إسلام ويب

تفسير سورة الحجرات [11-13]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم ...)

    قال الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11]. (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ ))، أي: لا يستخف ولا يستهزئ بهم، والعرب تقول: سخر منه يسخر على القياس، إذا استهزأ به. وقد نهى الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة عن السخرية من الناس، مبيناً أن المسخور منه قد يكون خيراً من الساخر. ومن أقبح القبيح استخفاف الدنيء الأرذل بالأقرب الأفضل واستهزاؤه به، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي عن السخرية جاء ذم فاعله وعقوبته عند الله سبحانه وتعالى في غير هذا الموضع، كقول الله عز وجل: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:79]، فبين أن من سخر من الناس سخر الله سبحانه وتعالى منه وله عذاب أليم. وبين الله سبحانه وتعالى أن الكفار المترفين في الدنيا كانوا يسخرون من دعاة المؤمنين في دار الدنيا، وأن أولئك يسخرون من الكفار يوم القيامة، كما قال الله عز وجل: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [البقرة:212]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين:29-36]. فلا ينبغي لمن رأى مسلماً في حالة رثة تظهر بها عليه آثار الفقر والضعف أن يسخر منه؛ لهذه الآيات التي ذكرنا: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ ))، أي: لا يهزأ رجال من رجال، فالقوم هنا بمعنى: الرجال، كما قال الشاعر: ولا أدري ولست أخال أدري أقوم آل حصن أم نساء يعني: أرجال هم أم نساء؟ فهنا قوم: بمعنى رجال، (( لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ ))، أي: لا يهزأ رجال من رجال فيروا أنفسهم خيراً من المسخور منه. (( عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ ))، أي: يكن المسخور منهن أفضل عند الله سبحانه وتعالى من الساخرات.

    الإشارة في الآية إلى عدم الاختلاط بين الرجال والنساء

    ولم يقل الله سبحانه وتعالى: لا يسخر قوم من نساء، ولا نساء من قوم، ولم يقل: لا يسخر رجل من امرأة ولا امرأة من رجل؛ للإشعار بأن مجالسة الرجل المرأة الأجنبية مستقبح شرعاً؛ ولأن الإنسان إنما يسخر ممن يجالسه غالباً، والهيئة الاجتماعية في المجتمع المسلم مبنية على حظر الاختلاط بين الرجال والنساء. فلا يرد على هذا الأساس احتمال كبير أن تحصل سخرية رجل من امرأة أو امرأة من رجل، وقد رأينا في هذا الزمان كيف أزيل نظام الأسلاك الشائكة بين الرجال والنساء حتى صار الرجل يتعامل مع المرأة، والمرأة تتعامل مع الرجل كأنه أخوها أو أبوها بلا حواجز ولا حدود ولا حياء، كما نرى الموظفات في المكاتب والشوارع وفي الطرقات وفي كل مكان، وربما صرخت المرأة في محل عام مثلاً تتعارك مع الرجل كأنها رجل، وتثبت أمامهم في غاية الجسارة وقلة الحياء.

    شمول النهي لكل معاني السخرية

    فلذلك قصر الله سبحانه وتعالى بين الرجال والنساء فقال: (( لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ ))، أي: لا يهزأ رجال من رجال، (( عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ )). فإن مناط الخيرية في الفريقين ليس ما يظهر للناس من الصور والأشكال، ولا الأوضاع والأطوار التي يدور أمر السخرية عليها غالباً، فأمر السخرية غالباً لا يدور على أمور ظاهرة، وإنما يدور على شكل الإنسان أو على ملابسه أو على هيئته أو على طريقته في الكلام أو على وظيفته وعمله أو غير ذلك، هذا غالباً يكون مناط السخرية في الأمور الظاهرة، وبالذات أمور الدنيا. بين الله سبحانه وتعالى أن مناط الخيرية ليس في الأمور والأشكال الظاهرة التي تدور حولها السخرية غالباً، بل مناط الخيرية إنما هو للأمور الكائنة في القلوب: (( عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ ))، يعني: في القلوب وفي الباطن عند الله. فالذي ينظر إليه الله القلوب والأعمال وليس الصور والأشكال، فالمناط إنما هو الأمور الكامنة في القلوب، فلا يجترئ أحد على استحقار أحد، فلعله أجمع منه لما نيط به من الخيرية عند الله سبحانه وتعالى، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله سبحانه وتعالى، ويستهين بمن عظمه الله عز وجل. ومن أهل التأويل من خص السخرية بما يقع من الغني للفقير، وآخرون خصوا السخرية بما يحصل على أحد زلة أو هفوة فيسخر به من أجلها. قال إمام المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: والصواب أن يقال: إن الله عم بنهيه المؤمنين من أن يسخر بعضهم من بعض في جميع معاني السخرية، فلا يحل لمؤمن أن يسخر من مؤمن، لا لفقره ولا لذنب ركبه ولا لغير ذلك.

    كلام الغزالي في تحريم السخرية والاستهزاء

    وقد عد الغزالي رحمه الله تعالى في الإحياء السخرية من آفات النساء، وأوضح معناها بما لا مطلب وراءه، وينقل القاسمي هذا الكلام عن الغزالي، ونحن نتحرز من كتاب الإحياء، لأن الإحياء كتاب فيه نظر شديد، وفيه صدام صريح للشريعة سواء في العقيدة أو في الفروع أو في ضلالات الصوفية التي حشا بها هذا الكتاب، وهي ضلالات مهلكة ومحرقة. فينبغي الحذر من كتاب الإحياء، مع ما تضمنه من الخير الكبير الذي انتفع به كثير من الخلق، لكنه كتاب لا يعد مرجعاً معتبراً ومحترماً عند أهل السنة وأهل الحديث، ولذلك ما كان يقتنيه بعض طلاب العلم إلا من أجل تحقيقات الإمام العراقي رحمه الله تعالى في المغني عن حمل الأسفار في الأسفار بتخريج ما في الإحياء من الآثار. فليحذر من كتاب الإحياء، لما فيه من الضلالات والطامات المصادمة للشريعة، وحشوه بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأحاديث الضعيفة والباطلة والموضوعة، والبدع التي يزخر بها هذا الكتاب من الاعتقادات والأعمال. وهو كما قلنا لا يخلو من خير، ولذلك لا يغوص فيه إلا من يحسن السباحة كي لا يغرق، يقول الغزالي رحمه الله تعالى: الآفة الحادية عشرة: السخرية والاستهزاء. وهذا محرم مهما كان مؤذياً، كما قال الله سبحانه وتعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ ))، فإذا كانت هذه السخرية تؤدي إلى أذية أخيه المسلم فهي حرام، ومعنى السخرية: الاستهانة والتحقير والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يبحث منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة بالفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء، فأي وسيلة استعملت لأجل الاستهزاء والسخرية وإظهار النقائص والتنبيه عليها، سواء كان بالكلام أو بغمزة العين أو بإخراج لسانه أو بمحاكاته في الحركة؛ فكل هذا سخرية. فإذا كان بحضرة المستهزأ به لا يسمى ذلك غيبة وإن كان فيه معنى الغيبة، لكن ما دام هو موجوداً لا يسمى ذلك غيبة. وقد نبهنا من قبل أن بعض الناس تقول له: يحرم عليك أن تغتابه يقول: أنا أستطيع أن أقول هذا في وجهه. نقول: نعم إذا قلته في غيبته فهو غيبة، وإن قلته في وجهه فهو أذية للمسلم ومواجهة له بما يكره، كحال الاستهزاء واللمز والسخرية. تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (والله ما أحب أني حاكيت إنساناً ولي كذا وكذا)، يعني: لو قال لي: خذ مبلغاً من المال مكافأة لك على أن تقوم بمحاكاة فلان، ما أحب أن أفعل هذا. وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله عز وجل: وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [الكهف:49]، قال ابن عباس : إن الصغيرة التبسم للاستهزاء بالمؤمن، والكبيرة القهقهة بذلك. يعني: لو كان يستهزئ من المؤمن فتبسم فهذه هي الصغيرة، أما إذا أراد أن يسخر منه فقهقه بذلك وصدر منه كثرة الضحك والقهقهة فهي الكبيرة. وهذه إشارة إلى أن الضحك على الناس من جملة الذنوب والكبائر. وقال معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من عير أخاه بذنب قد تاب منه لم يمت حتى يعمله)، وإن كان في صحة هذا الحديث كلام، لكن معناه صحيح؛ لأن الجزاء من جنس العمل، وهذه قاعدة شرعية صحيحة، وهي من عدل الله سبحانه وتعالى أن يجازي الإنسان من نفس جنس عمله، جزاء بما كنتم تعملون. فمن عير أخاه بذنب قد تاب منه لم يمت حتى يعمله، فلابد أن تدور الأيام ويبتلى بنفس الذنب الذي سخر من أخيه بسببه، وبالذات إذا كان قد تاب منه، فلا ينبغي أن يعان الشيطان عليه بتعييره والسخرية منه. وكل هذا يرجع إلى استحقار الغير، والضحك عليه، والاستهانة به، والاستصغار له، وعليه نبه سبحانه وتعالى: (( عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ ))، أي: لا تستحقره استصغاراً، فلعله خير منك، وهذا إنما يحرم في حق من يتأذى به.

    حكم سخرية ممثلي الكوميديا ونحوهم

    أما من جعل نفسه مسخرة كممثل الكوميديا ونحوه، فهو يفرح أن يضحك الناس عليه، ويرى أنه إنسان ناجح جداً، وأنه جنى المجد العظيم حين يقف ويأتي بحركات وبروفات تضحك الناس؛ فهذا لا يدخل في هذه الآية، لأنه سعيد وفخور بأنه مسخرة، ولذلك لا يتشبث بهذه الوظيفة أو هذا العمل إلا من كان أحقر الناس وأعدمهم مروءة، ولا يمكن لإنسان محترم أو عنده مروءة أن يقبل هذا. وإنما يكون سفلة الناس ورعاعهم وأحطهم هم الذين يقبلون مثل هذه الأعمال؛ فضلاً عن أن يسخروا بها. وإنما يحرم الاستهزاء في حق من يتأذى به، لما فيه من التحقير والتهاون، وذلك تارة بأن يضحك على كلامه إذا ارتبك فيه ولم ينتظم، أو على أفعاله إذا كانت مشوشة، كالضحك على حفظه وعلى صنعته أو على صورته وخلقته، إذا كان قصيراً أو ناقصاً لعيب من العيوب. فالضحك من جميع ذلك داخل في السخرية المنهي عنها.

    حكمة تخصيص النهي عن السخرية بلفظ الجمع (قوم)

    يقول أبو السعود رحمه الله تعالى: القوم مختص بالرجال؛ لأنهم القوام على النساء. وهو في الأصل إما جمع فاعل كقوم وزور في جمع قائم وزائر، أو مصدرٌ نُعِتَ به فشاع في الجمع، وأما تعميمه للفريقين الرجال والنساء في مثل: قوم عاد، قوم فرعون، فإما للتغليب -تغليب الرجال على النساء- أو لأن النساء توابع للرجال. واختيار الجمع لغلبة وقوع السخرية في المجامع، يعني: لم يرد النهي بصيغة المفرد: لا يسخر رجل من رجل ولا امرأة من امرأة، وإنما جاء بصيغة الجمع: (( لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ ))، لغلبة وقوع السخرية في المجامع، لأن فيها القابلية للضحك، والتفاعل معه في مثل هذه المجامع يكون أسهل، تجد الواحد إذا كان في وسط مجموعة من الأصدقاء أو شلة من الشباب مثلاً، فإنه يضحكهم، ويكون هناك استعداد أكثر لأن يسخر من أحد ويستحقره. فاختيار الجمع لغلبة وقوع السخرية في المجامع؛ ولأنه غالباً يقصد فيه أن يضع من غيره ويرفع من نفسه، وهذا غالباً ما يقع أمام جمع من الناس، ولا يكون في حالة الانفراد. (( لا يَسْخَرْ قَومٌ ))، هذا التنكير إما للتعميم أو للقصد إلى نهي بعضهم عن السخرية من بعض، بما أنه مما يجري بين بعض وبعض.

    النهي عن اللمز

    قوله: (( وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ ))، أي: لا يعب بعضكم على بعض ولا يطعن فيه، وهذه عبارة عن بعض آخر من جنس المخاطبين وهم المؤمنون، فجعل ما هو من جنسهم بمنزلة أنفسهم. وهذا ما نبهنا عليه مراراً: أن الله سبحانه وتعالى يعبر عن الإخوة في الله بلفظ النفس، فإخوانك المؤمنون حتى وإن كانوا غير موجودين معك الآن فإنه يطلق عليهم لفظ (أنفسهم). فهذا له نظائر كثيرة في القرآن، منها: قول الله سبحانه وتعالى: رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ [التوبة:128]، أي: منكم، وقال تبارك وتعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29]، يعني: إخوانكم، كذلك هنا: (( وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ ))، أي: إخوانكم، وقوله تعالى: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا [النور:12] يعني: بإخوانهم، فهذا مما يعبر به عن رابطة الأخوة في الله. فقيل: إن معنى الآية: (( وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ )) لا تلمزوا إخوانكم المؤمنين، أو يكون المعنى: لا تفعلوا ما تلمزون به، فإن من فعل ما استحق به الذم فقد لمز نفسه، والمراد: لا ترتكبوا أمراً تعابون به، وانتقد هذا الرأي بأنه بعيد من السياق، وغير مناسب لقوله تعالى: (( وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ ))؛ لأن التنابز يكون من مجموعة لمجموعة أو شخص لشخص، فنسق الخطاب واحد، فأتت هذه الآية. أي: ذكر الله تبارك وتعالى: (( وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ ))، والأنسب للسياق أن يكون المعنى: لا تلمزوا إخوانكم ولا تنابزوا أيضاً فيما بينكم بالألقاب. وقد يكون معنى قوله تعالى: (( وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ ))، أي: لا تتسببوا إلى الطعن فيكم بالطعن على غيركم، كما يقول بعض الناس: (من كان بيته من زجاج فلا يقذف الناس بالحجارة)، وكما في الحديث: (من الكبائر أن يشتم الرجل والديه)، فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه إذا شتم والدي غيره شتم الغير والديه أيضاً. فالمقصود على هذا من قوله: (( وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ ))، أي: لا تلمزوا الناس فيلمزوكم فتكونوا في حكم من لمز نفسه؛ لأنكم الذين سلكتم هذا اللمز. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: (( وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ ))، أي: لا يلمز أحدكم أخاه، وقد توعد الله جل وعلا الذين يلمزون الناس في قوله: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة:1]، والهمزة: كثير الهمز للناس، واللمزة: كثير اللمز. قال بعض العلماء: الهمز يكون بالفعل، كالغمز بالعين احتقاراً وازدراءً، واللمز يكون باللسان فتدخل فيه الغيبة، وقد صرح الله تعالى بالنهي عن ذلك في قوله عز وجل: (( وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ))، ونفر عنه غاية التنفير في قوله تعالى: (( أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ))، فيجب على المسلم أن يتباعد كل التباعد من الوقوع في عرض أخيه.

    النهي عن التنابز بالألقاب

    قوله تبارك وتعالى: (( وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ )): واللقب: ما سمي به الإنسان بعد اسمه من لفظ يدل على المدح أو الذم لمعنى فيه، فهذا معنى اللقب، أنه ما سمي به الإنسان بعد اسمه؛ لأن اللقب يكون لمعنى في الإنسان من مدح أو ذم. فقوله تعالى هنا: (( وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ ))، أي: لا تتداعوا بالألقاب التي يكرهها الملقب، وقد روي أنه عني بها قوم كانت لهم أسماء في الجاهلية، فلما أسلموا كانوا يغضبون من الدعاء بها، وهذا رواه الإمام أحمد وأبو داود . لذلك من حق المسلم على أخيه أن يدعوه بالاسم الذي يحبه. أي فإذا عرفت أنه يكره اسماً معيناً أو لقباً معيناً فينبغي أن تجتنبه، فلا تناديه إلا بالاسم الذي يحبه، فهذا من الآداب الإسلامية. وفسر بعض السلف هذه الآية بقول الرجل للرجل: يا فاسق يا منافق! وبعضهم فسرها بتسمية الرجل بالكفر بعد الإسلام، كرجل أسلم فيوصف بالفسوق مع أنه قد تاب، بمعنى: أنه يعيره بذنب قد تاب منه أو يعيره بالكفر بعدما أسلم، وربما يدخل نصراني في الإسلام فينتقصونه ويعيرونه بأنه كان نصرانياً مع أنه دخل في الإسلام. فالمقصود: أن الإسلام يجب ما كان قبله، ألم يكن عمر رضي الله تعالى عنه وغيره من الصحابة على غير الإسلام قبل أن يدخلوا فيه؟! فلا يضر ذلك شيئاً؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، فلا ينبغي أن يعير مسلم بماض قد تاب إلى الله سبحانه وتعالى منه من كفر أو ذنب أو فسوق. يقول ابن جرير: إن الآية تشمل ذلك كله. يعني: لأن التنابز بالألقاب هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة.

    تفسير قوله: (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان)

    قوله: (( بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ ))، والاسم هنا معناه: الذكر، أي: بئس الذكر الفسوق بعد الإيمان. فالشاهد اللغوي على أن الاسم يطلق ويراد به الذكر قول العربي: طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم، كما يقال: طار ثناؤه وصيته، وحقيقته: ما سما ذكره وارتفع بين الناس، ألا ترى إلى قولهم: أشاد بذكره، كأنه قيل بالآية: (( بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ ))، بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائم أن يذكروا بالفسق. في قوله تعالى: (( بَعْدَ الإِيمَانِ )) ثلاثة أوجه: أحدها: استقباح الجمع بين الإيمان وبين الفسق الذي يأباه الإيمان ويحظره، كما تقول: بئس الشأن بعد الكبرة الصبوة، يعني: لا يليق بمن كبر وتاب أن يفعل هذه الأفعال، على حد قول الشاعر: إذا دببت على المنساة من كبر فقد تباعد عنك اللهو والغزل فالوجه الأول هو استقباح الجمع بين صفة الإيمان وصفة الفسق؛ لأن الإيمان يحرم الفسق ويزجر عنه، فالمعنى: بئس الشأن بالنسبة للمؤمن أن يقع في هذا الفسوق. الوجه الثاني في الآية: أنه كان يقال لمن أسلم من اليهود: يا يهودي! فنهوا عن ذلك وقيل لهم: بئس الذكر أن تذكروا الرجل بالفسق واليهودية بعد إيمانه. والجملة على هذا التأويل متعلقة بالنهي عن التنابز. أي أنه على التفسير الأول جاء: (( وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ )) وانتهى الكلام، ثم استؤنف معنى جديد: (( بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ ))، يعني: يستقبح من المؤمن أن يجمع بين الإيمان وبين الوقوع في الفسق؛ لأن الإيمان يأبى الفسق ويحرمه؛ فلا علاقة بين الجملتين إلا من وجه معين، وهو أن التنابز في حد ذاته نوع من الفسق والمعصية. وعلى الوجه الثاني وهو أن معنى: (( بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ )): بئس الذكر أن تذكروا الرجل بالفسق أو باليهودية بعد إيمانه وإسلامه، تكون الجملة متعلقة بقوله تعالى: (( وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ )). الوجه الثالث: أن يجعل من فسق غير مؤمن. أي: فيكون قوله: (( بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ )) كما تقول لمتحول من التجارة إلى الفلاحة: بئس الحرفة الفلاحة بعد التجارة، فكذلك هنا: (( بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ ))، يعني: بئس أن يجعل من فسق غير مؤمن. واختار ابن جرير الوجه الثالث، لا ذهاباً لرأي المعتزلة من أن الفاسق غير مؤمن كما أنه غير كافر فهو في منزلة بين المنزلتين، بل لأن السياق يقتضي ختم الكلام بالوعيد. وهنا إشارة إلى معنى معين في الوجه الثالث، وهو أن المعتزلة يذهبون إلى أن الفاسق غير مؤمن ولا كافر، وإنما هو في منزلة بين المنزلتين، مع أنهم يحكمون عليه في الآخرة بالخلود في النار، لكن هذا في الدنيا قريب من مذهب الواقفة الذين يتوقفون في بعض المسائل. فاختيار الإمام ابن جرير للمذهب الثالث ليس موافقة للمعتزلة في ضلالهم ورأيهم، بل لأن السياق يقتضي ختم الكلام بالوعيد، فإن الله سبحانه وتعالى قال في هذه الآية الكريمة: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ ))، فاقتضى الكلام ختم الآية بالوعيد؛ لأن الآية ذكرت هذه المناهي، فإن التلقيب بما يكرهه الناس أمر مذموم، يقول تعالى ذكره: ومن فعل ما نهينا عنه، وقدم على معصيتنا بعد إيمانه فسخر من المؤمنين، ولمز أخاه المؤمن بالألقاب فهو فاسق: (( بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ ))، يقول: فلا تفعلوا فتستحقوا إن فعلتموه أن تسموا فساقاً. ثم ضعف الإمام ابن جرير الوجه الثاني قال: وغير ذلك من التأويل أولى بالكلام، وذلك أن الله تقدم بالنهي عما تقدم النهي عنه في أول هذه الآية، فالذي هو أولى أن يختمها بالوعيد لمن تقدم على بغيه أو بقبيح ركوبه ما نهي عنه، لا أن يخبر عن قبح ما كان التائب أتاه قبل توبته، إذ كانت الآية لم تفتتح بالخبر عما كان ركب قبل التوبة من القبيح فيختم آخرها بالوعيد. (( وَمَنْ لَمْ يَتُبْ ))، أي: من نبز أخاه بما نهى الله عن نبزه من الألقاب، أو سخر منه: (( فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ))، أي: الذين ظلموا أنفسهم فأكسبوها العقاب بركوبهم ما نهوا عنه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن ...)

    يقول تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات:12].

    النهي عن الظن السيئ

    قوله: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ ))، أي: كونوا على جانب منه، وذلك بألا تظنوا بالناس سوءاً، فإن الظن غير محقق، فما دام الإنسان يظن فالظن ليس شيئاً محققاً، فلذلك ينبغي أن نجتنب كثيراً من الظن. وأبهم (كثيراً) لإيجاد الاحتياط والتورع فيما يخالج الأفئدة من هواجس؛ إذ لا داعية تدعو المؤمن للمشي وراءه أو صرف الذهن فيه، بل من مقتضى الإيمان ظن المؤمنين بأنفسهم الحسن، قال تعالى: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ [النور:12]. نعم من أظهر فسقه وهتك ستره فقد أباح عرضه للناس، ومنه ما روي: (من ألقى غربال الحياء فلا غيبة له)، ولذا قال الزمخشري : والذي يميز الظنون التي يجب اجتنباها عما سواها أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر كان حراماً واجب الاجتناب، وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح، وأونست منه الأمانة في الظاهر؛ فظن الفساد والنسيان به محرم، بخلاف من اشتهره الناس بتعاطي الريب والمجاهرة بالخبائث. (( إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ ))، وهو ظن المؤمن بالمؤمن الشر لا الخير، أما أن تظن بأخيك خيراً فليس منهياً عنه، بل من حق المؤمن أن تظن به الخير. (إثم) أي: مكسب للعقاب؛ لأن فيه ارتكاب ما نهي عنه. قال الغزالي رحمه الله تعالى في الإحياء في بيان تحريم الغيبة بالقلب: والغيبة بالقلب هي تعبير عن سوء الظن؛ لأنه هناك غيبة باللسان، وهناك غيبة بالقلب، وهي هذه الهواجس التي تطرأ في فكر الإنسان وفي عقله تجاه أخيه. يقول رحمه الله: اعلم أن سوء الظن حرام مثل سوء القول، فكما يحرم عليك أن تحدث غيرك بمساوئ الغير فليس لك أن تحدث نفسك وتسيء الظن بأخيك. قال: ولست أعني به إلا عقد القلب، وحكمه على غيره بسوء الظن، وذلك بأن يعقد قلبه على هذا الظن السيئ، ويحكم على أخيه بسوء الظن. فأما الخواطر وحديث النفس فهو معفو عنه، بل الشك أيضاً معفو عنه، لكن الذي يحرم على الإنسان هو أن يعقد قلبه على ظن السوء بأخيه، ويحكم على أخيه بسبب هذا الظن. ولكن المنهي عنه أن يظن، والظن عبارة عما تركن إليه النفس ويميل إليه القلب، فقد قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ))، قال: وسبب تحريمه أن أسرار القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب. فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءاً إلا إذا انكشف لك بعيان لا يقبل التأويل، فعند ذلك لا يمكنك ألا تعتقد إلا ما علمت وشاهدت بنفسك، وما لم تشاهده بعينك ولم تسمعه بأذنك ثم وقع في قلبك، فإنما يلقيه إليك الشيطان. وللأسف الشديد هذا شائع في مجتمعنا، أعني: سهولة تداول الطعن في الأعراض في المجالس، فما أن تقع خطوبة بين طرفين أو يفتح الكلام على ذلك ولو لم يتحقق، حتى تجد من يقبل هذا الكلام، وربما حققه وقطع به، وبنى عليه أحكامه، ثم يشيعها في الناس، هذا شائع وموجود! فهذا من الظلم، وهذا مما يخالف هذا التوجيه القرآني. ومن الناس من يتلقى الخبر من الجرائد ومن المشاهدة للإعلام فيظل يروج بكلام كثير جداً، فينبغي أن يتحرى المؤمن هذا الذي ينقله أو يبني عليه أحياناً، ولابد من تجنب الظنون السيئة ما لم يشاهد بعينه ولم يسمع بأذنه. وتجد من الناس من يتساهل في الكلام فيحكي كلاماً هو إثارة للريبة في بعض الناس، ولا نريد أن نذكر أمثلة لأنها مؤذية، لكن يكفي أن نتسلح بهذا الفهم، فعلى الإنسان أن لا يتكلم إلا إذا كان له بينة شرعية. يقول: فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءاً إلا إذا انكشف بعيان لا يقبل التأويل، لأننا نحن البشر بل كل الخلق لا يستطيع أحد منهم أن يطلع على أسرار القلوب، فأسرار القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب سبحانه وتعالى، أما البشر فليس لهم إلا الظاهر، فإذا ظهر من شخص شيء وبان لك عياناً ببينة، فهنا يحق لك أن تظن ما يليق بهذا الذي ظهر منه، أما إذا لم يظهر منه شيء ولا أمارة صحيحة على ذلك فليس من حقك أن تظن به، وإلا فقد ظلمته واستحققت عقاب الله تبارك وتعالى. فما لم تشاهده بعينك ولم تسمعه بأذنك ثم وقع في قلبك فإنما الشيطان يلقيه إليك، فينبغي أن تكذبه فإنه أفسق الفساق. وهذه إشارة إلى قول الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6]. فالظن الذي يلقيه الشيطان في قلبك عن أخيك، وليس لك عليه بينة ولم تشاهد بعينك ولم تسمع بأذنك فاعلم أن الذي يلقيه ينصه في قلبك هو الشيطان، فيجب عليك أن تكذب الشيطان، لأنه أفسق الفساق، إذ هو أحق الخلق بقول الله تبارك وتعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ))، كراهية (( أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ))، لأن المؤمن إذا أذنب ندم. إلى أن قال: فلا يستباح ظن السوء إلا بما يستباح به المال، وهو بعين مشاهدة أو ببينة عادلة. انتهى كلام الغزالي رحمه الله.

    النهي عن التجسس

    قوله: (ولا تجسسوا)، يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ولما كان من ثمرات سوء الظن التجسس؛ لأنه إذا ألقي في القلب ظن سوء، فهذا الظن السيئ يدفع من ظنه إلى أن يتجسس ويتتبع عورات أخيه، فإن القلب لا يقنع بالظن ويطلب التحقيق، فيشتغل بالتجسس، فلذلك قال سبحانه وتعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا ))؛ لأن الظن يقود إلى التجسس. وقد ذكر سبحانه وتعالى النهي عنه إثر سوء الظن لهذه العلة، فقال تعالى: (( وَلا تَجَسَّسُوا ))، قال ابن جرير رحمه الله: أي: لا يتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره فاحمدوا أو ذموا على ما تعلمونه من الظواهر. ولذلك من رحمة الله سبحانه وتعالى أن جعل أحكام الدنيا تجري على ما يظهره الناس، وإلا لفسدت الحياة وما أطاق الناس بعضهم بعضاً؛ لأن الناس يحتاجون كثيراً في معاملاتهم إلى نوع من المداراة، فالمداراة مباحة، لكن المداهنة ليست من خلق المؤمن.

    خطورة النميمة وتسجيل كلام الغير بغير علمه

    من رحمة الله أن جعل الحياة تمشي على ما يظهره الناس، وهذا فيه خطورة النمام الذي يجري بالحطب بين الناس، حيث ينقل الكلام من فلان إلى فلان ليشعل الفتن ويفسد بين الناس. والنمام لا يخترع كلاماً، بل إنه ينقل كلاماً ممن سمعه بحيث إنه لو نقل فإنه يزيد الفتن بين الناس ويشعل نيران العداوة، فهذا الكلام حصل بالفعل، لكن الإثم هنا ليس إثم البهتان وإنما هو إثم النقل بقصد الإفساد، وهذا أيضاً كثير في المجتمع. فبعض الناس يتقن وظيفة النميمة، بل بعضهم يصل به الحد إلى أن يسجل خفية كلام بعض الناس ممن تكون بينهم خصومات، وبعدما تدور الأيام إذا به يظهر هذا الكلام، فهذا إتقان للنميمة؛ لأنه ممكن أن ينقل بلسانه بعض الكلام الذي سمعه وينسى كلمة مهمة ويخطئ في أخرى؛ لكن التسجيل إتقان للنميمة والإفساد بين الناس. وينبغي أن يعلم أنه ليس من حقه أن يسجل لأخيه دون أن يخبره بذلك، ولذلك انتشر في وقت من الأوقات ما يسمى حرب الأشرطة، شخص يتصل بأحد العلماء، ويقول له: ما قولك يا شيخ فيمن يقول كذا وكذا وكذا؟! والشيخ سليم النية، فيأتي بالجواب مطابقاً للسؤال، فيأخذ الرجل الجواب بعد تسجيله ويطير به في الناس. والحمد لله أنها حرب خمدت إلى حد كبير؛ لكن حصل بسببها تقهقر شديد في الدعوة في بعض البلاد، والسبب هو حمالو الحطب الذين ينقلون الرد من هذا إلى ذاك، والعكس، وقد سمعت من هذا ما فيه العجب في الحقيقة. فليس من حقك أن تسجل لشخص دون أن يعرف، وهذه تعتبر خيانة وغدراً؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما المجالس بالأمانة). فينبغي أن تحترم أمانة المجلس، وإذا أردت أن تنقل فأخبره أنك سوف تنقل هذا الكلام، أو استأذنه في التسجيل وبعض الناس أحياناً يفعل ذلك في المكالمات الهاتفية؛ فينبغي الحذر من مثل هذا. أذكر أنني قبل ثلاثين سنة تقريباً كنت صبياً، وسمعت تمثيلية كان اسمها: نظارة الحقيقة، خلاصتها أن شخصاً اخترع نظارة معينة، بحيث إذا سلطها على شخص في النظر إليه فإنه يتحول في كلامه ويخرج الذي في قلبه، فدار بها وأفسد بين كل الناس بسبب هذه النظارة. وفي النهاية مر على شخص يتحدث مع زوجته وهو يمدحها ويجللها، فسلط عليه النظارة، فقال لها: يا فاعلة! وأخذ يتكلم بما يكتم في نفسه بعدما كان يثني عليها، فقاموا يتعاركون بعد ذلك. وهذه كذبة غير حقيقية لأنها تمثيلية. فمن رحمة الله أن جعل الناس يتعاملون على ما يظهرون، فالنمام يكشف ستر الله على الناس، ويصر على أن يعامل الناس بعضهم بما يقوله الشخص بعيداً عن الشخص الآخر وخفية منه، فنقل الكلام من طرف إلى آخر يحصل به فساد عظيم! ولذلك من حكمة الله سبحانه وتعالى أن وصف النمام بأنه حمال الحطب: حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [المسد:4]، ولا يدخل الجنة قتات، وليس هذا من خلق المؤمن.

    وجوب الستر ومعاملة الناس على الظاهر

    يقول القاسمي: لكن لما كان من ثمرة سوء الظن التجسس فإن القلب لايقنع بالظن ويطلب التحقيق، فيشتغل بالتجسس، فلذلك ذكر سبحانه النهي عنه إثر سوء الظن، فقال تعالى: (( وَلا تَجَسَّسُوا ))، أي: لا يتبع بعضكم بعضاً، ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يا معشر من أسلم بلسانه ولما يدخل الإيمان في قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته). فالله يحب الستر، وكل صور الستر يحبها الله سبحانه وتعالى، سواء ستر الإنسان على نفسه فلا يتحدث بما ألم به من القبائح، أو ستره على غيره، بل يستر على نفسه وإلا عوقب، قال صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون). وكذلك ستره على إخوانه: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)، وغير ذلك من أنواع الستر، ومن أسماء الله سبحانه وتعالى (الستير)، وليس (الستار) كما هو شائع عند الناس، حتى إنهم يسمون الولد عبد الستار، والمأثور في الأسماء الحسنى (الستير). ومن طرائف الإمام المجدد الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله رحمة واسعة: أنه صدمه رجل بسيارة فوقع الشيخ على الأرض مجروحاً، فاجتمع عليه الناس، وهم يدعون ويقولون: يا ساتر! يا رب! يا ساتر! فالشيخ كان في شدة الألم وهو يقول لهم: لا تقولوا: يا ساتر، وقولوا: يا ستير! فهو يصحح لهم العبارة والخطأ وهو في هذه الحالة. ومعاملة الإنسان بما يخفيه من خصائص الرب سبحانه وتعالى؛ لأنه هو الذي يعلم على التحقيق ما في قلوبهم، وهذه من آفات جماعات التكفير؛ خاصة جماعة التوقف والتبين، وهذا فيه هذه المنازعة لصفة من صفات الله تعالى وهي الربوبية، وينبغي أن يتذكر الناس كلمة المسيح عليه السلام التي رواها أنس بن مالك كما في الموطأ: (لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله عز وجل فتقسو قلوبكم؛ فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، ولكن انظروا فيها كأنكم عبيد). فخصلة الربوبية: هي إرادة أن يتعامل مع الناس على ما في قلوبهم، فيريد أن يمتحنه ويتلصص على ما في قلبه كي يعلله به، فنقول: إذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام قد قبل من المنافقين ظاهرهم فكانوا يصلون معه ويصومون، ويتناكحون مع المسلمين، ويتوارثون، ويدفنون في مقابر المسلمين؛ كل هذا إجراء للأحكام الظاهرة. فينبغي أن يعامل الناس على ظاهرهم، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، أما محاولة التتبع والتنقيب والتفتيش عما في قلوب الناس فهذا مما لا يكلف الإنسان به، حتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك لما استأذن خالد بن الوليد رضي الله عنه في قتل رجل قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (دعه لعله أن يكون يصلي، قال: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه؟ قال: إني لم أومر أن أفتش في قلوب الناس، ولا أن أنقب في قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. فلم يكلف النبي نفسه وهو خير من وطئ الحصى صلى الله عليه وسلم أن يعامل الناس على ما في أنفسهم وسرائرهم، فينبغي أن نقبل الظاهر ولا نتجسس لنطلع على ما يستره أي إنسان من عيوبه، ولا يجوز أن يتتبع المرء عورة أخيه؛ لكن يقنع بما ظهر له من أمره، وعلى أساس هذا الظاهر يحكم على الإنسان حمداً أو ذماً لا على ما يعلم من سريرته. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا عيرك رجل بما لا يعلمه فيك فلا تعيره بما تعلمه فيه)، بمعنى: أنه لا يحصل هنا مقابلة الإساءة بالمثل، إذا كان فيها كشف أستار، فإذا عيرك بما لا يعلمه فيك فلا يجوز لك أن تعيره أنت بما تعلمه فيه؛ لأن هذا من الظلم والعدوان.

    معنى التجسس وأدلة تحريمه

    يقول القاسمي: يقال: تجسس في الأمر إذا تطلبه وبحث عنه، مثل تلمس، والجس كاللمس فيه معنى الطلب؛ لأن من يطلب الشيء يمسه ويجسه، فأريد به ما يلزمه، والتجسس من التفعل للمبالغة فيه. قال الغزالي : ومعنى التجسس: ألا يترك عباد الله تحت ستر الله، فيتوصل إلى الاطلاع وهتك الستر حتى ينكشف ما لو كان مستوراً عنه لكان أسلم لقلبه ودينه. يعني: يكون قريباً من معنى قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة:101]، فهو أسلم لقلبه ولنفسه ودينه. وقد روي في معنى الآيات أحاديث كثيرة، منها حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب فرفع صوته حتى أسمع العواتق في خدورهن)، والعواتق: الفتيات أو الشابات في الخدور، والخدر: ستر يكون في أقصى البيت فيقول عليه الصلاة والسلام: (يا معشر من آمن بلسانه ولما يخلص الإيمان إلى قلبه لا تتبعوا عورات المسلمين، فإنه من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته). وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تجسسوا ولا تحسسوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً). ومعلوم أيضاً أن من شروط المنكر الذي يستحق أن ينكر على فاعله أن يكون ظاهراً بغير تجسس، لكن لو أنكر إنسان على إنسان شيئاً عن طريق التجسس فالمتجسس هو المخطئ، لأنه لا يحق له أن ينكر حتى يستوفي المنكر الذي ينكر على فاعله شروطه، ومن ذلك أن يكون ظاهراً بغير تجسس. وروى أبو داود : (أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أتي برجل فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمراً، فقال: إنا قد نهينا عن التجسس ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به)، لا تتبع شيئاً مستوراً، لكن إن ظهرت لك علامة واضحة كرائحة الخمر من فمه أو الزجاجة في يده أو غير ذلك، فخذه بهذا الظاهر.

    التجسس من المسئول يفسد الرعية

    وروى أبو داود عن معاوية رضي الله تعالى عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم)، فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله بها! وهذه الملامح تعتبر سياسة شرعية حكيمة، وفي معناها حديث آخر: (إن الإمام إذا ابتغى الريبة في الرعية أفسدهم)، يعني: لا ينبغي أن تعامل من تعامله مثل معاملة هذا الإمام لرعيته، سواء الرجل مع أبنائه، أو مع زوجته، أو الزوجة مع زوجها، فينبغي أن يكون هناك زرع للثقة في التعامل، لكن إن كان التعامل مبنياً على الظن السيئ والتجسس، فربما عوقب الإنسان بما يكرهه. فلو أن رجلاً يتعامل مع ابنه على أساس سوء الظن، فيتتبعه في الطرقات، ويتجسس عليه، ويفتش أوراقه، فهذه الأشياء كلها إن كان يفعلها على سبيل أنه لا يثق فيه وأنه يشك فيه ويرتاب؛ فهذا يزرع عند هذا الشاب عدم الهيبة والتوقير له. ولكن كلما كانت النصيحة غير مباشرة كانت أوقع، فبعض الناس قد يقول: كيف تقول: ينصحه نصيحة غير مباشرة؟ وأقول: هذا هو أدب النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كان إذا أراد أن يوبخ أحداً على شيء لا يخاطبه باسمه، وإنما كان يصعد على المنبر ويقول: (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا؟!)، ولا يسمي بالأسماء؛ لأنه يريد النصيحة لا الإفساد. فكذلك كلما كانت النصيحة غير مباشرة كان ذلك أعون على تقبلها. وكذلك نهى النبي عليه الصلاة والسلام الرجل إذا كان مسافراً ولا يعلم موعد رجوعه من السفر أن يطرق أهله ليلاً؛ لأن ذلك تجسس وشك، فالرسول عليه الصلاة والسلام سد هذه الذرائع المؤدية إلى إساءة الظن، وأمر أن تبنى العلاقات على الثقة، وإذا خالف الإنسان هذا الأدب وهذه السياسة الشرعية فسيعاقب بأن يرى ما يسوءه كما في الأحاديث. معاوية من أعظم الناس سيادة، وكان سياسياً حاسماً إلى أعلى الدرجات. فهو رضي الله عنه كان من أسود العرب وكان حكيماً جداً في سياسته وفي حكمه رضي الله تعالى عنه؛ ولذلك استفاد من هذا الحديث. وروى الإمام أحمد عن جديل كاتب عقبة قال: قلت لـعقبة : إن لنا جيراناً يشربون الخمر وأنا داع لهم الشرط فيأخذونهم، قال: لا تفعل، ولكن عظهم وتهددهم، قال: ففعل فلم ينتهوا، قال: فجاءه جديل فقال: إني نهيتهم فلم ينتهوا، وإني داع لهم الشرط فتأخذهم، فقال له عقبة : ويحك لا تفعل، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موءودة من قبرها). وروى أبو داود عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الأمير إذا ابتغى ريبة في الناس أفسدهم).

    من التجسس استماع حديث قوم وهم يكرهون ذلك

    قال الأوزاعي : ويدخل في التجسس استماع قوم وهم له كارهون، يقول صلى الله عليه وسلم: (من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنه الآنك يوم القيامة) والآنك: الرصاص المذاب. فإذا علم الإنسان أنك ستتكلف بأمر خاص، فلا ينبغي أن يتطفل ويحاول أن يتصنت أو يستمع فهذا من التجسس، وهذا من الفضول القبيح ومن التطفل على الناس، وهذا داخل في التجسس: (( وَلا تَجَسَّسُوا )). ومن الأدب أيضاً أن الإنسان إذا لاحظ مثلاً أن شخصاً يستفتي من يستفتيه من أهل العلم، ويريد أن يوصل له الكلام دون أن يسمعه أحد، فلينسحب من الوقوف ولا يحضر؛ لأنه ربما يكون هناك كلام خاص أو شخصي، فلا يريد السائل أن يطلع عليه أحد، فمثلاً إذا لاحظت أن السائل يود لو انفرد بالكلام أو وجدته يخفض، فابتعد حتى لا تتنصت وإلا وقعت في التجسس. فمن التجسس: استماع حديث قوم هم له كارهون.

    النهي عن الغيبة

    قوله: (( وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ))، أي: لا يقل بعضكم في بعض بظهر الغيب ما يكره المقول فيه ذلك أن يقال له في وجهه. يقال: غاب واغتاب كغال واغتال، إذا ذكره بسوء في غيبته. (( أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ))، أي: فلو عرض عليكم نفرت عنه نفوسكم وكرهتموه، فلذا ينبغي أن تكرهوا الغيبة. (( فَكَرِهْتُمُوهُ ))، يعني: لو عرض عليكم نفرت عنه نفوسكم فاكرهوه، فإذا كرهتموه طبعاً فاكرهوه شرعاً لئلا تقعوا في الغيبة.

    كلام الزمخشري على قوله: (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه)

    قال الزمخشري : (( أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ )) إلى آخره: تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه وأفحشه. (المغتاب): يأتي اسم فاعل ويأتي اسم مفعول، كمختار. ثم قال: وفيه مبالغات شتى منها: الاستفهام الذي معناه التقرير. والمبالغة هي من حيث إنه لا يقع إلا في كلام مسلم عند كل سامع حقيقة أو ادعاءً. (( أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ ))، فيه مبالغة؛ لأن الاستفهام هو للتقرير، ومعنى ذلك أن هذا الكلام كل الناس يعرفونه، (( أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا )). قال: ومنها: جعل ما هو الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة، فوصل في الآية: (( أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ))، بالمحبة، (( أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ ))، وأقبح شيء مكروه أن يأكل لحم أخيه ميتاً. قال: فانظر إلى التضاد بين المحبة وبين أقصى ما يكره. ومن المبالغة إسناد الفعل إلى (أحدكم)؛ للإشعار بأن أحداً من الأحادين لا يحب ذلك، حتى لا يوجد واحد يمكن أن يحب ذلك. ومنها: أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان، حتى جعل الإنسان أخاه، لم يقل: أيحب أحدكم أن يأكل لحم إنساناً، وإنما قال: (( أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا )). ومنها: أنه لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعل ميتاً، وهذا أشد، فشبه الغائب بالميت، وشبه الغيبة بأكل لحم أخيه وهو ميت. وقال ابن الأثير في المثل السائر في بحث الكناية: فمن ذلك قوله تعالى: (( أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ))، فإنه كنى عن الغيبة بأكل الإنسان لحم إنسان آخر مثله، ثم لم يقتصر على ذلك حتى جعله ميتاً، ثم جعل ما هو الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة.

    بيان دلالات الآية على شناعة الغيبة

    فهذه أربع دلالات واقعة على ما قصدت له، مطابقة للمعنى التي وردت من أجله. فأما جعل الغيبة كأكل لحم الإنسان لحم إنسان آخر مثله فشديد المناسبة جداً؛ لأن الغيبة إنما هي ذكر مثالب الناس، وتمزيق أعراضهم، وتمزيق العرض مناسب لأكل الإنسان لحم من يغتاب، وأن أكل اللحم تمزيق على الحقيقة، فاللحم لا يؤكل حتى يمزق؛ والغيبة تمزيق، لكن هذا تمزيق للحم وهذا تمزيق للعرض. وأما جعله كلحم الأخ فلما في الغيبة من الكراهة؛ لأن العقل والشرع مجتمعان على استكراهها، فيأمران بتركها والبعد عنها، ولما كانت كذلك جعلت بمنزلة لحم الأخ في كراهته، ومن المعلوم أن لحم الإنسان مستكره عند إنسان آخر، إلا أنه لا يكون مثل كراهة لحم أخيه. فهذا القول فيه مبالغة باستكراه الغيبة، وأما جعله ما هو الغاية في الكراهة موصولاً بالمحبة فلما جبلت عليه النفوس من الميل إلى الغيبة والشهوة لها مع العلم بقبحها، وتأملوا إعجاز القرآن وبلاغة القرآن العظيم، وأنه لا ينبغي إلا أن يكون كلام الله سبحانه وتعالى. فيقول الله سبحانه وتعالى: (( أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ))، فجعل ما هو الغاية في الكراهة، وهو أكل لحم الأخ ميتاً، موصولاً بقوله: (( أَيُحِبُّ ))، إشارة إلى أن من وقع في الغيبة فقد أحب أن يأكل لحم أخيه ميتاً. فانظر أيها المتأمل إلى هذه الكناية تجدها من أشد الكنايات شبهاً؛ لأنك إذا نظرت إلى كل واحدة من تلك الدلالات الأربع التي أشرنا إليها وجدتها مناسبة لما صيغت له. قوله تعالى: (( فَكَرِهْتُمُوهُ )) هذه الفاء فصيحة في جواب شرط مقدر والمعنى: إن صح ذلك أو عرض عليكم هذا فقد كرهتموه، كما في قوله تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ [الفرقان:19]. وقيل: المعنى: تكرهونه ككراهيتكم لذلك الأكل. قال ابن الفرح : يستدل بالآية على أنه لا يجوز للمضطر أكل ميتة الآدمي، لأنه ضرب به المثل في تحريم الغيبة. ولا يناقش هنا هل هذا جائز أم لا؟ لكن تأملوا كلام العلماء! حيث يذكر أن هذه الآية تصلح دليلاً لمن يستدل بها على ذلك، وإذا ورد في كلام بعض العلماء مثل هذا، فليس يلزم أنه يتبنى هذا المذهب، لأن تحقيق المسائل له موضع آخر. قال ابن الفرح : يستدل بالآية على أنه لا يجوز للمضطر أكل ميتة الآدمي؛ لأنه ضرب به المثل في تحريم الغيبة ولم يمثل بميتة سائر الحيوان، فدل على أنه في التحريم فوقها، ومن أراد استيفاء مباحث الغيبة فعليه بالإحياء للغزالي فإنه جمع وأوعى. (( وَاتَّقُوا اللَّهَ )) يعني: خافوا عقوبته، بانتهائكم عما نهاكم عنه من سوء الظن والتجسس والاغتياب، وغير ذلك من المناهي. (إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) أي: يقبل توبة التائبين إليه، ويتكرم برحمته عن عقوبتهم بعد متابهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ...)

    يقول الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13]. فبعدما نهى عن الغيبة والسخرية، والتنابز بالألقاب واللمز، واحتقار الناس لبعضهم البعض، نبه إلى أنهم متساوين في البشرية لا فضل لأحد على آخر إلا بالتقوى، كما قال ابن كثير رحمه الله تعالى. وما أفظع ما نسمع من بعض الخطباء خاصة في مجالات السياسة ونحوها، حيث يتكلم يقول: (( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ ))، يعني: المواطن الصالح أو نحو ذلك من التعبيرات، يعني: فلا فضل لأحد على أحد إلا بالوطنية! فيجاهرون بمصادمة كلام الله سبحانه وتعالى، ولا ندري كيف يجترئ خطيب على أن يقول: لا فضل لأحد على أحد إلا بالعمل للوطن، أو بالإخلاص للوطنية والقومية! فالمصادمة صريحة لآية من كتاب الله عز وجل، ويستمرون في قول هذه الأشياء، وقد نسمع من يتكلم على نشرات الأخبار، وكأنه ما سمع عن الله ولا عن رسول الله ولا عن الإسلام ولا عن القرآن، بل كأنه جاء من أدغال أفريقيا، وقد تجد من يقول لك: سمعت شخصاً اليوم يقول: يوم السبت ستنزل أمطار، ولا يريد أن يقول: إن شاء الله! تكبر على ذكر الله وتكبر على اسم الله، فكأن هذا الإنسان سوف يخرف لو ذكر اسم الله وقال: إن شاء الله. ولعل الله سبحانه وتعالى يخزيه، ولا تكون هناك أمطار، فيتكلم على درجات الحرارة وعلى الأمطار وكأنه يعلم الغيب، وكأنه ما سمع عن قرآن ولا عن سنة ولا عن الإسلام، فالمسلم لا يذكر شيئاً إلا استثنى فقال: إن شاء الله. فنحن نعجب حقيقة من هؤلاء الذين يجترئون هذه الجرأة، نحن نريد أن يكونوا حتى كالمنافقين؛ لأنهم ما كانوا يجهرون بهذه الأشياء في المجتمع الإسلامي، أما هذا فيصادم عقيدة الناس وعقيدة المسلمين ويقطع أنه ستنزل أمطار يوم السبت وأمطار غداً على الساحل الشمالي. فمن أين لك هذا؟ أما تعرف قدرك؟ ونقول له: اخسأ فلن تعدو قدرك! فهذه الأشياء ليست في أيديهم، هذه بيد الله سبحانه وتعالى، وتصرفها الملائكة بأمر الله عز وجل، ولا يعلم أحد ما يكون غداً، ولعل غداً يأتي ولا يكون هذا الإنسان من الأحياء. فهذه إشارة عابرة في نهاية مجلسنا هذا؛ فبعدما نبه الله سبحانه وتعالى على تحريم الغيبة واحتقار الناس وازدرائهم والتنابز بالألقاب، وأن يلمز بعضهم بعضاً، أشار إلى أن علة ذلك أنهم متساوون في البشرية، فالإسلام دين المساواة، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأبيض على أسود؛ إلا بالتقوى: (( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ))، هذا هو ميزان الله سبحانه وتعالى. والله أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756658966