إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الربا والصرف [4]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ربا النسيئة محرم بالكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة؛ لما فيه من الغرر والظلم، ويلحق به ربا الفضل؛ لأنه ذريعة إلى النسيئة، وكل بيع فيه جهل أو غرر أو ظلم فإنه محرم، وفي هذه المادة أنواع متفرقة ومسائل مختلفة من البيوع الربوية المحرمة، أو التي تكون وسيلة إلى الربا.

    1.   

    مسائل في ربا النسيئة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ويحرم ربا النسيئة].

    الأدلة على تحريم ربا النسيئة

    قصد المصنف رحمه الله بهذه الجملة أن يبيّن الأحكام المتعلقة بالنوع الثاني من أنواع الربا، وهو ربا النسيئة، وقد جاءت النصوص الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم التي تدل على تحريمه، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الأصناف الستة: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد)، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (مثلاً بمثل)؛ دل على وجوب التماثل وتحريم التفاضل، ولما قال: (يداً بيد)؛ دل على وجوب التقابض وتحريم الافتراق قبل القبض من المتعاقدين أو من أحدهما.

    وقال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تبيعوا الفضة بالفضة إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا غائباً منها بناجز)، فقوله: (لا تبيعوا غائباً منها بناجز) يدل على تحريم تأخير التقابض، وإذا حصل التأخير في القبض فقد وقع ربا النسيئة.

    وأجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا يجوز تأخير أحد الربويين إذا بيع بالآخر، وأنه يجب على المتعاقدين أن يتقابضا في المجلس.

    الربا في بيع الذهب بالذهب

    لو صرفت الذهب بالذهب، كرجل عنده جنيهات من الذهب فأراد أن يبادلها بجنيهات من الذهب، فقال أحدهما: هذه العشرة جنيهات من السعودي بالعشرين من الجنيهات الفرنسية، فيجب أن يتقابضا، وأن يكون ذلك يداً بيد، وشرطه محل العقد، فلو دفع أحدهما جنيهاته وتأخر الآخر، وخرجا وافترقا فقد وقع ربا النسيئة.

    وهكذا لو قال له: أعطيك الآن وتعطيني غداً فهو ربا.

    وكذلك لو باع الحلي بالجنيهات، فأعطى صاحب الحلي وأخر صاحب الجنيهات، وهكذا لو أن امرأة جاءت بحليها القديم، وأرادت أن تشتري به حلياً جديداً فتبايعت، ثم قال: لا أعطيك الآن ولكن غداً، فهذا كله من ربا النسيئة في الذهب.

    الربا في بيع الفضة بالفضة

    وكذلك إذا صرف الفضة بالفضة، فمثلاً: لو أنه بادل الريالات بالريالات، كخمسمائة يصرفها إلى مئات، أو المئات يصرفها إلى ريالات أو عشرات أو نحو ذلك، فلابد أن يكون ذلك مثلاً بمثل، يداً بيد، فلو أعطاه الخمسمائة الآن، وقال: بعد ساعة سأعطيك صرفها، أو أعطاه الخمسمائة حالاً بيد، فقال: إن شاء الله غداً سأعطيك صرفها، فكل ذلك من ربا النسيئة.

    الربا في المطعومات

    ويدخل في هذا الطعام، فكما أن الربا يجري في الذهب والفضة فكذلك يجري في الطعام، فلو بادل طعاماً ربوياً بطعام ربوي مع الاتفاق، كما يقع في الذهب والفضة؛ كبر ببر، فلو جئت ببر أو تمر أو شعير أو ملح أو غيرها من الأصناف المنصوص عليها، أو جئت بشيء ملحق بالأصناف المنصوص عليها، ففي المنصوص عليه لو كان عندك مائة صاع من السكري، وأردت أن تبادله بمائة صاع من السكري أيضاً، فيجب أن يكون يداً بيد، وأن لا تفترقا وقد أخر أحدكما أو أخرتما معاً، فلو أعطاه المائة من السكري الآن، وقال الآخر: تأتيني بعد ساعة أو غداً، أو ترسل لي أحداً يحمل عنك، فافترقا قبل التقابض، فقد وقع ربا النسيئة.

    هذا مع اتحاد المبادلة كالذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح... ونحو ذلك.

    الربا مع اختلاف الربويات

    كذلك مع اختلاف الربويات؛ كأن يبادل الذهب بالفضة، فلو صرف الذهب بالفضة، كرجل عنده جنيهات وأراد أن يصرفها بريالات، فقال له: كل جنيه أبيعه منك بمائة ريال، فالريالات أصلها فضة، والجنيهات أصلها ذهب، فتبادلا، فقال له: أعطيك الجنيهات الآن وتعطيني غداً الريالات، أو العكس، فكل ذلك محرم؛ بل حتى لو قال له: بعد ساعة أحضرها لك، ثم افترقا قبل أن يحصل القبض، فيعتبر هذا محظوراً.

    الربا عند تحويل العملات

    وكذلك لو جئت إلى رجل ومعك ريالات وتريد صرفها بدولارات، كرجل معه مائة ريال يريد أن يحولها إلى دولارات، فينبغي أن يكون الصرف يداً بيد، فتعطيه الريالات ويعطيك الدولارات، فلو تأخر التقابض، وقال: أعطني الريالات الآن وأعطيك غداً الدولارات، أو يقول: ليس عندي الآن صرف، لكن مر عليّ بعد ساعة، ثم أخذ منك ولم تعطه، فقد وقع ربا النسيئة.

    ويدخل في هذا لو جاء بألف ريال وأراد أن يحولها إلى قريب له إلى دولارات مثلاً، فهنا حالتان:

    الحالة الأولى: أن يحولها مع اتحاد العملة، كأن يحول ريالات من المدينة إلى جدة أو مكة، فهذه العملة متحدة ولا إشكال فيها، فيصبح عندنا عقد واحد وهو عقد الحوالة.

    الحالة الثانية: أن يحولها مع اختلاف العملة، كأن يحول مثلاً من ريالات إلى دولارات، أو من ريالات إلى جنيهات، فإن الريالات فضة والجنيهات ذهب، فيجب عند تحويلك للريالات إلى جنيهات أن تنتبه لعقدين:

    العقد الأول: صرفك للريالات بالدولارات.

    العقد الثاني: تحويلك للمصروف من الموضع الذي أنت فيه إلى الموضع الآخر.

    فيجب أولاً: أن تقبض المحول، فتعطي المائة ريال التي معك وتستلم عدلها من الدولارات، أو من الجنيهات، أو من أي عملة أخرى، وبعد أن تقبض ويتم عقد الصرف تحول ما شئت.

    إذاً: لابد من القبض؛ لأنه إذا صرف الفضة بالذهب، أو الذهب بالذهب؛ كجنيهات بدولارات، دون أن يحصل التقابض، فإنه حينئذٍ يكون ربا النسيئة، فلابد أولاً: من التقابض، ثم بعد ذلك يكون عقد الحوالة.

    علة الربا في الأصناف الربوية

    يحرم ربا النسيئة في الربويات، والربويات المنصوص عليها هي: الذهب والفضة، وعلتها الوزن، والمنصوص عليها في المطعومات علتها الطعم مع الكيل أو الوزن.

    وبناءً على ذلك: إذا بادل غير الطعام؛ كأن يبادل حديداً بحديد، أو نحاساً بنحاس، أو خشباً بخشب، فهذه الأشياء من غير الطعام، فإن كانت توزن ولو اختلفت، كأن يبادل طناً من حديد بطنين من نحاس، فإن النحاس والحديد كل منهما يوزن، فنقول: يجوز، ولكن لا بد أن يكون التقابض فورياً، فلا يتأخر أحد المتعاقدين؛ لأنه موزون ربوي، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الموزون الربوي والمكيل الربوي: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد).

    فبيّن صلى الله عليه وسلم أن الموزون والمكيل الربوي إذا اختلف وكل منهما يكال أو يوزن، فلابد أن يكون يداً بيد، وإذا تأملنا حديث عبادة بن الصامت (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة) فقد ذكر جنس غير المطعومات، ثم لما قال: (الذهب بالذهب) جعل كلاً منهما مثل الآخر: الذهب بالذهب والفضة بالفضة، فلما جاء في آخر الحديث قال: (فإذا اختلفت هذه الأصناف)، كذهب بفضة، وبر بتمر، وتمر بملح، وبر بشعير، وشعير بملح (فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد).

    فهذه الأصناف تنقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: الذهب والفضة.

    القسم الثاني: الأربعة الباقية.

    فالذهب والفضة العلة فيهما الوزن، فكأنه صلى الله عليه وسلم حينما قال: (فإذا اختلفت هذه الأصناف) أي: الذهب بالفضة : (فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)، فإذا تأملنا الذهب والفضة وجدنا أن العلة فيهما هي الوزن، فكأنه قال: كل موزون من غير الطعام بيع بموزون الذي هو الربوي، -إذا قلت: إن العلة الوزن فمعناه أنه ربوي- فكل ربوي بربوي كموزون، بموزون لا يباع إلا يداً بيد، إن اتفق وجب التماثل والتقابض، وإن اختلف وجب التقابض وسقط التماثل.

    وبناءً على ذلك: لو سئلت عن بيع الموزون بالموزون من غير الطعام؟ فيكون الجواب: يجوز التفاضل إذا اختلفا؛ ولكن بشرط أن يكون البيع يداً بيد، لقوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يداً بيد).

    ولما بينا أن العلة هي الوزن فهمنا ذلك من السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما أجاز لـعبد الله بن عمرو بن العاص أن يبيع الإبل بعضها ببعض متفاضلة وإلى أجل، فهمنا أن المعدودات لا ربا فيها، قال عبد الله رضي الله عنهما: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخذ البعير بالبعيرين، والفرس بالأفراس إلى إبل الصدقة) .

    فجمع بينه وبين النسيئة، والبعير بالبعيرين جائز، لكن الصاع بالصاعين غير جائز، وفهمنا أن الصاع مكيل وأن البعير معدود.

    والسبب في هذا: أن المعدودات تتكافأ بالعدد، فلربما يكون الواحد يعادل العشرة، فسقط الربا فيها، ولكن المكيلات تتكافأ في الكيل، فوجب التماثل فيها.

    ومن هنا أخذ العلماء هذه العلة المستنبطة من النص، فقالوا: العلة عندنا الموزونات فهماً من هذه السنة، فإذا قلت: إن العلة الوزن؛ وجب التماثل والتقابض إن اتحد الموزون، مثل: حديد بحديد، سواءً كان جيداً أو رديئاً.. إلخ.

    ويجب التقابض إن اختلف الموزون، وهذا الذي جعله رحمه الله من كل ربويٍ بيع بجنسه، فمعناه: أنه لو بيع الموزون بالموزون اتفقا أو اختلفا وجب التقابض، هذا هو معنى قوله رحمه الله: (ويحرم ربا النسيئة في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل).

    ربا النسيئة في بيع الجنسين

    قال رحمه الله: [في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل]:

    ذكرنا أنه إذا بيع موزون بموزون، سواءً كان من جنس الخشب أو من جنس الحديد أو النحاس أو الرصاص أو النيكل أو غير ذلك؛ فإنه ينبغي أن يكون يداً بيد.

    وقوله: (اتفقا في علة ربا الفضل) هنا يلاحظ مسألة الاختلاف، فقوله: (اتفقا في علة ربا الفضل) أي: الوزن في الموزون، وبالنسبة للطعام الكيل أو الوزن، فالمطعوم المكيل مع المطعوم المكيل، سواءً اتفقا أو اختلفا، يداً بيد، والمطعوم الموزون مع المطعوم الموزون، سواءً اتفقا أو اختلفا، يداً بيد.

    فإكان مطعوماً موزوناً متفقاً، مثل البرتقال فإنه يباع بالوزن إذا اتفقا، فبرتقال ببرتقال لابد أن يكونا مثلاً بمثل، فإذا باع الكيلو فيكون بكيلو، أو كيلوين بكيلوين، وأن يكون يداً بيد، وهكذا التفاح إذا بيع وزناً مع الاتفاق وجب التماثل والتقابض.

    أما مع الاختلاف؛ كتفاح ببرتقال، فإن التفاح يوزن والبرتقال يوزن، وكلاهما مطعوم، فيباع الموزون بالموزون من المطعوم، ويجب التقابض ولم يجب التماثل؛ لأنهما مختلفان، فلو قال قائل: أريد أن أبادل الصندوق من البرتقال بالصندوقين من التفاح؟ فنقول: التفاضل جائز؛ لأنهما ليسا بمتحدين في ربا الفضل، ولكن يجب أن يبادله التفاح بالبرتقال يداً بيد؛ لأن التفاح والبرتقال يعتبر كلاً منهما موزوناً مطعوماً.

    إذاً: في الطعام ننظر إذا كان مكيلاً أو موزوناً فلابد من التماثل والتقابض إذا اتحدا، ويجوز التفاضل ويجب التقابض إذا اختلفا، هذا بالنسبة للضابط على الأصل الذي بيناه.

    حكم بيع الربويين المختلفين ببعضهما إذا كان أحدهما نقداً

    قال رحمه الله: [ليس أحدهما نقداً كالمكيلين والموزونين]:

    للحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يداً بيد)، فلو أنه باع من الأربعة المطعومة: براً بتمر، أو شعيراً بتمر، أو شعيراً بملح؛ فإنه يجب التقابض على ظاهر السنة، وهكذا لو باع الفضة بالذهب؛ لكن لو باع الذهب بصنف من الأصناف الأربعة، أو باع الفضة بصنف من الأصناف الأربعة، فصار أحدهما نقداً..

    فعندنا ستة أصناف كلها ربوية إن كان موزوناً بموزون، أو مكيلاً بمكيل من المطعومات أو من غير المطعومات، فإذا كان موزوناً فإنه يجب التقابض، لكن إذا بيع الذهب أو الفضة بواحد من الأصناف الأربعة، فهناك ربوي بربوي، ولكن إذا كان أحدهما نقداً فإنه لا يشترط التقابض ولا التماثل، كأن يشتري مائة صاع من بر بمائة ريال، وهكذا لو اشترى بالنقد ما هو موزون من برتقال أو موز أو تفاح أو نحو ذلك، فإنه لا يشترط التقابض.

    والدليل على هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما: (من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم)، والسلف: تقديم الثمن وتأخير المثمن، بأن يعطيه الدراهم والدنانير معجلة على أن يأخذ منه الطعام مؤجلاً، فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم تأخير المطعوم مع النقد.

    فدل على أنه إذا بيع المؤجل وكان أحدهما نقداً، جاز ولا بأس به، فلو جاء إلى صاحب البقالة، وقال له: سيأتي ولدي كل يوم ويأخذ من عندك أغراضاً فأعطه، وفي آخر الشهر سأعطيك دينك، فقد صار مطعوماً مما يشترى بنقد نسيئة، فالمطعوم الذي هو الطعام الموجود في البقالة، أو الأغراض التي سيشتريها من الطعام، بنقد نسيئة، فصار ولو كان من جنس الربويات، كأن يأتي إلى بائع تمر، ويقول له: ابني كل يوم سيأتي ويأخذ منك صاعاً أو نصف صاع فأعطه، وفي آخر الشهر سوف أحاسبك.

    فحينئذٍ أخذ الرجل الطعام الذي هو التمر، وقال: إلى آخر الشهر، فصارا ربويين؛ لأن الريالات أصلها فضة، والفرع آخذ حكم أصله، وبالنسبة للطعام الذي يدفع لقاء النقد الموعود به من جنس الربويات، فربوي بربوي، لكن أحدهما نقد، فإذا كان أحدهما نقداً فإنه يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم أسلف الطعام بالنقد إلى أجل وأباح ذلك.

    ومن هنا أجمع العلماء رحمهم الله من السلف والخلف على جواز تأخير أحد الربويين إذا كان أحدهما نقداً والآخر الذي هو الثمن والمثمن نسيئة، لكن لو كانا نقدين فلا يجوز، وهكذا لو كان نقداً بجنسه أو من جنس الأثمان، كأن يشتري مثلاً كيلو من الذهب بالنقد الذي هو الريالات، فلم يجز، لكن لو اشترى كيلو الذهب بألف صاع من تمر؛ جاز وصح؛ لأنه ثمن لمثمن، وأحدهما الذي هو الأول نقد ولا حرج في تأخيره على ظاهر حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

    وجماهير العلماء على أنه يجوز التأخير، ولا بأس بذلك.

    إذا تفرق المتبايعان قبل القبض بطل البيع

    قال رحمه الله: [وإن تفرقا قبل القبض بطل]، وينبني على هذا أننا قلنا: إنه يحرم ربا النسيئة في الموزونين، والمكيل موزون بموزون ومكيل بمكيل، سواءً اتفقا أو اختلفا، فيرد السؤال: لو أنهما تفرقا قبل القبض؟ قال رحمه الله: (بطل)، والباطل والفاسد عند جمهور العلماء هو الذي لا يترتب عليه أثر البيع الصحيح، فلا يملك البائع الثمن، ولا يملك المشتري المثمن، إذا كان بيعاً مطلقاً.

    فالبيع إذا حكمنا بفساده وجب رد الثمن والمثمن إلى البائع والمشتري، ويبطل البيع ويفسخ. وقوله: (بطل) هذا البطلان فيه تفصيل، وسيأتي التفصيل بين أن يبطل في الجميع أو أن يبطل في البعض؛ لأن التأخير في بعض الأحيان يكون من الطرف بجميع النقد، وتارة يكون بجزء النقد، وتارة يكون التأخير من الطرفين، وتارة يكون من أحد الطرفين.

    حكم بيع المكيل بالموزون

    قال رحمه الله: [وإن باع مكيلاً بموزون جاز التفرق قبل القبض والنسأ]، أي: جاز نسيئة وجاز قبل أن يتقابضا، والمصنف رحمه الله يرجح في علة الذهب والفضة الوزن، وفي علة الطعام الكيل، كما هي إحدى الروايات عن الإمام أحمد، والصحيح أن العلة في الطعام هي الكيل والوزن مع كونه مطعوماً، على ما اختاره شيخ الإسلام، وهي الرواية الثانية عن الإمام أحمد، ويقول بها طائفة من السلف، وقد بينّا دليلنا من حديث معمر بن عبيد الله رضي الله عن الجميع.

    وقوله: (وإن باع مكيلاً بموزون جاز)؛ لأنه يرى أن الطعام فيه علة واحدة وهي الكيل، فقال: (مكيلاً بموزون)، ومعناه: أنه سيبادل ما هو من جنس الربا -الذي هو المكيل إذا كان طعاماً- بما ليس من جنس الربا من مطعوم موزون على ما رجحه؛ لأنه يرجح أن الطعام إذا كان موزوناً لا يجري فيه الربا.

    وحتى تتضح الصورة هنا أمران نريد بيانهما:

    الأول: اختار المصنف أن الطعام يجري فيه الربا إذا كان مكيلاً، ومفهوم هذا أنه إذا كان موزوناً أو معدوداً فإنه لا يجري فيه الربا، والموزون مثل: البرتقال والتفاح، فإذا قلت: إن العلة هي الكيل، فمعناه أنه لا يجري إلا في المكيلات، كالتمر، والرز يباع بالصاع، فهو مكيل، ويجري فيه الربا.

    لكن البرتقال يوزن ويباع أيضاً عدداً بالحبة، أو يباع بالصندوق، فإذا بيع بالعدد أو الوزن لم يجر فيه الربا على قول من يقول: بالكيل، وهذا هو مذهب الحنفية، ورواية عن الإمام أحمد رحمة الله على الجميع.

    فبناءً على القول بأن العلة هي الكيل: لو بادل المكيل بالموزون فمعناه: أنه بادل الربوي من المطعوم بالربوي من غير المطعوم، ومعناه: أنه بادل النقد بالمطعوم مثلاً، كذهب ببر، أو ذهب بشعير، أو فضة بتمر، فإن الأول -على ما اختاره المصنف- موزون والثاني مكيل.

    فحينئذٍ في هذه الحالة إذا باع المكيل بالموزون فإنه يجوز التفاضل، ويجوز النسأ والتأخير، ولا يشترط التقابض، وقد بينّا دليل ذلك من حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ لأنه لا يرى أن هذا من جنس الربوي، وهذا بناءً على أن المصنف يرى أن الطعام يختص بعلة الكيل، فإذا قال لك: مكيل بموزون، فمعناه: مطعوم بغير المطعوم والمطعوم، بغير المطعوم سواءً كان من جنس الربويات أو غير الربويات فإنه يجوز ولا بأس به.

    لكن على ما رجحناه في المطعومات، فإن الإشكال هو في المطعومات، فلو بادل الموزون منها بالمكيل، أو ما يباع وزناً بما يباع كيلاً على أن كلاً منهما -أي: الطعام الذي هو من جنس الربويات- علته الطعم مع الكيل أو الوزن، فحينئذٍ يجري الربا، فلو بادل البرتقال موزوناً بالتمر المكيل، وجب التقابض فيه؛ لأن جنس المطعوم المكيل، وجنس المطعوم الموزون كل منهما يحرص الشرع على إعطائه يداً بيد؛ بدليل تحريمه إذا تمحض كيلاً أو تمحض وزناً.

    ولذلك قالوا: إن كل مطعوم من كيل أو موزون يجب فيه التقابض، سواءً اتفقا: كبرتقال ببرتقال، وتفاح بتفاح، وتمر بتمر، وشعير بشعير، وأرز بأرز، ودخن بدخن، أو اختلفا: كتمر ببر، أو اختلفا كيلاً ووزناً، كتمر بتفاح، وقس على هذا.

    وعلى هذا يقال: إن العلة في النسأ الكيل مع الوزن، وبعض العلماء يقول: العلة وجوب الطعم، فلا يجوز بيع الطعام بالطعام نسيئة مطلقاً، سواءً كانا مكيلين أو موزونين أو غير ذلك، وعلى هذا يختلف إذا باعه من جنس المعدودات.

    حكم النسأ فيما لا كيل فيه ولا وزن

    قال رحمه الله: [وما لا كيل فيه ولا وزن كالثياب والحيوان يجوز فيه النسأ].

    الثياب تباع بالعدد، فتقول: أعطني ثوباً أو ثوبين أو ثلاثة أثواب، فلو بادل ثوباً بثوبين، أو ثوباً بثلاثة، أو ثوباً بأثواب، أو ثوبين بثلاثة، أو غير ذلك؛ صح ولا بأس به، ولا يشترط التماثل ولا التقابض.

    فلو أعطاه الثوب الآن، وقال: غداً سأستلم منك الثياب، فلا بأس به؛ لأن هذا معدود، وكذلك لو كان طاقات القماش؛ لأنها تباع بالذرع، فليست بمكيلة ولا موزونة، وإنما هي مذروعة، فطاقات القماش إذا بيعت بالأمتار، فإنه يجوز أن يبيع الطاقة بالطاقتين، والطاقة بالثلاث؛ لأنها من جنس المعدودات، وليست من جنس المكيلات والموزونات.

    وكذلك أيضاً: لو بادله الكتاب بالكتابين؛ لأن الكتاب لا يباع كيلاً ولا وزناً، وإنما يباع عدداً، فتقول: أعطني كتاباً أو كتابين أو ثلاثة مجلدات أو أربعة مجلدات، فأنت تشتري الكتاب ولا تكيله ولا تزنه، ولو اشترى مثلاً الغترة بالغترتين، أو الطاقية بالطاقيتين أو الطواقي؛ جاز وصح البيع، سواءً اختلف أو اتفق قماشها، فكل ذلك جائز ولا بأس به.

    وهكذا لو بادله القلم بالقلمين، أو الدفتر بالدفترين، وغير ذلك مما هو موجود في زماننا، فكل ذلك جائز؛ لأنه من جنس المعدودات التي ليست مكيلة ولا موزونة.

    والدليل على أن المعدود يجوز فيه التفاضل والنسأ: قول عبد الله رضي الله عنهما: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخذ البعير بالبعيرين)، والبعير معدود وليس بمكيل ولا موزون، فقوله: (آخذ البعير بالبعيرين) هذا تفاضل، ثم قال: (إلى إبل الصدقة) أي: آخذ البعير الآن وأعطي البعيرين، فإذا جاء الناس ليدفعوا الزكاة أخذ من أبعرتهم ما يسد به الدين على بيت المال.

    فدل على جواز بيع المعدود بالمعدود سلفاً وديناً ونسيئة وتفاضلاً؛ لأنه أجاز البعير بالبعيرين تفاضلاً، وأجاز البعير بالبعيرين إلى أجل، فحصل النسأ والتأخير، ومن هنا قالوا: ما كان من غير الموزون والمكيل فإنه لا يجري فيه الربا، فيجوز التفاضل ويجوز النسيئة.

    وبعض العلماء يعلل ذلك ويقول: إن المكيلات العدل فيها أن تتساوى، فالصاع بالصاع يتساوى، لكن الصـاع بالصاع إلا ربع أو بنصف صاع ظلم لصاحب الصاع الكامل، وقالوا: لو جاز في المكيلات تضرر الناس في أقواتهم، كما يقرر ذلك الإمام ابن القيم في الأعلام والزاد.

    لكن جنس المعدودات غالباً ما يكون العدل فيها بالتفاضل، فإذا جئت لتبيع الفرس بأفراس، فإنك تنظر إلى قيمة الفرس، ثم إذا قدرت الفرس بمائة أو بألف ريال مثلاً فتنظر إلى فرس صاحبك، فإذا كانت قيمته خمسين ريالاً فتقول: أقبل فرسي بفرسين من مثل هذا، لكن التمر حينما تأتي بكيلة متكاملة منضبطة مع كيلة متكاملة منضبطة، فلا تدخل حساباً بينهما.

    ولذلك انضبطت بالكيل كيلاً وبالوزن وزناً، لكن في العدد انضبطت بالتفاضل، فسقط الربا في المعدود وبقي في المكيل والموزون، وهذه خلاصة من يقول بهذه العلة، وقد أشار إليها القاضي ابن رشد في بداية المجتهد، وتكلم على هذا بكلام دقيق جداً في مسألة إسقاط الربا في المعدودات؛ لأنها إذا جاءت تتكافأ فإنها تتكافأ بالتفاضل، فأنت إذا بعت الثوب بالأثواب، فإنك تنظر إلى أشياء موجودة في الثوب من صفاته، وتحاول أن تقدر قيمته، ثم تنظر إلى عدله من الأثواب وتقدر قيمتها، فإن تكافأت رضيت، وإن تفاوتت طلبت الزيادة عدلاً للنقص الذي بينهما.

    ومن هنا تفاوت المعدود عن المكيل والموزون؛ لما فيه من الجبر حين التفاضل، بخلاف المكيل والموزون، فإنهما إذا تفاضلا انعدم المعنى المقصود من الشرع من حصول التساوي بين المبيعين.

    حكم بيع الدين بالدين

    قال رحمه الله: [ولا يجوز بيع الدين بالدين].

    قوله: (ولا يجوز) هذه من صيغ التحريم، (لا يحل -لا يجوز- يحرم) كلها من صيغ التحريم، ومن أقوى الصيغ: (لا يحل) فهي تدل على التحريم، كما قال تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ [الأحزاب:52]، فنفي الحل عن الشيء يدل على تحريمه، وقوله: (لا يجوز) كذلك يدل على تحريمه.

    وقوله: (بيع الدين بالدين)، الدين المؤجل يقابل النقد المعجل، والمراد بهذا أن تبيع ديناً في مقابل دين، ولا تخلو من حالتين:

    الحالة الأولى: حكم هذه المسألة مستفاد من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: (نهى عن بيع الكالئ بالكالئ).

    وهذا الحديث رواه الدارقطني والحاكم وصححه، وقال: هو على شرط مسلم ، ولكن تعقب بأن فيه من تكلم في سنده، حتى قال الإمام أحمد رحمه الله عن بعض رواته: إنه لا تحل روايته. والعمل عند طائفة من العلماء على تضعيفه، لكن متنه صحيح، حتى إن الإمام أحمد لما ضعفه قال: إجماع الناس عليه، أي: الإجماع قائم على عدم جواز بيع الدين بالدين؛ لأن متن هذا الحديث يوافق الأحاديث الصحيحة؛ لأن بيع الدين بالدين يفضي إلى الربا والغرر والمخاطرة، فيدخل ضمن أصول عامة دلت الشريعة على اعتبارها، وقد أجمع العلماء والسلف رحمهم الله على العمل بهذا الحديث.

    وممن حكى الإجماع على عدم جواز بيع الدين بالدين الإمام أحمد رحمه الله، وابن قدامة، وابن المنذر، وابن رشد وغيرهم.

    ويبقى النظر: ما هي صور بيع الدين بالدين؟

    نقول: لبيع الدين بالدين صور:

    فتارة بأن تبيع ديناً بدين على الشخص المدين نفسه، فيحصل بيع الدين بالدين بين المتعاقدين بأن يكررا البيع، فيكون من باب بيع الدين بالدين مع الشخص نفسه.

    وتارة يكون بيع الدين بالدين مع شخص غير الشخص المدين الأول.

    فأما بيع الدين بالدين مع الشخص نفسه فلا يخلو: إما مع اتفاق جنس الدين الأول، أو اختلافه.

    مثال ذلك: جاء رجل واستدان منك ألف ريال، ثم لما حضر التقاضي قال لك: هذه الألف ريال أعطيك في مقابلها مائة صاع من بر إلى نهاية العام، فالأول دين، والثاني دين، وقد باع الألف ريال في مقابل المائة صاع، فهو دين بدين.

    مثال آخر: كأن يقول: هذه المائة صاع أشتريها منك بألف ريال، أو بألف ومائتين، فحينئذٍ باع الثمن (الدين) الذي كان في الثمن الأول ببيع ثانٍ جديد، فالذي خاطب وتبايع معك هو نفس الذي وقع عليه الدين الأول، فوقعت صورة بيع الدين بالدين مع اتحاد المتعاقدين، فالعقد الثاني والبيع الثاني هو نفسه الذي وقع فيه الدين في البيع الأول.

    فهذه الصورة -وهي اتحاد المتعاقدين- تارة تكون بالثمن في مقابل الثمن، وتارة تكون بالمثمن في مقابل المثمن، وتارة تكون بالمثمن في مقابل الثمن، فهذه ثلاث صور.

    الصورة الأولى: أن تكون من بيع الثمن بالثمن: وهذا أشهر ما يقع فيه ربا الجاهلية، زد وتأجل، فيكون للشخص على الشخص عشرة آلاف ريال، فإذا حضر وقت المطالبة قال له صاحب الدين: أأخرك عن هذا الدين باثني عشر ألفاً، أي: بزيادة ألفين، فكأنه باعه العشرة آلاف الأولى باثني عشر ألفاً الثانية.

    أو يقول الذي عليه الدين لصاحب الدين: أنا أشتري منك هذه العشرة آلاف بمائة دولار أو بمائتين إلى بعد نصف سنة أو سنة أو شهر أو شهرين، فبادله النقد بالنقد نسيئة من الطرفين، وحينئذٍ يكون من بيع الدين بالدين المفضي إلى الربا.

    كذلك أيضاً -وخاصة إذا كان في الأثمان والنقود-: غالباً ما تقع الصورة ربوية مع اتحاد المتعاقدين، فتكون العلة فيها من أقوى ما تكون مفضية إلى الربا.

    إذاً: بيع الدين بالدين (ثمن بثمن) يقع بصورة الربا غالباً، إلا أنه يستثنى من هذا لو قال له: هذه العشرة آلاف لا أستطيع أن أسددها، فقال: أسقط عنك مائة منها وأعطيك أجلاً زائداً، فحينئذٍ هذا دينه، فالأمر خفيف، لم يقع فيه؛ لأن العشرة هي العشرة، ولم يقع بيعاً ثانياً.

    فهناك فرق بين مسألة الإسقاط والمسامحة وبين مسألة المعاوضة، فإن المدين في الصورة الأولى يقول: هذه العشرة آلاف أعطيك بدلاً عنها عشرة آلاف وخمسمائة، أو أعطيك بدلاً عنها عشرة آلاف ومائة، بشرط أن تصبر عليّ شهراً وأعطيك مائة فوق العشرة آلاف، فأصبحت عشرة آلاف ومائة، فصار ديناً بدين. هذه هي الصورة الأولى، وهي أن يكون ثمناً بثمن.

    الصورة الثانية: أن يكون مثمناً بمثمن، ويقع هذا في صور عديدة، منها: بيع السلم، كأن يأخذ منك ألف ريال معجلة مقابل مائة صاع مؤجلة، مع ملاحظة أن المائة صاع مثمن، فلما حضر أجل السلم قال: ليس عندي مائة صاع، فسأعطيك بدلاً عنها مائة وعشرة، فهو مثمن بمثمن، وهو عين الربا، وهذا مع الاتحاد.

    وقد يختلفان إلى ربوي، فيقول له: أعطيك عن المائة صاع البر مائة وعشرين من التمر، أو أعطيك مائة من التمر، فصار ربوياً بربوي بدون قصد، فتدخل شبهة الربا، فحرم بيع الدين بالدين لوجود شبهة الربا، مع ما فيها من المخاطرة في الديون.

    الصورة الثالثة: الثمن بالمثمن، قالوا: يقع بيع الدين بالدين (الثمن بالمثمن) إذا كان قد أعطاه ديناً عشرة آلاف ريال إلى نهاية السنة، فلما حضر الأجل، قال: أعطني العشرة آلاف، فقال: سأعطيك بدلاً عنها مائة صاع، من البر إلى نهاية الشهر أو إلى نهاية السنة، فعاوضة عن الثمن -الذي هو العشرة آلاف- بمثمن إلى نهاية السنة، أو هذه العشرة آلاف التي لك عليّ أعطيك بدلاً عنها سيارة في نهاية السنة من نوع كذا وصفة كذا، فعاوضه بالمثمن لقاء الثمن، فصارت البيعة الثانية ديناً في مقابل دينه الأول، فصار من بيع الدين بالدين.

    وعلى هذا وقع بيع الدين بالدين مع اتحاد المتعاقدين، كما في الصور التي ذكرناها في الثمن مقابل ثمن، ومثمن مقابل مثمن، وثمن مقابل مثمن.

    وقد يقع بيع الدين بالدين مع اختلاف المتعاقدين، وهنا قد تقع علة الربا، وقد يقع بيع الغرر، فيكون فيها نوع من المخاطرة، ومن هنا قال بعض العلماء: الأشبه بأن بيع الدين بالدين يدخل فيه علل كثيرة، فتارة يكون من ربح ما لم يضمن، وتارة يكون من بيع الغرر، وتارة يكون من الربا.

    فأصبح مشتملاً على المفاسد الموجبة لتحريم البيع؛ لأن قواعد تحريم البيع كما ذكرها ابن رشد وغيره والتي من أجلها حرم البيع: إما تحريم عين المبيع، وإما الربا، وإما الغرر، وإما الشروط التي تئول إلى الربا أو إلى الغرر أو هما معاً.

    وبناءً على ذلك قالوا: إذا باع الدين بالدين مع اختلاف المتعاقدين: فتارة يكون من الربا، وتارة يكون من الغرر، وتارة يكون من ربح ما لم يضمن، فإذا قال زيد من الناس: لي على عمرو عشرة آلاف، فقال له: يا فلان، دينك الذي على زيد -وهو عشرة آلاف- سأعطيك بدلاً عنه اثني عشر ألفاً إلى نهاية السنة، وأنا آخذ من زيد وفاء الدين.

    فحينئذٍ عاوضه ديناً بدين، فالاثنا عشر التي سيدفعها له سيدفعها بعقد دين؛ لأنه قال له: إلى نهاية السنة في مقابل العشرة آلاف التي يريد أن يأخذها من زيد، وهذه دين، فصار من بيع الدين بالدين رباً؛ لأنه اشتمل على التفاضل والنسيئة، فالعشرة آلاف باثني عشر ألفاً تفاضل، والعشرة آلاف ريال باثني عشر ألف ريال ربوي من جنسه نسيئة، فاجتمعت فيه علة الربا من جهتين.

    وتارة يكون من باب الربا الموجب للنسيئة، كأن يشتري رجل من رجل مائة صاع -كما في الثمن- إلى نهاية السنة، وقبل نهاية السنة يبيع المائة صاع بمائة من البر، فيقول المشتري الجديد: أنا أشتري منك المائة صاع سلماً لفلان من التمر، وأعطيك بدلاً عنها مائة صاع من البر، فالتمر مع البر كل منهما ربوي، ولكن وقع البيع نسيئة من الطرفين: نسيئة من هذا، ونسيئة من هذا، فصار من بيع الدين بالدين الذي حرمه الله ورسوله، ولا يجوز، وهذا يكون من المثمن بالمثمن.

    وكذلك قالوا: إنه يقع في الثمن بالمثمن، فلو قال له: هذه المائة ألف التي لك دين على فلان أعطيك بدلاً عنها سيارة من نوع كذا وكذا إلى نهاية هذا الشهر، ويكون الدين الأول حالاً في منتصف الشهر، فصار بيع الدين الأول -الذي هو العشرة آلاف والمائة ألف- بالسيارة الثانية، فالأول دين والثاني دين، وكلها من بيوع الغرر، أو المخاطرة، أو الآيلة إلى الربا، أو الجامعة بين الربا وبين الغرر.

    الخلاصة: أن بيع الدين بالدين لا يجوز، ومن هنا اختار العلماء وجوب التقابض فيما يشترط فيه التقابض، فإن دخل في بيع الدين بالدين؛ انضافت علة الربا إلى بيع الدين بالدين مع علة الغرر والمخاطرة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756264702