إسلام ويب

شرح زاد المستقنع فصل: صلاة المسافر [1]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • السفر مظنة لوجود المشقة والتعب، والله سبحانه وتعالى رحيمٌ بعباده، ومن رحمته أن خفف عليهم الصلاة في السفر، فشرع للمسافر قصر الصلاة الرباعية، والجمع بين الصلاتين.

    1.   

    صلاة المسافر

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فقد ذكر المصنف رحمه الله باب صلاة الجماعة، وبين الأحكام المتعلقة بصلاة الجماعة والمسائل التي تندرج تحت هذا الباب.

    ثم بعد ذلك عقد فصلاً في آخر باب صلاة الجماعة في الأعذار التي تُسقط عن المكلف الجمعة والجماعة، ثم بعد أن انتهى من الأعذار شرع في باب صلاة أهل الأعذار، وذكر صلاة المريض، ثم انتقل إلى صلاة المسافر، وهذا الترتيب فيه تسلسل في الأفكار، ومراعاة لما تتضمنه هذه الفصول من معان شرعية.

    وذلك أن التخفيف في الشرع يكون فيه شيء من الإسقاط، وهذا الإسقاط تارة يكون لذات العبادة، بحيث تسقط العبادة عن المكلف، وهذه أعلى درجات الإسقاط في العبادات، وتارة يُخفف عنه في هذه العبادة ولا تسقط عنه، وهذا التخفيف بالنسبة للصلاة، أما بالنسبة للرخص عامة فلها تقسيمات أخر واعتبارات أخر، لكن التخفيف في الصلاة إما إسقاط للصلاة، وإما تخفيف في الأركان، وإما تخفيف في الشروط، كما سنبين إن شاء الله.

    فابتدأ رحمه الله بالفصل الذي قبل صلاة أهل الأعذار، وهو سقوط الجمعة والجماعة، فهذا إسقاط كلي لعبادة الخروج إلى الجمعة وشهودها، وكذلك صلاة الجماعة.

    وبعد أن انتهى من التخفيف بالإسقاط شرع في التخفيف الجزئي، وهو التخفيف في هيئة الصلاة، فابتدأ بالتخفيف في أركانها بعذر المرض، ثم شرع في التخفيف في ذات الصلاة من حيث الأعداد، وذلك في صلاة المسافر، فإن الشرع خصص بعذر السفر عدد الصلوات، وذلك في الرباعية وحدها، فجعل الرباعية تقصر إلى ركعتين، وهذا نوع من التخفيف، وهو التخفيف في أعداد الصلاة.

    وأما التخفيف في شروط الصلاة؛ فكاستقبال القبلة بالنسبة للمصلي في السفر، فقد خفف الشرع عنه لو كان على راحلته بأن يصلي حيثما توجهت به، وكذلك التخفيف على المريض الذي به سلس بول فإنه يخفف عنه في شرط الطهارة، وكذلك بالنسبة للنجاسة التي يحملها يخفف عنه.

    فالتخفيف إما بإسقاط الصلاة، أو بالنقص من أعدادها، أو بالتخفيف في أركانها وشروطها.

    معنى السفر وسبب تسميته

    السفر في لغة العرب: مأخوذ من قولهم: أسفر الشيء: إذا بان واتضح. ومنه قولهم: أسفر الصبح: إذا بان ضوؤه واتضح. وسمي السفر سفراً لمناسبات، فقيل: لأن الإنسان يُسفِر، بمعنى أنه يَبِيْن عن العمران، فإن المسافر يبِيْن عن القرى والأمصار والمدن، فينفرد عنها ويبِيْن منها.

    كما سمي بذلك لأن فيه معنى الوضوح، وذلك أنه يسفر عن حقيقة الإنسان من ناحية صبره وضعفه وجلده وخوفه وقوة شكيمته.. إلى غير ذلك من أخلاقه.

    ولذلك قالوا: سمي السفر سفراً لأنه يسفر عن وجه صاحبه، وفي سنن البيهقي لما شهد الشاهد عند عمر قال له عمر : إني لا أعرفك، فاذهب وائتني بمن يزكيك. فجاءه برجل فقال عمر للرجل: أتعرفه؟ قال: أعرفه بالعدالة والأمانة. قال: أهو جارك الذي تعرف مدخله ومخرجه؟ قال: لا. قال: أعاملته بالدينار والدرهم الذي يعرف به صدق الرجل من كذبه؟ قال: لا. قال: أسافرت معه؟ قال: لا. قال: لا تعرفه. ثم قال للرجل: اذهب وائتني بمن يعرفك.

    فالسفر من حيث هو يعين على معرفة حقيقة الإنسان ويسفر عن وجهه.

    والسفر له ضوابط معينة، فلا يحكم بكون الإنسان مسافراً إلا بها.

    أحوال المسافر

    لا يخلو الإنسان الذي يريد أن يخرج للسفر من حالتين:

    الحالة الأولى: أن يكون مستقراً في بيته ناوياً السفر، فيكون السفر في باطنه -أي: في نيته-، ويكون ظاهره أنه غير مسافر.

    الحالة الثانية: أن يخرج من بيته.

    فإذا كان في بيته ناوياً السفر فإنه ليس بمسافر في قول جماهير العلماء حتى يخرج من البلد، فإن خرج من البلد فإنه يحكم بسفره على التفصيل الذي سنذكره، وهذا قول جماهير السلف رحمة الله عليهم من الصحابة والتابعين، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم رحمة الله على الجميع.

    فلو أصبحت فنويت الخروج إلى بلد ما بعد الظهر، فإنك -على هذا القول- لست بمسافر حتى تخرج، فلا يكفي باطنك حتى يجتمع مع الباطن دليل الظاهر على السفر.

    وذهب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -وهو رواية عن عطاء، وقال به موسى بن سليمان- إلى أنه يحكم بكونه مسافراً بالنية، فلو نوى السفر فإنه يأخذ برخص السفر وهو في البلد.

    مثال ذلك: لو أنه نوى السفر بعد الساعة الحادية عشرة ولم يخرج إلا بعد الثانية فإنه سيؤذن عليه الظهر وهو في بيته، وحينئذٍ قالوا: يصلي ركعتين. وهكذا لو كان صائماً يجوز له أن يفطر في بيته قبل أن يخرج.

    وهذا القول مرجوح، والصحيح ما ذهب إليه الجماهير لدلالة الكتاب والسنة على ذلك.

    أما دلالة الكتاب فقوله تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النساء:101]، فقوله : إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ [النساء:101] يدل على أنه شرع وضرب في الأرض، ولا يكون ذلك إلا بالخروج.

    وقوله سبحانه وتعالى في شأن الصوم : فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ [البقرة:184]، ولا يمكن أن نحكم على الإنسان بأنه على سفر إلا إذا كانت صورته تدل على أنه مسافر، وبناءً على ذلك فظاهر التنزيل على أنه لا يكون مسافراً إلا إذا ضرب في الأرض.

    وأما دليل السنة -وهو أقوى الأدلة- فحديث أنس الثابت في الصحيحين، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعاً، والعصر بذي الحليفة ركعتين، فإنه قد كان نوى حجة الوداع عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك لم يترخص برخص السفر إلا بعد أن خرج إلى ذي الحليفة.

    وهذا يدل على أن نية السفر لا تكفي في ترخُّص الإنسان بالرخص.

    وأما ما أُثر عن الصحابة فإنهم إذا قالوا: (إنها السنة) تردد ذلك عند جماهير العلماء رحمة الله عليهم بين أن يكون الصحابي فاهماً لها أنها السنة، وبين أن تكون من صريح فعله عليه الصلاة والسلام.

    فلما جاء فعله يخالف ما فعله هؤلاء الصحابة -مع أنهم عزَوا ذلك إلى السنة- فهِمنا أنه فهمهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

    فإذا تبيَّن لنا أن من كان ناوياً للسفر لا يترخص إلا إذا خرج، فحينئذٍ لا يخلو الذي يريد أن يخرج للسفر إما أن يكون في المدينة، بمعنى أن يكون داخل المدن والقرى -أي: البناء والعمران- وإما أن يكون في البر، كأهل العمود والخيام في البادية، فخيمته هي منزله ومكانه.

    فإن كان في البلد والعمران فإنه لا يُحكم بكونه مسافراً، ولا يَتَرخَّص برخص السفر إلا إذا خرج من آخر العمران، وهي البيوت، فإذا انقطع عن البيوت فحينئذٍ يصدق عليه أنه سافر.

    وبناءً على ذلك لا تخلو المدن من حالتين:

    الحالة الأولى: أن يتصل بناؤها ويكون حد نهايتها معروفاً، كأن تكون بيوتاً متصلة آخرها محدود، فإذا بلغ هذا الآخر وبعده تنقطع الأرض فإنه مسافر.

    فهذه الحالة لا إشكال فيها، فيحكم بأنه أنه مسافر بمجاوزته لآخر بيت من العمران، فلو أذَّن عليه الظهر بعد مجاوزته آخر بيت من العمران فإنه يصليها ركعتين.

    ولو أذن عليه الظهر قبل أن يخرج من آخر بيت من العمران -كأن يقف عند إشارة، أو يقف عند المحطات يريد أن يتزود منها، أو يأخذ زاده من طعام أو غير ذلك- فإن قلنا: العبرة في الصلوات بالأذان فإنه يجب عليه أن يصلي أربعاً؛ لأنه لما أذن للصلاة وهو داخل العمران توجه عليه الخطاب أن يصلي الظهر أربع ركعات.

    وعلى هذا لا تسقط عنه لكونه لم يتلبس بالسفر بعد.

    الحالة الثانية: أن تتصل المباني ويكون وراءها خراب، كما يقع في بعض المدن، حيث تكون المباني المعمورة والتي فيها السكان متصلة، ثم بعد ذلك تأتي خرابات، أو بساتين مهجورة، أو نحو ذلك، فللعلماء وجهان:

    قال بعض العلماء: هذه البيوت الخربة في حكم العامر ولا يترخص حتى يجاوزها. واختاره جمع من العلماء، وهو مذهب الحنابلة.

    القول الثاني: يترخص بانقطاع العمران، ولو دخل في الخرابات ونحوها فإنه مسافر. وهذا مذهب الشافعية رحمة الله على الجميع.

    والصحيح أنه إذا انقطع العمران فقد أسفر وصار مسافراً؛ لأن هذا الخراب لا يُعتد به، وليس في حكم العامر.

    وبناءً على ذلك يكون في العمران التفصيل، فإن اتصل فلا إشكال، وإن كان هناك خرابات فالعبرة بمجاوزة العمران، ولا تأثير للخراب في إسقاط الركعتين.

    وأما إذا كان في البادية، كأن يكون عنده خيمة، فلا يخلو من حالتين أيضاً:

    الحالة الأولى: أن تكون خيمته متصلة بفريق، وهم القوم والجماعة الذين ينزلون مع بعضهم، كأبناء عمٍ وقبيلةٍ ونحو ذلك، فالعبرة بآخر الخيام حتى يجاوز آخر خيام محلته، بشرط أن تتصل خيمته بهم.

    الحالة الثانية: أن تكون خيمته منفردة، فإنه بخروجه من خيمته يكون مسافراً ويَترخص برخص السفر.

    وفائدة ذلك أنه إذا قلنا: إن العبرة بمجاوزة آخر الخيام، فإنه لو أذَّن الظهر وقد جاوز آخرها وجب عليه الظهر ركعتين، وأما لو أُذن قبل أن يجاوز آخرها فقد وجب عليه أن يصلي الظهر أربعاً.

    وهكذا الحال لو كانت الخيام متفرقة، فإننا نقول: بمجرد خروجه من خيمته يأخذ برخص السفر.

    وهكذا لو كانت خيمته ليس بجوارها أحد، فإنه بمجرد ركوبه على دابته -كما يقول العلماء- أو بمجرد أخذه في الطريق يُحكم بكونه مسافراً، ويأخذ برخص السفر.

    أنواع السفر

    يقول العلماء: السفر تعتريه الأحكام الخمسة، فيكون واجباً، ومندوباً، ومباحاً، ومكروهاً، وحراماً.

    فيكون السفر واجباً إن اشتمل على واجب، كسفر حج الفريضة، وكذلك السفر لبر الوالد والوالدة، فلو أن الوالد أمر ولده أن يأتيه في مدينته والولد في مدينة أخرى، وليس عند الولد عذر يمنعه من السفر وجب عليه أن يسافر، ولزمه برُّ أبيه بالسفر، فهذا السفر يكون واجباً.

    وهكذا بالنسبة للسفر الذي يكون الإنسان فيه يؤدي أمراً واجباً عليه، فإنه يعتبر من الأسفار الواجبة.

    ويكون السفر مندوباً ومستحباً لو اشتمل على أمر مندوب ومستحب كحج النافلة والعمرة، فهذا مندوب ومستحب، فإنه إذا سافر يقال: هذا سفر مندوب.

    ويكون السفر مباحاً إذا انتفت فيه الدوافع، سواءٌ أكانت للنّدب أم للوجوب، وانتفت فيه الموانع، سواءٌ أكانت للتحريم أم للكراهة، ومن أمثلته: السفر للتجارة، فإنه يعتبر من المباحات، وهكذا السفر للنزهة، فإنه يعتبر من الأسفار المباحة.

    ويكون السفر مكروهاً إذا اشتمل على أمر مكروه لا يصل إلى درجة الحرمة، فلو أنه سافر على وجه لا يتضمن الحرام، كما لو كان مشتغلاً بطلب العلم، وهذا السفر يشغله عن طلب العلم فإنه يكون في حقه مكروهاً إذا اتصل هذا السفر بما يوجب شغله عن طلب العلم.

    ويكون حراماً إذا تضمن أمراً محرماً، كسفره -والعياذ بالله- للزنا، أو لشرب خمر، أو لقطع طريق، أو عقوق والدين، ونحو ذلك، فهذه خمسة أحوالٍ للسفر.

    فإذا كان سفره مباحاً جاز له أن يترخص، وإذا كان مندوباً جاز له أن يترخص؛ لأن المندوب فيه الإباحة وزيادة، وهكذا إذا كان واجباً؛ لأن الواجب فيه الإباحة وزيادة.

    ففي هذه الثلاثة الأحوال يجوز له أن يترخص برخص السفر.

    أما لو اشتمل سفره على معصية كأن يسافر لقطع طريق، أو عقوق والدين -والعياذ بالله- فإن هذا السفر المحرم قد اختلف العلماء فيه على قولين:

    القول الأول يقول: إن السفر المحرم لا يحل لصاحبه أن يترخص فيه، فيجب عليه فيه أن يُتِم الصلاة أربعاً، ولا يأخذ برخص السفر. وهذا مذهب الجمهور رحمة الله عليهم.

    القول الثاني: من سافر سفر معصية يجوز له أن يترخص. وهو مذهب الحنفية، واختيار بعض المحققين من العلماء رحمة الله على الجميع.

    أما من قال: إنه لا يترخص فإنه يحتج بقوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ [البقرة:173] قالوا: إن الاضطرار شرطه أن لا يكون بغياً ولا عدواناً، ولذلك لما فسر حبر الأمة وترجمان القرآن هذه الآية قال: غير قاطع للطريق وذكر المحرمات.

    فكأنه يرى أنه إذا كان باغياً أو عادياً لا ضرورة له فلا رخصة له.

    قالوا: وهذا حبر الأمة وترجمان القرآن وقد فسر كتاب الله عز وجل، وهو المدعو له أن يُفقَّه في الدين، وأن يُعَلَّم تأويل الكتاب، فقصر الرخص على انتفاء وجود البغي والعدوان، فهذا أولاً.

    ثانياً: أن السفر إذا أُطلق في الشرع ينبغي أن يتقيد بالمعروف شرعاً، والمأذون به شرعاً؛ لأنه لا يعقل أن الشرع يأذن له بالرخصة مع كونه يمنعه من السفر، فيعتبر السفر من وجهٍ ويحرمه من وجه.

    قالوا: فهذا شيء من التناقض، فلما كان هذا السفر غير مأذون به شرعاً لم تتصل به الرخص؛ لأنه مأمور بإلغاء هذا السفر، فكيف يباح له أن يترخص فيه؟

    والعجيب أن هذا القول من القوة بمكان من جهة الأصل؛ فإن القاعدة تدل على أنه إذا شك في الرخصة فإنه يرجع إلى الأصل، والأصل أن الإنسان يجب عليه أن يصلي أربعاً بناءً على أنه مقيم.

    ولا نعني بالأصل ما سبق التشريع من كون الصلاة فرضت ركعتين ركعتين، فهذا أصل الوصف وليس له تأثير في الاستدلال، وإنما نعني أن الأصل فيه أنه مقيم.

    ولما شككنا هل هذا السفر سفر رخصة أو ليس برخصة رجعنا إلى الأصل من كونه مطالباً بفعل الصلاة أربعاً.

    وأما الذين قالوا: إنه يقصر فقالوا: إن الله عز وجل أطلق فقال: إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ [النساء:101]، ولم يفرق بين كونه ضرباً بسفر مباح، أو ضرباً بسفر محرم. وهكذا قالوا: إن الأدلة التي وردت في القصر مطلقة، والأصل في المطلق أن يبقى على إطلاقه.

    وقد ناقش الجمهور هذا فقالوا: إن المطلق في الشرع مقيد بالمعهود، فنحن نعني بالسفر ما أُذن به شرعاً، فحينئذٍ يستقيم التقييد بما عرف شرعاً.

    والنفس تميل إلى أنه يُحتاط، فالسفر القائم على المعصية لا يُتَرخص فيه ما أمكن؛ إعمالاً للأصل الذي ذكرناه، وإعمالاً لقوله عليه الصلاة والسلام: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)؛ فإن أقل درجاته الشبهة، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه.

    وعلى هذا فإنه يتم الصلاة ويبقى على الأصل الذي أوجبه الله عز وجل عليه، كما قال جمهور العلماء رحمة الله عليهم.

    وهناك أمر ينبغي التنبه له، وهو أن العلماء رحمة الله عليهم فرقوا بين كون السفر سفر معصية، وكونه سفراً تُفعَل فيه المعصية.

    فالمعصية في السفر كأن يسافر لأمر مباح، ثم يفعل معصية أثناء سفره، فهذا لا يشمله هذا الحكم، فلو أن إنساناً سافر لقصد التجارة ثم -والعياذ بالله- زنى أثناء سفره، أو شرب الخمر، فإن هذا لا ينطبق عليه ما ذكرناه؛ لأنه ما خرج أصلاً لفعل الحرام، وإنما خرج للمباح وهو التجارة.

    ولو أنه سافر للمباح ولفعل الحرام، فإنهم قالوا: يأخذ حكم من سافر للحرام أصلاً.

    1.   

    الأسئلة

    الجمع بين عدم الإذن للأعمى بالتخلف عن الجماعة والإذن بالتخلف لعذر المطر ونحوه

    السؤال: كيف نجمع بين مشروعية التخلف عن صلاة الجماعة لعذر خوف الضرر الشديد حال المطر والوحل والريح الشديدة، وعدم إذن النبي صلى الله عليه وسلم للأعمى الكبير في السن بالتخلف عن صلاة الجماعة بعد أن سمع النداء؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

    فإن العلماء رحمهم الله أخذوا من حديث ابن عمر الثابت في الصحيح أن المؤذن إذا بلغ حي على الصلاة حي على الفلاح قال: الصلاة في الرحال.

    فأخذوا من إذن الشرع بالصلاة في الرحال وسقوط الجماعة مع وجود المطر دليلاً على أنه إذا وُجِدت المشقة بالريح الشديدة في الليلة المظلمة فإنه يترخص بترك الجماعة، وهذا معنىً صحيح.

    وأما حديث الأعمى الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أتسمع النداء؟) قال: نعم. قال: (فأجب)، وفي رواية أخرى: (ما أجد لك رخصة) فقد قال العلماء فيه: سماعه يدل على قربه، ولذلك أمره بشهود الجماعة لمكان القرب.

    ثم إنه إذا حضر ليست هناك ريح شديدة، فإن الريح الشديدة تعيق الإنسان وتدفعه عن المضي إلى المسجد وإلى شهود الجماعة، بخلاف العذر الذي هو مطلق، كقول الأعمى رضي الله عنه (تكون الظلمة والسيل والمطر)، فإنه لا يدل على سقوط الجماعة بعد وجوبها.

    ولبعض العلماء رحمة الله عليهم من المتأخرين جواب آخر لو صح لكان أقوى، حيث قالوا: الذي يظهر أن حديث الأعمى متقدم، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط الصلاة بعذر المطر فقال: الصلاة في الرحال. لأن الأعمى قال: (إنه تكون الظلمة والسيل والمطر، وليس لي قائد يقدوني)، فكانت عزيمة في أول الأمر، ثم جاء التخفيف، فيكون من نسخ الأثقل بما هو أخف.

    وهذا القول لو صح فثبت أن التخفيف بالمطر ونحوه متأخر، وثبت ما يدل على التأخر فلا شك أنه يزيل الإشكال. والله تعالى أعلم.

    موضع جواز جمع الصلاة للمسافر

    السؤال: نويت السفر قبل صلاة الظهر، ولم أخرج من بيتي إلا بعد الظهر، فصليت الظهر أربعاً مع جماعة، فهل أصلي العصر جمع تقديم، مع العلم أن صلاة العصر تدركني وأنا في الطائرة، ولا تهبط إلا بعد خروج الوقت؟

    الجواب: بعض العلماء يقول: إنه لا يترخص بالجمع إلا بعد الخروج من المدينة. وهذا -مثلما ذكرناه- على ظاهر نص الكتاب والسنة، فالمسافر لا يترخص إلا بعد الخروج من العمران.

    وعليه فإنه لا يحق له أن يجمع ما دام داخل مدينته حتى يخرج ويبرز إلى العمران، فحينئذٍ يجوز له أن يترخص بالجمع، والله تعالى أعلم.

    التفصيل في كمية تناول الطعام عند حضور وقت الصلاة

    السؤال: هل يكون الأكل عند حضرة الطعام بمقدار ما تنكسر نهمته، أو له أن يشبع؟

    الجواب: من حضرته الصلاة وحضره الطعام فإنه إما أن يمكنه أن يكسر شهوته ونهمة نفسه، ثم يدرك الجماعة، ولا يفسد الطعام بحيث يعود ويتمه، فإنه حينئذٍ يفعل ذلك إعمالاً للأصل، وبكسره لشهوة نفسه يزول المعنى الذي من أجله سقطت الجماعة.

    وأما إذا كان تركه لبقية الأكل يُفسد الأكل ولا يمكنه أن يدركه بعد الصلاة، فحينئذ يقضي نهمته ولو فاتته الصلاة؛ لنص حديث عائشة رضي الله عنها. والله تعالى أعلم.

    البدء بالصلاة الفائتة قبل الحاضرة

    السؤال: إذا كنت مسافراً من مكة الساعة الحادية عشرة -مثلاً-، وأخرت صلاة الظهر مع العصر، ودخلت المسجد والناس يصلون العصر فماذا أفعل؟

    الجواب: إذا دخل المصلي المسجد والناس يصلون العصر وهو لم يصل الظهر فإنه يدخل وراءهم بنية الظهر، ثم إذا سلموا أقام للعصر وصلاها. والله تعالى أعلم.

    جواز ترك الجماعة لمن خرج خارج البنيان ولا يسمع الأذان

    السؤال: نخرج غالباً خارج البنيان ونحن جماعة، وذلك للتنزه وغير ذلك، ولا نسمع الأذان، فهل نعذر في ترك الجماعة العامة في المساجد؟

    الجواب: من خرج خارج العمران، أو خرج إلى مكان لا يسمع فيه النداء فإنه يجوز له أن يصلي بمكانه، وإن كانت معه جماعة فإنه يؤذِّن ويقيم ويصلي بهم جماعة، وأما إذا كان قريباً من العمران بحيث يسمع النداء فإنه يلزمه أن يمضي إلى أقرب المساجد إليه ويجيب داعي الله عز وجل له، والله تعالى أعلم.

    حكم الصلاة في الرحال

    السؤال: إذا سافر شخصان إلى مدينة ما، وأرادا الإقامة بها يومين فقط، فهل يصح لهما قصر الصلاة في المنزل وترك الجماعة؟

    الجواب: إذا كان الإنسان مسافراً ومعه جماعة وكلهم مسافرون فإنه يجوز لهم أن يصلوا جماعة في رحالهم، لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى بالناس الفجر بخيف مِنى فرأى رجلين فقال: (علي بهما، فأُتي بهما فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: قد صلينا في رحالنا. قال: فلا تفعلا. إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم؛ فإنها لكما نافلة).

    ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهما على فعل الجماعة في الرحال مع أن جماعة النبي صلى الله عليه وسلم قد انعقدت في الخيف، فدل هذا -كما يقول العلماء- على جواز أن يصلي المسافر جماعة في رحله، ثم إذا حضر المسجد فإنه يصلي مع جماعة المسجد نافلة، ولو كانت الصلاة عصراً أو صبحاً أو مغرباً على أصح أقوال العلماء. والله تعالى أعلم.

    وقت ذكر دعاء السفر

    السؤال: متى يشرع قول دعاء السفر، هل عند ابتداء ركوب الدابة، أم إذا لزم جهة السفر، أم إذا تجاوز البنيان؟

    الجواب: بعض الأحاديث فيها التكبير عند ركوب الدابة، كما في السنن، فيكبِّر إذا وضع رجله في الغرز، أو إذا ركب السيارة كما هو موجود الآن، ويقول الدعاء: (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) قالوا: لِحَمْد نعمة الله عز وجل على المركوب، ولا علاقة له بالسفر، وإنما شُرِع في السفر لمكان المناسبة.

    وأما بقية الأدعية التي نص فيها على السفر فإنها لا تكون إلا بعد مجاوزته للعمران، لأنه يسأل الله عز وجل في وجهه الذي هو ماض إليه، والله تعالى أعلم.

    الأخذ برخص السفر لا يشترط فيه مدة معينة

    السؤال: من سافر وهو ينوي الرجوع في نفس اليوم فهل يجوز له القصر؟

    الجواب: من سافر وهو ينوي الرجوع في نفس اليوم فإنه مسافر، وبناءً على ذلك يجوز له أن يترخص برخص السفر إعمالاً لحالته، ويصدق عليه ظاهر التنزيل وظاهر ما ورد من النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    وكونه يرجع في نفس اليوم أو غيره من الأيام الأخرى لا تأثير له؛ لأننا لا نحفظ دليلاً يدل على تقييد الرجوع بزمان معين، وإنما وردت الأدلة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بالرخصة للمسافر مطلقاً.

    وعلى هذا فلو خرج إلى تدريس أو تعليم بمكان يبعد مسافة القصر حل له أن يترخص بِرُخَص المسافر في الطريق ذاهباً وراجعاً. والله تعالى أعلم.

    حكم المريض إذا مات وعليه بعض الصلوات

    السؤال: كان عندنا مريض يصلي بعض الأوقات، وبعض الأوقات لا يصليها، وذلك لشدة المرض، وأحياناً يصلي فيغلبه النوم أثناء الصلاة، وقد مات وعليه فروض لم يصلها، فهل عليه شيء؟

    الجواب: هذا المريض ظاهره أنه قد حيل بينه وبين الصلاة بالمرض، وهذا الذي يظهر، بدليل أنه إذا حضرته الصلاة صلى، وإذا عجز لم يصلِّ.

    أما بالنسبة لأهله فلا شيء عليهم، وبالنسبة له هو فقد مضى إلى الله عز وجل، وإلى الله حكمه، ولا يلزمهم في ذمتهم من شيء، فإن كان يترك الصلاة تساهلاً وتكاسلاً فحكمه إلى الله سبحانه وتعالى، وإن كان تركها لعذر من غيبة عقلٍ وإغماء ونحو ذلك فهذا حكمه حكم المعذور، والله تعالى أعلم.

    حكم من أكل ثوماً أو بصلاً قبل صلاة الجمعة

    السؤال: هل يعذر الإنسان بترك صلاة الجمعة إذا أكل ثوماً أو بصلاً؟

    الجواب: من أكل الثوم والبصل في يوم الجمعة قاصداً التخلف عن الجمعة فإنه آثم، وقال بعض العلماء: إنه لا يحضر الجمعة ويكون عليه وزر من تعمد تركها. وذلك أنه تقصد أن يتخلف واحتال على الشرع، والحيلة على الشرع لاغية.

    فيكون فعله المحتال به كما لو قصده، وأما لو أنه أكل طعاماً وهو لا يدري أن فيه الثوم والبصل، أو أكل الثوم والبصل ناسياً أنه يوم جمعة، فلما أكل وتلبَّس به، شعر أنه في يوم جمعة، فإنه يعتبر معذوراً لنص النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا -أو ليعتزل مسجدنا- وليقعد في بيته، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)، والله تعالى أعلم.

    حكم الصلاة بين السواري

    السؤال: قيد بعض العلماء كراهة الصلاة بين السواري بأن يكون بين السارتين ثلاثة أذرع، ومعنى هذا أن السواري الموجودة اليوم لا تأخذ هذا الحكم، وأن الصف بينهما صحيح، فهل هذا صحيح؟

    الجواب: هذا التحديد الذي ذُكِر تحديد بدون دليل نعلمه، والأصل في التقديرات والتحديدات أنها تكون مستندة إلى نصوص الكتاب أو السنة، وأما هذا التحديد فلا أحفظ له دليلاً من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وبناءً على ذلك فإنه لاغٍ ولا يُعتد به، ويبقى الحكم بالصلاة بين السواري على ما هو عليه، لكن قال العلماء في السواري المنفصلة المتباعدة بعداً قوياً: إنها لا تؤثِّر. وقالوا: إنه يجوز أن يصلى بينها كما لو صلى بين جدارين، فإنه لا حرج عليه، ويعتبر هذا مأذوناً به، وليس داخلاً في النهي، والله تعالى أعلم.

    حكم قضاء السنن الرواتب

    السؤال: هل يجوز قضاء السنن الرواتب إذا لم يصلها في أوقاتها أم لا؟

    الجواب: قضاء السنن الرواتب ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد فعل ذلك في السفر، كما في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه أنه: (لما نام عليه الصلاة والسلام عن صلاة الفجر واستيقظ بعد طلوع الشمس أمر بلالاً فأذن بالصلاة، ثم صلى رغيبة الفجر، ثم أمر فأقام فصلى الفجر).

    فدل على مشروعية قضاء الراتبة بعد خروج وقتها، وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنه صلى الله عليه وسلم صلى بعد العصر ركعتين، فقالت: يا رسول الله: رأيتك تصلي ركعتين لم أرك تصليهما من قبل؟! قال: (أتاني ناس من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان).

    فدل هذا الحديث على مشروعية قضاء السنن الرواتب إذا كان الإنسان عذر بتركها، كما لو نام عن صلاة الفجر لعذر ثم استيقظ بعد طلوع الشمس، وهكذا إذا دخل والإمام يصلي الظهر ولم يتمكن من صلاة السنة القبلية، فإنه بعد سلام الإمام يجوز له أن يصلي القبلية، ثم يصلي بعدها السنن الراتبة البعدية، والله تعالى أعلم.

    حكم الجهر في الصلاة

    السؤال: إذا نسي الإمام الجهر بالقراءة في الصلاة الجهرية هل يسجد للسهو؟

    الجواب: للعلماء في الجهر في الصلاة وجهان:

    قال بعضهم: إنه من الواجبات، ويلزمه إذا نسيه أن يسجد له سجود السهو. وهذا قول يختاره بعض السلف رحمة الله عليهم، وهو في مذهب بعض العلماء، كـمالك رحمة الله على الجميع.

    وقال بعض العلماء: الجهر ليس بواجب، ولذلك لو أسرّ في جهرية أو جهر في سرية ولو كان متعمداً صحت صلاته، والأحوط أنه يسجد إذا كان يريد الخروج من الخلاف، أما لو ترك السجود فإنه لا حرج عليه، والله تعالى أعلم.

    حكم من أفطر في رمضان ولم يعلم بوجوب القضاء إلا بعد فترة طويلة

    السؤال: امرأة أفطرت شهر رمضان كاملاً بسبب الحمل والولادة، ولم تكن تعلم أنه يجب عليها القضاء، فلم تقض ذلك الشهر حينها، وبعد عشرين سنة تبين لها أنه يجب عليها القضاء، فماذا تفعل؟

    الجواب: يلزمها قضاء هذا الشهر، وللعلماء رحمهم الله في الجاهل وجهان:

    قال بعضهم: الجهل عذر، ويُسقط التكليف، ولا كفارة لمكان العذر.

    وقال بعضهم: ليس بعذر بعد استقرار الشرع. وهذا واضح، خاصةً إذا كانت في المدن والعمران؛ لأنه يتيسر وجود العلماء وسؤالهم، ومع ذلك تسكت عن سؤالهم ثم تأتي وتقول: إنها جاهلة. فقالوا: مثل هذه لا يُعذر، إنما يُعذر من كان في البوادي بعيداً عن العلماء، أو كان في زمان التشريع.

    وهذا القول من القوة بمكان، فإنه لا يفتح للناس الترخص بالجهل؛ لأنهم إذا كانوا في حاضرة وأمكنهم سؤال العلماء فهم مقصرون مستهترون، ومن قصر في الشرع يُلزم بعاقبة تقصيره.

    ولذلك يُفصَّل في هذه المرأة، فإن كانت في العمران وأمكنها سؤال العلماء فإنها آثمة بالتقصير ومعرفة حكم الله عز وجل.

    وأما إذا كانت في مكان لا يتيسر معه أن تبعث من يسأل لها أو لا يتيسر فيه وجود العالم الذي تسأله فإنها معذورة، ولا كفارة عليها، على القول بأن الجهل عذر مطلقاً، فلا كفارة عليها ولا إثم.

    وعلى القول بالتفصيل -وأميل إليه- أنها تأثم إن كانت قصّرت ولا تأثم إن لم تقصر، ثم إذا قلنا: إنها قصرت. وحكمنا بإثمها فمذهب جمهور العلماء أن من قصّر فدخل عليه رمضان الثاني ولم يقض رمضان الأول فعليه عن كل يوم ربع صاع، وهو قول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك جمع من العلماء يُنسب إلى جمهور أهل العلم رحمة الله عليهم، ويُفتى به على سبيل الاحتياط، وإلا فقول الظاهرية بعدم وجوب التكفير من القوة بمكان. والله تعالى أعلم.

    معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة)

    السؤال: ما المقصود بالأذانين في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة)، والصلاة بينهما هل هي النافلة والمكتوبة؟

    الجواب: هذا حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: (بين كل أذانين صلاة) من باب التغليب، والعرب تقول: القمران والعشاءان والظهران والعمران، كل ذلك من باب التغليب، فقوله عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين..) أي: بين الأذان والإقامة فغُلِّب الأذان على الإقامة).

    ووجه ذلك أن الأذان في لغة العرب الإعلام، فلما كان الأذان الأول أذاناً -بمعنى أنه يُعلم بدخول وقت الصلاة- وكانت الإقامة إعلاماً بقيام الصلاة وُصِفت بكونها أذاناً من هذا الوجه.

    وعلى هذا فإنه يصلي بين الأذان والإقامة، وهذه النافلة ليست براتبة، وإنما هي نافلة مستحبة يفعلها الإنسان، وليست من السنة الراتبة، إلا إذا كانت للصلاة الذي أُذِّن لها راتبة قبلية كالظهر والفجر ونحو ذلك.

    أما إذا لم تكن لها راتبة قبلية كصلاة المغرب، فإنه إذا أذن المغرب يُشرع للإنسان ويسن له أن يصلي ركعتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بين كل أذانين صلاة)، وهكذا لو أذن العشاء فله أن يصلي بين الأذان والإقامة ركعتين. والله تعالى أعلم.

    حكم التقصير في حق الوالدين بعذر طلب العلم والدعوة

    السؤال: لي أبٌ عاجز، وأشتغل بطلب العلم وبعض المشاريع الدعوية، وأقصر في حق الوالد، فهل أنا معذور بهذا التقصير؟

    الجواب: أخي في الله! اتق الله في أبيك، واتق الله في والديك، وابدأ بهما؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر بتوحيده ثم ثنى ببر الوالدين، فاتق الله عز وجل في أبيك عند المشيب والكبر، فارحم ضعفه واجبر كسره، وكن إلى جواره، والزم قدمه؛ فإن الجنة ثم.

    قال سبحانه وتعالى: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا [الإسراء:23].

    وفي الحديث: : (رغم أنف رجل أدرك والديه فلم يدخلاه الجنة. قل: آمين. قلت: آمين)، فاحمد الله عز وجل إذ متّع ناظريك بوجود والديك، واغتنم هذه الفرصة، خاصة إذا كان الوالد ضعيفاً فقم على حالته، واقض حوائجه وفرج كربته، وكن إلى جواره، فإنه فرضٌ لازم عليك مقدم على النوافل، ومقدم على حلق الذكر، ومقدَّم على مجالس الصالحين إذا كانت على سبيل النفل ولم تكن واجبة.

    وما تقرب العبد إلى الله بشيء أحب إليه مما افترض عليه، فابدأ بوالديك، وفي الحديث أن صحابياً قال : (يا رسول الله! أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد. -يريد أن يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم، فهاجر لكي يكون تحت ظله، يقاتل في سبيل الله لإعلاء كلمة الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال: أحي والداك؟ قال: نعم. قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)، وفي رواية: قال: (يا رسول الله! أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد وتركت أبواي يبكيان. قال: ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما)، وأبى أن يخرج معه.

    فبر الوالدين فرض لازم ينبغي على المسلم أن يبدأ به قبل النوافل والطاعات، فابدأ بنفسك وبمن تعول، وارحم ضعفه وارحم كبره، وكن مع الوالدين ولا تسأم ولا تمل، ولا تتعب ولا تضجر، فإنك تخوض في رحمات الله جل جلاله.

    فكل لحظة وأنت في جواره تُدخل السرور عليه، وتذهب الوحشة عنه بأنسه برؤية وجهك، فكم من قلوب للوالدِين تتعطش وتتألم، ولكن يزول ألمها ويروى عطشها إذا اطلعت ورأت أبناءها وبناتها.

    وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما احتضر ابنه إبراهيم دمعت عيناه عليه الصلاة والسلام، فقال له الصحابة: (ما هذا يا رسول الله؟ قال: رحمة أسكنها الله في قلوب عباده).

    فالوالدان فيهما رحمة، وفيهما حنان للولد وشوق وحنين، ولو أمرك أن تسافر أو تذهب للدعوة فينبغي أن تكون أحرص على الخير منه.

    فالوالد قد لا يحب أن يزعجك، ولا يحب أن يضيق عليك، فيراك تحب السفر فيقول لك: سافر. وتحب أن تكدح وتتاجر وتذهب هنا وهناك فيقول لك: اذهب. ولكن ينبغي أن تكون فطناً لبيباً حكيماً أريباً، فهذا الوالد في آخر عمره وضعفه ومشيبته وكبره بحاجة إليك.

    فالدنيا تُدرك، ولكن بر الوالدين ليس إلا ساعات ولحظات، اختار الله عز وجل والديك فسوف تعض على أصابع الندم، ولات ساعة مندم.

    فاتق الله عز وجل في والديك، واشكر نعمة الله سبحانه وتعالى إذ متع عينيك برؤية الوالدين.

    فينبغي ألا ينام الإنسان إلا وهو يفكر كيف يبر والديه، وأول الفروض بعد توحيد الله عز وجل بر الوالدين، فتكون إلى جواره، ولو أدى ذلك إلى انقطاعك عن بعض الدروس، فإن الوالد في أشد الحاجة أن تجلس معه، فإن كان مريضاً تداويه، وإن كان محتاجاً إلى معونة تعينه وتساعده، حتى ولو كان الإنسان يجد من والديه الأذية، فإن أفضل البر وأحسنه وأكمله وأجمله إذا كنت تُحسن إلى الوالدين ويسيئان إليك، وإذا كنت ترحمهما فتجد منهما الغظاظة، ولربما تجد منهما أنهما يكرمان غيرك ويهينانك، فإذا رأيت من الوالدين السباب والشتام والاحتقار فاعلم -إن شاء الله- أن ذلك من دلائل القبول، فما دمت لا تتسبب في غضبهما، وكأن الوالد لا يحفظ معروفك، ولا يشكر إحسانك، فلعل الله لحكمة يريد أن يرفع درجتك ببرك بوالديك.

    واعلم رحمك الله أنها من فواتح الخير، فكم من علماء وأفاضل وصلحاء بلغوا الخير بفضل الله جل جلاله ثم برضا الوالدين.

    وأعرف عالماً من العلماء الذين بلغوا شأواً عظيماً في العلم كتب ترجمته بيده فقال: لا أعرف أمراً وفقني الله عز وجل إليه بعد توحيده بلغت به بفضل الله عز وجل هذا العلم مثل بري بوالدي، فقد توفي وهو في النزع يدعو لي بالعلم والعمل.

    فإذا وفقك الله لبر الوالدين كسبت منهما الدعوات الصالحات، وخضت في رحمات الله سبحانه وتعالى، فتخرج من عند والديك والأكف ترفع إلى الله أن يسعدك، وأن يوفقك، وأن يكون معك، فأبشر بكل خير في دينك ودنياك وآخرتك.

    فلا يشتغل الإنسان بالنوافل ويترك الفرائض، وبعض طلاب العلم يجد السآمة، ويجد الضيق، ويجد الملل، ولا يدري من أين جاءه هذا الهم والغم والنصب والتعب، فقد يكون عق أباه؛ لأن الإنسان قد يعق والده بكلمة واحدة، فتغيب عليه شمس ذلك اليوم وهو من العاقين -والعياذ بالله-.

    فكيف يحتاج والدك إلى حاجة ويأتيك قبل أن تأتيه، وهو الذي طالما سهِر وتعب عليك؟ والله إن الإنسان ليكاد يذوب خجلاً -لو أن القلوب والضمائر والنفوس حية- حينما ينظر إلى والده يسأله حاجة.

    فالمفروض أنك لا تنتظر من الوالد أن يسألك، ولا تنتظر من الوالد أن يعرض حاجته عليك، بل عليك أن تلبي حاجته، وأن تفرج -بإذن الله- كربته، وتسعى في تحقيق مصالحه وإدخال السرور عليه، وبذل كل ما تستطيع من الخير.

    فقبل الجلسات، وقبل الأصدقاء والأصحاب والأحباب بر الوالدين، فالواحد منا يجلس مع أصحابه وأحبابه ساعات متأخرة من الليل لا يسأم، ولا يمل ولا يضجر، وقد يكون في فضول الحديث، ولكن بمجرد أن يجلس مع أبيه لحظة واحدة يتذمر، وتجده إذا دخل عليه رجل من أهل الدنيا يقوم من مكتبه يقضي حوائجه، ويفرج كربته، فإذا قال له الرجل: أشكرك على ما قدمت. يقول: هذا واجب. وإذا جاء والده في أبسط حاجة أو أقل معروف أعرض عنه، ولربما جاء وقضى الحاجة بتذمر، حتى إن الوالد يكره هذه الحاجة مما يرى من السآمة والملل من ابنه.

    فالله الله في هذه القلوب الضعيفة، فارحموا ضعف الوالدين. وينبغي على الخطباء وطلاب العلم دائماً أن يذكِّر بعضهم بعضاً ببر الوالدين، فهذه فواتح رحمة، وهذه من الأمور التي كان العلماء رحمهم الله يتفقدون فيها طلابهم، فلا تمر فترة إلا وهم يذكرون، وقد عهِدت بعض المشايخ رحمة الله عليهم أنه كان لا يجلس معه طلابه إلا وهو يتفقدهم في أمرين، ويقول: أمران لا أسأم منهما: الإخلاص وبر الوالدين. فتجده دائماً يقرع طلابه ويذكرهم بهذا.

    وإن كنت في حيِّك، أو في مسجدك، فاذكر فضل بر الوالدين، وأَشِدْ بهما؛ لأن الناس تناست، وكلما طال العهد عن النبوة كان الناس في فتنة ومحنة وغربة عن الدين، فقد أصبح اليوم قضاء حوائج الوالدين كائناً مع الضيق والسآمة والملل، حتى إن كثيراً من الآباء يضجرون، فتجد الأب تُقضى حاجته، لكن تُقضى بدون رغبة.

    وقد اتصل بي ذات مرة رجل من الأخيار، وكان من خيار طلاب العلم والدعاة، فقال لي: إني أريد أن أخرج إلى كذا وكذا -وهي قربة من أجل القربات- فقلت له: يا أخي! هل والداك موجودان؟ قال: الوالد موجود. قلت: هل أذن لك في الخروج؟ قال: أذن لي. قلت: لو كنت تريد مني الرأي فأنا أنصحك أن تبقى عند والدك. قال: لماذا؟ قلت: والدك كبير، ولو أذن لك فالمفروض أن تستحي من الله عز وجل أن تتركه على ضعف وخور في هذا العمر وتخرج تتنفل بالطاعات، فقال: أنا واثق أنه راض. قلت له: تأكد. وثلاث مرات وأنا أراجعه، ولكن يأبى الله عز وجل، وأرجو أن الرجل كان فيه الخير والصلاح، أحسبه ولا أزكيه على الله.

    فيشاء الله عز وجل أنه يُقدم على ما هو طالبه من الخير، فخرج، فلما خرج وابتعد عن المدينة التي هو فيها مسافة تذكر شيئاً في البيت أنه لم يأخذه معه، وكان من لوازم سفره.

    قال: فرجعت، فلما رجعت وجدت الوالد في حالة من البكاء والحزن والهم والغم ما الله به عليم، قال: فلما رأيت الوالد ذُهِلت حتى عن الشيء الذي أتيت من أجله، فقلت: ما هذا يا والد؟ قال: يا بني! ماذا أفعل؟ رأيتك تحب هذا الشيء ولا أحب أن أمنعك عما تريد، أما لو كان باختياري وهواي فلا أريدك أن تفارقني. قال: والله ما هو إلا أن قبلت قدمه، وجلست أبكي عنده.

    فالوالدان فيهما رحمة، ولا يستطيع الوالد إذا رآك تريد شيئاً أن يصدّك عنه، والوالدة أرحم من الوالد، فلا يغتر الشاب لقول الوالد: اذهب. فإذا قال: اذهب. فقل: لا أذهب، بل أجلس عند قدمك وأقضي حوائجك.

    وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الزم رجلها فإن الجنة ثم).

    فالوالدان يحتاجان إلى وفاء، وإلى رد جميل، وإلى الإحسان مهما كان، حتى ولو كان الوالد يقول لك: اذهب إلى طلب العلم. فلتذهب إلى طلب العلم ولكن بقدر، ولتجعل حاجته بين عينيك، ولا تنتظر منه -إذا كنت تريد الرحمة والرضوان والتوفيق من الله، وسعادة الدنيا والآخرة- يوماً من الأيام أن يطلب منك شيئاً، وإنما تكون أنت الذي تقضي حوائجه، وأنت الذي تبادره وتسبقه إلى حوائجه.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يكرمنا بالبر، وأن يجعلنا من أهله، ونسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا في هذا المجلس المبارك أن يسبغ شآبيب الرحمات على من كان منهم من الأموات من الآباء والأمهات.

    اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، وأوسع مدخلهم، واجزهم عنا خير ما جزيت والداً عن ولده، اللهم أسبغ عليهم شآبيب الرحمات، واجعلهم عندك في نعيم الجنات.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755903676