إسلام ويب

شرح زاد المستقنع فصل: صلاة الخوفللشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من رحمة الله تعالى بعباده وتيسيره عليهم أنه لم يكلفهم بأداء الصلاة كما هي إذا كان في حال خوف وفزع، بل شرع لهم صلاة الخوف المتضمنة للتيسير والتخفيف، ولها عدة صفات كلها جائزة وصحيحة، وسواء كان الخوف خوف قتال، أو خوفاً من غيره.

    1.   

    أحكام صلاة الخوف

    سبب مشروعيتها

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: وصلاة الخوف صحت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصفات كلها جائزة].

    صلاة الخوف: هي صلاة القتال، وهذه الصلاة شرعها الله في كتابه، وكذلك شرعت بهدي رسوله عليه الصلاة والسلام، وقال بها جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم، وفعلها النبي صلى الله عليه وسلم في مواضع، حتى ذكر الإمام ابن العربي رحمه الله أن لها ثماني عشرة صفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الذي اشتهر في المرويات -كما أشار إليه الإمام أحمد- سبع صفات وردت عن النبي صلى لله عليه وسلم.

    والسبب في صلاة الخوف: أنه لما التقى النبي صلى الله عليه وسلم بالمشركين وكان المشركون يومها بعسفان -كما في حديث أبي عياش الزرقي -، وأصل الحديث في الصحيح عن جابر رضي الله عنه- وكان على المشركين يومها خالد بن الوليد، فصلى المسلمون صلاة الظهر، فلم ينتبه المشركون لغفلة المسلمين فقالوا: لقد أصبنا منهم غرة لو أنّا قتلناهم، فقال بعضهم لبعض: انتظروا فإن لهم صلاة هي أحب إليهم من أهليهم وأولادهم. وهذا يدل على ما كان لصلاة العصر من مكانة في قلوب الصحابة رضوان الله عليهم، فأوحى الله إلى نبيه، وشرعت صلاة الخوف.

    صفات صلاة الخوف

    صلاة الخوف على صفات، لكن سنذكر منها المشروع:

    الصفة الأولى: أن يقسم الإمام الجيش إلى طائفتين، فيكون الجيش صفين: الصف الأول يلي الإمام، والثاني من بعده، ويصلون وهم حاملون للسلاح، فتقام الصلاة وكل واحد معه سلاحه الذي لا يزعجه في صلاته، كالسلاح الذي يدفع به العدو ولا يمنعه من الركوع والسجود، ولا يمنعه من أداء أركان الصلوات:

    وقد اختلف العلماء في حكم حملة سلاحه، فقال بعضهم: يجب عليهم أن يأخذوا السلاح لظاهر قوله سبحانه وتعالى: وَخُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:102] ، فأمر سبحانه وتعالى بأخذ الحذر بأخذ السلاح، وقال تعالى: وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102] ، فكونه يأمر بأخذ السلاح يدل على الوجوب؛ لأن الأصل في الأمر أنه للوجوب، وهذا مذهب الظاهرية وطائفة، وهو أقوى القولين، أنهم يأخذون السلاح.

    فعند انقسام الجيش إلى صفين تقام الصلاة فيصلي الإمام الركعة الأولى، فإذا ركع الإمام ركع معه الصف الأول وبقي الصف الثاني واقفاً، ثم بعد أن ينتهي من الركوع يرفع معه الصف الأول ثم يسجد السجدتين الأوليين من الركعة الأولى والصف الثاني قائم، وهذا وجه في هذه الصفة.

    الوجه الثاني وهو الأقوى: أنه يركع الركعة الأولى ويرفع، فإذا رفع الصف الأول ركع الصف الثاني، وينتظر الإمام بعد الركوع بقدر ما يرفع الصف الثاني، ثم بعد ذلك يهوي للسجود الصف الأول ويبقى الصف الثاني في وجه العدو، فإذا سجد الصف الأول مع الإمام السجدتين قام الإمام بهم، فإذا استتم قائماً نزل الصف الثاني وسجد السجدتين، ثم بعد انتهائه من السجود يقوم فيتقدم الصف الثاني إلى مكان الصف الأول، ويرجع الصف الأول إلى مكان الصف الثاني، فإذا رجع ركع الصف الثاني معه في نفس الركعة الثانية، وبقي الصف الأول الذي كان أولاً وأصبح ثانياً واقفاً في وجه العدو، وهذا من باب العدل، فإذا صلى بهم يعدل بين الطائفتين، فلا يفضل إحداهما على الأخرى، فإذا ركع ورفع ركعت الطائفة التي تليها ثم رفعت، ثم ينزل للسجود وهم وقوف، فإذا سجد السجدتين وجلس للتشهد نزلت الطائفة الثانية وسجدت؛ لأنه في التشهد يكون الصف الأول منتبهاً للعدو، فتسجد الطائفة الثانية ويتشهد بالجميع ويسلم، فهذه الصفة الأولى، وهي التي وردت في حديث عسفان ؛ لأنه في عسفان كان المشركون جهة القبلة، فهذه الصفة في حالة أن يكون العدو في جهة القبلة.

    وهذه الصفة الأولى جاءت في حديث أبي عياش الزرقي، وأصلها في الصحيح.

    الصفة الثانية: وردت في حديث ابن عمر في الصحيحين، وهي مما اتفق عليه البخاري ومسلم ، والظاهر -كما يقول جمع من العلماء-: أنها إذا كان العدو في غير القبلة، فلو كان العدو في الظهر والقبلة في الأمام فإنه يقسمهم طائفتين، فيأمر طائفة أن تحرس في وجه العدو، ويأخذ طائفة ويصلي بهم ركعة، فإذا انتهى من الركعة وسجد السجدة الثانية وقام للركعة الثانية انصرفت هذه الطائفة ولم تسلم وكأنها في غير صلاة، فتنصرف وتقف في وجه العدو وهي في صلاة، ويطول الإمام في القراءة حتى تدركه الطائفة الثانية، فتأتي هذه الطائفة الثانية وتكبر تكبيرة الإحرام وتصف معه ويصلي بهم الركعة الأولى، فإذا انتهى الإمام من هذه الركعة وسجد السجدتين فإنها الثانية بالنسبة له، فيجلس للتشهد فتقوم هذه الطائفة الثانية وتنصرف إلى العدو مثل ما انصرفت الطائفة الأولى، ثم يتشهد الإمام لوحده ويسلم، فترجع الطائفة الأولى وتصلي الركعة الثانية قضاءً، وتكون صلاتهم فرادى، فكلٌ يصلي لوحده ركعة فيتم صلاته، ثم يتشهدون ويسلمون، ثم يرجعون إلى وجه العدو، فتأتي الطائفة الثانية وتصلي أيضاً ركعة كما صلت هذه وينصرفون إلى وجه العدو، فهذه هي الصفة الثانية التي اشتمل عليها حديث عبد الله بن عمر .

    الصفة الثالثة: أن يقسمهم الإمام قسمين، فيصلي بالطائفة الأولى ركعتين تامتين ويسلم ويسلمون معه، ثم يقيم مرة ثانية ويصلي بالطائفة الثانية ركعتين ويسلم بهم، وهذه واضحة لا إشكال فيها، وغاية ما فيها أن الإمام يصلي الصلاة الثانية نافلة ومن وراءه مفترضون.

    الصفة الرابعة: هي مثل الصفة الثالثة، إلا أن الإمام لا يسلم، فيصلي ويتشهد التشهد الأول ويترك الطائفة الأولى تتم التشهد وتسلم وتنصرف وهو في التشهد، ثم للعلماء وجهان في هذه الصفة:

    قال بعض العلماء: يثبت في التشهد حتى يحس بالطائفة الثانية، فإذا أحس بالطائفة الثانية يقوم ويكبر، ولا يكبر إلا بعد حضورها. فهذا وجه.

    الوجه الثاني: تبقى معه الطائفة الأولى، فإذا قال: (الله أكبر) قائماً للثالثة سلموا وقام هو وقرأ الفاتحة وأطال في ذكر الله عز وجل حتى تأتي الطائفة الثانية، فهذا بالنسبة إذا جمع وصارت له أربع ركعات.

    الصفة الخامسة: هي صفة حديث ابن عباس ، وكانت في غزوة ذي قرد، وحديث ابن عباس مشكل عند العلماء، لكن أجاب عنه جمع من الأئمة، فحديث ابن عباس مثل حديث ابن عمر ، وهو أنه يصلى بالطائفة الأولى ركعة فتنصرف إلى العدو وتجزيها عن الركعة الثانية، ويصلي بالطائفة الثانية ركعة وتجزيها عن صلاتها كلها، ولكن هذا الوجه ضعيف على الصحيح.

    الصفة الأخيرة: أن يصلي بسهم ركعة ثم يتمون بأنفسهم، ثم يصلي الركعة الثانية بالطائفة الثانية وتتم لنفسها فيتشهد بها ويسلم.

    فهذه ست صفات في صلاة الخوف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الست الصفات قد تصل إلى اثنتي عشرة صفة، فنفس هذه الست تجعلها في صلاة السفر والحضر، ففي السفر يصلي ركعة، وفي الحضر يصلي ركعتين فتصير اثنتي عشرة، صفة، ثم إذا أدخلت صفات المغرب فيها قد تصل إلى ثماني عشرة صورة، فهذا بالنسبة لصلاة الخوف، وهذا أشهر ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة أدائها.

    1.   

    حكم صلاة الخوف

    صلاة الخوف شرعها الله عز وجل في كتابه المبين، فقال سبحانه وتعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً [النساء:102] ، وهذا يدل على سماحة الإسلام، وعلى حكمة التشريع، وعلى كمال علم الله سبحانه وتعالى ولطفه ورحمته وحلمه بعباده سبحانه وتعالى، فلو أن المسلم كان مطالباً أثناء القتال بفعل الصلاة كما هي لحصل في ذلك من الحرج ما الله به عليم.

    وهذه الصلاة مشروعة في قول جماهير السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وإنما خالف أبو يوسف رحمه الله وقال: صلاة الخوف لا تشرع إلا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله يقول: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ [النساء:102] ، قال: فهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه قد تطرأ أمور من التشريع في الصلاة ففيه معنى ليس في غيره.

    والصحيح أنها تشرع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وبعد زمانه لقوله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] ، وكما أن موجب الترخيص موجود في زمان النبي صلى الله عليه وسلم فهو كذلك موجود في غير زمانه عليه الصلاة والسلام، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الصلاة، وأجمع الجماهير على مشروعيتها، وأنه يشرع فعلها على الصفات التي ذكرنا.

    تفصيل صفات صلاة الخوف حضراً وسفراً

    صلاة الخوف إما أن يكون العدو في وقتها في وجه القبلة، وإما أن يكون في غير القبلة، وإما أن تكون الصلاة سفرية، وإما أن تكون حضرية، وإما أن تكون الصلاة تقصر، وإما أن تكون الصلاة لا تقصر.

    فإذا كان العدو في وجه القبلة فإن القول بأنه يقسم الجيش إلى قسمين أو إلى طائفتين أولى وأحرى، فيقسم الإمام الجيش إلى طائفتين، فيصلي بالطائفة الأولى وينزل بهم ويركع ويسجد، ثم بعد ذلك يرتفع، فتنزل الطائفة الثانية وتصلي وتتم على الصفة الأولى التي ذكرناها، وإن شاء في حال وقوفه في وجه العدو -إن رأى أنه الأرفق بهم- صلى لوحده ركعة كاملة، ويثبت عند قيامه للركعة الثانية، فتقوم الطائفة الأولى وتتم لنفسها، ثم بعد ذلك تتشهد وتسلم، وتأتي الطائفة الثانية وتصلي الركعة التي بعدها.

    وإذا قلنا: إنه يصلي بالطائفة الأولى ركعتين ثم يصلي بالطائفة الثانية ركعتين فلا إشكال إذا كانوا في جهة القبلة، وإذا صلى بهم وسلم من الركعتين الأوليين وصلى بعد ذلك الركعتين الأخريين نافلة فلا إشكال.

    فكونه يصلي بالطائفتين معاً، فتسجد معه الطائفة الأولى دون الطائفة الثانية، أو كونه يصلي بهم ركعتين ركعتين سواء أسلم أم لم يسلم، فكل هذه الصور لا إشكال فيها، وهذا إذا كان العدو في جهة القبلة، وهي أيسر الأحوال.

    وإذا كان العدو في جهة القبلة والصلاة حضرية، فإنهم قالوا: يفعل مثلما يفعل في السفرية، فإن شاء جعلها رباعية مجزأة، وإن شاء جزَّأها ركعتين ركعتين، لكن الأولى أن يجزأها على صفة صلاة السفر تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيصلي بهم الركعة الأولى، ثم يركع بالصف الأول ويسجد، ثم يرفع فيسجد الصف الثاني، ثم بعد انتهائه من الركعة الأولى يدخل الصف الثاني مكان الصف الأول ويرجع الصف الأول إلى مكان الصف الثاني، فيتم بهم الركعة الثانية، ويكون قد عدل بين الطائفتين فيتشهد، فينزل الصف الثاني ويسجد ويتشهد معه، ثم يقوم بهم إلى الركعة الثالثة فيتقدم الصف المتأخر مكان المتقدم كالحال في صلاة القصر، ويتم ذلك بنفس الترتيب، لكن بدل أن يفعلها ركعتين يفعلها أربع ركعات على نفس التقسيم ونفس الصورة.

    وإذا كانت الصلاة حضرية وقلنا إنه لا يسلم، فإنهم قالوا: يبقى على صفة الصلاة التي يسلم فيها من أربع ركعات، فيصلي بالطائفة الأولى أربع ركعات، ثم يصلي بالطائفة الثانية أربع ركعات، إعمالاً للأصل الموجود في صفة صلاة السفر.

    وهكذا الحال بالنسبة لما لو كان العدو في غير جهة القبلة، فأقوى الأقوال إذا كان العدو في غير جهة القبلة أنه يقسم الجيش إلى طائفتين، فيبدأ بالطائفة الأولى ويصلي ركعة كاملة، فإذا قام للركعة الثانية وهم وراءه نووا مفارقته كأنهم فرادى، ويتمون لأنفسهم وينصرفون جهة العدو، ويطوّل الإمام في قراءة الركعة الثانية، فتنصرف الطائفة الأولى بعد انتهاء الركعة التي كانت عليها بمثابة الإتمام إلى وجه العدو، ثم تأتي الطائفة الثانية فتدرك الإمام قد طول في الركعة الثانية وتدخل معه، فإذا انتهى الإمام وركع ورفع وسجد السجدتين يجلس للتشهد، فإذا جلس للتشهد فإن هذه الطائفة تقوم وتتم لنفسها، ويطول الإمام في التشهد، ثم تدركه في التشهد فيتشهد بهم ويسلم، فهذا بالنسبة لما إذا كان العدو في غير وجه القبلة.

    كيفية الصلاة عند هجوم العدو

    المصلون صلاة الخوف في أثناء الصلاة لا يخلون من حالتين:

    الحالة الأولى: أن تمضي الأمور على سلم وارتفاق، أي: لا يوجد ما يسوء أو يضر.

    الحالة الثانية: أن يهجم العدو، فإن هجم العدو عليهم وهم في الصلاة فلا يخلو من حالتين:

    إما أن يكون هجومه يمكن دفعه بالطائفة التي وقفت بإزائه، كأن يكون العدد كافياً لصد العدو، فيبقى الأولون في صلاتهم ولا يشتغلون بالعدو. وإما أن يخشى أو يغلب على الظن أنهم لا يقدرون على العدو فحينئذٍ ينصرفون من صلاتهم ويقاتلونه. وهم في صلاتهم، فيصلون رجالاً وركباناً وهم يضربون بالسلاح، لقوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239] ، فيكبر ويقرأ الفاتحة وهو يضرب العدو، سواء أكان إلى غير القبلة أم إلى القبلة، فهذه رخصة من الله عز وجل وسماحة، وهذا يدل على عظمة هذا الدين، وعلى عظمة أمر الصلاة ، فإنهم في حالة الخوف والخشية على الأنفس ومع ذلك فإن الله عظّم هذه الشعيرة وأمر أن تؤدى، ولذلك عظّم السلف الصالح رحمهم الله الصلاة، وكانوا يستشهدون على تعظيم الله لها بأن الإنسان لا يعذر في تركها حتى في حال المسايفة والمقاتلة.

    كيفية صلاة الخوف في العصر الحديث

    إذا عرفنا صفة صلاة الخوف في القديم، فكيف تصلى صلاة الخوف في العصر الحديث؟

    أما صلاة الخوف في العصر الحديث فإن العصر الحديث لا يمكن معه في بعض الأحوال أن يفارق الإنسان موضعه، بل إنه لو كان على بعض الأجهزة وغفل طرفة عين فربما يدخل العدو من هذه الثغرة، فالأمر جد خطير، وقد يكون في آلة لا يستطيع أن يفارقها، وقد يكون في خندق لو رفع رأسه يقتل.

    فكل إنسان في ثغره وفي موضعه إذا لم يمكنه أن يتحرك بقيام ولا بركوع ولا بسجود، ولم يمكنه أن يؤدي الصلاة على صفتها، فإنه يصلي على أيسر ما يكون، وعلى أقل ما يستطيع من طاقة، وحينئذٍ لو كان في خندقه يضرب العدو فإنه يكبر ويركع ويسجد ولو بالذكر، فإذا كان على سلاحه في وجه العدو كأن يكون مراقباً، بحيث لو غفل لحظة ربما هجم العدو، كما هو موجود في بعض الآلات التي ترصد العدو، فلو كان يراقب بهذه الآلة ولا يمكن أن يفارقها في وقت الصلاة، إذ ربما أنه لو غفل عنها لحظة تدمرت أمة كما هو موجود الآن، فيرخص لمثل هذا أن يصلي ولو كانت عينه على الجهاز، ولو كان يضرب، ولو كان يحرك أصابعه، فيذكر الله عز وجل، فيقول: الله أكبر، ويقرأ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، ويقرأ ذكره وورده على ما هو عليه، ويصلي بالانتقال، كالحال في العاجز عن القيام والركوع والسجود، وذلك متى ما كان الوقت لا يسمح، ولا يمكن لغيره أن يكون في موضعه.

    وهكذا لو كان داخل الآلات كالدبابات ونحوها فإنه يصلي بداخلها، سواء أكان على قبلة أم على غير القبلة، خاصة في حال الهجوم، أو حال دفع الهجوم، فإنها -كما يسميها العلماء- حالة المسايفة، وفي حالة المسايفة قرر العلماء رحمهم الله في القديم أنه يصلي على حالته وهو يضرب بالسيف، فلا فرق بين أن يضرب بسيفه، أو برشاشه، أو بمدفعه، أو بقنابله، كل ذلك سائغ؛ لأن المراد المحافظة على النفس والنكاية بالعدو، فيصلي على حالته بشرط أن لا يمكنه إلا ذلك، وبشرط أن يكون وقت الصلاة لا يسع إلا لهذا، أما لو أمكنه أن يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها ثم يصلي على صفتها فيلزمه ذلك ويجب عليه.

    حمل السلاح في صلاة الخوف

    [ويستحب أن يحمل معه في الصلاة من السلاح ما يدفع به عن نفسه ولا يثقله كسيف ونحوه].

    مذهب الجمهور أن حمل السلاح للطائفة الأولى والثانية مستحب.

    والصحيح والأقوى هو مذهب الظاهرية وطائفة من أهل الحديث ويقول به جمع من الفقهاء، وهو أن حمل السلاح واجب؛ لأن الغالب أن العدو يتربص، والله سبحانه وتعالى نبه على هذا، ولما ورد الأمر بأخذ السلاح وحمل السلاح فالأصل في هذا الأمر أن يبقى على ظاهره حتى يدل الدليل على صرفه عن هذا الظاهر، ولذلك لا بد من حمل السلاح، وحمل أقل ما يدفع به العدو من رشاش، أو نحو ذلك من الأسلحة التي يمكن أن يدفع بها العدو لو هجم عليهم، وهكذا لو كان الموضع الذي يصلي فيه يوضع فيه من الآلات والأجهزة ما يمكن به الدفع عند مباغتة العدو، فبعض الأجهزة الآن لا يمكن حملها على جسد الإنسان، كالرشاش الكبير أو نحو ذلك، فيمكن أن يصلي وهو بجواره، بحيث لو دهم العدو يدفعه، أما أن يتركه في موضعه ويتباعد عنه فإن هذا يخالف نص القرآن لقوله تعالى: وَخُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:102] ، فليس من الحذر أن يترك الإنسان سلاحه ومع غلبة الظن بأن العدو يتربص، والله سبحانه وتعالى يقول: وَخُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:102]، فليس من الحذر ذلك، فكونه يأمر بحمل السلاح ثم يقول: وَخُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:102]، يدل دلالة واضحة على أن الأمر بحمل السلاح على الوجوب، وهذا من القوة بمكان.

    حكم صلاة الخوف في القتال المحرم، وحكمها لطائفة من الجيش

    ذكر المصنف صلاة الخوف، لكن هذه الصلاة لا تشرع إلا بشرط أن يكون القتال مشروعاً، أما لو كان القتال محرماً فلا، فإن الرخص لا تستباح بالمحرمات، فلو كان القتال قتال بغي، كأن يخرج إنسان باغٍ على المسلمين، أو معتدٍ على المسلمين، أو مفارق جماعة المسلمين -والعياذ بالله-، فمثله لا تشرع في حقه صلاة الخوف.

    ثم إن صلاة الخوف لا يشترط فيها أن يصليها كل الجيش، فلو أن طائفة صلت صحت صلاتهم، ولو أن طائفة من المسلمين نزلوا في موضع وطلبهم عدو فإنهم في حكم الجيش، فإذا كانوا ستة أنفار فإنه يقسمهم إلى قسمين: ثلاثة في وجه العدو وثلاثة يصلون معه، ولو كانوا أربعة فإنه يقسمهم، فتكون اثنان في وجه العدو واثنان معه، وقيل: لا يكون المصلون أقل من أربعة، لقوله تعالى: فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء:102] ، ولكن قال بعض العلماء: إن قوله تعالى: فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء:102] خرج مخرج الغالب في قتال العدو، وهو أنه لا يكون عددهم أقل من الطائفة، وهي من الثلاثة إلى العشرة. ولذلك قالوا: أقل ما تنقسم عليه الصفوف ثلاثة. وعلى هذا فكأنهم يقولون: صلاة الخوف لا تشرع لأقل من ستة؛ لأنه لا يمكن قسمهم إلى صفين، ولكن إذا كانوا ثلاثة ثلاثة فيمكن أن يكونوا طائفة مع الإمام.

    والصحيح أنه يمكن أن تكون صلاة الخوف بناء على وجود الوصف الغالب، والقاعدة أن النص إذا خرج مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه. فذكر الطائفة هنا خرج مخرج الغالب، فلو فرضنا أن سبعة خرجوا في مهمة في أرض العدو ثم حضرتهم الصلاة، فإنه يشرع لهم أن يصلوا صلاة الخوف.

    ولا يشترط في صلاة الخوف أن يصليها الجيش بعامته، بل لو كان بعض الجيش على ثغر من الثغور وعددهم عشرة أو اثنا عشر، فيمكن أن يصلوا صلاة الخوف بهذه الصفة، فلا يشترط فيها أن يصليها الجيش بكماله.

    حكم صلاة الخوف في غير خوف القتال

    في حكم الخوف في القتال الخوف بغير القتال الذي يكون في الغزوات وغزو الجيوش، فلو كان إنسان مطلوباً من إنسان آخر يريد أن يأخذه، أو أن قوماً بغاة أو قطاع طريق هجموا على طائفة من المسلمين، فإن هؤلاء المظلومين من هؤلاء الذين هجموا عليهم يشرع لهم أن يصلوا صلاة الخوف، فلا يشترط أن يكون في جهاد الدفع أو جهاد الطلب، بل حتى إذا خشي الإنسان على نفسه فإنه يصليها.

    وهنا مسألة، وهي صلاة المطلوب، ومثالها: طلبك عدوك وأنت على دابتك، فلو نزلت تصلي أدركك العدو وغلب على ظنك أنك تهلك، فهذه المسألة اختلف فيها العلماء.

    والمطلوب هو الذي طلب بالظلم، أما لو طلب بحق فلا، فالمطلوب: هو الذي يخشى على نفسه لو نزل وصلى الصلاة على صفتها في الأرض أن يدرك، فأصح الأقوال في المطلوب أنه يصلي على حالته، فلو كان على سيارة فإنه يصلي ويومئ على قدر ما يستطيع، ولو كان على فرس أو على بعير فإنه يصلي ويومئ على قدر حالته، وهكذا لو فر بقدميه فلو توقف فسيدركه العدو، فإنه يصلي وهو يعدو على حالته، وهكذا لو فر على سيارته، أو فر على دابته، وهذا كله من رحمة الله عز وجل ولطفه بعباده، فالحمد لله على سعة رحمته، والحمد لله الذي جعل هذا الدين دين تيسير لا دين تعسير، وجعل فيه من الخير والرحمة واليسر على عباده، فالحمد لله على هذا الفضل العظيم.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756230311