إسلام ويب

تفسير سورة المائدة [30-37]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فبعث الله غراباً يبحث في الأرض..)

    قال الله تعالى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة:30-31]. قوله تعالى: (فطوعت له نفسه قتل أخيه) أي: رخصت وهونت له نفسه. وجاء التصريح هنا بالأخوة في قوله: (قتل أخيه) فلم يقل سبحانه وتعالى: فطوعت له نفسه قتله. وإنما صرح بالأخوة لكمال تقبيح ما سولت له به نفسه من قتل أخيه، أي: الذي حقه أن يحفظه من كل من قصده بالسوء بالتحمل على نفسه، فبدل أن يحمي أخاه إذا به هو نفسه يقتله. وقوله تعالى: (فقتله فأصبح من الخاسرين) أي: ديناً؛ إذ صار كافراً حاملاً الدماء إلى يوم القيامة، وأصبح من الخاسرين دنيا؛ إذ صار مطروداً مبغضاً في الخلائق. وقد أخرج الجماعة غير أبي داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل). فـقابيل هو أول من سن القتل في ذرية آدم عليه السلام، فلذلك كل من اقتدى به من بعده وقتل مظلوماً أو قتل بغير حق فإنه يشاركه في الوزر؛ لعموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً). فكذلك لما كان هو أول من سن سنة القتل وإراقة دم المسلم بغير حق كان في كل نفس تقتل من بني آدم إلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى نصيب من وزر القتل عائداً إلى قابيل ؛ لأنه هو أول من سن هذه السنة. ولما قتل قابيل أخاه لم يدر ما يصنع به من إفراط حيرته، وهذه كانت أول حادثة تقع في تاريخ البشرية يحصل فيها هذا القتل وهذه الجريمة، فلم يدر ماذا يصنع بعدما قتل أخاه ورآه مضرجاً بدمه وجثة ملقاة أمامه، فاحتار، قال تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ [المائدة:31]. قوله: (فبعث الله) أي: أرسل الله (غراباً)، فجاء يبحث في الأرض، ومعنى (يبحث): يحفر بمنقاره ورجله متعمقاً في الأرض، وهذا من شأن الغراب؛ لأن الغراب دائماً يحفر في الأرض. قال القتيبي : هذا من الاختصاص، ومعناه: بعث غراباً يبحث التراب على غراب ميت. يعني: هذا هو الاحتمال، وهو أن هذا الغراب كان له غراب آخر ميتاً فكان يحفر له في الأرض كي يدفنه، فهو رأى هذا المشهد. وكذا رواه السدي عن بعض الصحابة أنه تعالى بعث غرابين اقتتلا، فقتل أحدهما الآخر، فحفر له ثم حثا عليه حثياً. وقوله: (ليريه) الضمير المستتر إما عائد على الله تعالى أو على الغراب، أي: إما أن الفاعل هو الله سبحانه وتعالى بعث الغراب ليري قابيل كيف يصنع بأخيه، أو ليري الغراب قابيل ما يصنع بالمقتول. وقوله: (كيف يواري) أي: يستر في التراب (سوأة أخيه) أي: جسده الميت، وسمي سوأة لأنه مما يسوء ناظره، فالإنسان يسوءه أن يرى أخاه ميتاً. قال تعالى: (قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين) قوله: (يا ويلتا) كلمة جزع وهلع، والألف فيها بدل ياء المتكلم؛ إذ الأصل فيها (يا ويلتي) فأبدلت الياء -ياء المتكلم- ألفاً. والويل والويلة: الهلكة. (أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب) أي: أضعفت عن الحيلة في أن أكون مثل هذا الغراب الذي هو من أضعف الحيوانات؟! والاستفهام هنا للتعجب من عدم اهتدائه إلى ما اهتدى إليه الغراب، فهو يستفهم متعجباً كيف أنه هو الإنسان ويعجز عن أن يكون مثل الطائر الضعيف الذي استطاع أن يتصرف في جثمان أخيه بهذه الصورة، في حين هو لم يهتد إلى ذلك وبقي متحيراً إلى أن جاء الغراب! وقوله: (فأواري سوأة أخي) أي: أغطي. وقوله: (فأصبح من النادمين) أصبح هنا بمعنى: (صار من النادمين) أي: على حيرته في مواراته، حيث لم يدفنه حين قتله، فصار أجهل من الحيوانات العجم وأضل منها وأدنى في التنوير، ولم يكن نادماً على قتله، ففي هذه اللحظة هو لم يكن نادماً على قتل أخيه، وإنما أصبح من النادمين لعدم اهتدائه إلى ما اهتدى إليه الغراب. وقال أبو الليث عن ابن عباس : لو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبة منه؛ لأن الندم توبة، فالظاهر أن الله سبحانه وتعالى لم يعف عنه؛ لأنه لم يتب مما فعل بأخيه، فيلزم أن يفسر قوله تعالى: (فأصبح من النادمين) يعني: على حيرته حيث لم يهتد إلى ما اهتدى إليه الغراب الأعجم، فكان أخس وأقل من الغراب الأعجم، ولو كان نادماً على قتل أخيه لكانت الندامة توبة، لكنه لم يتب. وظاهر الآيات أنه ما كان يعلم كيف يدفن المقتول، وأنه تعلم ذلك من الغراب، ولا مانع من ذلك؛ إذ مثله مما يجوز خفاؤه على الإنسان، لاسيما والعالم في أول طور النشأة، وكان هابيل أول قتيل من بني آدم، فيكون أول ميت، فيحتمل أنه لم يكن يعرف ما ويصنع بالميت إذا مات أو بالقتيل إذا قتل. ونقل الرازي احتمال أن يكون عالماً بكيفية دفنه، قال: فإنه يبعد في الإنسان أن لا يهتدي إلى هذا القدر من العمل، إلا أنه لما قتله تركه بالعراء استخفافاً به، ولما رأى الغراب يدفن الغراب الآخر رق قلبه ولم يرض أن يكون أقل شفقة منه، فواراه تحت الأرض، والله تعالى أعلم.

    الندم إذا لم يكن لقبح المعصية فليس بتوبة

    في الآية دلالة على أن الندم إذا لم يكن لقبح المعصية لم يكن توبة، فهو هنا لم يندم على قبح المعصية، أو لم يندم خوفاً من الله تبارك وتعالى، ولذلك لم ينفعه هذا الندم، يقول الرازي : ندم على قساوة قلبه كونه دون الغراب في الرحمة فكان ندمه لذلك، لا لأجل الخوف من الله تعالى، فلا جرم لم ينفعه ذلك الندم.

    أصل مشروعية دفن الميت

    هذه الآية أصل في مشروعية دفن الميت حتى ولو كان كافراً، فالميت ولو كان كافراً يدفن ويوارى في التراب، والدليل على ذلك -أيضاً- ما ثبت في قصة غزوة بدر، حيث ألقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم المشركين في قليب بدر، لما مات أبو طالب قال النبي صلى الله عليه وسلم لابنه علي رضي الله عنه : (اذهب فوار أباك) فالكافر لو مات يدفن، لكن لا يغسل، ولا يصلى عليه.. إلى آخر ما هو معلوم، فالآية دليل أصيل في مشروعية دفن الميت. قال ابن جرير : زعم أهل التوراة أن قابيل لما قتل أخاه هابيل قال له الله: يا قابيل! أين أخوك هابيل ؟ قال: ما أدري! ما كنت عليه رقيباً. فقال الله: إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض الآن، أنت ملعون من الأرض الذي فتحت فاها فبلعت دم أخيك من يدك، فإذا أنت عملت في الأرض فإنها لا تعود تعطيك حرثها حتى تكون فزعاً تائهاً في الأرض. وعلى أي الأحوال فهذا مما لا نستطيع قبوله بإطلاق، فهو من الإسرائيليات. وكذلك روى ابن جرير بسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: لما قتل ابن آدم أخاه بكى آدم فقال: تغيرت البلاد ومن عليها فلون الأرض مغبر قبيح تغير كل ذي لون وطعم وقل بشاشة الوجه المليح فأجيب آدم عليه الصلاة والسلام: أبا هابيل قد قتلا جميعاً وصار الحي كالميت الذبيح وجاء بشرة قد كان منها على خوف فجاء بها يصيح وقد نقد وفند غير واحد من العلماء نسبة هذه الأبيات إلى آدم، فمما لا يكاد يصدق أن يكون آدم أنشد هذين البيتين ويكون هذا الشعر قد حفظ ونقل بسند صحيح إلى آدم عليه السلام، فهذا مما فنده غير واحد من العلماء. يقول الزمخشري : روي أن آدم رثاه بشعر، وهو كذب بحت، وما الشعر إلا منحول ملحون، وقد صح أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشعر.

    حكمة تخصيص الغراب بأنه دابة المواراة

    أما حكمة تخصيص الغراب بكونه دابة المواراة فقد قال أبو مسلم : عادة الغراب دفن الأشياء. فهذه عادة عند الغراب أنه يدفن الأشياء في الأرض، فجاء غراب فدفن شيئاً فتعلم ذلك منه، وهذا غير الكلام الذي سبق من قبل، وهو أن الله سبحانه وتعالى بعث غرابين اقتتلا فقتل واحد منهما صاحبه فواراه في التراب. فهناك قول آخر أنه ما كان الغراب يدفن غراباً آخر، وإنما عادته أنه دائماً يدفن الأشياء في الأرض، فرآه يبحث في الأرض ويحفر فيها بمنقاره ورجله عميقاً كي يدفن فيها شيئاً ما لا يشترط فيه أن يكون غراباً. والغراب هو الطائر الأسود المعروف، وقسموه إلى أنواع، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتله لما فيه من الفسق، ولأنه من أخبث الطيور، والعرب تقول: (أفسق من غراب) أي: أشد في الخبث والفسق من الغراب. وتقول أيضاً: (أحذر من غراب) باعتباره يتصف بالحذر و(أدهى من غراب) و(أصفى عيشاً من غراب) و(أشد سواداً من غراب)، و(هذا بأبيه أشبه من الغراب بالغراب) لأن الغربان تتشابه بشكل عجيب، والناس الذين يعيشون في الصحراء يدركون ذلك، وإذا نعتوا أرضاً بالخصب قالوا: (وقع في أرض لا يطير غرابها). ويقولون: (وجد تمرة الغراب) يعني: الشيء الذي ليس أحسن منه؛ لأن الغراب ينتقي أطايب التمر وأجود أنواعه ويتتبعه. ويقولون: (أسأم من غراب)، ويقولون: (أفسق من غراب)، ويقولون: (طار غراب فلان)، إذا شاب رأسه؛ لأن الغراب أسود، وإذا أراد شخص أن يعلق شيئاً على فعل لا يقع يقول مثلاً: أزورك حين يشيب الغراب. أي: حين يتحول لون الغراب إلى اللون الأبيض، وهذا لا يقع، أو: لا آتيك حتى يبيض الغراب. فيقولون: (طار غراب فلان) أي: رحل السواد وحل محله الشيب و(غراب غارب) على سبيل المبالغة، كما قالوا: (شعر مشاعر) و(موت مائت) وقال رؤبة: فازجر من الطير الغراب الغارب. قالوا: وليس شيء في الأرض يتشاءم به إلا والغراب أشأم منه، وللبديع الهمذاني فصل بديع في وصفه، ذكره صاحب المضاف والمنسوب، من مثل قوله: (ما أعرف لفلان مثلاً إلا الغراب، ولا يقع إلا مذموماً على أي جنب وقع، إن طار فمقسم الضمير، وإن وقع فمروع بالنذير، وإن حجل فمشية الأمير، وإن شحج فصوت الحمير، وإن أكل فدبرة البعير. يعني: قرحته. والأبيات في غراب البين كثيرة ملئت بها الدفاتر، فغراب البين يشيع كثيراً استعماله في الأدب العربي، حيث يتشاءمون من الغراب بأنه رمز البعد والسفر عن الأحباب والأصحاب وغير ذلك. إلا أن هذا الأمر الشائع من أن (غراب البين) المقصود به الغراب الطائر في حقيقته كلام غير صحيح، وإنما (غراب البين) هو الإبل، فقد حقق الإمام أبو عبد الله الشريف الغرناطي قاضي غرناطة في شرحه على مقصورة حازم أن غراب البين في الحقيقة هو الإبل؛ لأن الإبل هي رمز السفر عند العرب؛ لأنها تنقل الأحباب من بلد إلى بلد، فلذلك اعتبر الغراب رمزاً للفراق والبين، وإذا قالوا: (غراب البين) فالمقصود به الإبل التي تغترب بالناس وتنقلهم من بلاد إلى بلاد. وأنشد في ذلك مقاطيع منها: غلط الذين رأيتهم بجهالة يلحون كلهم غراباً ينعق ما الذنب إلا للأباعر إنها ممن يشتت جمعهم ويفرق إن الغراب بيمنه تدنو النوى وتشتت الشمل الجميع الأينق فهنا هو يرد على هؤلاء الذين يعتبرون أن غراب البين هو الطائر، فيقول: هذا جهل وهذا خطأ. فقوله: غلط الذين رأيتهم بجهالة يلحون كلهم غراباً ينعق يعني: ينحون باللائمة، ويذمون هذا الغراب الطائر الذي ينعق، ويتشاءمون منه باعتباره غراب البين، ويقول: (ما الذنب إلا للأباعر) أي: الذنب في البين والفراق هو للجمال وليس لهذه الطيور (إنها مما يشتت جمعهم ويفرق)، أي: الإبل هي التي تشتت جمعهم وتفرقهم بالأسفار. وقوله: (إن الغراب بيمنه تدنو النوى) يعني: هو ليس مشئوماً، ولكنه له يمن. فبيمنه تدنو النوى، أي: يقترب البعاد (وتشتت الشمل الجميع الأينق) النوق أو الجمال أو الإبل هي التي تشتت المجتمع وتفرق الناس وتسافر بهم. وأنشد ابن المسناوي لـابن عبد ربه : زعق الغراب فقلت أكذبُ طائر إن لم يصدقه رغاء بعير فقوله: (زعق الغراب فقلت أكذبُ طائر) لأن الناس يتشاءمون من صوت الغراب، فيقول: قلت أكذب طائر) فلم يقل: إنه علامة على مفارقة الأحباب؛ لأن صوت الغراب إذا لم يقترن به رغاء البعير الذي يحمل الأحباب ويسافر بهم فإنه يكون كذباً ولا شؤم فيه. فهذا كله مما يؤيد أن غراب البين المقصود به الإبل وليس الطائر.

    تفسير القاسمي رحمه الله تعالى للآية

    يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (فطوعت) أي: زينت. (فأصبح) يعني: فصار. فـ(أصبح) هنا معناها: (صار). يقول: فصار من الخاسرين، أي: بقتله، ولم يدر ما يصنع به؛ لأنه أول ميت على وجه الأرض من بني آدم، فحمله على ظهره. (فبعث الله غراباً يبحث في الأرض) يعني: ينبش التراب بمنقاره وبرجليه ويلقيه على غراب ميت معه حتى واراه. (ليريه كيف يواري) كيف يستر (سوأة) أي: جيفة (أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون) يعني: أعجزت عن أن أكون (مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين) فأصبح من النادمين على حمله لا على قتله، وحفر له وواراه. وهذه الآية أصل في دفن الميت.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل...)

    ثم يقول تعالى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ [المائدة:32]. قوله تعالى: (من أجل ذلك) أي: من أجل ذلك الذي فعله قابيل (كتبنا على بني إسرائيل أنه) الهاء هنا تدل على الشأن (أنه) أي: الشأن. (من قتل نفساً بغير نفس) يعني: بغير نفس قتلها. (أو فساد) أو بغير فساد (في الأرض) أي: فساد أتاه في الأرض من كفر أو زنا أو قطع طريق ونحوه. وهنا إشارة إلى ما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، فهذه هي الدماء التي أباحها الإسلام. فقوله: (الثيب الزاني) لأنه يرجم، (والنفس بالنفس) من قتل يقتل (والتارك لدينه المفارق للجماعة) المرتد؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من بدل دينه فاقتلوه). ومن الدماء التي أباحها الإسلام دماء أهل الحرابة، وسيأتي ذكرهم -إن شاء الله تعالى- في قوله تعالى: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا .. [المائدة:33]، إلى آخر الآية الكريمة، وكذلك البغاة الذين يخرجون على الإمام الحق. يقول تعالى: (( أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا )) أي: بأن امتنع عن قتلها (( فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا )). قال ابن عباس : من حيث انتهاك حرمتها وصونها. قوله تعالى: (( وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ )) أي: بني إسرائيل (( رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ )) أي: بالمعجزات (ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ)، أي: مجاوزون الحد بالكفر والقتل وغير ذلك. وقوله: (( كَتَبْنَا )) أي: فرضنا وأوجبنا على بني إسرائيل، وخصوا بالذكر لأنهم أول من تعبدوا بذلك، وسيأتي -بإذن الله- فيما بعد أنه خص بالذكر بني إسرائيل لأنهم أقسى الأمم قلوباً في هذا الباب، فإنهم مشهورون بأنهم قتلة الأنبياء، فسفكوا دماء الأنبياء وهي أشرف الدماء وأعظم الدماء، وأكثرها حرمة وعصمة، فهنا إشارة إلى بني إسرائيل لفظاعة ما ارتكبوه من استحلالهم قتل الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. وقوله: (( أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ )) يعني: بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص. وقوله: (( أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ )) أي: أو بغير فساد يوجب إهدار دمها؛ لأن الذي يبيح القتل هو إما إن يقتل الإنسان نفساً بغير حق، وإما أن يعيث في الأرض فساداً بصور كثيرة بينها بعد ذلك، كالكفر، والحرابة، أي: المحاربون من قطاع الطريق، وكذلك زنا المحصن مما يبيح دمه. وقوله:(( فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا )) أي: من حيث إنه هتك حرمة الدماء، وسن القتل، وجرأ الناس عليه، أو من حيث إن قتل الواحد وقتل الجميع سواء في استجلاب غضب الله سبحانه وتعالى والعذاب العظيم. وقوله: وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32] معناه كما ذكر السيوطي : من امتنع من قتلها. ويقول القاسمي هنا: (ومن أحياها) يعني: من تسبب لبقاء حياتها لعطف أو منع عن القتل أو استنقاذ من بعض أسباب الهلكة. وهذا التفسير أعم وأشمل بلا شك. فيدخل في الإحياء هذه الأحوال كلها، أولاً: العطف، كأن يكون ولي الدم مكن من قتل هذا الشخص، ثم عند ذلك عفا عن القاتل وسامح، فهنا يكون قد أحياها، لا لأنه هو الذي يخلد الروح، فهذا ليس إلا لله سبحانه وتعالى، لكن المقصود هو أنه عفا عنه ولم يستوف حقه بقتله. ومن ذلك المنع عن القتل، كشخص يريد أن يقتل آخر فحميته ودفعت عنه حتى أنجيته من هذا القاتل، فهذا -أيضاً- نوع من الإحياء، فهو داخل في الآية، وكذلك الاستنقاذ من بعض أسباب الهلكة، كشخص أوشك على الغرق فأنقذته، وشخص أوشك على الموت بأي سبب فعالجته، فهذا -أيضاً- داخل في قوله تعالى: ( ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً). أي: فكأنما فعل ذلك بالناس جميعاً، والمقصود منه تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب، ترهيباً عن التعرض لها، وترغيباً في حمايتها. وقال أبو مسلم في معنى الآية: من قتل نفساً وجب على المؤمنين معاداته، وأن يكونوا خصومه كما لو قتلهم جميعاً؛ لأن المسلمين يد واحدة على من سواهم، ومن أحياها وجب على المؤمنين موالاته كما لو أحياهم. ولذلك كان جد الفرزدق واسمه صعصعة بن ناجية ينقذ المؤودة، فكان الفرزدق حينما يفاخر جريراً يقول: أنا ابن محي الموتى. فيقول له جرير : كيف هذا وهذا ليس إلا لله سبحانه وتعالى؟! فكان يقول له: إن جدي صعصعة بن ناجية كان يبحث عن أي بنت في الجاهلية يريد أبوها أن يئدها، وكانت أي امرأة تتمكن من الهرب تفر إليه، فكان يدفع لأبيها دية وينجيها من القتل، فهذا مما كان من أخلاقه التي كان يتحلى بها في الجاهلية. وقيل للحسن البصري : هذه الآية لنا كما كانت لبني إسرائيل؟ قال: إي والله، إي والذي لا إله غيره كما كانت لهم، وما جعل دماءهم أكرم من دمائنا. فالقاعدة في ذلك أن جميع ما يحكى في القرآن من شرائع الأولين وأحكامهم ولم ينبه على إفسادهم وافترائهم فيه فهو حق. وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (دخلت على عثمان يوم الدار -يوم الحصار حين حاصره الفجار في داره- فقلت -أي: قال أبو هريرة لأمير المؤمنين رضي الله عنهم-: جئت لأنصرك وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين. فقال: يا أبا هريرة ! أيسرك أن تقتل الناس جميعاً وإياي معهم؟ قلت: لا. قال: فإنك إن قتلت رجلاً واحداً فكأنما قتلت الناس جميعاً، فانصرف مأذوناً لك مأجوراًً غير مأزور. قال: فانصرفت ولم أقاتل). فالصحابة رضي الله تعالى عنهم ما قصروا على الإطلاق في الدفاع عن أمير المؤمنين عثمان رضي الله تعالى عنه، وإنما عثمان هو الذي أمرهم بالانصراف وعدم التعرض لهؤلاء الثوار؛ خشية أن يراق دم بسببه هو، خاصة أنه كان على وعد من الرسول حينما أخبره بأنه شهيد لما قال: (اسكن أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدين). وكذلك كان صائماً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا عندما رآه في المنام: (ستفطر معنا الليلة) فلذلك عثمان رضي الله عنه أصر على أن لا تراق دماء بسببه، وقتل مظلوماً رضي الله تعالى عنه. فالشاهد هنا أنه أنكر على أبي هريرة قوله: (قد طاب الضرب يا أمير المؤمنين)، فاستنكر عليه فكيف القتل يكون طيباً؟ ولذلك قال له: (إنك إن قتلت رجلاً واحداً فكأنما قتلت الناس جميعاً، فانصرف مأذوناً لك مأجوراً غير مأزور. قال: فانصرفت ولم أقاتل), وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: (جاء حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! اجعلني على شيء أعيش به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حمزة ! نفس تحييها أحب إليك أم نفس تميتها؟ قال: بل نفس أحييها، قال: عليك بنفسك)، وهذا الحديث في مسند الإمام أحمد ، وقد صححه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله. قوله تعالى: (( وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ )) يقصد بني إسرائيل، كما في أول الآية قوله: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [المائدة:32]. وقوله تعالى: (( رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ )) أي: بالآيات الواضحة الناطقة بتقرير ما كتبنا عليهم تأكيداً لوجوب مراعاته، وتأييداً لتحتم المحافظة عليه (( ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ )) أي: من بني إسرائيل (( بَعْدَ ذَلِكَ )) أي: بعد ما كتبنا عليهم، وبعد مجيء الرسل بالآيات والزجر المسموع منهم (( لَمُسْرِفُونَ )) بالفساد والقتل، لا يبالون بعظمة ذلك، يعني: رغم كل هذا ورغم أن الله تعالى قال: كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32] وقال تعالى: : وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ [المائدة:32] ومع ذلك كان حالهم كما قال الله تعالى: ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ [المائدة:32]. قال ابن كثير : هذا تقريع لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها، كما كانت بنو قريظة والنضير وغيرهم من بني قينقاع ممن حول المدينة من اليهود، الذين كانوا يقاتلون مع الأوس والخزرج إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهلية، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها كان كل فريق منهم يتحالف مع قبيلة، فإذا حصل قتال يقاتلون مع حلفائهم، ثم بعدما ينتهون من القتال يعمدون إلى الأسرى فيفدون الأسرى، ويدون أو يدفعون دية من قتلوه من إخوانهم اليهود. وقد أنكر الله سبحانه وتعالى عليهم ذلك في سورة البقرة في قوله عز وجل: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله)

    ولما ذكر تعالى تغليظ الإثم في قتل النفس بغير قتل نفس ولا فساد أتبعه ببيان الفساد المبيح للقتل، فقال عز وجل: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المائدة:33]، فهنا الآية تشرح صورة من صور هذا الفساد في الأرض، وهو الحرابة أو قطع الطريق. يقول تعالى: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33]. يقول السيوطي رحمه الله تعالى: نزلت في العرنيين لما قدموا المدينة وهم مرضى، فأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى الإبل، ويشربوا من أبوالها وألبانها، فلما صحوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الإبل، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فأتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم فتركوا في الحرة حتى ماتوا على حالهم، وهذا رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وإنما فعل بهم ذلك لأنهم فعلوا بالرعاة من المسلمين نفس هذا الفعل. قوله تعالى: ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ) يعني: بمحاربة المسلمين ( ويسعون في الأرض فساداً ) يعني: بقطع الطريق ( أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ) أي: تقطع أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى. ( أو ينفوا من الأرض ) يقول السيوطي هنا: لترتيب الأحوال، يعني: أن قوله تعالى: ( أن يقتلوا ) لمن قتل، وقوله: ( أو يصلبوا ) لمن قتل وأخذ المال، وقوله: ( أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ) القطع لمن أخذ المال ولم يقتل، وقوله تعالى: (أو لينفوا من الأرض) والنفي من الأرض لمن أخاف الناس وأرهبهم، قاله ابن عباس وعليه الشافعي ، وأصح قوليه أن الصلب ثلاثاً يكون بعد القتل، أي: بعدما يقتلون يعلقون في مكان عال؛ ليراهم الناس لمدة ثلاث، وقيل قبله قليلاً، ويلحق بالنفي ما أشبهه في التنكيل من الحبس وغيره. وقوله: ( ذلك ) أي: الجزاء المذكور ( لهم خزي ) أي: ذل ( في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) وهو عذاب النار. وقوله تعالى: (( إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا )) يعني: من المحاربين والقطاع ((مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) غفور لهم ما أتوه (رحيم) أي: بهم، عبر بذلك دون (فلا تَحدُّوهم) ليفيد أنه لا يسقط عنه بتوبته إلا حدود الله دون حقوق الآدميين، كذا ظهر لي، ولم أر من تعرض له، والله تعالى أعلم. فإذا قتل وأخذ المال يقتل ويقطع، والقطع أولاً ثم يكون بعده القتل، ولا يصلب، وهو أصح قولي الشافعي ، ولكن المعتمد في مذهبه أنه يقتل ويصلب ثلاثة أيام من غير قطع، ولا تفيد توبته بعد القدرة عليه شيئاً، وهو أصح قوليه أيضاً. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ( إنما جزاء ) يعني: مكافأة ( الذين يحاربون الله ورسوله ) أي: يخالفونهما ويعصون أمرهما. ( ويسعون في الأرض فساداً ) أي: يعملون في الأرض المعاصي، وهو القتل وأخذ المال ظلماً. ( أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ) أي: أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى. ( أو ينفوا من الأرض ) أي: يطردوا منها وينحوا عنها، وهو التغريب عن المدن، فلا يقرون فيها. ( ذلك ) أي: الجزاء المذكور. ( لهم خزي ) أي: ذل وفضيحة في الدنيا. ( ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) وهو عذاب النار. ( إلا الذين تابوا) يعني: من المحاربين ( من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ) وفي هذه الآية مسائل، منها: ما رواه ابن جرير وأبو داود والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في المشركين. وقد روى ابن جرير عن أبي أنها نزلت في قوم من أهل الكتاب نقضوا عهدهم مع النبي صلى الله عليه وسلم. وظاهرها أنها عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفة، أي إنسان -سواءً كان مشركاً أم كتابياً أم مسلماً- فعل ما ذكر في الآية فهو يستحق نفس هذا الحكم. روى الشيخان وأهل السنن وابن مردويه عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن ناساً من عرينة قدموا المدينة فاجتووها -أي: كأن جو المدينة ما ناسبهم في صحة أجسامهم- فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبل الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها، ففعلوا وصحوا، فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، وساقوا الإبل، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم فجيء بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمل أعينهم وألقاهم في الحرة). قال أنس : (فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشاً حتى ماتوا) ونزلت: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ [المائدة:33]. وعند البخاري قال أبو قلابة : فهؤلاء سرقوا وقتلوا، وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. واحتج بعموم هذه الآية جمهور العلماء، فذهبوا إلى أن المحاربة في الأمصار وفي السبلات على السواء، وذلك أن بعض العلماء يرى أنه لا يكون محارباً وقاطع طريق إلا في البراري أو الصحراء وغير ذلك؛ لأن هذا النوع من الغدر الذي يكون في موضع بحيث لا يصل فيه الغوث لمن يستغيث، أو النجدة لمن يستنجد، فلذلك عظمت عقوبتهم، بخلاف الإنسان إذا كان في المدينة، فإنه يستطيع أن يستغيث ويستنجد بغيره، لكن جمهور العلماء يخالف هذا، فيقولون: إن المحاربة -سواء أكانت في الصحراء- مثلاً أم في الطرق أم في داخل المدن- حكمها سواء، لا فرق بين المدن أو الحضر وبين السبل. يقول القاسمي : احتج بعموم هذه الآية جمهور العلماء في ذهابهم إلى أن المحاربة في الأمصار وفي السبلات على السواء؛ لقوله: وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا [المائدة:33]. أي أن السبل والطرق هي من الأرض، والمدن والأمصار هي من الأرض، فحيث سعى بالفساد فقد سعى به في الأرض، سواء في السبلات أو في الأمصار. وهذا مذهب مالك والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ولو شهروا السلاح في البنيان لا في الصحراء لأخذ المال فقد قيل: إنهم ليسوا محاربين، بل هم بمنزلة المنتهب؛ لأن المطلوب يدركه الغوث إذا استغاث بالناس. وقال الأكثرون: إن حكم من في البنيان والصحراء واحد، بل هم في البنيان أولى أحق بالعقوبة منهم في الصحراء؛ لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة، ولأنه محل تناصر الناس وتعاونهم. يعني أن كون الإنسان يقدم على قطع الطريق أو على الإفساد في الأرض بهذه الصورة في داخل المدن يدل على شدة التبجح والجرأة ومن ثم فهم يحتاجون إلى عقوبة غليظة؛ لأنهم في داخل المدن ومع ذلك يجاهرون بمثل هذا الفعل. يقول: بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء؛ لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة، ولأنه محل تناصر الناس وتعاونهم، فإقدامهم عليه يقتضي شدة المحاربة والمغالبة، ولأنهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله. يعني: هؤلاء إذا دخلوا على رجل في بيته واستولوا على المال هل يتركون شيئاً؟ يأخذون كل ما في البيت من الأشياء الثمينة من ذهب وأموال وغير ذلك مما هو معروف عن حالة قطاع الطرق أو اللصوص. وأما المسافر فإنه يكون معه قليل من ماله، فهذه أحد وجوه الأولية بالنسبة لهذا الحكم في المدن عنها في الصحراء. قال شيخ الإسلام : ولأنهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله، والمسافر لا يكون معه غالباً إلا بعض ماله، وهذا هو الصواب. فـ شيخ الإسلام يصوب المذهب القائل بتعميم حكم الحرابة في الصحراء وفي البنيان، حتى قال مالك في الذي يخدع الرجل حتى يدخل بيتاً فيقتله ويأخذ ما معه قال: هذه محاربة، ودمه إلى السلطان لا إلى ولي المقتول، بمعنى أنه مادام رفع إلى السلطان فلا رجوع في إقامة حد الحرابة عليه. أما إذا كان دمه إلى ولي المقتول فهو يملك العفو عنه، لكن هذا الذي يفعل هذا الفعل محارب ودمه إلى السلطان لا إلى ولي المقتول، ولا اعتبار بعفوه عنه في إنفاذ القتل، وإنما كان ذلك محاربة لأن القتل بالحيلة كالقتل مباشرة، فكلاهما لا يمكن الاحتراز منه، بل قد يكون ضرر هذا أشد؛ لأنه لا يدرى به. وقيل: إن المحارب هو المجاهر بالقتال، وهذا المقتول يكون أمره إلى ولي أمر الدم. والأول أشبه بأصول الشريعة. وظاهر الآية أن عقوبة المحاربين المفسدين أحد هذه الأنواع، فيفعل الإمام منها ما رأى فيه صلاحاً. قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية: (من شهر السلاح في رقعة الإسلام وأخاف السبيل ثم ظفر به فقدر عليه فإمام المسلمين فيه بالخيار: إن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله) وكذا قال سعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء والحسن البصري وإبراهيم النخعي والضحاك ، كما رواه ابن جرير، وحكي مثله عن أنس . قال ابن كثير : ومستند هذا القول ظاهر، وللتخيير نظائر من القرآن. يعني أن الإمام بالخيار، وليس له أن يجمع كل هذه العقوبات، ونظيره قوله تعالى في جزاء الصيد: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَ

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة... )

    وقال الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:35]. قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا ) أي: اطلبوا إليه الوسيلة، وهي القربة. وقال قتادة : أي: تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه. وقرأ أبو زيد : أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ [الإسراء:57]. قال ابن كثير : وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه. وفي القاموس وشرحه: الوسيلة والواسلة المنزلة عند الملك، والدرجة والقربة والوصلة. وقال الجوهري : الوسيلة ما يتقرب به إلى الغير، والتوسيل والتوسل واحد، يقال: وسل إلى الله تعالى توسيلا، عمل عملاً فقرب به إليه، كـ(توسل). وقد قدم (إليه) على (الوسيلة) فلم يقل: وابتغوا الوسيلة إليه، لكن قال: ( وابتغوا إليه الوسيلة ) للاهتمام بها. وقوله تعالى: ( وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون ) يعني: بسبب المجاهدة في سبيله. وقد بينت كثير من الآيات أن المجاهدة بالأموال والأنفس، وما ذكرنا في تفسير الوسيلة هو المعول عليه، وقد أوضحه إيضاحاً لا مزيد عليه تقي الدين ابن تيمية عليه الرحمة في كتابه (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة) فرأينا نقل شيء منه؛ إذ لا غنى للمحقق في علم التفسير عنه، وسوف نمر بسرعة على بعض المسائل لأهميتها.

    مفهوم التوسل والوسيلة ومعناها في كتاب ابن تيمية

    يقول شيخ الإسلام بعد مقدمات: إن لفظ الوسيلة والتوسل فيه إجمال واشتباه، يجب أن تعرف معانيه ويعطى كل ذي حق حقه. فيعرف ما ورد به الكتاب والسنة من ذلك ومعناه، وما كان يتكلم به الصحابة ويفعلونه ومعنى ذلك، ويعرف ما أحدثه المحدثون في هذا اللفظ ومعناه. فإن الاضطرابات التي تحدث للناس في هذا الباب هي بسبب ما وقع من الإجمال والاشتراك في الألفاظ ومعانيها، حتى تجد أن أكثرهم لا يعرف في هذا الباب فصل الخطاب. فلفظ الوسيلة مذكور في القرآن كما في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35]، وفي قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:56-57]. فالوسيلة التي أمر الله بأن تبتغى إليه، وأخبر عن ملائكته وأنبيائه أنهم يبتغونها إليه هي ما يتقرب إليه من الواجبات والمستحبات. يعني أن الوسيلة هي القربة، والقربات على نوعين: إما واجبات وإما مستحبات. فالوسيلة هي ما يتقرب به إلى الله من الواجبات أو المستحبات. فهذه هي الوسيلة التي أمر الله تعالى المؤمنين بابتغائها، تتناول كل واجب ومستحب، وما ليس بواجب ولا مستحب لا يدخل في ذلك، فلا يدخل في الوسيلة ما كان مكروهاً أو محرماً أو مباحاً. فالواجب والمستحب هو ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم فأمر به أمر إيجاب واستحباب، وأصل ذلك الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. فجماع الوسيلة التي أمر الله الخلق بابتغائها هي التوسل إليه باتباع ما جاء به الرسول، لا وسيلة لأحد إلى الله إلا ذلك، ولا يقربك إلى الله إلا هذه الوسيلة، فقوله تعالى: ( اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة ) يعني: تقربوا إلى الله بما شرعه، وما شرعه الله وأمر به لا يكون إلا واجباً أو مستحباً، فلا يمكن التقرب إلى الله بالحرام ولا بالمكروه، والمباح إذا بقي في حد الإباحة لا يعتبر قربى. وما هو أعظم وسيلة على الإطلاق يتقرب به إلى الله؟ إنه الإيمان والتوحيد، فهو أعظم وسيلة، فقوله تعالى: ( وابتغوا إليه الوسيلة ) يعني: بالإيمان، وما بعد الإيمان تكاليفه كالصلاة والزكاة وغير ذلك. وقد جاء لفظ الوسيلة في الأحاديث الصحيحة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (.. ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة). وقوله: (من قال حين يسمع النداء: اللهم! رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة! آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة). فهذه الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وقد أمرنا أن نسأل الله له هذه الوسيلة، وأخبرنا أنها لا تكون إلا لعبد واحد من عباد الله، وهو -صلى الله عليه وسلم- يرجو أن يكون ذلك العبد، وأخبرنا أن من سأل الله له الوسيلة فقد حلت له الشفاعة يوم القيامة؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فمن دعا للنبي صلى الله عليه وسلم استحق أن يدعو هو له، وأن يشفع له؛ فإن الشفاعة نوع من الدعاء، كما قال: (إنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشراً). صلى الله عليه وسلم. إذاً: فقوله تعالى: ( وابتغوا إليه الوسيلة ) يعني: تقربوا إليه بالواجبات أو المستحبات، ولا يوجد معنى آخر للوسيلة في القرآن غير هذا. وكذلك الوسيلة في السنة جاءت على اعتبار أن الوسيلة منزلة في الجنة، ودرجة عالية لا ينالها إلا عبد، وهو الرسول صلى الله عليه سولم إن شاء الله، وأمرنا أن ندعو له بذلك. يقول شيخ الإسلام : وأما التوسل بالنبي عليه الصلاة والسلام، والتوجه به في كلام الصحابة فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته.

    أنواع التوسل المشروعة والممنوعة

    التوسل بالرسول عليه السلام عند الصحابة وفي كلامهم المقصود به: التوسل بدعاء الرسول عليه الصلاة والسلام، كما هو معروف في حديث الأعمى الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يدعو له كي يعافيه الله تبارك وتعالى، فهذا توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبشفاعته، والتوسل به في عرف كثير من المتأخرين يراد به الإقسام به والسؤال به، فهذا المعنى بقى عند المتأخرين، ولم يكن معروفاً أو متداولاً أو مستعملاً في القرآن ولا في السنة، ولا في كلام الصحابة رضي الله تعالى عنهم والسلف الصالح، وهو أن يكون التوسل أن تقسم على الله بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو تقسم بالصالحين ومن يعتقد فيه الصلاح، لهذا يقول شيخ الإسلام : وحينئذ فلفظ التوسل يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين، ويراد به معنى ثالث لم ترد به السنة. فأما المعنيان الأولان الصحيحان باتفاق العلماء فأحدهما هو أصل الإيمان والإسلام، وهو التوسل بالإيمان بالله عز وجل وبطاعته، فقوله تعالى: ( وابتغوا إليه الوسيلة ) أي: بالإيمان والعمل الصالح. الثاني: دعاؤه وشفاعته كما تقدم. فهذان جائزان بإجماع المسلمين، التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ [النساء:64]، فالتوسل هنا بدعاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا بذاته، ومن هذا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (اللهم! إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا) يعني بقوله: (نتوسل بنبينا) أي: بدعائه، فلما قبض الرسول عليه الصلاة والسلام كان الحال أن قال: (فإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا) فهذه شفاعة وهذا توسل عن طريق دعاء العبد الصالح وشفاعته. وقوله تعالى: ( وابتغوا إليه الوسيلة ) أي: القربة إليه بطاعته وطاعة رسوله، قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]. فهذا التوسل الأول هو أصل الدين، وهذا لا ينكره أحد من المسلمين. وأما التوسل بدعائه وشفاعته فكما قال عمر ، فإنه توسل بدعائه لا بذاته، ولهذا عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بعمه العباس ، ولو كان التوسل بذاته جائزاً لكان هذا أولى من التوسل بـالعباس ، لو كان التوسل بذات الرسول نفسه عليه الصلاة والسلام لتوسل به الصحابة بعد موته، لكن لما كان التوسل بالدعاء توسلوا بدعاء العباس بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما عدلوا عن التوسل به عليه الصلاة والسلام إلى التوسل بـالعباس علم أن ما يفعل في حياته قد تعذر بموته، بخلاف التوسل الذي هو الإيمان به والطاعة له فإنه مشروع دائماً. فلفظ التوسل يراد به ثلاثة معان: أحدها: التوسل بطاعته، فهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به. الثاني: التوسل بدعائه وشفاعته عليه الصلاة والسلام، وهذا كان في حياته، ويكون يوم القيامة أيضاً حينما يتوسلون بشفاعته. الثالث: التوسل به، بمعنى الإقسام على الله بذاته، والسؤال بذاته، فهذا هو الذي لم يكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه، ولا في حياته ولا بعد مماته، ولا عند قبره ولا قبر غيره، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم، وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة، أو عمن ليس قوله حجة، وهذا هو الذي قال فيه أبو حنيفة وأصحابه رحمهم الله: إنه لا يجوز. ونهوا عنه حيث قالوا: لا يسأل الله بمخلوق، ولا يقول أحد: أسألك بحق أنبيائك. قال أبو الحسين القدوري في كتابه الكبير في الفقه المسمى بشرح الكرخي: يدخل في باب الكراهة، وقد ذكر هذا غير واحد من أصحاب أبي حنيفة . قال بشر بن الوليد : حدثنا أبو يوسف قال: قال أبو حنيفة : لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول بمعاقد العز من عرشك -يقصد أن يتوسل بمعاقد العز من عشره تعالى- أو: بحق خلقك. وهو قول أبى يوسف رحمهم الله تعالى. فالمسألة بخلقه لا تجوز؛ لأنه لا حق للخلق على الخالق، فلا تجوز وفاقاً. وموضوع التوسل من الموضوعات الكبيرة التي تحتاج لكثير من التفصيل.

    الحلف بالمخلوقات المحترمة

    وقد اتفق المسلمون على أنه من حلف بالمخلوقات المحترمة أو بما يعتقد هو حرمته كالعرش، والكرسي، والكعبة والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والملائكة والصالحين والملوك، وسيوف المجاهدين وغير ذلك لا ينعقد يمينه، ولا كفارة في الحلف بذلك؛ لأن أصل اليمين لا ينعقد؛ لأنه لا يحلف إلا بالله، والحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور، وهو مذهب أبي حنيفة وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد ، وقد حكي إجماع الصحابة على ذلك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ...)

    ثم يقول تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [المائدة:36]. ( إن الذين كفروا لو أن لهم ) يعني: لو ثبت أن لهم ( ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم ). قوله تعالى: ( إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض ) يعني: من الأموال وغيرها. ( جميعاً ومثله معه ليفتدوا به ) يعني: يفادوا به أنفسهم من عذاب يوم القيامة ( ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم ) فهذا تمثل للزوم العذاب لهم، وأنه لا سبيل لهم إلى النجاة منه بوجه من الوجوه. وقد روى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به؟! فيقول: نعم. فيقال له: قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك: أن لا تشرك بي. فيؤمر به إلى النار). ورواه مسلم بنحوه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يريدون أن يخرجوا من النار...)

    يقول تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:37]. قوله تعالى: (يريدون) أي: يتمنون (أن يخرجوا من النار) يعني: يتمنون أن يخرجوا من النار، ويطلبون ذلك قائلين: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون:107]. (( وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ )) يعني: عذاب دائم لا ينقطع. وهذا كما قال عز وجل: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا [السجدة:20]. وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة) قال يزيد بن صهيب: فقلت لـجابر بن عبد الله: يقول الله: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا [المائدة:37]! قال: اتل أول الآية إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ [المائدة:36]. يعني أن الآية هي في الكفار، فهؤلاء يخلدون فيها، أما من مات على التوحيد فإنه وإن دخلها فإنه يخرج منها. وزاد ابن أبي حاتم أن جابراً لما قال له ذلك الرجل هذا قال: (أما تقرأ القرآن؟! قال: بلى، قد جمعته. قال: أليس الله يقول: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79] فهو ذلك المقام، فإن الله تعالى يحبط أقواماً بخطاياهم في النار ما شاء، لا يكلمهم، فإذا أراد أن يخرجهم أخرجهم) يعني: بشفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومقامه المحمود. ولما أوجب تعالى في الآية المتقدمة قطع الأيدي والأرجل عند أخذ المال على سبيل المحاربة بين أن أخذ المال على سبيل السرقة يوجب قطع الأيدي والأرجل أيضاً، فقال سبحانه وتعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38]. سبحانك -اللهم- ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756931677