إسلام ويب

سلسلة بريق المواعظ المنبرية من رحاب مسجد قباء [1]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • عرض الخطبة الأولى: إن من الموضوعات التي تطرق إليها القرآن الكريم: موضوع القصص القرآني، والتي جعل من أهدافها: تثبيت قلب رسول الله، وتسليته ورفع النصب عنه صلى الله عليه وسلم، ومن جملة هذه القصص: قصة موسى عليه السلام مع الخضر، وهي من أجمل قصص القرآن الكريم، وفيها فوائد جمة، ومعان غزيرة، يجدر بطالب العلم قبل الشخص العادي أن يفقهها، وأن يطبقها عملياً في واقع حياته.

    1.   

    قصة موسى عليه السلام مع الخضر

    الحمد لله الذي تقدست عن الأشباه ذاته، ودلت على وجوده آياته ومخلوقاته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أراد ما العباد فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، نبي سلم الحجر عليه، ونبع الماء من بين أصبعيه، فصلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه كما وحد الله وعرفه ودعا إليه، اللهم وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    عباد الله! فإن تقوى الله جل وعلا أزكى العطايا وأعظم الوصايا، قال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1-2]، فما فاز ولا سعد إلا أهلها، وما تقرب إلى الله جل وعلا بشيء مثلها.

    ثم اعلموا -عباد الله- أن القصص القرآني هو الأسمى في أسلوبه، والأبلغ في عظاته، وهو قطعاً الأصدق في أخباره، ومما قصه الله جل وعلا في كتابه العظيم على نبيه الكريم صلوات الله وسلامه عليه: نبأ موسى والخضر عليهما السلام، فذكر الله جل وعلا فيه رحلة موسى إلى الخضر وما كان في ذلك الأمر من غرائب الأخبار، وعظيم العظات، وجلائل الآثار، والقرآن أعظم هاد هدي به العباد، أنزله الله جل وعلا على خير خلقه محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، والمتأمل فيه إنما ينجم عن تأمله العلم البين، والهداية الحقة، والإرشاد المستقيم إلى طريق الله جل وعلا.

    ذكر سبب هذه القصة، وأهمية العلم إلى الله عز وجل

    أيها المؤمنون! جاءت السنة تحدث عن هذا الخضر كما في البخاري وغيره من حديث ابن عباس رضوان الله تعالى عليهما، وأصل الأمر أن موسى عليه السلام وقف خطيباً في بني إسرائيل يعظهم ويذكرهم، فلما رقت القلوب، وذرفت العيون، وخرج عنهم تبعه رجل من بني إسرائيل فقال: أي نبي الله! هل أحد في الأرض أعلم منك؟ فنسي موسى أن يرد العلم إلى الله فقال: لا، فأوحى الله جل وعلا إليه: أن لي عبداً هو أعلم منك، قال: أي رب كيف لي به؟ فأمره الله أن يأخذ حوتاً في مكتل فحيثما فقد الحوت فثم هو، أي: فهو هناك، فأخذ معه فتاه يوشع بن نون ، وأخذ حوتاً في مكتل وتوجه صوب ما أمره الله جل وعلا حتى بلغ مجمع البحرين، فأخذ موسى غفوة ليستريح وبقي يوشع الفتى يراقب الحوت، فإذا بالحوت يخرج من المكتل بقدر الله وينزل في البحر، ثم يضرب الله جل وعلا عليه مثل الطاب حتى لا يعبر ولا يتحرك، فعزم يوشع على أن يخبر موسى إذا استيقظ، فلما استيقظ موسى نسي الفتى أن يخبره فمضيا في سفرهما حتى أصاب موسى النصب والتعب فقال للفتى: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [الكهف:62]، وهنا تذكر الفتى خبر الحوت فقال: قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا [الكهف:63]، فقال كليم الله وصفيه: قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ [الكهف:64]، فلم يثربه ولم يلمه؛ لأن الخطأ وقع من الفتى نسياناً، وكم تحت أيدينا اليوم من الأجراء والعمال والخدم والزوجات والأبناء، ومن كتب الله لنا عليهم الولاية يقع منهم الخطأ والنسيان، فينبغي لمن يهتدي بهدي الأنبياء ألا يثرب على كل أمر، وألا يحاسب على كل خطأ، وإن أراد أن يحزم حيناً فليكن حزمه في غير تعنيف، ومن أراد أن ينصح فليكن المقصود من نصحه التطهير لا التشهير.

    الشاهد: أن موسى عاد وفتاه -ومن سنن أنبياء الله: أنهم لا يتكلفون؛ ولهذا قال الله جل وعلا: فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [الكهف:64]، وهذا يدل على أن غالب الظن أنهما كانا في صحراء سيناء؛ لأن الآثار لا تبقى إلا على أرض رملية والعلم عند الله-.

    عاد موسى وفتاه، فلما عادا وجدا الخضر قد التحف بطنفسة خضراء غطى بها رأسه ورجليه، فوقف موسى عليه وقال: السلام عليك، قال: أنى في أرضك السلام؟ قال: أنا موسى، فقال الخضر : موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، أتيتك لتعلمني مما علمك الله، فتعجب الخضر قائلاً: يا موسى! إنك كليم الله، وعندك من علم الله ما لا أعلمه أنا، ولي من العلم من عند الله ما لا تعلمه أنت، فأصر موسى على أن يصحبه، فاشترط عليه الخضر ألا يلجئه إلى حديث، ولا يسأله عن سبب تصرفه حتى يكون هو الذي يبتدئه بالأمر، قال تعالى: قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا [الكهف:69]، والمؤمنون عند شروطهم، فركبا في سفينة كانت تعبر بالناس من ساحل إلى ساحل، فلما رأى أهل السفينة الخضر عرفوه فقالوا: هذا عبد الله الصالح فأركبوه معكم من غير نوء أي: من غير أجرة، فبينما موسى والخضر في السفينة إذا بعصفور يأتي فيقف على حافتها، ثم ينقر في البحر نقرة أو نقرتين ثم يمضي، فقال الخضر لموسى: ما علمي وعلمك من علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر من البحر، فسبحان من وسع علمه كل شيء، وعليه رزق كل حي، وإليه المصير والمنقلب، لا رب غيره، ولا إله سواه، ثم لم يلبث الخضر أن عمد إلى جهة في السفينة فخرقها، ووضع مكانها لوحاً، فاستشاط موسى غضباً، ونسي الشرط الذي بينهما: قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا [الكهف:71]، فذكره الخضر الذي بينهما، فاعتذر موسى أن ذلك قد وقع منه نسياناً، ثم ترك جانب البحر لينزل إلى جانب البر فبينما هما في المدينة التي استقبلتهما إذا بـالخضر يعمد إلى غلام يلعب مع الغلمان فيقتله عياناً، فأنكر عليه موسى هذا الصنيع؛ لأن كل جبلة البشرية تنكره؛ فالله جل وعلا حرم سفك الدماء في الملل كلها، فقال موسى منكراً على الخضر صنيعه: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا [الكهف:74]، فذكره الخضر بزيادة في الضمير فقال: قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:75]، فأراد موسى عليه السلام أن يلزم نفسه، قال مجاهد رحمه الله أحد أئمة السلف: كانت الأولى من موسى نسياناً، والثانية شرطاً، والثالثة عمداً، قال له: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا [الكهف:76]، قال الله جل وعلا: فَانطَلَقَا [الكهف:77] أي: في سيرهما حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ [الكهف:77]، وهؤلاء طبعوا على اللؤم، لا يعرفون قدر الناس، ولا يقومون بواجب الضيافة، ومع ذلك سأل الخضر وموسى أهل القرية الطعام، قال الله جل وعلا: حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا [الكهف:77]، لكن القوم طبعوا على اللؤم فأبوا أن يضيفوهما، فكان موسى يرى أن هؤلاء لا يستحقون إكراماً، ولا ينبغي أن يفعل لهم معروف، لكن الخضر عمد إلى جدار يريد أن ينقض -أي: يكاد أن يسقط- فأقامه وعدله وشد بنيانه، فأنكر عليه موسى صنيعه هذا قائلاً: كان الأحرى والأولى أن تجعل من هذا الصنيع طريقاً للأجرة؛ لأن الأجرة طريق للطعام، قال: لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا [الكهف:77]، والمؤمنون عند شروطهم، فقال الخضر لموسى وهو يعلم أن موسى صفي الله وكليمه: قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:78]، وليست هناك غضاضة أن يعمل المؤمنون بشروطهم، إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً، لكن لا ينبغي لمؤمن أن يأنف إذا أمضي عليه الشرط كما يقع بين الباعة والمشترين، وكما يقع بين المؤجر والمستأجر، وكما يقع بين الزوج وولي أمر المرأة من شروط في النكاح، وضروب ذلك وأمثاله، فكل ذلك جاء به الشرع، ولا يعد نقصاً في حق أحد، ثم أماط الخضر اللثام عن الأمور كلها، وكشف عن غرائب عديدة، قال: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف:79]، فسماهم مساكين رغم أن السفينة ملك لهم، وهذا يدل على أن المسكين قد يملك قوتاً وله دخل، لكن دخله وما يجرى عليه لا يحقق له حاجاته الأساسية، خاصة إذا كان رقيق الحال كثير العيال، وعلى هذا تصرف لهم الزكاة، فمن كان له أحد من جار أو قريب، أو أحد يعلم أن له دخلاً لا يعينه على أن يقوم بشيء لحياته كلها، فهذا من أهل الزكاة الذين يعطون منها شرعاً بنص كلام الله؛ قال الله جل وعلا: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60].

    (وما فعلته عن أمري)

    قال: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79]، إن العاقل الأريب والمؤمن هو الذي يرتكب الضرر الأدنى حتى يدفع به الضرر الأعظم، وإن الخضر عليه السلام يعلم أن بقاء السفينة ملكاً للمساكين يقتاتون منها رغم ما فيها من عيب خير لهم من أن يفقدوا سفينتهم بالكلية، وبالتالي لا تجر عليهم رزقاً، ولا تأتي لهم بأجرة.

    قال: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [الكهف:79]، فلما فرغ من بيان أمر السفينة بدأ ببيان أمر الغلام، قال: وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا [الكهف:80]، والإنسان لا يملك بين جنبيه أعظم من إيمانه بربه تبارك وتعالى، فالإيمان بالله هو المنجي في عرصات يوم القيامة، ولئن يفقد هذان الأبوان ابنهما وهما في حاجة ماسة دنيوية إليه فيكون سبباً إذا كبر في كفرهما خير لهما من أن يبقى ثم يكون في بقائه كفرهما وبعدهما عن الله جل وعلا، فحفظ الله لهما دينهما بضياع شيء من دنياهما، وكل مصيبة تعظم إذا كانت في الدين أعاذنا الله وإياكم من ذلك، ثم أماط اللثام عن الأمر الثالث فقال: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ [الكهف:82]، واليتيم -أيها المؤمنون- عني به القرآن أعظم عناية، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول اليتامى قدراً:

    ذكرت باليتم في القرآن تكرمة وقيمة اللؤلؤ المكنون في اليتم

    قال الله جل وعلا له: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى [الضحى:6]، فقد منعه الله من حنان أمه وأبيه حتى لا يتعلق صلى الله عليه وسلم بأحد غير الله، فقد أراده الله جل وعلا لنفسه، واصطنعه ربه تبارك وتعالى لذاته العلية، فنشأ صلوات الله وسلامه عليه يتيماً لم ير أباه، وماتت أمه وهو ابن ست سنين، والمقصود من هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم حث على رعايتهم -أي: أهل اليتم- فقال: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة، وقرب بين أصبعيه السبابة والوسطى).

    وكان أبوهما صالحاً

    وفي هذا الخبر يخبر الله عن سنن التسخير، وكيف خرج كليم الله وهذا العبد الصالح يقطعان البحار والقفار والطرائق حتى يصلا إلى جدار ليقيماه رحمة من الله بهذين اليتيمين، ثم قال الله جل وعلا معللاً: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف:82]، إنه لم يدخر والد لولده ذخراً أعظم من أن يكون الأب صالحاً في نفسه؛ فإن الأب إذا كان صالحاً في نفسه حفظ الله جل وعلا من بعده ذريته بصلاحه.

    روي أن محمد بن كعب القرظي -أحد أئمة السلف من أهل التفسير رحمه الله- رزق مالاً فجأة، وكان المال كثيراً فتصدق به إلا قليلاً جداً، فعاتبه الناس وقالوا له: لو أبقيت هذا المال لولدك؟ فقال رحمه الله: جعلت المال ذخراً لي عند ربي، وجعلت لربي ذخراً لي عند ولدي. وهذه منازل عالية لا يعطاها كل أحد، والموفق من وفقه الله جل وعلا.

    أدب الأنبياء والأولياء مع الله تعالى

    قال تعالى: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:82].

    تأمل -أيها المبارك- أدب الخضر مع ربه جل وعلا، فإنه لما تكلم عن خرق السفينة نسب الخرق إلى نفسه فقال: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79]، ولما ذكر الخير وذكر الفلاح وذكر النجاح نسبه أدباً إلى ربه جل وعلا قال: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا [الكهف:82]، وقال في الأولى: فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا [الكهف:81]، والأدب مع الله هو الدين كله، ونبينا صلى الله عليه وسلم كما هو قدوة في كل فضل، فهو القدوة في الأدب عليه الصلاة والسلام مع ربه جل وعلا، (فإنه وقف ذات يوم يخطب على منبر مسجده فدخل رجل يشتكي إليه قلة الأمطار وجدب الديار وقال: يا رسول الله! ادع الله أن يغيثنا، ادع الله أن يرحمنا، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم اسقنا! اللهم أغثنا!)، فمن الله على أهل المدينة في ذلك اليوم بالسحاب والمطر، فبعد جمعة دخل رجل من نفس الباب يشتكي ما أضرت به السيول من جعلها تقطع الطرق بين الناس فقال: يا نبي الله! ادع الله أن يمسكها عنا، فلقد تضرر الناس، فكان عليه الصلاة والسلام في ذروة الأدب مع ربه؛ لأنه يعلم أن الغيث رحمة، ونبي الله أكمل وأعظم من أن يدعو الله أن يمسك رحمته، لكنه كان رفيقاً رحيماً بأمته، قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر)، قال أنس رضي الله عنه وأرضاه: فوالله ما أشار إلى ناحية إلا اتجه السحاب إليها صلوات الله وسلامه عليه.

    والغاية أيها المؤمنون! أن يتحلى الإنسان بأدب الأنبياء مع ربهم تبارك وتعالى، ونبينا عليه السلام ورث هذا عن أبيه إبراهيم عليه السلام، فإن إبراهيم أخبر الله جل وعلا عنه أنه قال: أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:75-77]، ثم أخذ يصف ربه فقال: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:78-80]، فنسب الخلق والرزق والإطعام والشفاء إلى الله، ونسب المرض إلى نفسه، مع أنه يعلم أن الله خالق الشفاء والمرض، لكنه الأدب مع الرب جل وعلا، رزقنا الله وإياكم الأدب معه، وعلمنا الله وإياكم ما ينفعنا، ونفعنا بما علمنا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    وإنما لكل امرئ ما نوى

    الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.

    أما بعد:

    عباد الله! فلئن كانت رحلة موسى عليه السلام التي قص الله خبرها رحلة علمية فإن الناس منذ أن كانوا ينتقلون في الأمصار، ويسافرون في البلدان مع اختلاف البواعث والدوافع والرغبات في الأسفار من زيد إلى عمرو ومن عبد إلى آخر، والأصل في السفر الإباحة، ثم يتلبس السفر بعد ذلك حكماً شرعياً بالمقصد الذي من أجله سافر العبد وانتقل وارتحل، والناس في هذا يتفاوتون تفاوتاً عظيماً؛ لأن الناس في أنفسهم تختلف اتجاهاتهم ونياتهم، قال الله جل وعلا: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل:4]، فطوبى لعبد يمم البيت العتيق، عليه إزاره ورداؤه يريد أن يأتي بعمرة لعل الله جل وعلا أن يكفر عنه بها الخطايا، وطوبى لعبد يمم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجو من الله أن يظفر بركعتين في هذا المسجد المبارك، وطوبى لعبد، وهنيئاً لطالب علم رحل إلى عالم يأخذ عنه علمه، لعل الله أن ينفع المسلمين بعلمه، وأتم الله العافية لرجل ألم به مرض فقصد أرضاً بها أطباء يسأل الله أن يجعل على يدي هؤلاء الأطباء الشفاء، وهنيئاً وطوبى لرب أسرة أخذ أبناءه وأهله وأسرته في أماكن يغلب على الظن ألا يسمع فيها فجور ولا فحش، ولا يرى فيها اختلاط ولا مجون، فروح عن أسرته، ولم يرتكب ذنباً في سفرته.

    وطوبى لعبد أراد في سفره أن ينشر العلم، ويدعو إلى الله، ويسهم في المعروف، ويبذل الخير، ويقدم لإخوانه المؤمنين هنا أو هناك ما يعينهم على أمر دينهم ودنياهم.

    على أن الحسرة كل الحسرة على عباد أو على أناس أو على رجال يقتر أحدهم على نفسه طوال العام، ويضيق على أهله وعلى نفسه وعلى من تحت يده ينتظر أيام الصيف، فإذا جاء الصيف يمم حانات الغرب والشرق، ومجالس الخمر، ومواطن اللهو، وأماكن المجون، يريد أن يعصي الله جل وعلا بما أنعم الله جل وعلا به عليه، إن الحسرة كل الحسرة والمصيبة كل المصيبة أن يجد الإنسان راحته حين يعصي ربه جل وعلا، هذا والعياذ بالله هو الخسران المبين الذي حذر الله جل وعلا منه، قال ربنا مذكراً: إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى [العلق:8]، وقال ربنا متوعداً: أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:13-14]، فسبحان من لا تخفى عليه من عباده خافية، الطائعون إذا أطاعوه والعصاة إذا عصوه، لكنه حلم الله جل وعلا على عباده.

    عباد الله! من ازدحمت عليه الشهوات وتكاثرت عليه الرغبات وجب عليه أن يوجهها بتذكره لعظمة الرب تبارك وتعالى، وأن يتذكر فضل الله جل وعلا عليه، ونعمائه تبارك وتعالى إليه: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:6-8]، عليه أن يتذكر أن كل لذة دون الجنة فانية، وأن كل بلاء دون النار عافية، عليه أن يتذكر أنه ما من أحد إلا وسيوسد التراب، وتحل عنه أربطة الكفن، ويخلى بينه وبين عمله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، ولا يظلم ربك أحداً، عليه أن يتذكر الموت وسكرته، والقبر ووحشته وظلمته، والنفخ في الصور وفجعته، والصراط وزلته، وأعظم من ذلك كله لو قدر له أن يقبض على لذته المحرمة بأي وجه يلقى الله بعد ذلك؟! عليه أن يؤدب نفسه بأن يتذكر أنه يجب عليه أن يصبر في ترك ما يفنى ليفوز غداً بما يخلد ويبقى، عليه أن يتذكر ما أعده الله جل وعلا للصابرين على طاعته والمنفقين ابتغاء وجه ربهم، قال ربنا وهو أصدق القائلين: إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا [الإنسان:5-10]، هذا صنيعهم فكافأهم أرحم الراحمين بقوله: فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا [الإنسان:11]، اللهم قنا شر ذلك اليوم، ولقنا اللهم نضرة وسروراً.

    ألا واعلموا أنكم في يوم الجمعة سيد الأيام، فصلوا فيه وسلموا على سيد الأنام، ذي الوجه الأنور، والجبين الأزهر، الشافع المشفع في عرصات يوم المحشر، إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك اللهم على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن أصحاب نبيك أجمعين، واخصص اللهم منهم الأربعة الراشدين، وارحمنا اللهم معهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين! اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين، اللهم إنا نسألك توبة نصوحاً وعملاً خالصاً يا ذا الجلال والإكرام! اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أنت أعلم به -يا كريم- منا، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت، اللهم وفق ولي أمرنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، واجزه اللهم عن الإسلام وأهله خير الجزاء، اللهم ارفع الضر واللأواء عن إخواننا في فلسطين ولبنان يا ذا الجلال والإكرام! اللهم ارفع الضر واللأواء عن إخواننا في فلسطين ولبنان والعراق، اللهم عليك بكل عدو للإسلام يا ذا الجلال والإكرام! وخص اللهم منهم اليهود والنصارى يا رب العالمين! اللهم اجعلهم لمن خلفهم آية، ولا ترفع لهم راية يا ذا الجلال والإكرام!

    عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756919045