إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب محظورات الإحرام [2]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تحقيقاً لمقصود الحج من ترك الدنيا وما يتعلق بها فإنه يحرم على المحرم عقد النكاح له أو لغيره، وكذلك الجماع، أو مباشرة زوجته، والمرأة كالرجل في كل المحظورات إلا في اللباس، فإنها تلبس ما تريد إلا أنه يحرم عليها أن تلبس شيئاً يغطي وجهها ويديها.

    1.   

    تابع محظورات الإحرام

    المحظور السابع: عقد النكاح للمحرم

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف عليه رحمة الله: [ ويحرم عقد نكاح ولا يصح ولا فدية ].

    ما زال المصنف رحمه الله يبين لنا محظورات الإحرام، فقال رحمه الله: (ويحرم عقد نكاح)، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا يجوز للمحرم أن يعقد النكاح، سواء كان في حج أو كان في عمرة، ولذلك يعتبر عقد النكاح المحظور السابع من محظورات الإحرام التي ذكرها المصنف رحمه الله.

    والعقد في اللغة: التوثيق، يقال: عقد الحبل إذا شد وثاقه، وكذلك يقال: عقد إذا أبرم الشيء، وأما في الاصطلاح: فإن المراد به الإيجاب والقبول، فالإيجاب هو قول الرجل: زوجتك، والقبول قول الزوج: قبلت، فإذا قال الولي: زوجتك، وقال الزوج: قبلت، فقد عُقد النكاح، وإذا قال الموجب: بعتك، وقال المشتري: اشتريت، فقد عُقد البيع، وإذا قال: أجرتك داري بمائة ألف لمدة سنة، فقال: قبلت، فهو عقد إجارة، وقس على ذلك.

    فإذا وجدت الصيغة المشتملة على الإيجاب والقبول فإنه يوصف ذلك بالعقد، وهذا في الاصطلاح عند العلماء رحمة الله عليهم، فإذا وجدت كتب الفقهاء ينصون فيها على كلمة العقد فمرادهم بها الإيجاب والقبول، وعلى هذا يقول المصنف: (يحرم عقد النكاح) أي: يحرم على الإنسان إذا أحرم بالحج أو العمرة أن يتزوج أو يزوج غيره، كأن يكون ولياً لبنت أو أخت أو امرأة من أقربائه، أو تكون المرأة المحرمة بحج أو عمرة منكوحة، بمعنى: أنه يراد تزويجها، فلا يجوز أن يعقد النكاح، سواء كان زوجاً أو كانت زوجة، خاصة على القول بأن للمرأة أن تلي عقد النكاح كما هو مذهب الحنفية، وكذلك أيضاً أن تكون ولياً.

    دليل التحريم ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا ينكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب)، وهذا الحديث اتفق الشيخان على صحته وثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقوله: (لا ينكح المحرم) لم يفرق بين محرم لحج أو عمرة (ولا يُنكح) أي: إذا كان امرأة، وهذا يدل على أنه لا يجوز له أن يكون في عقد النكاح لا زوجاً -وهو الأصيل- ولا وكيلاً، فلا يجوز للمحرم أن يكون وكيلاً في عقد النكاح بأن يقبل النكاح من غيره، أو يوجبه للغير.

    وهذه المسألة للعلماء فيها قولان:

    القول الأول يقول: لا يجوز للمحرم أن ينكح ولا أن ينكح ولا أن يخطب، وهذا هو مذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية رحمة الله على الجميع، يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم حرم على المحرم عقد النكاح سواء كان زوجاً أو زوجة أو ولياً أو وكيلاً، وذلك هو نص الحديث الثابت عنه والذي ذكرناه.

    القول الثاني: ذهب فقهاء الحنفية رحمهم الله إلى القول بجواز أن ينكح المحرم وأن يُنكح، وأن يخطب، لكن بعضهم ينص على جوازه مع الكراهة، أي: أنه يكره له ذلك، ولكن يجوز، والعقد صحيح، واحتج هؤلاء العلماء بحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم) ، فأثبت أن الزواج من رسول الله صلى الله عليه وسلم لـميمونة وقع وهو محرم، قالوا: فدل دلالة واضحة على أنه يجوز للمحرم أن يتزوج وأن يزوج الغير وأن يخطب، وأما ما ورد من النهي عن النبي صلى عليه وسلم فإن فعله صلوات الله وسلامه عليه يصرف النهي من التحريم إلى الكراهة، وهذا مسلك يعمل به جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم: وهو أنه إذا ورد النهي وجاء ما يدل على الجواز صرف ظاهر النهي من التحريم إلى الكراهة.

    والذي يترجح بنظري والعلم عند الله: هو القول بالتحريم، وهو مذهب جمهور السلف كما ذكرنا؛ وذلك لما يلي:

    أولاً: لصحة دلالة السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتحريم.

    ثانياً: أنه يجاب عن حديث ابن عباس من وجوه:

    الوجه الأول: أن القاعدة: إذا تعارضت رواية أكابر الصحابة مع رواية أصاغر الصحابة قدمت رواية أكابر الصحابة على الأصاغر؛ والسبب في هذا واضح، وهو أن أصاغر الصحابة في الغالب يروون بواسطة، وأكابر الصحابة في الغالب يروون مباشرة، فتقدم رواية الأكابر؛ لقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمهم بحاله أكثر من أصاغر الصحابة.

    الوجه الثاني: أن حديث ابن عباس : (أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم) عارضته ميمونة صاحبة القصة، وعارضه أبو رافع السفير بين النبي صلى الله عليه وسلم وميمونة ، ومن المعلوم أن ميمونة رضي الله عنها -وهي خالة ابن عباس - أعلم بحال النبي صلى الله عليه سلم حينما تزوجها، فلما أثبتت أنه تزوجها وهو حلال، دل هذا على ضعف ما ذكره ابن عباس ، ومن هنا قال الإمام أحمد : إن هذا الحديث خطأ، وهذا الخطأ قد يكون من الرواة أو يكون من سماع ابن عباس عن غيره من الصحابة رضوان الله عليهم.

    وهناك وجه ثالث في الترجيح: أن حديث ابن عباس رضي الله عنهما له معارض، وحديث التحريم صريح في التحريم لم ترد له صيغة معارضة، وإذا تعارض النصان أحدهما له وجه معارض، والآخر لا معارض له قدم الذي لا معارض له؛ لأن له مزية، وأنت إذا تأملت أحاديث النهي لم تجد ما يعارضها في الروايات نفسها، ولكن إذا تأملت حديث ابن عباس الذي يدل على الإباحة تجد أنه قد عارضه أبو رافع وعارضته ميمونة فلم يتمحض حديث ابن عباس في القوة في الدلالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حلالاً.

    الوجه الرابع في الترجيح: أن القاعدة أنه إذا تعارض الحاظر والمبيح أنه يقدم النص الحاظر على النص المبيح؛ لما فيه من زيادة العلم، ولما فيه من زيادة الاحتياط، وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقديم نهيه على أمره، فكيف بتقديم نهيه على ما يكون من حاله محتملاً الخصوصية، فهذا من باب أولى وأحرى، ولذلك قال: (إذا نهيتكم فانتهوا)، وقال في الأمر: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) ، فهذا يدل على قوة أدلة التحريم ورجحانها على أدلة الجواز.

    الوجه الخامس: أن حديث ابن عباس : (أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم) يحتمل أن يكون خاصاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم خصوصيات حتى في النكاح، ولذلك قال سبحانه: خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:50]، فالله خصه بخصائص كما نص على ذلك كتاب الله عز وجل: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41] .

    فلما خاطب عليه الصلاة والسلام عموم الأمة بقوله: (لا ينكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب) دل على أننا مطالبون بامتثال هذا النهي، ولما فعل هو عليه الصلاة والسلام -على القول بأنه تزوجها وهو محرم- فإننا نقول: هذا خاص به؛ لأن القاعدة: إذا تعارضت دلالة القول مع دلالة الفعل احتملت دلالة الفعل الخصوصية، فتقدم دلالة القول؛ لأنها تشريع للأمة.

    الوجه السادس: أن قول ابن عباس: (تزوج ميمونة وهو محرم) كما أنه ضعيف من جهة السند فلا يقوى على معارضة النص الصحيح الصريح فإننا نقول: هو في لفظه محتمل؛ وذلك أن قول ابن عباس: (تزوج ميمونة وهو محرم) يحتمل أن يكون مراده: (وهو محرم) أنه عقد عليها داخل حدود الحرم، وهذا له مغزىً دقيق، وهو من فقه ابن عباس، كأنه يريد أن ينبه على مسألة فقهية من مسائل الهجرة، وذلك أن من هاجر من بلد فإنه لا يرجع إليه إذا تركه لله ورسوله، ولذلك ثبت في النص الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لكن البائس سعد بن خولة ) يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة.

    ولذلك قال العلماء: من خرج من بلد كفر مهاجراً عنها فإنه لا يرجع إليها، ولذلك لم يرجع المهاجرون إلى مكة إلا بقدر الحاجة، وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لهم في الإقامة فيها ثلاثة أيام فقط، فدل على أنه لا يجوز لمن هاجر من بلد أن يقيم فيها بعد هجرته؛ لأنه تركها لله عز وجل، ولو عادت بلد إسلام بعد ذلك، وإذا ثبت هذا ورد سؤال هو: هل يجوز له أن يتزوج من أهل هذا البلد؟ وهل زواجه من أهل هذا البلد وعقده فيه يعتبر بمثابة الإقامة؟ فرد ابن عباس رضي الله عنهما هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم، أي: داخل حدود الحرم، والعرب تسمي من كان داخل الحدود محرماً، ومنه قول حسان بن ثابت يرثي عثمان بن عفان رضي الله عن الجميع:

    قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً

    ومن المعلوم أن عثمان إنما قتل في حرم المدينة ولم يقتل وهو محرم بالحج أو بالعمرة، فدل على أن من كان داخل حدود حرم مكة أو حرم المدينة فإنه يوصف بكونه محرماً.

    فالعرب تسمي من دخل في الزمان الحرام -كالأشهر الحرم- أو دخل في المكان الذي له حرمة، تسميته محرماً، وعلى هذا يكون حديث ابن عباس له مغزىً خارج عن مسألتنا، أي: أنه لا يدل على أنه تزوجها حال إحرامه صلوات الله وسلامه عليه.

    وبناء عليه يترجح مذهب الجمهور الذين يقولون بأنه لا يجوز للمحرم أن ينكح ولا أن يُنكح ولا أن يخطب، وهذا الحكم يستوي فيه أن يكون المحرم أصيلاً عن نفسه، كأن يتزوج لنفسه، أو وكيلاً عن غيره، كأن يقول له رجل: اذهب واخطب لي فلانة، وأنت وكيلٌ عني، فإن الوكيل ينزل منزلة الأصيل، وعلى هذا فإنه يستوي أن يكون وكيلاً عن محلّ أو وكيلاً عن محرم، ويستوي في ذلك أن يكون الوكيل ذاته وكيلاً عن إنسان محرم، أو يكون في حال إحرامه كما ذكرنا.

    حكم عقد النكاح إذا قام به المحرم

    قال رحمه الله: [ويحرم عقد نكاح، ولا يصح، ولا فدية].

    أي أنه لو وقع الإيجاب والقبول من المحرم زوجاً أو ولياً فإنه لا يصح، وهذا مذهب طائفة من العلماء، ويركبونه من أن النهي هنا استغرق زماناً لا يصح فيه الإيجاب والقبول، كأن الشرع جعل هذا مدة، إحرام الإنسان إلى أن يتحلل غير صالحة للإيجاب والقبول، فإذا وقع الإيجاب والقبول لم يقع معتداً به شرعاً، وحينئذٍ يكون من اللغو، فوجوده وعدمه على حد سواء، لكن لو عقد وهو محرم وتزوج المرأة ودخل بها وجاء له منها أولاد، فإن هذا يعتبر نكاح شبهة إذا كان يظن أن هذا جائز، ولكن لا يوجب حرمة نسله؛ لأن نكاح الشبهة كما هو معلوم تسري عليه أحكام النكاح الصحيح، ولكن يفسخ ثم يطالب بتجديده بعد ذلك.

    قوله: [ولا فدية].

    أي: أن هذا المحظور ليست فيه فدية، فلو أن رجلاً سألك وقال: عقدت نكاحاً وأنا محرم بحج أو عمرة، فما الحكم؟ تقول له: إن النكاح لا يصح ولا فدية عليك، وإنما عليه الندم والاستغفار والتوبة إلى الله عز وجل.

    حكم مراجعة المطلقة حال الإحرام

    قال: [وتصح الرجعة]:

    أي: إذا كان النكاح لا يصح، والخطبة لا تجوز، حيث لا يجوز للمحرم أن ينكح، ولا أن يُنكح ولا أن يخطب، فالسؤال: لو أن رجلاً طلق امرأته طلاقاً رجعياً، ثم ارتجعها في عدتها، فهل الرجعة تأخذ حكم الابتداء؟

    أولاً -حتى تكون الصورة واضحة-: إذا طلق الرجل امرأته فإن طلاقه لا يخلو من حالتين:

    الحالة الأولى: أن يكون طلاقاً رجعياً.

    والحالة الثانية: أن يكون طلاقاً بائناً.

    فأما الطلاق الرجعي فهو: أن يطلقها الطلقة الأولى، فالشرط فيها: أن تكون الطلقة بعد الدخول، وأن تكون في غير خلع.

    فإذا طلقها طلقة واحدة بعد دخوله بها في غير خلع وفي غير طلاق من القاضي أو من الحكمين -على القول بأن طلاق القاضي والحكمين يوجب البينونة- فحينئذٍ تبقى المرأة في عدتها من الطلقة الأولى، ما لم تضع حملها، أو تستتم الثلاثة الأشهر إن كانت من ذوات الأشهر، أو تمضي عليها ثلاثة قروء إذا كانت من ذوات الأقراء، وخلال هذه المدة يجوز له أن يرتجعها ولو بغير رضاها.

    فلو أن رجلاً طلق امرأته بعد الدخول طلقة واحدة ثم أراد أن يراجعها في أي وقت، فما دام أنها لم تخرج من عدتها، فإنه تصح رجعته وتلزم المرأة بالرجوع بغير رضاها، حتى ولو كان يريد أن يرجعها بدون رضاها؛ لأن الله تعالى يقول: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا [البقرة:228] .

    فمن حقه أن يرتجع زوجته ما دامت في عدتها، وإذا ثبت أن من حقه أن يرتجعها ما دامت في عدتها فهذا يسمى بالطلاق الرجعي، ويقع بعد الطلقة الأولى ويقع بعد الطلقة الثانية، أما لو طلقها الطلقة الثالثة فإنها تبين منه، وتكون البينونة هنا بينونة كبرى؛ لأن الطلاق البائن ينقسم إلى قسمين:

    طلاق بائن بينونة كبرى.

    وطلاق بائن بينونة صغرى.

    فالمطلقة طلاقاً بائناً بينونة كبرى هي التي لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وهذا بينه الله تعالى بقوله: فَإِنْ طَلَّقَهَا [البقرة:230] يعني: الطلقة الثالثة فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230] فنص سبحانه على حرمة ارتجاعه لها، وأنه لا يجوز له أن ينكحها إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره، ويذوق عسيلتها وتذوق عسيلته، كما ثبت في السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    والبينونة الصغرى تقع على صور:

    منها: أن يطلقها قبل الدخول، كأن يعقد على امرأة ثم يحصل بينه وبينها ما يحصل فيقول لها: أنت طالق، فإذا طلقها قبل الدخول فإنها تبين منه بينونة صغرى.

    والفرق بين البينونة الصغرى والكبرى: أن البينونة الصغرى يستحق فيها أن يرتجع المرأة لكن بعقد جديد، ولكن لا يلزمها أن ترجع إليه إلا برضاها، بمعنى أنها لو امتنعت أو امتنع وليها فمن حقها ذلك ولا يستطيع ارتجاعها، على خلاف الرجعية فلا خيار لها.

    ففارقت البينونة الصغرى الرجعية بأن الرجعية يردها على رغم أنفها حتى ولو أبت، وأما في البينونة الصغرى فإنه لا يمتلك ارتجاعها إلا بعقد جديد فهي كالأجنبية، ولكن يجوز له أن يرتجعها.

    والفرق بين البينونة الصغرى والكبرى: أن في الكبرى لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وفي البينونة الصغرى تحل له بعقد جديد ولا يشترط أن تنكح زوجاً غيره.

    وعلى هذا يرد السؤال في هذا النوع من الطلاق وهو الطلاق الرجعي:

    لو أن زيداً من الناس قال لامرأته: أنت طالق، ثم أحرم بحج وعمرة، فأراد أن يرتجعها، فهل يجوز له أن يرتجعها أثناء تلبسه بالإحرام بحج أو عمرة، هذه هي صورة المسألة.

    والجواب: أنه يجوز له أن يرتجعها؛ لأن الاستدامة لا تأخذ حكم الابتداء، فاستدامة المحظور ليست كابتدائه، ومثل هذا أنه يجوز أن يستصحب الطيب في بدنه إذا تطيب قبل إحرامه، كذلك يجوز له أن يستديم النكاح؛ لأنه ثابت قبل إحرامه؛ لأن المرأة الرجعية في حكم المرأة التي في عصمة الإنسان، فإنه حينئذٍ يجوز له أن يرتجعها ولو كان في حج أو عمرة.

    فلو سألك سائل وقال: إن الله عز وجل حرم على المحرم أن ينكح أو يُنكح أو يخطب كما ثبتت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد طلقت زوجتي طلقة واحدة أو الطلقة الثانية، وأريد أن أرتجعها أنا محرم، فهل يجوز لي ذلك؟

    تقول: نعم، يجوز لك ذلك؛ لأن الارتجاع ليس كالعقد، وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم النكاح ولم يحرم الارتجاع، فدل على أنه باقٍ على الأصل الذي يدل على جوازه ومشروعيته، فيجوز له أن يرتجع امرأته.

    المحظور الثامن: الجماع

    قال المصنف رحمه الله: [وإن جامع المحرم قبل التحلل الأول فسد نسكهما].

    هذا المحظور الثامن من محظورات الإحرام: وهو الجماع، وقد حرم الله عز وجل على المحرم ثلاثة أمور في النساء:

    الأول: أن يعقد.

    والثاني: أن يباشر بما دون الفرج.

    والثالث: أن يجامع.

    فهذه ثلاثة محظورات ذكرها المصنف مرتبة، فابتدأ بالعقد ثم أتبعه بالجماع ثم أتبعه بالمباشرة، وأعلاها وأقواها الجماع.

    فالجماع محرم بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، ولذلك قال تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197] ، فحرم الله عز وجل الرفث الذي هو مقدمات الجماع، بل قالوا: إنه أقل ما يقال من الكلمات التي تثير النساء، فإذا حرم الله عز وجل الكلمة اليسيرة التي تثير الشهوة كما نص على ذلك جمهور السلف رحمهم الله فالجماع أولى.

    فسر ابن عباس وعطاء وغيره من تلامذته رحمة الله عليهم جميعاً الرفث، فقالوا: إن المراد بالرفث الكلمات التي تستثار بها غرائز النساء، فلا تحل ولا تجوز للمحرم، فهي من المحظورات؛ فإذا حرم هذا فمن باب أولى الجماع، ولذلك انعقد الإجماع على أنه لا يجوز الجماع في الحج ولا في العمرة، فلو وقع الجماع فلا يخلو من حالتين:

    الحالة الأولى: أن يكون قبل الوقوف بعرفة.

    والحالة الثانية: أن يكون بعد الوقوف بعرفة.

    فإن وقع الجماع قبل الوقوف بعرفة، أي: قبل أن يستتم وقوفه بعرفة وينصرف منها، فإن حجه باطل بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، فمن جامع أهله في يوم التروية وهو محرم بالحج أو جامعهم صبيحة يوم عرفة أو عشية عرفة قبل أن يدفع، فإنه حينئذٍ يفسد حجه.

    وبعض العلماء يقول: ما لم يقف بعرفة، وعلى هذا فإن الجماع إذا وقع قبل استتمام الوقوف والاعتدال به فإنه يعتبر موجباً لفساد الحج.

    وإذا فسد الحج فإنه يلزمه أن يمضي في هذا الحج الفاسد، والدليل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، والحج والعمرة عبادتان لو أفسدهما المكلف ألزم بإتمامهما مع الفساد بإجماع العلماء؛ لأن الله أمر بإتمام هذين النسكين ولم يفرق بين فاسد أو صحيح.

    ولذلك قالوا: من جاء بعمرة ولبى وأحرم ثم بعد الإحرام ولو بلحظة قال: لا أريد العمرة، وأراد أن يفسخ عمرته فإنه يبقى محرماً إلى الأبد حتى يؤدي عمرته؛ لأن الله قال: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، فهذا يدل على أن النسك لا بد من إتمامه على وجهه المعتد به شرعاً، قالوا: فإذا وقع جماعه قبل وقوفه بعرفة فإنه حينئذٍ يحكم بفساد الحج على الأصل، وهذا محل إجماع، ثم يطالب بإتمام وقوفه، والمضي في بقية مناسكه، ثم عليه الحج من قابل وعليه بدنة، وهذا قضاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المجامع.

    قضى به عمر وعلي وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وبه قال أبو هريرة رضي الله عن الجميع، فهؤلاء الصحابة الأجلاء قالوا بهذا، وحكموا به، ولذلك نص العلماء رحمهم الله على أنه لو وقع الجماع قبل الوقوف بعرفة أنه يوجب فساد الحج، وعلى من جامع والمرأة التي جومعت المضي في حجهم الفاسد، ثم عليهم الحج من قابل، يستوي أن يكون جماعه لامرأة تحل له، أو بشبهة كخطأ في الوطء، أو بحرام كزناً، أو نحو ذلك من المحرمات فإنه يعتبر حجه فاسداً وجهاً واحداً عند العلماء رحمة الله عليهم.

    وأما إذا وقع الجماع بعد الوقوف بعرفة فلا يخلو من حالتين:

    الحالة الأولى: أن يكون قبل التحلل الأول.

    والحالة الثانية: أن يكون بعد تحلله الأول.

    فإذا وقع الجماع قبل التحلل الأول فقد أشار إليه المصنف رحمه الله بقوله:

    [وإن جامع المحرم قبل التحلل الأول فسد نسكهما].

    بأن وقف بعرفة، ثم مضى إلى مزدلفة، فوقع جماعه ليلة المزدلفة، فهذا يعتبر قبل التحلل الأول، فاختلف العلماء فيه على قولين:

    القول الأول يقول: إذا وقع الجماع قبل التحلل الأول فسد حجه، وبه قال الجمهور، كما يفسد قبل الوقوف بعرفة.

    والقول الثاني يقول: إذا وقع جماعه بعد الوقوف بعرفة وقبل التحلل الأول فحجه صحيح، وهو مذهب الحنفية.

    والقول: بأن حجه فاسد أقوى، وقد قال الحنفية، حجه صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحج عرفة)، قالوا: فإذا وقف بعرفة ووقع جماعه بعد وقوفه فإننا لا نحكم بفساد حجه، وقد قال عليه الصلاة والسلام لـعروة بن مضرس : (من صلى صلاتنا هذه، ووقف موقفنا هذا، وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه وقضى تفثه) .

    والصحيح ما ذهب إليه الجمهور؛ لأنه إذا كان قبل التحلل الأول فإنه في حكم ما إذا كان قبل الوقوف بعرفة؛ وذلك لبقاء الركن وهو طواف الإفاضة.

    وقد صحح بعض العلماء مذهب الجمهور: أنه إذا وقع جماعه بعد الوقوف بعرفة وقبل التحلل الأول فإن حجه يعتبر فاسداً؛ وذلك لأن الشرع قد جعل هذا التحلل لمعنى، ولذلك يستوي فيه أن يكون الإخلال قبل الوقوف بعرفة أو بعد الوقوف بعرفة؛ لأنه ما وصف بكونه تحللاً إلا وهو مؤثر في حل النكاح، وموجباً لجوازه، فكأن النكاح يتأقّت والجماع يتأقّت بهذا التحلل، فاستوى أن يقع الإخلال قبله مباشرة أو قبل الوقوف بعرفة.

    فمسلك الجمهور من جهة النظر قوي، ولذلك قال الله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29] حتى يحصل التحلل الكامل، فقالوا: إن التحلل ينقسم إلى قسمين:

    تحلل أول، وتحلل عام، وهو الذي يقع بعد طوافه للإفاضة.

    فقالوا: إذا كان الشخص قد وقع منه الإخلال قبل التحلل الأول، فإنه في حكم من جامع قبل الوقوف بعرفة، وهذه المسألة توقفت فيها كثيراً، وكنت لا أفتي فيها لتعارض النظر فيها، ولذلك أحكي فيها مذاهب العلماء على ما ذكره أهل العلم رحمهم الله.

    قال: [ويمضيان فيه ويقضيانه ثاني عام].

    هذا قضاء الصحابة: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم أجمعين.

    المحظور التاسع: مباشرة المرأة

    قال رحمه الله: [وتحرم المباشرة].

    هذا هو المحظور الأخير، أشار إليه رحمة الله عليه بقوله: (وتحرم المباشرة) أي: لا يجوز للمحرم أن يباشر زوجته بتقبيل أو غمز أو نحو ذلك مما يستمتع به من المرأة فيما دون الجماع، لقوله سبحانه: فَلا رَفَثَ [البقرة:197] وهو يشمل الرفث بالقول والرفث بالفعل، لأن النفي المسلط على النكرة يفيد العموم. أي: لا رفث عموماً، سواء كان بقول أو كان بفعل، فلا يجوز للرجل أن يستمتع بامرأته بما دون الفرج على أي وجه كان.

    وقوله: [فإن فعل فأنزل لم يفسد حجه وعليه بدنة ].

    أي: فإن فعل المباشرة، فلا يخلو من حالتين:

    إما أن يفعل المباشرة ولا يقع منه شيء، وإما أن يفعل المباشرة ويقع منه شيء.

    فإن فعل المباشرة ولم ينزل ولم يمذِ فلا إشكال في صحة حجه، وعدم تأثير المباشرة في تلك الصحة، ولكنه آثم، ويعتبر نقصاناً في أجره، وإذا تاب تاب الله عليه.

    ولكن لو باشر فأنزل، فإن الإنزال لذة وهي تقارب اللذة الكبرى بالجماع، ولكن لا يفسد حجه؛ لأن الأصل صحة الحج حتى يدل الدليل على الفساد، وإنما وقع إجماع الصحابة وفتوى الصحابة على الفساد بالجماع، وبقي ما عدا الجماع على الأصل من كون الحج صحيحاً حتى يدل الدليل على الفساد؛ لأن الأركان والشرائط موجودة، فقالوا حينئذٍ: يحكم بصحة حجه؛ لأنه لم يصل إلى الجماع الذي يفسد الحج كما عليه فتوى الصحابة، وعليه العمل، فحينئذٍ يلزمه أن يجبر هذا النقص.

    وقضوا فيه بالبدنة، والأصل أنهم نظروا إلى أن فعل الصحابة رضوان الله عليهم حينما أفسدوا الحج أفسدوه بالجماع، وقضوا بالبدنة حينما نظروا إلى وجود الإنزال غالباً في الجماع، فقالوا: إذا حصل الإنزال فإنه حينئذٍ يلزمه أن ينحر بدنة؛ جبراً لهذا النقص، وهو مبني على النظر، وله أصل من فتوى الصحابة من جهة العلة كما ذكرنا، وبناء عليه قالوا: لا بد من وجود الإنزال، ويستوي أن يكون الإنزال بالمباشرة، وحقيقة المباشرة أن تفضي البشرة إلى البشرة، أو يكون الإنزال بالاحتكاك سواء كان بحلال أو بحرام، فإنه لو تحكك واستثيرت غريزته على الوجه المحظور فإنه حينئذٍ يلزمه ما ذكرنا من جبر النقص؛ لقول من قلنا من أهل العلم، ويختاره المصنف وفقهاء الحنابلة رحمهم الله.

    لو حصل منه إمذاء، والمذي دون الإنزال، وهي القطرات التي تخرج عند بداية الشهوة، فلو باشر امرأته فحصل منه الإمذاء فإنه لا يفسد حجه بالإجماع، ولا يلزمه بدنة، وإنما عليه الندم والتوبة والاستغفار.

    فهذه أحوال:

    الحالة الأولى: أن يباشر ويقع الجماع، وذلك إما أن يكون قبل الوقوف بعرفة أو يكون بعد الوقوف بعرفة، على التفصيل الذي بيناه.

    الحالة الثانية: أن تكون المباشرة بإنزال ولا يقع فيها جماع، فحينئذٍ يبقى الحج صحيحاً ويلزم ببدنة. وقال بعض أهل العلم: إذا وقع هذا قبل التحلل الأول فإنه ينزل إلى الحل ويأتي بعمرة حتى يقع طوافه للإفاضة على صورة معتبرة دون وجود نقص أو إخلال.

    الحالة الثالثة: إذا وقعت المباشرة ولم يحصل بها إنزال ولا جماع، وإنما وقع بها الإمذاء، فإنما عليه التوبة والندم والاستغفار.

    قال: [لكن يحرم من الحل لطواف الفرض].

    فيمضي إلى التنعيم أو يمضي إلى عرفات أو غيرها مما هو خارج عن حدود الحرم ويأتي بعمرة، حتى يقع طوافه في نسك لا إخلال فيه.

    1.   

    الفرق بين إحرام الرجل وإحرام المرأة

    قال رحمه الله: [وإحرام المرأة كالرجل إلا في اللباس].

    أي: إذا علمت هذه المحظورات فإن المرأة يحظر عليها أن تقص شعرها أو تحلقه، وكذلك حلقها للعانة، وكذلك نتفها للإبطين ونحو ذلك، فلا يجوز لها أن تزيل الشعر، ولا يجوز لها أن تقلم الأظفار، وكذلك أيضاً لا يجوز لها أن تتطيب لا في بدنها ولا في ثيابها، وكذلك أيضاً لا يجوز لها الصيد، ولا الإعانة على الصيد، ولا الأكل مما صيد لها إذا كانت محرمة، ولا يجوز لها أن يعقد عليها النكاح، ولا يجوز لها مباشرة الزوج، فكل ما يقال في الرجل يقال في المرأة، إلا أنها في اللباس لا تنتقب ولا تلبس القفازين، فمحظورها في اللباس ينحصر في تغطية وجهها ولبسها للقفازين في يديها.

    والأصل في هذين المحظورين حديث عبد الله بن عمر في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين) رواه البخاري في صحيحه.

    قالوا: نص عليه الصلاة والسلام على أن المرأة لا تنتقب، وإذا كان النقاب تكشف فيه المرأة عن إحدى عينيها لتنظر الطريق أو نحو ذلك محظوراً، فمن باب أولى البرقع فإنه أبلغ من النقاب، فإن النقاب أن تكون ساترة لوجهها ولكنها تكشف عن عينها حتى تنظر في طريق أو نحو ذلك، فقالوا: إن هذا من باب التنبيه بالأدنى على ما هو أعلى منه، والشرع ينبه بالأدنى على الأعلى، وينبه بما هو أعلى على ما دونه من باب أولى.

    وعلى هذا فلا يجوز للمرأة أن تلبس البرقع والنقاب، فكأن الشرع قصد أن لا تستر وجهها بالنقاب ولا ببرقع ونحوه، ولكن إذا مر بها الركب تسدل خمارها؛ لحديث أسماء رضي الله عنها: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا مر بنا الركب سدلت إحدانا خمارها فإذا جاوزنا كشفنا) وهذا هو الأصل، والسدل أن يكون هناك حائل بين الناظر وبين وجهها؛ لأنه حقيقة السدل كما تقول: سدلت الستار ونحو ذلك.

    وكذلك بالنسبة للبسها القفازين لا تلبس قفازين في حال الإحرام، وهذا يدل على مشروعية لبسه في غير الإحرام؛ لما فيه من كمال الستر، ولما فيه من كمال التحفظ من رؤية الأجانب، وهو يدل على أن إحرام المرأة كما يقول الجماهير في وجهها وكفيها.

    ما يحرم على المرأة حال الإحرام

    قال رحمه الله: [وإحرام المرأة كالرجل إلا في اللباس، وتجتنب البرقع والقفازين وتغطية وجهها، ويباح لها التحلي].

    ويباح للمرأة أن تلبس الحلي؛ لأن الأصل جوازه حتى يدل الدليل على تحريمه، ولم يوجد دليل في كتاب الله ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم يدل على تحريم لبس الحلي للمرأة في حال إحرامها، بل ولا في حال حلها، قال الله تعالى: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18] ، فجماهير أهل العلم والسلف في تفسير هذه الآية على أن المراد بها المرأة، ولذلك تغلبها العاطفة فلا تبين خصامها، وقالوا: إن الله تعالى قال: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ [الزخرف:18] ، وقال سبحانه وتعالى: وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [فاطر:12] فامتن سبحانه وتعالى باستخراج الحلي للبس، ولم ينه سبحانه وتعالى عن ذلك ولم يحرمه، ولم يفرق بين محلق ولا غيره.

    وكذلك ثبت في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة في حديث أم زرع المشهور: قالت أم زرع : (أناس من حلي أذني. قالت عائشة : فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت لك كـأبي زرع لـأم زرع )، وثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: أنه لما ندب النساء إلى التصدق يوم العيد، قالت رضي الله عنها: (فجعل النساء يلقين من حليهن وأقراطهن)، فدل على أن هناك ذهباً غير الذهب المتعلق بالقرط وهو قولها: (من حليهن) حيث عممت، وهذا هو الأقوى.

    وقال بعض السلف رحمة الله عليهم كـربيعة الرأي : إنه يحرم لبس الذهب المحلق في حال الإحرام وفي حال الحل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه الوعيد في لبسه كما في الحديث المختلف في إسناده أنه قال: (من أحب أن يسور حبيبه بسوارين من نار فليسوره) قال: فهذا يدل على عدم جواز لبس الذهب المحلق.

    وقد أجاب العلماء: أن أحاديث التحريم أضعف سنداً من أحاديث الحل، وعلى فرض صحتها وثبوتها فإنها لا تقوى على معارضة ما هو أصح منها.

    ثانياً: أنها تعارض الأحاديث التي شهد الكتاب بصحتها واعتبارها، وهي أحاديث الحلي، مع أن ظاهرها أنها كانت في آخر عهده صلوات الله وسلامه عليه؛ لتأخر رواية الصحابة الذين رووها، وقالوا: إنها أقوى وأولى بالاعتبار، حتى قال بعض العلماء: إن هذا يدل على أن التحريم للذهب المحلق كان في أول الأمر، وهذا مسلك يقوله غير واحد من أهل العلم: أنه كان في أول الأمر يحرم لبس الحلي المحلق على النساء، ثم نسخ ذلك وجاءت الرخصة والتوسعة من الله عز وجل.

    والشاهد معنا: أن المرأة لا يحظر عليها لبس الحلي حال الإحرام أو غير الإحرام، وأن هذا لا يعتبر من محظورات الإحرام.

    1.   

    الأسئلة

    حكم شراء المحرم للإماء

    السؤال: علمنا أن عقد النكاح لا يجوز للمحرم، ولكن هل يجوز عقد شراء الإماء والسراري للمحرم؟

    الجواب: يجوز للمحرم أن يشتري الأمة، ولو قصد من ذلك أن يطأها بعد انتهائه من حجه وعمرته؛ والسبب في ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينكح المحرم ولا ينُكح ولا يخطب) وشراء الأمة ليس بنكاح، ولذلك فالأمة لا تعتبر منكوحة؛ لأن ملك اليمين ليس كالنكاح، والإماء إنما هن من السراري ولسن من الأزواج، والحكم إنما هو وارد في الزواج وليس في شراء الإماء، وعلى هذا فإنه يجوز له أن يشتري الأمة، -وهذا ليس موجوداً الآن- وإذا وجد فإنه يجوز له أن يشتري الإماء، وليس هناك نص يدل على حرمته. والله تعالى أعلم.

    حكم الرجوع إلى الميقات عند قضاء العمرة الفاسدة

    السؤال: إذا أبطل المحرم عمرته بالجماع فإنه يتمها ويأتي بأخرى، فهل يلزمه في الثانية أن يرجع إلى ميقاته أم يحرم لها من مكانه؟

    الجواب: البدل يأخذ حكم مبدله، فإذا أفسد عمرته وجبت عليه القضاء من الميقات الذي أحرم منه بالعمرة الفاسدة، وعلى هذا قالوا: كأنه لما أحرم بهذه العمرة وجب عليه إتمامها بالشرط، فلما وجب عليه الإتمام فإننا ننظر إلى كمال العمرة، فإن أفسدها وجب عليه أن يقضي عمرة مثلها، لأن البدل يأخذ حكم مبدله فيحرم من ميقاتها.

    لكن أجازوا أن يكون إحرامه من الميقات الأبعد إذا كان إحرامه للفاسد من الميقات الأقرب، كأن يكون قدم من ميقات السيل، فأحرم بالعمرة الفاسدة أو بالحج الفاسد من ميقات السيل، فحينئذٍ لو أنه أراد أن يحرم بالبدل من ميقات المدينة وميقات رابغ جاز له ذلك، بل قال بعض العلماء: يجوز له أن يحرم من الميقات المساوي، كأن يكون أفسد عمرة من ميقات يلملم فيجوز له أن ينشئ العمرة التي هي محلها من ميقات السيل. والله تعالى أعلم.

    الترجيح بتقديم أقوال النبي صلى الله عليه وسلم على أفعاله

    السؤال: هل يعد من الوجوه المرجحة حديث (لا ينكح المحرم..) على حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن الحديث الأول قول وحديث ابن عباس حكاية فعل، فنقول: القول مقدم على الفعل؟

    الجواب: نعم هذا من المرجحات، توضيح ذلك:

    أنه قد يشكل على بعض طلاب العلم كيف نقول: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على فعله، وهذا أمر يرجع إلى مسألة مهمة عند العلماء، إذا جاء النص بقول أو جاء النص بفعل فالأصل أننا مطالبون بالائتساء والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، لا فرق بين قوله وفعله؛ لأن الله قال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] ، والأسوة: أن نأتسي ونقتدي به صلوات الله وسلامه عليه في أقواله وأفعاله، فحينئذٍ لا فرق بين القول والفعل من جهة أن الله أمرنا وكلفنا أن نأتسي به عليه الصلاة والسلام، لكن الإشكال حينما يأتيك قول يبيح، وفعل يحرم، أو يأتيك القول يحرم والفعل يبيح، فإنه لا بد وأن تنظر؛ لأن القول والفعل صدرا من النبي صلى الله عليه وسلم، فهو الذي قال وهو الذي فعل.

    فحينئذٍ إذا جئت تنظر إلى أقواله حينما يخاطب الأمة ويقول: أيها الناس، ويقول: (لا ينكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب) يخاطب الأمة، فلا تشك في أن هذا عام لجميع الأمة.

    فأنت ترى حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا إشكال فيه -هذا من جهة أحاديث الأقوال؛ لأنها خطاب وتشريع للأمة، لكن إذا جئت إلى أفعاله عليه الصلاة والسلام وجدت أن الله عز وجل قد خصه بأفعال، حتى في باب النكاح الذي اختلف فيه فقد أجاز الله له أن ينكح تسعاً من النسوة، ولم يجز لأمته أن ينكح الواحد فوق الأربع، فتبين أن هناك خصوصيات في أفعاله عليه الصلاة والسلام.

    فأنت تنظر إذا جاءك النصان، وهذا الذي يسميه العلماء: باب التعارض، يأتيك نصان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما من أقواله التي لا تشك أنها تشريع للأمة، والثاني من أفعاله التي يدخلها احتمال التخصيص، فحينئذٍ تترجح كفة القول، وليس المراد أن نسقط أفعال النبي صلى الله عليه وسلم كما يظن البعض، إنما المراد أنك أمام نصين لو جئت تتعبد الله بهما معاً لما أمكن، وإذا أردت أن تتركهما لما أمكن أيضاً، فأنت بين هذه الخيارات الثلاثة: إما أن تقول:

    أعمل النصين، وهذا لا يمكن.

    وإما أن تقول: أترك النصين، وهذا -والعياذ بالله- لا يجوز؛ لأننا مأمورون باتباعه عليه الصلاة والسلام، ولم يرد ما يستثني هذين النصين.

    وإما أن تقول: أعمل بأحدهما وأترك الآخر، وإذا تعارض النصان فلا شك ولا شبهة أن الحكم في واحد منهما، لكن ابتلاء واختباراً من الله لعباده، وحتى ترتفع درجة العلماء فيختلفون ويتناقشون ويناظرون وتخرج الفوائد من هذه النقاشات والمناظرات، فيجتهد العالم الفقيه ويظهر فضل الله على العلماء ومزية ما خصهم به من العلم، فحينئذٍ يظهر الترجيح.

    فتقول: حديث القول خاطب به الأمة، وحديث الفعل احتمل الخصوصية به عليه الصلاة والسلام، فكأنني أرى أن النصين ليسا بدرجة واحدة، مع أن حديث الفعل جاء ما يعارضه، أي: أن الحديث الذي دل على الجواز عارضه الحديث الذي يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن محرماً وإنما كان حلالاً، فإذاً كأنك لا ترى أن الأحاديث استوت كفتها حتى تقول: هي متعارضة، فتقدم أحاديث الأقوال على أحاديث الأفعال لهذه القاعدة.

    ومن أمثلة ذلك أيضاً: حديث النهي عن استقبال القبلة واستدبارها، انظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط) ، فهذا نص قولي واضح من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب به الأمة: ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الاستقبال ولا بين الاستدبار، ولم يفرق أيضاً بين البنيان وغير البنيان، قال: (لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط) .

    وجاء في حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم : (أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبول على لبنتين مستقبل الشام مستدبر الكعبة) .

    فحينئذٍ تقول: عندي قول يخاطبني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنني لا أستقبل ولا أستدبر، ولا يفرق هذا القول بين صحراء ولا بنيان، فأنا أبقى على هذا القول الذي خاطبني فيه، وأما فعله عليه الصلاة والسلام فيحتمل أن الله خصه بهذا، ويقوي هذا أنه لو كان تشريعاً للأمة لما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في الخفاء، ويطلع عليه ابن عمر فجأة بدون أن يعلم النبي عليه الصلاة والسلام وبدون أن يشعر، فهل يعقل أن الشرع يفصل في التفريق بين البنيان والصحراء ولا يُعْلم هذا حتى يأتي ابن عمر وهو حدث صغير يرقى على البنيان؟!

    فحينئذٍ تقوى عندك دلالة القول، فتقول: أنا أبقى على دلالة القول، وما ورد من فعله احتمل خصوصيته به عليه الصلاة والسلام، مع احتمال أن يكون سابقاً للنهي، فلا يخرجني عن دلالة القول، فحينئذٍ أبقى على دلالة القول؛ لأنها أقوى وأرجح.

    فهذا هو مسلك علماء الأصول حينما يقولون: إذا تعارض القول والفعل فإننا نقدم القول على الفعل؛ لأن القول خاطب به الأمة، والفعل يحتمل أن يكون من خصوصياته صلوات الله وسلامه عليه. والله تعالى أعلم.

    حكم المحرم المضطر إذا اجتمع له ميتة وصيد

    السؤال: إذا اجتمع للمحرم صيد وميتة وكان على مخمصة فأيهما يقدم؟

    الجواب: إذا اجتمع للمحرم الصيد والميتة، فحينئذٍ يكون من باب تعارض المحظورين، فإذا جئت تنظر إلى الميتة فإن الله عز وجل حرمها بإطلاق إلا في حال الضرورة، وإذا جئت إلى الصيد وجدت أن الله حرمه في حال الإحرام، والتحريم المؤقت أخف من التحريم غير المؤقت؛ لأن تحريم الميتة بالنسبة لحال الاختيار عام للأزمنة والأمكنة، ولم يستثن الله منه إلا حالة الضرورة والمخمصة، وهو يدل على شدة أمر الميتة.

    وأما المحرم فالصيد في حقه أخف تحريماً من الميتة، وعليه يرجح أكل الصيد على أكل الميتة، وذلك من جهة كون تحريم الصيد مؤقتاً وتحريم الميتة مؤبداً، وهذا وجه للترجيح، فتقدم الميتة على الصيد.

    وهناك وجه آخر يقدم فيه الميتة على الصيد، وتوضيح ذلك: أن الصيد اتصل بحالته، أي: أن تحريمه اتصل بحالته، ولكن تحريم الميتة عمَّ، وجاء حال الخصوصية في الاضطرار، فكأنها أخف من جهة الحال، أي: أن المحرم حرم عليه الصيد بدون تفريق بين كونه مضطراً وغير مضطر، ولكن الميتة حلّت عند الضرورة، فإذا جئت إلى حالته كمحرم تقول: إن الله حرم عليه الصيد، ولم يستثن حال الضرورة، ولكن حرم عليَّ الميتة واستثنى لي حالة الضرورة، فأقبل النص الذي دخله الاستثناء، ولا أفعل ما لم يدخله الاستثناء، فيقوى أن يأكل من الميتة، وكلاهما له وجه، وهذا يسمونه: التعارض.

    وهذا يشكل في بعض الأحيان، ومنه: إذا خرج من بيته وغلب على ظنه أنه لو مشى بقدميه فسيفوته الصف الأول وتفوته تكبيرة الإحرام، فهل الأفضل أن يمشي على قدميه ويفوته الصف الأول وتكبيرة الإحرام، أم أن الأفضل أن يركب سيارته وتفوته فضيلة المشي وتكفير الخطايا والذنوب؟

    قالوا: الأفضل أن يركب ويدرك الفضيلة المتصلة بالصلاة، أعني: كونه في الصف الأول، وكونه يدرك تكبيرة الإحرام، لأن فضيلة الصف الأول وتكبيرة الإحرام متصلة بالعبادة، وفضيلة المشي منفصلة عن العبادة، والتفاضل يدخل في الفضائل وفي المحرمات والمسلك واحد، فإذا جئت تنظر إلى أن تحريم الصيد عليه كمحرم تقول: هذا أقوى؛ لأن الله حرم على المحرم أكل الصيد دون أن يستثني حالة الاضطرار، وأما الميتة فإن الله حرمها عليه واستثنى حالة الاضطرار، فمن جهة حاله تقول: الأفضل أن يأكل من الميتة ولا يأكل من الصيد. والله تعالى أعلم.

    حكم التحلل بأخذ ثلاث شعرات من الرأس

    السؤال: هل يجزئ أخذ ثلاث شعرات من الرأس لمن أراد التحلل بناء على اعتبارها جمعاً؟

    الجواب: مسألة الجمع في الإخلال، وهو أقل ما يصدق عليه الإخلال، لا تستلزم أن التحلل لا يكون إلا بثلاث شعرات، فهناك فرق بين المسألتين، فإن التحلل قال الله فيه: وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ [البقرة:196] وهذا شامل لجميع الرأس من حيث التحلل، وقال صلى الله عليه وسلم: (إني لبدت شعري وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر)، فهذا يدل على تعلقه بالرأس كله، أما مسألة أن أقل الجمع ثلاثة، فهذه تتعلق بأقل ما يقع به الإخلال، وقد قالوا: إذا جز شعرة واحدة فإنه لم يحلق رأسه، لكن إذا وصل إلى أقل الجمع، وهي الثلاث من الرأس، فيصدق عليها أنها شعر للرأس، فكأنه حلق الرأس كله؛ لأن ابتداء الحلق يحصل بأقل ما يصدق عليه الجمع وهو الثلاث، فكأنه إذا حلق الثلاث أو قص الثلاث أو نتف الثلاث؛ كأنه شرع في الإزالة، وفرق بين كوننا نقول: كأنه شرع، وبين أن نقول: قد أزال فعلاً، فهناك فرق بين الابتداء وبين الكمال، وعلى هذا قالوا بأقل الجمع في الإخلالات؛ لأن الشرع قصد أن لا يمس شعره وأن لا يترفه بحلقه أو نتفه أو تقصيره، بخلاف مسألة التحلل فإنه لا بد فيها من تعميم الرأس قصاً وحلقاً. والله تعالى أعلم.

    التوفيق بين سنة الجهر بالتلبية وسنة إخفاء الدعاء

    السؤال: كيف نوفق بين قول النبي صلى الله عليه وسلم حين أمره جبريل عليه السلام بأن يأمر أصحابه أن يرفعوا أصواتهم في التلبية، وبين قوله عليه الصلاة والسلام: (أيها الناس أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً

    الجواب: الأصل في الدعاء وذكر الله عز وجل أن يكون بين العبد وربه، فهو أقرب للإخلاص، وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً) ، فهذا يدل على أن السنة أن يخفض صوته وأن لا يرفعه، هذا أصل عام، وقد ورد التخصيص، والقاعدة: أنه لا تعارض بين عام وخاص، فاستثني منه ذكر الحج بالتلبية؛ لشرف هذه العبادة وفضلها وعظيم ما فيها من التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وكون هذا العبد وافداً على الله وضيفاً على الله، يرجو رحمته ويخشى عذابه، مجيباً لداعيه، فإنه شرف بأن يكون حاله وأن يكون مقاله واضحاً بيّناً للناس، ولذلك حتى الهدي إذا أهدي للبيت فإنه يشعر ويقلد وتكون عبادة واضحة أمام الناس؛ تشريفاً لهذه العبادات وتكريماً، وإظهاراً لحرمات الله وشعائره، ولذلك قال تعالى: وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا [المائدة:2] .

    فشرف الله عز وجل هذه العبادة، حيث إن الإنسان يقدم على بيت الله عز وجل تائباً منيباً يرجو رحمته ويخشى عذابه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في شرف هذه العبادة وفضلها: (من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) ، وهذا يدل على فضل هذه الشعيرة وعلو منزلتها، فكونه يرفع صوته بها فإن هذا لا يقدح في الأصل؛ لأنه لا تعارض بين عام وخاص، كما أن الإمام يجهر بقراءته في صلاته، ونحو ذلك من الأذكار التي شرع رفع الصوت فيها، سواء كان في عبادة مخصوصة أو كان مطلقاً. والله تعالى أعلم.

    حكم التمتع لمن اعتمر في أشهر الحج

    السؤال: من اعتمر في أشهر الحج، فهل يكون التمتع واجباً عليه حتى ولو لم يكن ناوياً لذلك؟

    الجواب: من اعتمر في أشهر الحج ثم حج من عامه فهو متمتع شاء أو أبى ما لم يرجع إلى بلده، أما لو اعتمر ثم رجع إلى بلده أو إلى ميقات بلده أو ما يحاذي ميقاته ثم أحرم بالحج من ذلك المكان، فإن إنشاءه السفر الثاني يسقط عنه دم التمتع، بدليل المكي، فإن المكي لما أحرم بالحج والعمرة من مكة سقط عنه دم التمتع وصح تمتعه.

    فدل على أن التمتع إنما هو بوجود الترفه والتمتع بسقوط السفر الثاني، كأن الإنسان إذا جاء بعمرة في أشهر الحج ثم بقي في مكة ثم أحرم بالحج من ذلك العام كأنه أحرم من دون ميقاته؛ لأنه أنشأ الحج من مكة نفسها، فاستوى أن يكون ناوياً أو غير ناو؛ لأن هذا الدم يجبر النقصان بالرجوع إلى الميقات، لأن الواجب عليه أن يرجع ويحرم بالحج من ميقاته. والله تعالى أعلم.

    حكم الأخذ من الأظافر عند الإحرام لمن أراد أن يضحي

    السؤال: علمنا أن من مسنونات الإحرام تقليم الأظافر وأخذ الشعر، ولكن هل هذا عام حتى لمن أراد الأضحية؟

    الجواب: إذا أراد الإنسان أن يضحي وأراد أن يحج، وكان إيقاعه للإحرام بعد دخول شهر ذي الحجة فإن السنة أن لا يأخذ من شعره ولا ظفره، فلا يقدم السنة المستحبة على النهي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى من دخلت عليه العشر وأراد أن يضحي أن يمس ظفره وشعره، فدل على أنه يترك الشعر والظفر، فكونه يأتي إلى الميقات ويريد أن يصيب السنة بحسن الشرف والهيئة لا يسوغ ذلك، فلا تقدم السنة المستحبة على نهيه عليه الصلاة والسلام؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (وإذا نهيتكم فانتهوا)، فقد نهانا بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فيلزمنا الامتثال، فلا يقص شعره ولا يقلم أظفاره، وحينئذٍ يكون له أجر السنة بالنية. والله تعالى أعلم.

    حكم السعي بين الصفا والمروة في غير حج ولا عمرة

    السؤال: هل يشرع التطوع بالسعي بين الصفا والمروة في غير حج ولا عمرة قياساً على الطواف؟

    الجواب: نص جمع من العلماء رحمة الله عليهم على مشروعية السعي بين الصفا والمروة ولو لم يكن الإنسان في حج أو عمرة؛ لأن الله قال في كتابه بعد ذكره لشعيرة السعي بين الصفا والمروة: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158] فأخبر أنه يشكر عمله، ولا شك أنه عام، وقد جاء بعد ذكره سبحانه وتعالى لشعيرة السعي بين الصفا والمروة: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158] ، فكونه سبحانه يذكر التطوع بعد الحج والعمرة، أي: طف بين الصفا والمروة لحجك وعمرتك، وإن تطوعت خيراً فإن الله شاكر عليم، قالوا: فهذا يدل على أنه يجوز أن يسعى بين الصفا والمروة، ولو لم يكن ذلك في الحج والعمرة. والله تعالى أعلم.

    توضيح قاعدة: (إذا خرج النص مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه)

    السؤال: ما معنى القاعدة التي تقول: إن النص إذا خرج مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه؟

    الجواب: للنص منطوق ومفهوم، المنطوق: هو دلالة اللفظ نفسه من حيث عمومه وخصوصه، فتنص السنة أو ينص الكتاب على حكم، كقوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، تقول: دلت الآية على وحدانية الله بمنطوقها: فوصف الله سبحانه وتعالى نفسه بكونه واحداً، وهذا نص من المنطوق.

    أما بالنسبة للمفهوم -وهو قسيم اللفظ المنطوق- فإنك إذا نظرت إلى لفظ الآية ولفظ الحديث تجد أن اللفظ يدل على معنى يسمى: المنطوق، وتجد خلافه، أي: عكس اللفظ هو: المفهوم.

    ومن أمثلة ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (في السائمة الزكاة) ، فيصدق على البهيمة من الإبل والبقر والغنم إذا كانت ترعى وتسوم، هذا المنطوق، لكن المفهوم هو أنها (إذا لم تكن سائمة فلا زكاة فيها).

    كذلك أيضاً قال تعالى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6] هذا منطوق الآية، وهو أنه إذا بلغ اليتيم، وهو الشرط الأول، وكان رشيداً، وهو الشرط الثاني، فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6] ، إذا بلغ وكان رشيداً يجب دفع المال إليه بمنطوق الآية ونصها، لكن مفهوم قوله: آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا [النساء:6] أنه إن لم تؤانسوا منهم الرشد فلا تدفعوا إليهم أموالهم، فهذا يسمى المفهوم.

    وأقسامه: مفهوم صفة، وشرط، وعلة، ولقب، واستثناء، وعدد، وحصر، وظرف زمان، وظرف مكان، وغاية، هذه عشرة أنواع للمفاهيم: وقد جمعها بعض العلماء بقوله:

    صف واشترط علل ولقب ثنيا وعد ظرفين وحصر إنحيا

    هذه المفاهيم العشرة تعتبر عند العلماء على اختلاف فيما هو حجة منها وما ليس بحجة، فالمفهوم في بعض الأحيان يكون معتبراً وأحياناً يكون غير معتبر، فأنت إذا نظرت إلى قوله: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) ، إذا كنت تعتبر أن مفهوم العدد حجة تقول: إذا كان دون القلتين فإنه يحمل الخبث، وإذا كنت تعتبر أن مفهوم العدد ليس بحجة فتقول قوله: (إذا بلغ الماء قلتين) لا مفهوم له، أي: لا أعتبر له مفهوماً، هذا بالنسبة لمفهوم العدد.

    لكن قوله: إذا خرج النص مخرج الغالب فلا مفهوم له، مثال ذلك: لما قال الله عز وجل: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ [النساء:23] ، المرأة إذا تزوجتها وكانت لها بنت، فهذه البنت تسمى: ربيبة، والغالب في البنت إذا كانت مع أمها أن تتربى في حجر زوج أمها، فهو الذي يرعاها ويقوم عليها؛ لأن والدها قد طلق أمها، أو مات عن أمها مثلاً، ففي هذه الحالة تتربى في الغالب في حجر زوج أمها، وإذا ثبت أن الربيبة في الغالب تتربى في حجر زوج أمها فيكون قوله تعالى: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ [النساء:23]، كأنه خرج مخرج الغالب، فتقول: لا أعتبر مفهومه؛ لأن مفهومه أنها إذا لم تترب في حجره -كأن يتزوج أمها وهي كبيرة- حينئذٍ يجوز له نكاحها كما يقول الظاهرية، لكن الجمهور يقولون: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ [النساء:23] لا مفهوم له؛ لأنه خرج مخرج الغالب.

    ومن أمثله -ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده) فقال: (باتت) والبيتوتة لا تكون إلا بالليل، فتقول: الأمر بغسل اليدين قبل إدخالها الإناء عام، سواء كان مستيقظاً من نوم الليل أو نوم النهار، فيرد عليك الظاهري ومن يقول بالتخصيص فيقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (باتت)، فالحكم خاص بنوم الليل دون نوم النهار، فتقول له: (باتت) خرج مخرج الغالب؛ والقاعدة: أن الغالب في النوم أن يكون في الليل، ولذلك يقولون: إنه خرج مخرج الغالب فلا يعتبر مفهومه.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756398347