق، فأما إذا وكله في حقٍ مالي لله مما تجوز فيه النيابة فإنه تصح الوكالة، ومن ذلك: الزكاة والكفارات الواجبة، فلو قال رجل لرجل: زكاتي عشرة آلافٍ وكلتك أن تتولى صرفها للمستحقين، فإنها وكالةٌ شرعية، فالزكاة عبادة والحق المالي الموجود فيها لله، لكنها تقبل النيابة والتفويض، فحينئذٍ يصح التوكيل سواء قال له: أن تدفع زكاتي للمستحق، فأبهم من حيث الشخص وعين في الصفة، أو يحدد نوعاً من المستحقين فيقول: أن تصرفها للفقراء فقط، أو للأيتام أو للمساكين، فهذا تفويض وتوكيل مخصص، وينبغي أن تكون الوكالة مختصة كما سيأتي، هذا بالنسبة لحق الزكاة.

    ومن حقوق الله تعالى المالية التي تدخلها النيابة مع العجز والقدرة: الكفارات، فلو أن رجلاً وجبت عليه الكفارة ليمينه، فقال: يا محمد! كفر عني يميناً حنثت فيها فأطعم عني عشرة مساكين أو اكسهم، فحينئذٍ إذا قال له: وكلتك أن تُطعم عني عشرة مساكين أو تكسوهم صحت الوكالة، ولا يقول قائل: لا يجوز التوكيل في هذا الحق؛ لأنه من العبادات، بل هذه عبادة وحق مالي تدخله النيابة.

    كذلك لو أنه ظاهر من امرأته، أو جامع في نهار رمضان وهو صائم، أو قتل خطأً فوجبت عليه الكفارة التي تقوم على عتق الرقبة، فإن عجز صام شهرين متتابعين في الظهار، فعتق الرقبة حق مالي متعلق لله سبحانه وتعالى، فقال له: كفر عني بعتق رقبة، فوكله في حقٍ مالي تدخله النيابة فتصح الوكالة، فأعتق عنه الرقبة لظهارٍ أو قتلٍ أو جماعٍ في نهار رمضان صح، فهي حقٌ مالي وتدخله النيابة، كذلك لو أنه أصاب محظوراً في الحج، فوكله في الفدية، أو ترك واجباً فوكله في دم الجبران، أو وكله أن يشتري هدي التمتع أو هدي القران ويذبحه ويتولاه صحت الوكالة، لكن ينتبه إلى أن هذه الوكالة لا يشترط فيها العجز، فلا نقول له: لا توكل إلا إذا كنت عاجزا، بل نقول: من حقك أن تخرج الزكاة بنفسك أو توكل، سواءً كنت قادراً في الوكالة أو عاجزا، فهذا معنى قولهم: (تدخله النيابة مع العجز والقدرة)، فهذا النوع الأول: حقوق الله تعالى بالنسبة للأموال.

    النوع الثاني من الذي تدخله النيابة: حقوق العباد، وحقوق العباد المالية تدخلها النيابة سواء وكلته وأنبته في العقد، أو وكلته وأنبته في النقد، أو وكلته وأنبته في تحصيل رفقٍ ...إلخ.

    فأما توكيلك له في العقد فالعقود المالية تشمل: البيع، الإجارة، المضاربة، الشركة... إلخ، فأنت إذا وكلت شخصاً في حقٍ مالي لك -الذي هو العقد- من حقك أن تتولاه، فمثلاً : السيارة من حقك أن تبيعها، ومن حقك أن تشتريها، فلك الحق أن توكل ببيعها وتوكل بشرائها، هذا توكيلٌ بالبيع وبعقد البيع، فهذا يسمونه توكيل بالعقد ومن أمثلته: البيع.. الإجارة.. المضاربة .. إلى آخره، وهذا النوع من التوكيل في العقد على ضربين:

    الضرب الأول: أن توكله في الإنشاء، إنشاء العقود.

    الضرب الثاني: أن توكله في هدم العقود وهو ما يسميه العلماء بالفسخ، فيصح لك أن توكل في حقٍ مالي في العقود المالية إنشاءً وفسخاً، فالحقوق المالية في العقود تقبل التوكيل إنشاءً وفسخاً، ما معنى الإنشاء؟ وما معنى الفسخ؟ يعني: من حقك أن تقيم غيرك مقامك في إبرام العقد، فتلتزم بما وكلته أن يلتزم به، وأيضاً من حقك أن توكله في فسخ العقد، مثاله: لو قال شخص لآخر: وكلتك أن تشتري لي سيارة من نوع كذا بعشرة آلاف، هذا توكيل بالإنشاء، فينشئ عقد البيع ويدخل إلى ذمة موكله هذا النوع من المبيعات، فالوكالة صحيحة ومعتبرة في هذا، أما الفسخ فالعكس، يقول له: وكلتك أن تفسخ هذا البيع لوجود خيار، كأن يطلع على عيب في السلعة فقال له: اذهب ورد لفلانٍ ثوبه هذا وخذ الثمن منه، فإنه معيب ولا أريد أن أتم هذا، والعيب يوجب خيار الفسخ، فحينئذٍ من حقه أن يفسخ، فيوكله أن يفسخ العقد، فلا نقول في حقوق الأموال: تصح إنشاءً ولا تصح فسخاً، بل نقول: تصح إنشاءً وفسخاً، هذا بالنسبة للتوكيل في العقد إذا كان حقاً ماليا.

    التوكيل في النقد -في النقود والدراهم-: وهذا من أشهر ما يقع في عقد القرض والحوالة، فمن حقك أن توكل في القروض وتقول: أعط فلاناً مائة ألفٍ قرضاً، أو يقول التاجر للعامل الذي يكون في المحل: ديّن فلاناً أو ديّن الضعيف وأعطه شهراً أو شهرين، فأعطاه إذناً في أن يقرض الغير، فهذه وكالةٌ بالقرض، وقد يكون التوكيل في القرض -الذي هو النقد- من جهة الحوالة بالقرض، وهذا من جهة الإثبات، فيحيل ويقول له: وكلتك أن تحيل فلاناً على فلان، هذا توكيل للقرض بالحوالة، وكما أن القروض تقع فيها الوكالة إثباتاً كذلك تقع الوكالة فيها إبراءً ومسامحةً، ومن هذا ما ثبت في الحديث الصحيح كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه كان فيمن قبلنا رجلٌ يقرض الناس وكان يقول لغلمانه: إذا وجدتم معسراً فتجاوزوا عنه؛ لعل الله أن يتجاوز عنا، ففعلوا ذلك، فلقي الله عز وجل، فقال الله عز وجل: يا ملائكتي! نحن أحق بالعفو منه تجاوزوا عن عبدي)، فوجه الدلالة: أنه وكل عماله ومن تحت يده أن يسقطوا الديون وأن يؤخروا وأن يوسعوا على المعسرين، فهذا يدل على مشروعية التوكيل في القروض إسقاطاً ومسامحةً وتوسعةً، وعليه: فإن القروض تدخلها الوكالة.

    كذلك أيضاً: تقع الوكالة في عقود الأموال أو الحقوق المالية المتعلقة بعقود الإرفاق ومن أشهرها: العارية والوديعة، العارية تقول: يا فلان اذهب لفلان واستعر لي منه كتابه، فقد وكلته عنك أن يستعير ذلك الكتاب، وكذلك تقول له: اذهب إليه وخذ منه سيارته وقل له: أريدها يوماً أو أريدها لحاجةٍ، فتكون وكلته أن يستعير عنك، والعكس، فتوكله أن يرد العارية، فتقول له: خذ كتاب فلانٍ وأعطه إياه، فهذه وكالة برد العارية، فتقع الوكالة أيضاً في عقود الإرفاق عاريةً ووديعة، هذا بالنسبة للحقوق المالية المتعلقة بالله سبحانه وتعالى والحقوق المالية المتعلقة بالعباد.

    قد يتبع هذا القسم: الحقوق التي أذن الشرع فيها بالتوكيل مع العجز والقدرة من غير الأموال، وذلك كما هو في النكاح، فالنكاح يصح أن توكل فيه إنشاءً، ويصح أن توكل فيه فسخاً، وكذلك رفعاً، فتوكل في النكاح إنشاءً كأن تقول لرجلٍ: اقبل نكاحي من فلانٍ، وكلتك أن تقبل زواج فلانةٍ عني، فهو وكيل، فينشئ العقد بدلاً عنه، أو يقول رجل آخر: وكلتك أن تزوج ابنتي من فلان، فهذا توكيل بالإنشاء، ويقع التوكيل في النكاح رفعاً في الطلاق؛ لأن الطلاق يسمى رفع وتقول: وكلتك أن تطلق نسائي، أو يقول له: وكلتك أن تطلق فلانة طلقة، فهذا توكيل في رفع النكاح، ويقع التوكيل في فسخ النكاح وذلك بالخلع، فيقول له: وكلتك أن تخالع فلانة، أو المرأة تقول لأخيها: خالعني من زوجي وأعطه المال والمهر، فهذا توكيلٌ بالخلع، فلو أن المرأة وكلت أخاها أن يتولى خلعها من زوجها، وجاء الأخ إلى عند القاضي فلا يقول القاضي: لا بد وأن تحضر، بل إنه تجوز فيه الوكالة ولا تلزم بالحضور.

    وعلى هذا: فالوكالة تسري في النكاح إنشاءً ورفعاً وفسخا، وكذلك تقع في النكاح استدامة، كما في الرجعة، فلو قال له: وكلتك أن ترجع لي زوجتي -هذا في الرجعة- يصح في ذلك وتقع الوكالة، هذا بالنسبة للحقوق التي تدخلها النيابة مع العجز والقدرة ولا يشترط عجزُ الإنسان.

    ما لا تجوز فيه الوكالة لا مع العجز ولا مع القدرة

    القسم الثاني: أن تكون الوكالة في الحقوق التي لا تقبل النيابة، لا في حال العجز ولا في حال القدرة، وذلك كالصلاة؛ فإن الصلاة لا تصح فيها الوكالة لا مع العجز ولا مع القدرة، فلا يصح لشخص قادر على الصلاة أن يقول لغيره: وكلتك أن تصليّ عني، ولا يصح لشخصٍ عاجزٍ عن الصلاة أن يقول لغيره: وكلتك أن تصلي عني، هذا بالنسبة للصلاة، وقد يقع ذلك على سبيل التبع لا الأصل، كما في صلاة الركعتين في الحج والعمرة عن الغير؛ فإنك تصلي عنه لكن وقعت تبعاً، ولم تقع أصلاً، ويجوز في التابع مما لا يجوز في الأصل، وذكرنا هذه القاعدة وأدلتها، ومنها حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين.

    فهذا النوع الثاني وهو الذي لا تصح فيه النيابة لا في حال العجز ولا في حال القدرة، بالإجماع لا تدخل فيه الوكالة.

    لكن هناك نوع من العبادة وهو الصيام عن الغير، هل يجوز الصيام عن الغير في حال العجز وهذا إذا كان ميتاً؟ فهل تدخل الوكالة في ذلك أو لا تدخل؟ هل تدخل النيابة فيه أو لا؟ هذا فيه تفصيل عند العلماء رحمهم الله.

    يبقى السؤال عن مسألة الطهارة -أما الصلاة فلا تقبل وكالة فلو وكَل المصلي لم يصح- لو قال له: يا فلان تطهر عني، فالطهارة تنقسم إلى قسمين:

    طهارة الحدث، وطهارة الخبث، فأما طهارة الخبث، فإنه إذا قام بتطهير المحل دون أن ينوي الأصل طهارة الخبث صح؛ لأننا ذكرنا في باب الطهارة أن إزالة النجاسة لا تشترط لها النية، وبناءً عليه فالمريض الذي يغشى عليه فيطهر أثناء الغشيان، أو يكون مشلولاً ويأتي الغير وينظف له محل الأذى دون أن يستشعر أنه ينظف ذلك، ثم يفيق وهو طاهر نظيف الموضع فيجوز أن يتوضأ مباشرة ويصلي، أو يغتسل مباشرةً ويصلي؛ لأن الإزالة للخبث لا تشترط لها النية، ومحلها قابل للتوكيل وممكن لأي شخص أن يقوم بذلك؛ لأنه ليس بمحل تتعين فيه النية والخلوص الذي هو الإخلاص.

    أما طهارة الحدث -الوضوء- فإنها لا تصح إلا بنيةٍ من الشخص المغسول، فلا يصح أن يوضئه الغير إلا إذا نوى، فلو كان الشخص جالساً فصب رجلٌ عليه ماءً على وجهه وغسل الوجه وصب على يديه وغسل له أعضاء وضوئه دون أن ينوي لم يصح وضوءه، فإن نوى صح وضوءه وأجزأه.

    ما تجوز فيه النيابة مع العجز ولا تجوز مع القدرة

    القسم الثالث: وهو الذي تصح فيه النيابة مع العجز دون القدرة، فهذا يكون في الحج والعمرة؛ فإنه في الحج والعمرة، يجوز أن يقوم الغير مقامه إذا كان عاجزاً، أما لو كان قادراً فإنه لا يصح أن يقوم الغير مقامه، بناءً على ذلك: لو وكله بالحج، أو وكله بالعمرة فقل: يشترط أن يكون الأصيل عاجزاً عن الحج والعمرة إلا في مسألة واحدة وهي: الحج عن الغير والعمرة عنه في حج النفل، فإن مذهب طائفة من العلماء: أن حج النفل لا يشترط فيه العجز، ويجوز أن تعطي رجلاً مالاً ليحج عنك حجة نافلة، وفي هذا نظر والأقوى والأصح الالتزام بالأصل من عدم وجود النيابة إلا فيما أذن الشرع فيه بالنيابة.

    1.   

    الأسئلة

    الفرق بين الوكالة والتفويض

    السؤال: ما الفرق بين الوكالة والتفويض وأيهما أقوى؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن ولاه.

    الوكالة فيها معنى التفويض، ولا تكون الوكالة إلا بشيء من التفويض، إلا أن التفويض فيه عموم؛ لأن من فوض إلى الغير شيئاً وجعل له ذلك الشيء، فإن هذا يستلزم أن يقوم مقامه من كل وجه في تفويضه، ولكن الوكالة غالباً ما تكون مقيدة، وعلى هذا: فإن التفويض فيه شيء من العموم، أي: أعم من الوكالة، وإلا فالتداخل موجود بينهما، حتى إن العلماء رحمهم الله في تعريف الوكالة قالوا: هي التفويض، وبعضهم يقول: استنابة، فالتفويض والوكالة بينهما تداخل، ومن أوضح ما يقع الفرق بين التفويض والوكالة في مسألة الطلاق، فإنه إذا فوّض الطلاق للمرأة وجعل لها أمرها بيدها ليس كما لو وكل، فإنه إذا فوض إليه ذلك فليس كالتوكيل؛ لأن التوكيل محدد وفيه نوع من التقييد، ويفتقر إلى شيء من الانضباط أكثر من التفويض، والتفويض أبلغ في الإنابة وإقامة الغير مقامه والله تعالى أعلم.

    بالنسبة للتفويض في مسألة الوكالة ذكر بعض العلماء رحمهم الله في مسائل غير مسألة الوكالة التي معنا، ربما في الحقوق يكون التفويض فيها أقوى من الوكالة، وهذا يؤكد ما ذكرناه من أن التفويض أعم من الوكالة، ولذلك يستمد قوته من عموم المادة، وتفويض الأمر إلى الشخص يجعل له صلاحية أن ينظر، فإن شاء أتمه وإن شاء نقضه، وإن شاء أمضاه وإن شاء فسخه لكن للتوكيل فيه هذا المعنى من بعض الوجوه، ومن أظهر ما يقوي ذلك: ما لو قال له: وكلتك أن تفعل شيئاً ثم مات الموكل فتنفسخ الوكالة مباشرةً، لكن لو قال: فوضت إليك، فالتفويض يختلف عن هذا ويبقى مفوضاً، ولو مات من فوضه، فحينئذٍ التفويض يكون أقوى من الوكالة من هذا الوجه، والله تعالى أعلم.

    التفصيل في تعارض الحقيقة الشرعية مع الحقيقة العرفية

    السؤال: الألفاظ التي يختلف فيها العرف والمعنى الذي يدل عليه اللفظ فأيهما يقدم؟

    الجواب: ورد في السؤال الألفاظ التي يتعامل الناس بها، ويكون لها معنىً عندهم، ويكون لها معنىً في الشرع، فأيهما يقدم؟ تعرف هذه المسألة بمسألة: تعارض الحقيقة الشرعية مع الحقيقة العرفية أو الوضعية، فإذا كان للناس عرفٌ يتعاملون به في الألفاظ فإنه يرجع إلى هذا العرف، ويحتكم إلى هذا العرف إلا في المصطلحات الشرعية المعينة، ولذلك يحكم في الأيمان والنذور بما جرى عليه العرف وتكون الحقيقة العرفية قوية في كثير من المسائل، وقد تُقدم في حال تعارض الأعراف للحقيقة الشرعية ترجيحاً لأحد العرفين على الآخر، وأما من حيث الأصل فالألفاظ التي حددها الشرع كالطلاق ونحوه لا تخلو من حالتين:

    إن كانت بصريح اللفظ الذي جعله الشرع دالاً على المقصود فهذه لا يؤثر فيها العرف الخاص، ويرجع فيها إلى حكم الشرع ولا يرجع فيها إلى عرف الناس، حتى قال العلماء رحمهم الله: إن هذا الباب أشبه بالحكم الوضعي، أي: أن الشرع جعل لفظ الطلاق موجباً للطلاق بغض النظر عن قصده وعدم قصده، فما دام أنهم تلفظوا بهذه الألفاظ وقصدوا اللفظ فإنهم يؤاخذون به، حتى ولو جرى العرف بعدم اعتبار هذا اللفظ طلاقاً، لكن لو أنه قال كلمةً بمثل لفظ الطلاق ولم يقصد الطلاق، وجرى العرف فيها بشيءٍ آخر، ووجدت قرائن، انصرف اللفظ إلى ما قصد، مثال ذلك: لو إذا خرجت من الحمام -أكرمكم الله- اصطلح أهل القرية على أن المرأة بمجرد خروجها من الحمام يقال لها: طالق، كأنها كانت داخل الحمام مقيدة بحاجاتها وبعذرها، ثم درس هذا العرف فقال لها: يا فلانة! أنت طالق، وهو قصده المدلول العرفي، يعني: خرجت من الحمام، فهي طالق في حكم الشرع سواء، قصد أو لم يقصد، لكن وجود القرينة أو ما يسمى عند العلماء ببساط المجلس قالوا: لا تطلق، وبعض العلماء قالوا: تطلق قضاءً ولا تطلق ديانة، فبينه وبين الله هي زوجته، ولكن لو ارتفع إلى القاضي تطلق عليه، وهذا ترجيحٌ للحقيقة الشرعية على الحقيقة العرفية ولو جرى العرف وأكد بساط المجلس.

    فالمقصود: أن مسألة الألفاظ هذه ذكرها العلماء رحمهم الله، وهناك جوانب كثيرة منها: الأيمان، ومنها: النذور، لو قال: والله لا آكل اللحم، والعرف الموجود عندهم أن اللحم مختص بلحم الدجاج، فقال: والله لا آكل اللحم، فعرفه مختص بلحم الدجاج، لكن المعروف أن لفظ (اللحم) يشمل كل اللحم، ويحرم عليه جميع اللحم، فهل نقدم ما تعارفوا عليه من تخصيص العرف اللغوي أو نقدم الأصل الشرعي، هذا من تعارض العرف مع اللغة.

    ويتعارض العرف مع الشرع في ألفاظ الظهار، وألفاظ الأيمان، وألفاظ العتاق، ونحوها، فالمقصود: أنه في بعض الأحيان قد تقدم الحقيقة العرفية، خاصةً عند الاحتمال مثل طلاق الكنايات، فلو قال لامرأته مثلاً: أنت خلية، أنت برية، أنت بتة، أنت بتلة، أنت الحرج، اخرجي، تقنعي، اغربي عن وجهي، لست لي بامرأة، هذه كلمات قد تجري في بعض الأعراف ويقصد منها الطلاق، وفي نيته أنه يطلق، وقد تجري في بعض الأعراف على أنها تأديبٌ للزوجة، كما لو قال لها: اذهبي إلى أهلك، واخرجي من بيتي، ودرج العرف المتعارف عليه أن المرأة يقول لها زوجها: اخرجي لبيتك، واليوم الثاني: لبيت أهلك، واليوم الثالث: يردها، إذا اصطلحوا على ذلك وهو لا ينوي الطلاق ولم يقصد بذلك طلاقاً لا يقع طلاقاً، لكن إن نواه طلاقاً وقع طلاقاً، فحينئذٍ احتكم للعرف مع وجود شبهة التطليق بالكناية.

    المقصود أن الكنايات يقوى فيها الاحتكام إلى العرف، أما بالنسبة لمسائل الألفاظ التي حددها الشرع وعينها فهذه يقوى فيها تقديم الحقيقة الشرعية، وهذه المسألة راجعة إلى وضع اللغة، وقد ذكرها علماء الأصول، واللغة العربية قيل: إن الواضع لها هو الله عز وجل، فإذا كانت موضوعةً من الله سبحانه وتعالى -حتى ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في المجموع وغيره أنها لغة أهل الجنة، وهذا يقتضي أنها تعبدية- فلا يمكن لشخص أن يغير اسماً منها فلو قال: أنت طالق وقال: الطلاق له عندي معنىً خاص لا يمكن أن يصرف إلى حل العصمة، نقول له: أبداً هذا وضع وضعه الشرع ما تستطيع أن تحدث فيه.

    فعلى هذا الوجه: لو اصطلح أهل البيئة في ألفاظٍ معينة على صرفها عن هذا لم يستقم، أما في أصل معاني الأشياء التي هي الأسماء المعينة والأسماء غير المعينة فإنه يمكن أن يحصل فيها اختلاف في العرف، ويمكن أن يحصل فيها اختلاف في الأشخاص، فقبيلة تتلفظ بهذا اللفظ وتنوي وتعتد به طلاقاً، وقبيلة أخرى تتلفظ بهذا اللفظ ولا تعتبره طلاقاً، هذا يختلف باختلاف الأعراف والبيئات والأشخاص والله تعالى أعلم.

    ابن الزوج ليس محرماً لأم زوجة أبيه

    السؤال: هل ابن الزوج محرمٌ لأم زوجة أبيه الثانية؟

    الجواب: بالنسبة لابن الزوج لا يكون محرماً لأم زوجة أبيه، فهذه المحرمية تختص بالأب دون الابن؛ لأن المحرمات من جهة المصاهرة يختص التحريم فيهن بالأصل دون الفرع، وفي بعضها يختص بالفرع دون أصله، فتختلف بحسب الأربع التي بينها القرآن: أم الزوجة، وبنت الزوجة، وزوجة الأب، وزوجة الابن، فالآن زوجة الأب أمها محرمٌ للأب؛ لأنها من (أمهات نسائكم)، ولكن أمها ليست محرماً لابنه، وبنت زوجته محرمٌ له وهي الربيبة وليست بمحرمٍ لابنه، فهذا التحريم يختص بالأب؛ فأمّ زوجة أبيه ليست بمحرمٍ له، وعلى هذا: لا يجوز له أن يختلي بها، ولا أن يصافحها.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755956856